التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

ولم يكن ذلك ممكنا إلا بمبرر ، وكان من شريعة آل يعقوب استرقاق السارق ، فدس غلمان يوسف بأمر منه المكيال في رحل أخيه بنيامين ، ثم نادى المنادي في أولاد يعقوب : يا اصحاب العير انكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم.

فدهش أولاد يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ). قالوا هذا وهم على يقين من براءتهم .. وهذه هي المرة الأولى التي يسمعون فيها مثل هذه التهمة. (قالُوا) ـ اي غلمان يوسف ـ (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ). وهذا الضامن هو الذي قال : أيتها العير انكم لسارقون على عهدة المفسرين ، وضمن بشرط ان يرجع السارق المكيال من تلقاء نفسه ، وهذه الآية تدخل في بابين من أبواب الفقه : الجعالة والضمان ، والجعالة هي الالتزام بمال معين لقاء عمل معين لأي عامل كان كقولك : من فعل كذا فله كيت. والضمان هو التعهد بالوفاء كقول المنادي : وأبا به زعيم أي ضامن للوفاء بحمل البعير من القمح ، وفي الحديث : «الزعيم غارم».

(قالُوا) ـ أي أولاد يعقوب ـ (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ). ناقشوا وجادلوا وأقاموا الدليل على براءتهم ونزاهتهم ، وقالوا فيما قالوا : كيف تتهموننا بالسرقة ، وقد علمتم من نسبنا وسيرتنا في السفرة الأولى والثانية أنّا لم نأت إلى هذا البلد للخيانة والفساد ، وانما لنشتري الطعام لأهلنا .. وفي كثير من التفاسير ان أولاد يعقوب لما وجدوا بضاعتهم في رحلهم بعد عودتهم الى أهلهم في السفرة الاولى ظنوا انها وضعت فيه سهوا ، فلم يستحلوها ، بل حملوها من بلدهم الى مصر وارجعوها الى العزيز ، واشتهر ذلك عنهم ، حتى عرفوا بالأمانة والصلاح .. وهذا الذي ذكره المفسرون غير بعيد ، بل اليه يومئ قول أولاد يعقوب : (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ).

وتسأل كيف استحل يوسف ان يدس المكيال في وعاء أخيه ، ويوجه التهمة لإخوته ، مع علمه ببراءتهم؟.

الجواب : أولا ان هذه واقعة خاصة ، ولها ظروفها ومبرراتها الخاصة ، فلا يجوز القياس عليها ، ولا النقض بها .. ثانيا : ان المقصود الأول بتهمة السرقة هو بنيامين أخو يوسف لأمه وأبيه ، وقد جرى ذلك برضا منه ، والاتفاق معه

٣٤١

لحكمة اقتضت ذلك ، وهي في نفس الوقت لا تخالف أصلا من أصول الشريعة ، كتحليل الحرام ، أو تحريم الحلال .. هذا ، الى ان احتيال أولاد يعقوب على أبيهم لانتزاع ولده يوسف منه ، والغدر به ، وإلقاءه في الجب بقصد القتل في أبشع صورة ، ان هذا سرقة وزيادة.

سؤال ثان : كيف استباح يوسف أن يحول بين أخيه وأبيه ، ويزيده كربا على كربه؟.

الجواب : ان كل ما فعله يوسف كان لمصلحة أخيه وأبيه ، وهو على يقين بأن أباه يقره ، بل ويشكره عليه متى اطلع على الحقيقة .. وقد حدث ذلك بالفعل. وبديهة ان الأمور تقاس بعواقبها لا بأسلوبها ، وفي سائر الأحوال فإن الأنبياء لا يتهمون في جانب الحق.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ). ضمير قالوا يعود الى غلمان يوسف ، وضمير جزاؤه الى السارق ، والخطاب في كنتم لأولاد يعقوب ، والغرض من هذا السؤال انتزاع الاعتراف منهم بأن السارق يؤخذ عبدا أو أسيرا جزاء على فعله .. ليكون هذا الاعتراف حجة عليهم إذا أخذ يوسف أخاه ، وضمه اليه.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ). فهو جزاؤه زيادة في الإيضاح ، تماما كما تقول : جزاء القاتل القتل فهو جزاؤه .. أجاب اخوة يوسف : من وجدتم الصاع في وعائه فخذوه أسيرا او عبدا ، وهذا هو شرعنا في عقوبة السارقين ، ونحن على يقين من براءتنا ، وطهارة اعراقنا.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ). بدأ المفتش بأوعيتهم تغطية للحيلة ، حتى إذا انتهى الى وعاء بنيامين استخرج المكيال منه ، وأشهره في وجوههم. وصعق أبناء يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة .. ولكن أين هذه مما قاساه يوسف في ظلمات الجب وحيدا فريدا؟.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ). اي أوحينا اليه بهذا التدبير ليقول اخوته من تلقائهم : ان للعزيز ان يأخذ أخاهم أسيرا او عبدا ، وسمى هذا كيدا لأن ظاهره غير واقعه ، وجاز شرعا لأنه لا يحلل حراما ، ولا يحرم حلالا. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) المراد بالملك ملك مصر ، وبدينه شرعه وقضاؤه ، والمعنى لولا هذا

