التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

هل سورة يوسف قصة غرام؟

قد يظن من النظرة الأولى ان سورة يوسف أشبه بقصة بطلتها امرأة تحكمت فيها أنوثة حيوانية عشقت فتى وسيما لم تر رجلا مثله بين الرجال لحسنه وجماله ، وان هذا الفتى عزف عنها متحصنا بتقوى الله والخوف من حسابه وعقابه ، تماما كقصة سلّامة المغنية مع عبد الرحمن القس (١).

وفي الناس من قال : كان الأولى ان لا تذكر هذه السورة في كتاب الله العزيز ، وقال بعض المؤمنين : ان لله حكمة غامضة في هذه السورة لا نعرفها ، وأحسن هؤلاء في تحفظهم كما أساء الميمونية من الخوارج ، حيث أنكروا سورة يوسف لأنها قصة غرام في زعمهم ، وخرجوا بذلك عن جميع المذاهب الاسلامية.

والحقيقة التي انتهينا اليها ، ونحن نفسر هذه السورة الكريمة ان من قرأها بامعان وتدبر ، وأدرك أسرارها وأهدافها يؤمن ايمانا قاطعا بأنها تقدم أوضح الأمثلة من الحس والتجربة على ان القيم الروحية كثيرا ما يكون الالتزام بها وسيلة للنجاح في هذه الحياة على رغم الأوضاع الفاسدة ، وان من قرأها قراءة سريعة يقول ما قاله الميمونية : انها قصة غرام ، أو ما قاله بعض المؤمنين : «لله حكمة فيها لا نعرفها». أجل ، لا يعرفها الا من تدبر كلمات الله وآياته .. ونعرض فيما يلي طرفا من الحقائق التي اشتملت عليها هذه السورة والتي تفرض نفسها وصدقها على كل من يتوخى الحقيقة ويبحث عنها :

١ ـ ان الصراع بين الحق والباطل قائم ودائم في هذه الحياة لا صلح بينهما ولا هوادة .. والنتيجة الطبيعية لذلك ان من يسلك طريق الباطل يقاومه المحقون ، ولكن بالعدل والصدق ، لا بالكذب والغش والخديعة ، لأنهم يرفضون أي سلاح لا يقره الحق والعدل .. ومن يسلك طريق الحق يحاربه المبطلون ، ولكن بالافتراء والدس وأنواع الكيد والمكر ، لأن من يصر على الباطل لا يملك الا التزييف

__________________

(١). اقرأها في «العقد الفريد» ج ٧.

٣٦١

والتزوير ، ومن هنا كان الحق غالي الثمن ، كثير التكاليف على من يتبعه ويستمسك به.

وقد ضرب الله مثلا على هذه الحقيقة بيوسف ، راودته امرأة العزيز عن نفسه ، فأبى واستعصم بتقوى الله ، فهددته بالسجن ان لم يفعل ، فأصر ولم يفعل ، وقال : ربّ السجن أحب إليّ ، فسجن ودفع الثمن غاليا من نفسه ، لأن الدين أثمن وأغلى .. ولكن الذين يصارعون الحق يلقون السلاح في النهاية ، ويستسلمون للمحقين رغم أنوفهم ، تماما كما حدث لاخوة يوسف وامرأة العزيز.

٢ ـ ان قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) يعطينا ضابطا عاما ، ومقياسا صحيحا للتمييز بين المؤمن وغير المؤمن .. فمن استجاب لهذا البرهان ساعة الابتلاء والامتحان ، كما استجاب له يوسف الصديق ، فهو من الذين استقر الايمان واليقين في قلوبهم حقا وصدقا ، ومن اندفع وراء رغبته وشهوته ، وتجاهل برهان ربه وأمره بطاعته فما هو من الدين والايمان في شيء.

٣ ـ ان الأخيار يقاسون ، ولا شك ، الكثير من الرزايا والخطوب إذا ألقى بهم الدهر في بيئة ظالمة في نظامها ، فاسدة في أوضاعها .. ولكن إذا تعقدت المشاكل ، واستعصى الحل على الجميع اضطروا والتجأوا الى الاكفاء متضرعين ، كما التجأ ملك مصر الى يوسف ، وهو في سجنه ليقي البلاد من شر السنين العجاف .. ان الأوضاع الفاسدة ترفع من شأن الأشرار الفاسدين ، وتحط من شأن الطيبين ، ولكن الشدائد تظهر كلا على حقيقته ، وتضعه في موضعه.