٣٤٢

التدبير لتعذر على يوسف ان يضم أخاه اليه. ذلك بأن من شرع ملك مصر وقضائه ان لا يعاقب السارق بالأسر او الاسترقاق ، بل بعقوبة أخرى كالسجن أو الضرب ويوسف لا يريد المكروه لأخيه ، فأوحى الله اليه بهذا التدبير وهو المقصود بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

والخلاصة ان الحكمة اقتضت ان لا يقول يوسف : هذا أخي ، ولا ان يأخذه بغير مبرر ، ولو ظاهرا ، وكان من شريعة آل يعقوب أن يسترق السارق ، ومن شريعة الملك وأهل مصر ان يسجن أو يضرب ، فاتخذ يوسف هذا التدبير الذي أوحاه الله اليه ليلزم اخوته بما ألزموا به أنفسهم. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم والنبوة ، كما رفعنا يوسف على اخوته. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) حتى ينتهي الى العلي الأعلى. وفيه إيماء الى ان اخوة يوسف كانوا علماء ، ولكن يوسف اعلم وأكمل.

ان يسرق فقد سرخ اخ الآية ٧٧ ـ ٨٠ :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠))

٣٤٣

اللغة :

استيأسوا ويئسوا بمعنى واحد. وخلصوا انفردوا عن الناس. ونجيا اي متناجين متشاورين. وموثقا اي عهدا. وفرطتم قصرتم. فلن أبرح لن أفارق.

الإعراب :

ضمير أسرها يعود الى مقالتهم انه سرق. ومكانا تمييز. وأبا اسم ان وشيخا كبيرا صفة ، وله خبر ان. ومكانه ظرف منصوب بخذ. ومعاذ الله منصوب على المصدرية ، والمصدر من ان نأخذ مجرور بمن محذوفة ، والمصدر المجرور متعلق بمعاذ الله. وإذا فيها معنى الجزاء اي ان أخذنا غيره فنحن ظالمون. ومن قبل متعلق بفرطتم وما في (ما فَرَّطْتُمْ) زائدة اعرابا. ويأذن مضارع منصوب بأن بعد حتى. أو يحكم عطف على يأذن.

المعنى :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ). ضمير قالوا يعود الى اخوة يوسف ، وضمير يسرق الى أخيه بنيامين ، أما المقصود بأخ له فهو يوسف بالذات .. وكل ما دلت عليه الآية ان اخوة يوسف ألصقوا تهمة السرقة به ، ولا اشارة فيها ولا في غيرها من الآيات الى ان يوسف سرق في طفولته بيضة أو دجاجة أو صنما لجده أبي أمه أو منطقة لعمته أو غير ذلك .. ولكن القرآن سجل صراحة الكذب على اخوة يوسف في قولهم : أكله الذئب ، بالاضافة الى حقدهم الذي دفع بهم الى فعل ما فعلوا .. وعلى هذا يسوغ لنا ان نقول : انهم كانوا كاذبين في نسبة السرقة الى يوسف حين طفولته ، وانها من عندياتهم ، وقولنا هذا وان كان مجرد استنتاج فإن فيه شيئا من المنطق ، أو هو احتمال غير بعيد ـ على الأقل ـ.

وأخذ المفسرون بقول اخوة يوسف أخذ المسلّمات ، حتى كأن الكذب مستحيل

٣٤٤

في حقهم ، وراحوا يبحثون عن الشيء الذي سرقه يوسف ، فمن قائل : انه بيضة سرقها وأعطاها لجائع ، وقائل : بل دجاجة ، وقال ثالث : سرق صنما لجده أبي أمه وكسره ، وذهب رابع الى ان عمته بنت اسحق كانت تحضنه صغيرا ، ولما شب أراد أبوه ان ينتزعه منها ، فاتهمته بسرقة منطقة أبيها اسحق ـ وهي ما يشد به الوسط ـ ليبقى عندها عبدا ، لأن عقوبة السارق كانت الاستعباد ، وعلى هذا اكثر المفسرين ، وغريب ان لا يتنبه واحد منهم الى ان حكم الأطفال في جميع الشرائع غير حكم الكبار .. وأغرب منه قول بعض الصوفيين : ان أولاد يعقوب أرادوا بتهمة السرقة ان يوسف سرق منهم قلب أبيهم.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ). تجاهل مقالتهم حلما وكرما ، كما قال الشاعر :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فأعف ثم أقول لا يعنيني

(قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). قال هذا في سره بدليل قوله تعالى : (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ).(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من نسبة السرقة إليّ والى أخي ، وانها محض افتراء.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). بعد ان أصبحوا تجاه الأمر الواقع ، وان العدل عندهم يقضي باسترقاق أخيهم بنيامين التجأوا الى التماس الرحمة بالعفو والصفح ، او أخذ الفداء والبدل ، وان يختار العزيز واحدا منهم ، وهم عشرة بين يديه ، طلبوا هذا وألحوا في الطلب ، وتشفعوا اليه ببره وصلاحه ، وبشيخوخة أبيهم ، وعظيم منزلته وقدرته ، وبضعفه وشغفه بولده بنيامين ، فعلوا هذا وأكثر منه لا حبا بأخيهم ، بل تخلصا من أبيهم ومسؤولية العهد الذي أخذه عليهم.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ). رفض يوسف طلبهم ورجاءهم ، وأصر على أخذ أخيه لأمر أراد الله ان يتمه بعد الامتحان والبلوى .. وتجدر الاشارة الى أن يوسف عبّر أدق تعبير وأحكمه عن براءة أخيه من السرقة في قوله : «من وجدنا متاعنا عنده» حيث فهم منه اخوة يوسف من سرق متاعنا ، والمقصود منه من استخرجنا متاعنا من وعائه ، والفرق بعيد بينهما.

٣٤٥

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا). بعد ان يئس أولاد يعقوب من تخليص أخيهم اعتزلوا الناس يتشاورون فيما يعتذرون لأبيهم (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) قال بعض المفسرين : المراد كبيرهم عقلا ، لا سنا. وقال آخرون : بل سنا وعقلا ، وهذا هو المتبادر إلى الأذهان ، ومهما يكن فان هذا الكبير قال لإخوته : ان أباكم قد أخذ عليكم عهدا ، واستحلفكم أن تأتوه بأخيكم ، فما ذا تقولون له إذا ابتم اليه من دونه؟. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) يشير الى القائهم إياه في الجب ، وما قاساه أبوهم نتيجة لذلك.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). قرر كبيرهم أن يبقى في جوار أخيه حياء وخجلا من أبيه ، وان لا يبرح الأرض التي فيها بنيامين الا بإذن من أبيه ، أو بفرج من الله بأي نحو شاء ، ولو بالموت. وما طال الأمد ، حتى جاء الفرج ، وانكشف الكرب عن الجميع ، ويأتي التفصيل.

وما شهدنا الا بما علمنا الآية ٨١ ـ ٨٧ :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ

٣٤٦

ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

اللغة :

سوّلت لكم أنفسكم أي زينت. وابيضت عيناه كناية عن كثرة البكاء ، وقيل : أصاب عينيه غشاوة بيضاء غطت على البصر. والكظم تجرع الغيظ وإمساكه في القلب. والحرض المشرف على الهلاك ، وهو لا يجمع ولا يثنى لأنه مصدر. وبث الخبر أظهره وأذاعه ، والمراد بالبث هنا الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه. والتحسس طلب الشيء بالحواس كالسمع والبصر.

الإعراب :

واسأل القرية أي أهل القرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه. والعير أي واسأل أهل العير. وصبر خبر لمبتدأ محذوف ، وجميل صفة لصبر أي فأمري صبر جميل. وعسى الله لفظ الجلالة فاعل عسى ، والمصدر من أن يأتي مجرور بالباء المحذوفة أي عسى الله بأن يأتي ، قال ابن الناظم في «شرح الالفية» : «والحق ان أفعال المقاربة ملحقة بكان إذا لم يقترن الفعل بعدها بأن ، أما إذا اقترن بها فلا». وجميعا حال. ويا أسفا أصلها يا أسفي ، ثم أبدلت الياء ألفا ، والأسف هنا منادى أي احضر أيها الاسف. وقيل : يجوز أن تكون الألف في يا أسفا ألف الندبة. وتفتأ أي لا تفتأ ، وحذفت (لا) للعلم بها. وجملة تذكر خبر تفتأ. وتكون منصوب بأن بعد حتى ، أو تكون عطف على تكون الأولى.