٤ ـ ان ترويض النفس على الاحتمال في سبيل الحق يأتي بأحسن النتائج وأفضلها : فلقد صبر يوسف الصديق على البئر والسجن ، والبيع كالعبيد ، والتهمة بالخيانة ، فكانت النتيجة ان أصبح السيد المطاع ، يقول له الملك : انك اليوم لدينا مكين أمين ، ويقف اخوته بين يديه منكسرين مسترحمين : تصدق علينا ان الله يحب المتصدقين ، وفي النهاية يخرون له ساجدين ..

هذا عرض سريع لبعض العظات والعبر في هذه السورة الكريمة ، ومن أحب التفصيل فليقرأها كاملة مع التفسير.

٣٦٢

وما اكثرالناس بمؤمنين الآية ١٠٣ ـ ١٠٧ :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

اللغة :

الغشاء الغطاء ، والمراد بالغاشية هنا العقوبة الشاملة. والمراد بالساعة القيامة والبغتة الفجأة.

الإعراب :

كأين كلمة واحدة بمعنى كم ، وأصلها كلمتان كاف التشبيه وأي المنونة ونونها بدل عن التنوين ، ومميزها مجرور بمن في الغالب ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة يمرون عليها خبر ، ولا يكون خبرها إلا جملة. وعليها هنا بمعنى بها مثل اركبوا على اسم الله. وبغتة مصدر في موضع الحال من الساعة.

المعنى :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). ان لمحمد (ص) آيات ومعجزات

٣٦٣

تدل على نبوته ، منها شريعته وسيرته ، ومنها القرآن ببلاغته وتعاليمه وحقائقه واخباره بالغيب ، ومن هذا الاخبار قصة يوسف بتفاصيلها ، كما ذكرنا في الآية ١٠٢ من هذه السورة.

وقد كان النبي (ص) حريصا على إيمان الناس وهدايتهم ، بخاصة قومه من قريش ، ولكن الأكثر منهم لم يستجيبوا لدعوة الله ، اما حرصا على منافعهم الخاصة كالرؤساء والأقوياء ، واما جهلا وتقليدا كالضعفاء والتابعين ، وفي هذه الآية قال سبحانه لنبيه الكريم : انك لا تهدي من أحببت على رغم إخلاصك ومعجزاتك ، وأنت في غنى عنهم وعن إيمانهم (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). وضمير هو يعود الى القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ، ويوجه العقول الى آيات الله ودلائل عدله ووحدانيته ، يهدي ويوجه بلسان الرسول الأعظم (ص) بلا مال ولا جعل.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ). كأنّ الله تعالى يقول لنبيه هوّن عليك إذا لم يؤمنوا بك وبدلائل نبوتك فإنهم قد كفروا بي وأنا خالقهم ورازقهم. وقد ملأت الكون وأنفسهم بالدلائل على عظمتي وقدرتي ، ومع هذا اعرضوا عنها وكفروا بي وبها ، وهي بمرأى منهم ومسمع فلا عجب إذا كفروا بك ، وأعرضوا عنك وعما أظهرته على يدك من الآيات والمعجزات ..

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ). هذه الآية جواب عن سؤال مقدر حول الآية السابقة ، وهي : «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين». ومحصل السؤال : كيف قال سبحانه : وما أكثر الناس بمؤمنين مع العلم بأن العرب وأهل الكتاب يقرون بوجود الخالق ، وقد كانوا أكثر الناس يومذاك؟. بل ان القرآن يعترف صراحة بذلك ، حيث قال في الآية ٦١ من سورة العنكبوت : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). فأجاب سبحانه عن هذا السؤال المقدر بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ). أي انهم يقرون بوجود الخالق ، ولكن أكثرهم يجعل له شريكا ، فاليهود أو طائفة منهم يقولون : لله ولد هو عزير. والنصارى يقولون : بل

٣٦٤

المسيح ، والعرب يشركون الأصنام في العبادة ، ويخاطبون الله بقولهم : لبيك لا شريك لك الا شريك هو لك ، تملكه وما ملك .. ولا فرق بين من جحد وأشرك.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). في الآية ١٠٣ قال سبحانه لنبيه : انهم لا يؤمنون بك ، وفي الآية ١٠٥ قال : انهم كفروا بي وأنا الخالق الرازق ، وفي الآية ١٠٦ قال : حتى أكثر المقرين بي جعلوا لي شريكا ، فكان من الطبيعي أن يعقّب على ذلك بالتهديد والوعيد بالعذاب الأليم.