٣٤٧

المعنى :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ). هذا قول كبيرهم ، فهو يوصي اخوته ان لا يقولوا لأبيهم الا الحق ، وذلك بأن يخبروه بأنهم رأوا غلمان العزيز يستخرجون مكيال الملك من وعاء بنيامين ، وان العزيز أصر على أخذه .. هذا ما شاهدناه ، والله أعلم بما وراء ذلك ، ولو علمنا الغيب ما سألناك ان تسمح لنا به ، ولا أعطيناك العهد بأن نرجعه اليك ، وقد بذلنا المجهود ، واعذرنا الى الله واليك.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي اسأل أهل مصر ، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) واسأل أيضا القافلة التي جئنا معها من مصر ، فقد رأت ما رأينا ، وهي الى جوارك في أرض كنعان (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك ، وهم في هذه المرة يتكلمون بثقة وجرأة لأنهم على يقين من صدقهم على العكس من موقفهم الأول مع أبيهم حين أتوه بدم كذب على قميص يوسف.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً). لما رجعوا الى أبيهم وأخبروه بما حدث قال : كلا ، بل زينت لكم أنفسكم الكيد لولدي ، كما فعلتم من قبل بأخيه يوسف. وتساءل المفسرون : كيف اتهم يعقوب بنيه بالكيد قبل ان يتثبت من الحقيقة ، وهو نبي معصوم؟. ثم أجابوا بوجوه لا تستند الى أساس ، وأحسن الوجوه التي ذكروها على ما فيه ـ ان مراد يعقوب أن أنفسكم صورت لكم ان بنيامين سارق ، وما هو بسارق .. وفي رأينا ان يعقوب اتهمهم بالكيد قياسا على صنيعهم مع يوسف ، ولكنه لم يجزم بقول قاطع لعدم الدليل على كذبهم ، وأيضا لم يأخذهم بالظن من حيث العقوبة لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا .. وهذا لا يتنافى مع مقام النبوة ، لأن النبي لا يعلم الغيب ، وهو كأي انسان يحتمل ويظن ، والفرق بينه وبين غيره انه لا يرتب أثرا على ظنه كما يفعل غير المعصوم.

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال هذا حين غاب عنه بنيامين ، ومن قبل قال حين غاب يوسف : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). هذا هو شعار الصالحين ، يحزنون ،

٣٤٨

وهم في جميع الحالات على الله متوكلون. كما قال سيد الأنبياء وخاتم الرسل (ص) : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول الا ما يرضي ربنا. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً). وهم يوسف وبنيامين ، والأخ الثالث الذي بقي بجوار أخيه في مصر .. وفي كلمة عسى شعاع من الأمل ، وبالخصوص إذا كانت ممن يؤمن بالغيب إيمانه بالواقع الملموس كالأنبياء والصديقين ، وفي نهج البلاغة : «لا يصدق ايمان عبد ، حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده». وفي هذا المعنى كثير من الأحاديث (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يعلم حزني وألمي ، ويدبر الأمور على حكمته.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ). اعتزل الناس ليندب وحده من لن ينساه أبدا ، يندبه بهذه الصرخة الحزينة : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وزاده فراق ولده بنيامين حزنا على حزن ، وبكاء على بكاء (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ). أصيبتا بالقرحة من آثار البكاء ، فهو يتنفس منهما بالدموع ، كما يتنفس من رئتيه بالآهات والحسرات (فَهُوَ كَظِيمٌ) يتجرع الغيظ ويتجلد ، ولكن على حساب جسمه وأعصابه.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي الميتين ، والحرض المرض أو المريض الذي لا ينتفع بنفسه ، والمعنى ان أولاد يعقوب قالوا له : لا تزال تلهج بذكر يوسف ، حتى تمرض او تموت بلا جدوى لأن يوسف ذهب ولن يعود (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لا إليكم لأن الشكوى لمن لا يدفع ضرا ، ولا يجلب نفعا ذل وسفه. قال الإمام علي (ع) : «الله الله ان تشكو الى من لا يشّكي شجوكم ـ أي يزيل الشكوى ـ ولا ينقص برأيه ما قد أبرم لكم» ..

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). نكب يعقوب ، وابتلي بفراق يوسف ، ولكنه في الوقت نفسه يحسن الظن بالله ، ويثق به ، ولا ييأس من رحمته ، ويؤمن بأن عاقبة الصبر الفرج ، كما دل قوله لبنيه : «ولا تيأسوا من روح الله» وإذا عطفنا ثقته بالله على رؤيا يوسف في صغره جاءت النتيجة ان يعقوب مطمئن على حياة يوسف الى حد كبير ، ولكنه لا يعلم أين هو؟. وكيف حاله؟.

٣٤٩

وهل يعيش في عبودية او في حرية؟. ومن هنا كان حزنه وقلقه.

لا تفاؤل ولا تشاؤم :

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) ـ اي فرجه ـ (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ). اذهبوا وتحسسوا ولا تيأسوا ، قرن الأمل بالعمل ، ومعنى هذا انه إذا انتفى العمل انعكست الآية ، واقترن اليأس بالكسل ، وصحت القاعدة طردا وعكسا. وكان الأمل والرجاء مع الإهمال جهلا وسفها .. وكلمة تحسسوا توحي بوجوب العمل بكل الحواس ظاهرها وباطنها .. وهكذا العاقل إذا نزلت به نازلة دفعت به الى الكفاح والنضال للقضاء على أسبابها ، سواء أكانت هذه الأسباب هي الأوضاع الفاسدة ، أم كان السبب يكمن في نفس الإنسان كالتقصير واللامبالاة ، وإذا أصابته حسنة ـ أي العاقل ـ خاف من ضربات الدهر وغائلته ، وتحصن بتقوى الله وطاعته ، ولا يطغيه غنى ، ولا يبطره جاه ، قال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ـ ٩٩ الأعراف».