وتسأل : ان ذكر البغتة يغني عن ذكر «وهم لا يشعرون» فما هو الغرض من التكرار؟.

الجواب : ان لفظ البغتة يومئ الى وقوع العذاب حين يقظة الحواس ، أما عدم الشعور بمجيء العذاب فقد يكون في اليقظة ، والناس منصرفون الى أعمالهم ، وقد يكون في النوم ، ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) ـ ٥٠ يونس».

قل هذه سبيلي الآية ١٠٨ ـ ١١١ :

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ

٣٦٥

نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

اللغة :

السبيل الطريق ، وكلاهما يذكّر ويؤنّث ، والإسلام طريق الى الخير دنيا وآخرة. والمراد بالبصيرة هنا الحجة الواضحة. استيأس بمعنى يئس. وظنوا هنا بمعنى تيقنوا. والبأس العقاب. والعبرة كل حادثة تعبّر لك عما تهتدي به وتتعظ. والألباب جمع لب ، وهو عقل الإنسان ، وسمي العقل لبا لأنه أفضل ما في الإنسان.

الإعراب :

على بصيرة متعلق بمحذوف حالا من ضمير ادعو وانا تأكيد له ، ومن اتبعني عطف عليه ، وسبحان منصوب على المصدرية أي أسبح الله تسبيحا. كيف خبر مقدم لكان ، وعاقبة اسمها ، والجملة في محل نصب مفعولا لينظروا. (ما كان) فيها ضمير مستتر يعود الى القرآن أو المتلو ، وحديثا خبر كان. وتصديق خبر لكان محذوفة مع اسمها أي ولكن كان القرآن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيلا وهدى ورحمة عطف على التصديق.

المعنى :

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). أمر الله محمدا

٣٦٦

أن يقول للمشركين : هذه سبيلي وسنتي ، وحقيقتها ظاهرا وواقعا هي الدعوة الى الله عن علم وبالحجة والمنطق .. وليس من شك ان كل الأنبياء وأتباعهم المخلصين يدعون الى الايمان بالله واليوم الآخر ، واقامة الحق والعدل ، يدعون الى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة ، ومجابهة الحجة بالحجة ، والفكرة بالفكرة على المنطق السليم الذي تعتمد عليه رسالة النبيين ، ودعوة المصلحين (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذا بيان وتفسير لدعوة محمد (ص) وانها منزهة عن الشرك بشتى معانيه.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى). المراد بأهل القرى من يسكن الحضر دون البادية ، سواء أكان المصر الذي يسكن فيه الحضريون كبيرا ، أم صغيرا. وقال المفسرون : «تدل الآية على ان الله ما بعث امرأة على الإطلاق ، ولا رجلا من البدو لأن فيهم غلظة وجفاء» .. ذكر المفسرون جفاء أهل البادية ، ونسوا انهم أصدق لهجة ، وأصفى فطرة من أهل الحضر ، وأيضا نسوا اهتمام النساء بأحمر الشفاه وتبييض الخدود ، وعلى أية حال فان الله أعلم حيث يجعل رسالته .. أما الغرض من الآية فهو إلقاء الحجة على من أنكر رسالة محمد (ص) بأنه لم يكن الوحيد في رسالته ، فلقد كان الرسل من قبله رجالا مثله يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وكانت دعوتهم تماما كدعوته ، فكيف عجبتم أيها المشركون من إرسال محمد ، ولم تعجبوا من إرسال غيره؟ .. وتصلح هذه الآية جوابا للذين أشار اليهم سبحانه في الآية ٤١ من سورة الفرقان : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). مر نظيره مع التفسير في الآية ١٣٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩ (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). وقوله للذين اتقوا من أوضح الدلالات على ان الطريق الى سعادة الإنسان في الآخرة هو العمل الصالح في هذه الحياة ، وأصلح الأعمال فيها ما يهدف الى خير الإنسان وهدايته ، وصيانة حقه وحريته من العبث والظلم.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). دعا الرسل الأمم الى الله فلم يستجيبوا ،

٣٦٧

فأنذروهم بعذاب أليم في الدنيا قبل الآخرة فسخروا واستهانوا .. وانتظر الرسل نزول العذاب على المستهزئين ، وطال أمد الانتظار الى حد يستدعي اليأس والظن بأن العذاب لن يأتي ، والوعيد به لن يتحقق. ولما بلغ أمد الانتظار هذا المبلغ جاء النصر للأنبياء ، وصدق الوعيد والتهديد ، ووقع العذاب على المجرمين ، ونجا الذين اتقوا لا يمسهم السوء ، ولا هم يحزنون .. فقاله تعالى : استيأس الرسل وظنوا الخ إن هو إلا كناية عن ألم الانتظار وطول مدته ، ومثل هذا الأسلوب في الكنايات والمبالغات كثير ومألوف في اللغة العربية ، وللمفسرين هنا أقول وآراء بعيدة كل البعد عن دلالة اللفظ وسياق الكلام ، بالاضافة الى أنها تزيد القارئ حيرة وتضليلا.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ). الضمير في قصصهم يعود الى يوسف مع اخوته ، ومع امرأة العزيز والملك .. وقد بينا فيما سبق ان في قصة يوسف ألوانا من العبر والعظات ، وأهمها ان من ييأس من الناس ، ويعتمد على الله وحده فلا بد أن تكون عاقبته الى خير.

(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ان كل ما جاء في القرآن هو حق وصدق ، ومنه قصة يوسف ، وقد جاءت على وفق ما أنزله الله على أنبيائه السابقين في الكتب السماوية مع العلم بأن محمدا لم يقرأها بنفسه ولم يسمعها من غيره ، هذا الى جانب ان في القرآن بيان العقيدة والشريعة ، وانه هدى لمن يطلب الهداية لوجهها ، ورحمة لمن يعمل بأحكامه ويتعظ بمواعظه .. وليس من شك ان الذين يتعظون بهدى الله هم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ـ ٨٢ الأنعام».

٣٦٨

سورة الرّعد

٣٦٩
٣٧٠

سورة الرّعد

وفيها قولان : مدنية ومكية ، وآياتها ٤٣.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آات الکتاب الآية ١ :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

الإعراب :

تلك آيات الكتاب مبتدأ وخبر. والذي أنزل مبتدأ والحق خبر.

المعنى :

(المر) سبق مثله مع التفسير في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ). أي ان آيات هذه السورة هي من القرآن الكريم ، أما الغرض من هذا الاخبار فهو بيان ان هذه السورة حق لأنها من القرآن ، وهو حق فهي مثله ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ). ويأتي هنا هذا السؤال : ما الدليل على أن القرآن حق؟. وتجد الجواب في ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٨. قال الإمام علي (ع) : ان القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات الا به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن

٣٧١

ولا بغيره من أقوال الحق والعدل الا من يرى خيره في خير الناس ، وشره في شرهم. قيل لرجل من أهل الله : احترق السوق الذي فيه حانوتك ، ولكن سلم حانوتك .. فقال : الحمد لله. ثم تنبه الى انه قد عصى الله ، حيث أراد لنفسه الخير دون الناس ، فاستغفر من ذنبه وتاب ، وأمثال هذا هم الفئة القليلة الذين يقفون في الجانب المضاد للفئة الكثيرة التي عناها الله بقوله: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

رفع السموات بغر عمد الآية ٢ ـ ٤ :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

اللغة :

الرواسي الجبال الرواسخ. ويغشي يغطي. وجنات بساتين. وصنوان هي

٣٧٢

النخلات الكثيرة يجمعها أصل واحد ، وغير صنوان متفرقات ومن أصول شتى ، وواحد الصنوان صنو. والأكل بضم الهمزة والكاف ما يؤكل.

الإعراب :

ضمير ترونها يعود الى السموات ، وجملة ترونها صفة للسموات لا للعمد أي أنها في واقعها تماما كما ترونها بلا عمد. وجملة يدبر مستأنفة ، ومثلها يفصل. واثنين تأكيد لزوجين. وفاعل يغشي ضمير مستتر يعود الى الله ، والليل مفعول أول والنهار مفعول ثان.