ونخلص من هذا الى ان المتشائم الذي يقول : لا جدوى من العمل هو الشؤم بالذات ، ومثله المتفائل مع الكسل وترك العمل .. والإنسان السوي من كان بين بين ، يعمل ويناضل عند الشدة ، ولا ييأس من روح الله وفرجه ، ويخاف ويحذر عند الرخاء ، ولا يأمن مكر الله وبأسه.

انا يوسف الآية ٨٨ ـ ٩٣ :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا

٣٥٠

أإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

اللغة :

المراد بالضر هنا المجاعة. والبضاعة المزجاة الرديئة أو القليلة ، ويقال : أزجى الشيء إذا دفعه برفق ، ومنه قوله تعالى : «ان الله يزجي سحابا». وآثرك اختارك وفضلك. وخاطئين جمع خاطئ ، وقيل : الفرق بين الخاطئ والمخطئ ان الأول يتعمد الخطيئة ، والثاني يريد الصواب فيخطئه. والتثريب التعنيف والعقوبة ، يقال : ثرّب فلان على فلان إذا عدد ذنوبه عليه.

الإعراب :

هل علمتم استفهام ومعناه التقريع أي ما أعظم ما ارتكبتم. وما فعلتم (ما) استفهام والمعنى اي شيء فعلتم ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة فعلتم خبر ، وعلمتم معلقة عن العمل لفظا لمكان الاستفهام وعاملة معنى لأن الجملة من المبتدأ والخبر محلها النصب بفعلتم. لأنت يوسف اللام للابتداء وأنت ضمير فصل ويوسف خبر لائنك ، ويجوز ان يكون أنت مبتدأ ويوسف خبر ، والجملة خبر ان. لا تثريب (لا) نافية للجنس وتثريب اسمها وهو مبني على الفتح لأنه مفرد ، وعليكم متعلق بمحذوف خبرا للا ، واليوم متعلق بما تعلق به الخبر. ويأت

٣٥١

مجزوم بجواب الطلب ، وهو القوة ، وبصيرا حال من أبي ، وأجمعين حال من لأهلكم.

المعنى :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أوصى يعقوب بنيه أن يعودوا الى مصر ، فقبلوا منه ، وعادوا اليها مرة ثالثة .. ودخلوا على العزيز منكسرين مسترحمين ، وبدأوا بالشكوى من الجهد والمجاعة .. مسنا وأهلنا الضر .. تصدق علينا .. ان الله يحب المتصدقين .. وإذا جئناك ببضاعة لا تليق فلأن الدهر غير مؤات .. قالوا هذا ، وهم أحفاد ابراهيم الخليل (ع) ، ولكن الشدة بلغت غايتها .. وجاءت النتيجة فوق ما يتصورون ، وهذه هي:

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ). بعد ان استمع يوسف لاستعطاف اخوته وتضرعهم ، وعرف بؤس أهله وحاجتهم رقّ وتغلبت عليه عاطفة الرحم وقرابة الدم ، وقال لهم معاتبا أو واعظا : أتذكرون يوما استجبتم فيه لدعوة الشيطان ؛ فألقيتم بأخيكم يوسف في غيابة الجب ، وأذقتم أخاه بنيامين من بعده صنوف الأذى؟. ألم تقولوا بالأمس القريب : «ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل؟. وهل يفعل الجاهل أكثر من فعلكم هذا؟.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ). وللمفسرين هنا كلام لا يتحمله لفظ الآية ، ولكنه يتفق مع طبيعة الموضوع ، ويساعد الاعتبار عليه ، وملخصه ان اخوة يوسف حين قال لهم ما قال تذكروا ما كانوا يعرفونه من ملامح وجهه ، ونبرات صوته ، وإشارات يده .. ومهما يكن فقد التمع في خاطرهم أو خاطر بعضهم انه يوسف (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ). قالوا هذا وانتظروا الجواب ، فكانت المفاجأة التي لا تخطر على بال (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) .. وأريد من القارئ أن يقف هنا قليلا ، ويقارن بين موقفهم هذا الضعيف الذليل ، وبين موقفهم يوم ألقوا يوسف في الجب ، لا يأخذهم فيه دين ولا رحم .. ولا