المعنى :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها). قلنا في فقرة الإعراب : ان الهاء في ترونها عائدة الى السموات ، وان الجملة الفعلية صفة لها ، لا للعمد ، وعليه يكون المعنى ان الله رفع السموات بأمره ، وهي مرفوعة في الواقع تماما كما ترونها في الظاهر من غير عمد. وفي مستدرك نهج البلاغة ان الإمام عليا (ع) وصف السماء بقوله : «رفع السماء بغير عمد ـ أي واقعا وظاهرا ـ وبسط الأرض على الهواء بغير أركان». وفي نهج البلاغة : «أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها من غير قرار ، ورفعها بغير دعائم».

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). هذا كناية عن انه تعالى يملك الكون ويدبر أمره بعلمه وحكمته ، كما قال في الآية نفسها : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ومرت هذه الجملة في الآية ٥٤ من سورة الأعراف ، والآية ٣ من سورة يونس ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) بانتظام كما ترى أعيننا ، ولغاية معينة كما تدرك عقولنا .. والشمس تقطع فلكها في سنة ، والقمر في شهر ، كانا كذلك منذ ملايين السنين ، وسيبقيان كذلك الى ما شاء الله ، لا تختلف سنة عن سنة ، ولا لحظة عن لحظة ، وهذا دليل قاطع على وجود عليم حكيم ، أما الصدفة فيبطلها النظام والتكرار.

٣٧٣

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) كل أمر بلا استثناء ومنه تسخير الشمس والقمر ، وإرسال الرسل ، وانزال الكتب .. الى ما لا نهاية (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبين الدلائل على وجوده .. ولما ذا (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) خلق سبحانه الكون ، وأحكمه على أكمل الوجوه ، والعقول السليمة تدرك هذا التدبير والأحكام ، وتستدل به على وجود المدبر الحكيم ، وقدرته على اعادة الخلق ، لأن من قدر على إيجاد الكون من لا شيء ، ورتب ما فيه من الكواكب وغيرها في غاية الإحكام والدقة فبالأولى أن يقدر على جمعه بعد تفرّقه ، فإذا ثبتت القدرة على الاعادة بحكم العقل ، وقد أخبر الصادق الأمين عن الوحي بأنها سوف تقع لا محالة كان وقوعها حتما لا مفر منه.

وبعد ان ذكر سبحانه السموات ذكر الأرض ، والغرض واحد ، وهو تنبيه الغافلين الى الأدلة الكونية على وجود الله وعظمته ، وأن من خلق هذا الكون الضخم بأرضه وسمائه قادر على أن يرسل الرسل ، وينزل الكتب ، ويحيي الموتى ، وهذه الأدلة منها سماوية كرفع السموات بغير عمد ، وتسخير الشمس والقمر ، ومنها أرضية كالتي أشار اليها سبحانه بقوله :

١ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ). أي بسطها ومهدها ، قال تعالى في الآية ١٩ من سورة نوح : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً). أي واسعة. وفي الآية ٣٠ من سورة النازعات : «والأرض بعد ذلك دحاها». ودحو الشيء في اللغة بسطه وتمهيده. ومن الواضح ان بسط الأرض وسعتها وتمهيدها لا يدل من قريب أو بعيد على انها مسطحة أو كرة ، لأن الجسم إذا كبر حجمه كالأرض كانت كل جهة منه ممتدة ومتسعة في الطول والعرض ، وان كان على شكل الكرة ، وعليه فلا شيء في الآية يمنع من القول بكروية الأرض التي لا ريب فيها ، قال الرازي عند تفسير هذه الآية : «انه ثبت بالدلائل ان الأرض كرة ، فكيف يمكن المكابرة في ذلك .. والأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح». وكان علماء اليونان في عهد أرسطو متفقين على كروية الأرض ، ولكنهم قالوا بسكونها.

٣٧٤

٢ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) لفظ الرواسي صفة للثوابت من كل نوع ، ولكنه غلب على الجبال لكثرة الاستعمال ، بحيث إذا أطلق لفظ الرواسي من غير ذكر الموصوف فهم منه الجبال ، والحكمة من وجودها استقرار الأرض وثباتها ، قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) ـ ٧ النبأ».

٣ ـ (وَأَنْهاراً) قرن سبحانه الأنهار بالجبال لأنها تتفجر من تحتها ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) ـ ٢٧ المرسلات».

٤ ـ (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). أي ان كل صنف من الثمر في نباته زوجان : ذكر وأنثى ظاهران كفحول النخل وإناثها ، أو خفيان كسائر النباتات ، قال الشيخ المراغي في تفسيره : «فقد أثبت العلم حديثا ان الشجر والزرع لا يولدان الثمر والحب الا من اثنين ذكر وأنثى ، وقد يكونان في شجرة كأغلب الأشجار ، أو شجرتين كالنخل». وفي مجلة «العلوم» اللبنانية عدد آب ١٩٦٧ مقال بعنوان «كيف تبعث الحياة في الكائنات» جاء فيه ان الحشرات تحمل على أجسامها اللقاح الضروري الى أكمام الزهر دون أن تخطئ في التبليغ وان الطائر يلقح زهرة الزنبق بمنقاره. انها لمعجزة .. وفي الحرب العالمية الثانية نزل الحلفاء بكورسيكا فمرض الزيتون وقلّ ثمره ، وأرادت أمريكا مساعدة الأهالي فرشت الزيتون بمادة د. د. ت. فماتت الحشرة الضارة ، ولكن مات معها سائر الحشرات الأخرى ، فكانت النتيجة في السنة التالية لا شيء إطلاقا لأية شجرة من الزيتون والليمون واللوز. وبهذا يتبين ان الثمر لا يكون الا بلقاح الذكر للأنثى.

٥ ـ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) مرّ تفسيره في الآية ٥٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٩ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذا الكون الذي يسير وفقا لقوانين ثابتة لا يحيد عنها بحال ، ولولا ثبوتها لاستحال على العلماء أن يرصدوها ويستفيدوا منها قواعد عامة ، ومن الواضح ان الدوام ينفي الصدفة ، ومن أجل هذا آمن الكثير من علماء الطبيعة بوجود الله تعالى.

٦ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ان اجزاء الأرض يلتصق بعضها ببعض ومع ذلك تتنوع إلى سهل وجبل وصلب ورخو وخصب وجدب وتراب ورمل

٣٧٥

وسواد وبياض ، وما أشبه. والسر هو أمر الله وتدبيره في خلقه (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) بساتين من الكرمة (وَزَرْعٌ) من أنواع شتى (وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) هي النخيلات من أصل واحد غير متنوع لأن النخل على أنواع (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) هي النخيلات من أصول متنوعة ، وخص الأعناب والنخيل بالذكر لأنهما الثمر الغالب أو مظهر الثراء أو هما معا في ذاك العصر ، ويشعر بذلك قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) ـ ٣٢ الكهف».

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) كالمطر أو البئر أو النهر ، وأيضا المكان واحد بالقرب والمجاورة ، ومع ذلك يختلف الثمر لونا وحجما ورائحة وطعما ، والسر تدبير الله وحكمته (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) على الرغم من ان وسائل التكوين والنمو واحدة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أي ان في هذا التفاوت مع وحدة المكان والماء والهواء دلائل واضحة على وجود المدبر الحكيم عند من لا يؤمن بشيء إلا بعد التفكر والتدبر. ومن أقوال الإمام علي : لا علم كالتفكر ، ولا حسب كالتواضع.

السيد الأفغاني والدهريون :

وأحسن شرح لهذه الآية بمجموعها ما جاء في رسالة الرد على الدهريين للسيد جمال الدين الافغاني ، قال «إذا سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحدها التاريخ إلا ظنا ، وأصولها تضرب في بقعة واحدة ، وفروعها تذهب في هواء واحد ، فما السبب في اختلاف كل منها عن الأخرى في بنيتها وشكلها وأوراقها وطولها وقصرها وضخامتها ورقتها وزهرها وثمرها وطعمها ورائحتها ، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟. أظن انه لا سبيل الى الجواب سوى العجز عنه .. وإذا قيل له : هذه أسماك بحيرة أورال وبحر قزوين مع تشاركها في المأكل والمشرب وتسابقها في الميدان ، نرى فيها اختلافا نوعيا وتباينا بعيدا في الألوان والأشكال

٣٧٦

والأعمال ، فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر». أي الضيق.