٣٥٢

عجب (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) دنيا وآخرة ، والمراد بالمحسنين هنا الذين عملوا وثابروا وصبروا على الصعوبات ، وقد يهزمهم المسيئون الأشرار مرة أو مرات ، ولكن العاقبة للمتقين ، والشواهد على ذلك لا تقع تحت حصر من عهد النمرود الى عهد هتلر .. وقد ابتليت الانسانية اليوم بالصهيونية المتجسمة باسرائيل ، وبالاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة أعتى عتاة الشر والفساد في هذا العصر .. ولسنا نشك إطلاقا في ان مصير الاثنتين هو مصير كل طاغ وباغ سابق ولا حق .. ولا نقول هذا لمجرد التعبير عما نحب ونرغب .. كلا ، فإنه منطق طبيعي لتطور الحياة والتاريخ .. ان للحق أهلا يطالبون به ، ويضحون من اجله ، وان للخير قوى تناصره وتؤازره ، وستتحد في يوم من الأيام ضد الظلم والطغيان ، وتدور الدائرة على اهله وأنصاره.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ). اعترفوا بأن الله فضله عليهم علما وعقلا ، وكمالا وجمالا ، وأخيرا بالجاه والسلطان .. وأقروا بالذنب ، وطلبوا العفو والصفح ، ويوسف كريم وابن كريم ولذا (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) عفى يوسف عما مضى بلا تعنيف وتأنيب ، ودعا الله ان يغفر لهم ما فرط منهم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لمن تاب وأناب. وفي نهج البلاغة ، «لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تلهه رحمة عن عقاب» وتواتر عن النبي الأعظم (ص) انه حين فتح مكة قال لقريش : ما تظنون اني فاعل بكم؟ قالوا : نظن خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم كما قال اخي يوسف.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ). وتعود بنا هذه الآية الى الآية ١٧ وهي : «قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب .. وجاءوا على قميصه بدم كذب ..». نعود الى هذه الآية لنقارن بين القميص الأول والقميص الثاني ، فالأول جر على يعقوب البلاء والأدواء ، أما الثاني ففيه الشفاء والهناء ، ونقارن ايضا بين موقف ابنائه حين جاءوه بالقميص الأول معزين ، وموقفهم حين أتوه بالثاني مهنئين.

وإذا سأل سائل : كيف يكون إلقاء القميص على البصر سببا لشفائه؟ أجبنا

٣٥٣

بأنه لا نجد تفسيرا لذلك الا المعجزة الخارقة ، تماما كنار ابراهيم ، وعصا موسى ، وكلام عيسى في المهد ، فهؤلاء أنبياء ، ويوسف وأبوه نبيان.

اني لاجد ريح يوسف الآية ٩٤ ـ ٩٨ :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

اللغة :

فصلت العير تجاوزت المكان الذي كانت فيه. والفند ضعف الرأي والمراد تسفّهون رأيي وتقولون قد خرف من الكبر. وفي ضلالك أي خطئك.

الإعراب :

لولا حرف امتناع ، والمصدر من ان تفندون مبتدأ والخبر محذوف. وجواب لولا محذوف ايضا اي لولا تفنيدكم حاصل لصدقتموني. فلما ان جاء (ان) زائدة اعرابا.

٣٥٤

المعنى :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ). فصلت العير اي تحركت من المكان الذي كانت فيه ، وهو مصر ، واتجهت الى أرض كنعان حيث يسكن يعقوب : وتفندون تنسبونني الى الفند ، وهو الخرف .. وظاهر الآية يدل على ان يعقوب شم رائحة القميص من مكان بعيد ، وبمجرد ان تحرك الركب من مكانه ، وقبل ان يتجاوز أرض مصر ، مع ان المسافة بين يعقوب وحامل القميص كانت مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : عشرة .. وأبقى المفسرون اللفظ على ظاهره ، وقالوا : ان يعقوب وجد ريح القميص حقيقة على الرغم من بعد المسافة عنه ، واعتبروا ذلك معجزة خص الله بها يعقوب.

وغير بعيد أن يكون الريح كناية عن الحدس المصيب الذي يقع للإنسان في بعض الأحيان بخاصة لأهل القلوب الطيبة الصافية ، وان يعقوب قد أحس قلبه بدنو اللقاء ، فعبّر عنه بريح يوسف ، ويرجح ارادة هذا المعنى ان اليأس من لقاء يوسف ما خامر قلب يعقوب لحظة واحدة ، ويشهد على ذلك قوله : فتحسسوا من يوسف وأخيه. وقوله : عسى أن يأتيني بهم جميعا. وقوله ليوسف : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك .. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك. وقوله : اني اعلم من الله ما لا تعلمون.

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ). ضمير قالوا يعود الى من كان حاضرا في مجلس يعقوب حين قال : أجد ريح يوسف ، والمعنى ان الذين حضروا مجلس يعقوب قالوا له : أنت مخطئ في إصرارك وانتظارك يوسف الذي ذهب كما ذهب غيره من الأموات. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) .. وما كان يعقوب مخطئا في حدسه ، فلقد جاء البشير يحمل قميص يوسف ، وما ان مس وجه يعقوب ، حتى عادت اليه نعمة البصر ، وسعادة الحياة ، وقيل : ان الذي حمل هذا القميص هو الذي حمل القميص الملطخ بدم كذب قبل أربعين سنة ، ليمحو السيئة بالحسنة ، وأيضا قيل لا عجب ان يرتد بصر يعقوب بمجرد البشرى «فكثيرا ما شفى السرور والفرح من الأمراض ، وتجارب الطب شاهد صدق على ذلك».

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). يشير الى قوله في الآية

٣٥٥

٨٦ : «قال انما أشكو بثي وحزني الى الله واعلم من الله ما لا تعلمون» وقد مر شرحها.

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ). ندم اخوة يوسف على فعلتهم ، وتابوا من خطيئتهم ، وسألوا أباهم ان يدعو الى الله ان يقبل منهم التوبة ، ويغفر لهم الذنب ، وشرطوا على أنفسهم ان لا يعودوا الى معصية.

(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). قال بعض المفسرين الجدد : «ان كلمة سوف لا تخلو من الاشارة الى قلب انسان مكلوم». يريد أن قلب يعقوب ما زال فيه شيء على بنيه رغم توبتهم وطلبهم المغفرة .. وهذا اشتباه وقياس لقلوب الأنبياء على قلوب سائر الناس ، والصحيح ان يعقوب أرجأ الدعاء لهم بقبول التوبة الى خلوته وانقطاعه الى ربه في الظلمات والاسحار ، لأن ذلك ادعى للقبول والاستجابة ، قال سبحانه : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ـ ١٨ الذاريات». وقال : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) ـ ١٧ آل عمران».

اجتماع يوسف ويعقوب الآية ٩٩ ـ ١٠٢ :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي

٣٥٦

بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

اللغة :

آوى اليه أبويه ضمهما اليه. والعرش السرير الذي يجلس عليه الملك أو الرئيس وتأويل الرؤيا تفسيرها بما تؤول اليه. ونزغ الشيطان أفسد. وفاطر السموات والأرض خالقهما على غير مثال سابق.

الإعراب :

سجدا مفعول مطلق مبين للنوع. وأبت أصلها بالياء ، وحذفت للتخفيف. وحقا مفعول ثان لجعل لأنها بمعنى صيّر. والمصدر من ان نزغ مجرور بإضافة بعد. وربّ أصله يا ربي. وفاطر السموات أي يا فاطر السموات ، ويجوز أن يكون صفة لربي لأنه منادى مضاف. وذلك مبتدأ ومن انباء الغيب خبر.

المعنى :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ). حزن يعقوب وأرسل الدمع مدرارا على فراق يوسف ، وهو يعلم ان البكاء لا يجديه شيئا ، ولكنه كان يخفف به من لوعة البعد ، وحرقة الفراق ، وامتد حزنه أمدا طويلا لأن يوسف اقام سنوات في بيت الذي اشتراه بثمن بخس ، وسنوات في السجن ، وسنوات يدبر شئون البلاد المصرية ، منها سبع رخاء قبل ان يلتقي مع اهله ، حيث كان اللقاء في سني الجدب ، وكان كلما طال الزمن ازداد حزن يعقوب كما يومئ قول

٣٥٧

من قال له : «تالله انك لفي ضلالك القديم».

وإذا عرفنا مبلغ الحزن في نفس يعقوب من ألم الفراق عرفنا مبلغ فرحته وسعادته بلقاء يوسف ، لأن الفرحة بالشفاء من الاسقام تأتي على قدر ما تركته هذه من الأوجاع والآلام ، أو تزيد أضعافا.

وقال جماعة من المفسرين : المراد بأبويه أبوه وخالته ، لأن امه ماتت من قبل .. وابعد البعض في قوله : ان امه ماتت ، ثم نشرت من قبرها لترى عظمة ولدها وتسجد له .. ولا طائل من هذا التحقيق وأمثاله الا تكثير الكلام.

وتسأل : ان صدر الآية لا يتفق مع عجزها ، لأن الصدر يقول : لما دخلوا على يوسف ضم أبويه اليه ، ومعلوم ان يوسف كان في مصر ، والعجز يقول : بعد ان دخلوا عليه ، وهو في مصر قال لهم : ادخلوا مصر ـ كما هو الظاهر من سياق الآية ـ ومعنى هذا انهم بعد ان دخلوا مصر قال لهم ادخلوا مصر؟.

وقيل في الجواب : ان يوسف أقام لأهله سرادقات بالقرب من الحدود ، وفيها دخلوا عليه ، وضم أبويه اليه ، ولما استأنفوا السير من السرادقات متجهين الى مصر قال لهم : ادخلوا مصر .. وهذا الجواب يحمّل لفظ الآية أكثر مما يتحمل ، وغير بعيد أن يكون مراده من ادخلوا مصر أقيموا فيها آمنين ، كما حدث ذلك بالفعل ، حيث أقطعهم الملك أرضا خصبة في مصر ، وظلت سلالة يعقوب فيها أمدا طويلا .. فقد جاء في مجمع البيان : «وانما قال لهم : آمنين. لأنهم كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلا بجوازهم ـ أي بجواز السفر كما هو المتبع في هذا العصر ـ قال وهب : ان آل يعقوب دخلوا مصر وهم ٧٣ إنسانا ، وخرجوا مع موسى الذي هو من نسل يعقوب ، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا» .. وأيضا في مجمع البيان ان بين يوسف وموسى ٤٠٠ سنة.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أجلسهما على السرير الذي كان يجلس عليه ، وهو يدير شئون المملكة تعظيما لهما (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً). ضمير خروا عائد الى ابوي يوسف واخوته ، وضمير له الى يوسف ، والمراد بالسجود هنا الانحناء تعظيما وتكريما ، وكان الانحناء تحية الناس للمعظم في ذاك العصر ، كما في بعض