وتسأل : ان لدارون ان يجيب السيد الافغاني بأن علماء النبات يعرفون الأسباب الطبيعية لهذا الاختلاف ، ويستطيعون الكشف عنها لكل طالب وراغب .. فلا ضرورة ، والحال هذه ، إلى افتراض وجود المدبر فيما وراء الطبيعة؟.

الجواب : لو سلمنا جدلا بأن علماء النبات يعرفون ذلك فان لمعرفتهم حدا تقف عنده ولا تتجاوزه ، وهو السبب القريب المباشر للتفاوت .. ولو سألوا عن السبب البعيد الذي أوجد السبب القريب لم يجدوا تفسيرا له إلا بأحد فرضين : اما الصدفة ، واما وجود مدبر حكيم وراء الطبيعة ، والفرض الأول باطل لأن الصدفة لا تتكرر ولا تدوم ، فتعين الثاني .. وسبق البيان أكثر من مرة ان من عادة القرآن أن يسند لله جميع الحوادث الطبيعية المتولدة من أسبابها الكونية ، من باب اسناد الشيء الى فاعله الأول لهدف التذكير بالله ، وانه خالق الكون بأرضه وسمائه.

وتقول : ان للدهريين أيضا ان يسألوا بدورهم عن السبب لوجود المدبر وراء الطبيعة؟.

ونجيب بأن هذا السؤال غير وارد من أساسه لأن الفرض ان المدبر لا سبب له ، وانه هو سبب الأسباب ، فالسؤال عن سببه تماما كالسؤال : من خلق الله بعد الفرض انه خالق غير مخلوق ، وكالسؤال عن سبب صدق العين فيما ترى ، والاذن فيما تسمع مع الفرض انهما حجة قاطعة لكل شك وشبهة.

اننا لفي خلق جديد الآية ٥ ـ ٧ :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ

٣٧٧

النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

اللغة :

الاغلال جمع غل ، وهو قيد تشد به اليد الى العنق ، والسيئة النقمة ، والحسنة النعمة. والمثلات جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء ، وهي العقوبة مع وجود أثر يدل عليها كجدع الأنف ونحوه.

الإعراب :

فعجب خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر. وإذا في محل نصب تتعلق بفعل محذوف دل عليه الكلام أي : أإذا كنا ترابا نبعث. وأولئك الذين كفروا بربهم مبتدأ وخبر لأن الكلام تام ومفيد. ومثله أولئك الأغلال في أعناقهم. وأولئك أصحاب النار مبتدأ أول وثان وهم ضمير فصل ، وخالدون خبر الثاني والجملة خبر الأول ، وفيها متعلق «بخالدون». وقبل ظرف متعلق بيستعجلونك. وهاد مبتدأ مؤخر وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لأن أصله هادي كقاضي. ولكل قوم خبر مقدم ، والجملة مستأنفة.

المعنى :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). الخطاب لمحمد (ص) ، وضمير قولهم للمشركين الذين أنكروا نبوته ، والمعنى : ان تعجب

٣٧٨

من عبادة المشركين للأصنام ، وانكارهم نبوتك فإن تكذيبهم بالبعث أعجب وأغرب ، ذلك انهم يعترفون بأنه تعالى خلق الكون وأوجده ، ومن قدر على ذلك فبالأولى ان يقدر على اعادة الإنسان بعد موته.

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). ذكر سبحانه أولئك ثلاث مرات مبالغة في التهديد والتعبير عن غضبه وسخطه .. وقوله : أولئك الذين كفروا بربهم يدل على ان من آمن بان الله هو خالق الكون يلزمه حتما أن يؤمن بأنه تعالى قادر على ان يبعث من في القبور ، ومن أنكر ذلك فقد كفر بالله من حيث يريد أو لا يريد ، ومن جمع بين الإيمان بالله ، وبين الإيمان بعجزه عن احياء الأموات فقد جمع بين النقيضين والمشركون قد أنكروا البعث لأن الله بزعمهم لا يقدر عليه كما يشعر قولهم : أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد .. اذن ، هم منكرون لله في واقعهم ، وان اعترفوا به بألسنتهم.