٣٥٨

التفاسير. وقيل : ان ضمير له عائد الى الله ، وان السجود كان شكرا له تعالى على هذه النعمة الكبرى .. وهذا القول يخالف ظاهر السياق ، ولا يتفق مع قول يوسف في الآية ٤ : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، أي له لا لغيره.

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا). يشير إلى قوله في أول السورة : «يا أبت اني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين». وسبق الشرح والتفصيل. وفي تفسير الرازي : «اختلفوا في مقدار المدة بين وقت اللقاء وبين الرؤيا ، فقيل : ٨٠ سنة. وقبل ٧٠. وقيل : ٤٠ وهو قول الأكثر .. وكان عمره ١٢٠ سنة». ونحن لا نعلم يقينا كم كان عمره حين ألقي في الجب ، ولا المدة التي أقامها في بيت الذي اشتراه ، ولا أمد سجنه وحكمه ، لأننا لم نهتد الى أصل يصح الاعتماد عليه ، وأقوال المفسرين والرواة متضاربة .. ولكن الأكثر على انه عاش ١٢٠ سنة.

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ). ان الله سبحانه يبتلي الإنسان بالرخاء كما يبتليه بالشدة : (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ـ ٤٠ النمل». وقال الإمام علي (ع) : «لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظما». وقد ابتلي يوسف بالضراء فصبر وبالسراء فشكر ، وها هو يحدث بنعمة الله عليه ، ويعدد إحسانه اليه .. اخرجني من السجن ، وسما بي الى الحكم ، وجاء بأهلي من البادية ، حيث كانوا يرعون الإبل والأغنام ، حتى هذه أهلكها الجدب والقحط ، وأصبحوا على الأرض البيضاء لا يملكون شيئا ، ويقولون للعزيز : تصدق علينا ان الله يحب المتصدقين ، فأغناهم الله بيوسف وكفاهم شر الفقر والعوز.

ولم يذكر إخراجه من الجب مراعاة لشعور اخوته ، وأيضا نسب ما كان منهم الى الشيطان وقال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ولم ينسبه اليهم لنفس السبب (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) يلطف بالطيبين ، ويبلغ بهم إلى ما يشاؤه لهم من العز والكرامة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). والفرق بين حكمة الله وعلمه ان جميع أفعاله وأحكامه تأتي على وفق الحكمة : «ربنا ما خلقت هذا باطلا». اما علمه فلا ينفك عن المعلوم ، فمتى علم بأن في هذا الشيء

٣٥٩

حكمة وجد فورا ، وبكلمة ان علمه هو قوله للشيء كن فيكون.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). فاطر السموات والأرض أي خالقهما على غير مثال سابق لهما ، وذكر السموات بصيغة الجمع ، والأرض بصيغة المفرد لأن الإنسان يرى بعينيه سموات كثيرة ، ولا يرى الا أرضا واحدة. أنت وليّي أي تتولى جميع أموري في الدارين .. بعد أن حدث يوسف بنعم الله عليه توجه اليه تعالى شاكرا ما بسط له من الملك ، وما خصه به من النبوة ، متوكلا عليه في جميع شئونه ، ومتوسلا اليه ان يميته على طاعته ومرضاته ، وان يلحقه بصالح من مضى من آبائه ، ويجعله من صالح من بقي من أبنائهم.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ). بعد أن ذكر سبحانه قصة يوسف توجه الى رسوله الأكرم محمد (ص) بهذه الآية ، والغرض منها إلقاء الحجة على من أنكر نبوته ، وملخصها ان ما قصصناه من أمر يوسف بهذا التفصيل لم يشاهده محمد بنفسه ، ولا قرأه في كتاب ، ولا سمعه من انسان ، وانما هو وحي من الله دال على صدقه ونبوته (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ). ضميرا اجمعوا وهم يعود الى اخوة يوسف ، والخطاب موجه الى محمد (ص) وكل الناس يعرفون ان محمدا لم يكن حاضرا حين أجمعوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب : وحين مكروا بأبيه وقالوا أكله الذئب .. وأيضا كل الناس يعرفون ان محمدا ما قرأ كتابا ولا تتلمذ على أستاذ .. فلم يبق ـ اذن ـ من طريق الى معرفته بهذا الغيب الا وحي السماء .. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٤٩ هود».

٣٦٠