الماديون والحياة بعد الموت :

أنكر الماديون وجود الله ، وبالأولى أن ينكروا الحياة بعد الموت ، ودليلهم واحد لا تبديل فيه ولا تعديل ، وهو كل ما يظهر للحواس عيانا ومشاهدة يجب الايمان به ، وكل ما يخفى عليها يجب نفيه وإنكاره ، فالحواس هي الأول والآخر ، والظاهر والباطن على حد تعبيرهم .. اذن ، كيف يؤمنون بالجنة ولم يأكلوا ثمارها؟ وكيف يعتقدون بجهنم ولم تصلهم بنارها؟.

ونحن نسألهم بدورنا : من أين لكم هذا العلم أو الايمان بأن الحواس الظاهرة هي وحدها طريق الحق والواقع ، وما عداها لغو وكلام فارغ؟ على حد تعبيرهم أيضا. فإن قلتم جاءنا من شهادة الحواس قلنا : نحن عندنا حواس ، وما رأينا أحدا ـ غيركم ـ يقول : لا تصدقوا الا الحواس. وان قلتم : جاءنا من غير الحواس فقد ناقضتم أنفسكم بأنفسكم ، حيث آمنتم بما لا شاهد عليه من الحواس.

في سنة ١٩٦٢ ألّفت كتابا في الرد على الماديين ، وهو كتاب «فلسفة المبدأ

٣٧٩

والمعاد» طبع ونفدت نسخه في أمد قصير ، ثم قرأت بعده كثيرا عن الماديين والردود عليهم ، من ذلك :

١ ـ يجب على منطق الماديين ان لا يوجد أي فرق بين الإنسان صانع المعجزات وبين أحقر الحشرات التي تولدت من العفونة والقذارات ، ما دام كل منهما ابنا شرعيا للصدفة والطبيعة العمياء ولم تنله يد العناية والتدبير.

٢ ـ لقد وجد العلماء في دماغ الإنسان ١٤ ألف مليون خط منسقة ومرتبة ترتيبا محكما ودقيقا ، يعجز عنه أعظم المهندسين بل كلهم مجتمعين ، بحيث إذا انحرف واحد منها قيد شعرة عن موقعه ذهب ادراك الإنسان أو اضطرب ، تماما كما يحدث لنور الكهرباء إذا اختلت الأسلاك .. ولا تفسير لذلك عند العقل إذا لم يفرض وجود مدبر حكيم لا يحس بالعين أو الأذن أو اليد أو الأنف أو اللسان .. ومهما بلغت الصدفة من المعجزات والخوارق فإنها لا تنشئ محطة كهرباء واحدة ، وتوصل بها ١٤ ألف مليون خط محكمة الصنع والوضع في آن واحد ، فكيف إذا كانت هذه المحطات على عدد رؤوس الآدميين وأدمغتهم؟ .. وفوق ذلك أنها تحس وتشعر.

٣ ـ يقول الماديون : ان دماغ الإنسان ، تماما كالعقل الالكتروني ، كلاهما مجموعة من أجزاء جامدة مرتبة ومنسقة على شكل تترتب عليه تلك الآثار والمعطيات .. وأجابهم العالم الفرنسي «كوسا» بقوله : «إذا زعقت سيارتي القديمة ، وتأوهت مثل المصاب بآلام الروماتزم فهل يمكنني أن أقول : ان سيارتي تعاني من آلام الروماتزم؟. وإذا حشرج فيها الكاربوريتر عند ما أضغط على البنزين فهل يمكن أن أقول : انه مصاب بالربو؟» ..

ونعطف نحن على قول هذا العالم ان الترتيب والتنسيق في العقل الالكتروني جاء من فعل الإنسان ما في ذلك ريب ، ولكن من الذي رتب ونسق دماغ الإنسان؟ وإذا اخترع الإنسان عقلا الكترونيا فهل يستطيع هذا العقل الالكتروني أن يخترع عقلا مثله أو دونه ولو دبوسا؟. وفي كتاب «العمل والمخ» للعالم السوفيتي يوري باخلوف ، ترجمة شكري عازر : «الذين يظنون ان في إمكان الآلة أن تحل محل المخ الانساني يخطئون خطأ جسيما .. ان المخ الانساني يمتاز بقابليته لتلقّي المهارات

٣٨٠