التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

والخلاصة انه لا يوجد ضابط كلي يمكن الاعتماد عليه في تفسير الأحلام بكاملها لأنها أنواع متضادة متباينة ، فمنها صدى لوساوس النفس وظروفها ، وهذا النوع واضح بوضوح مصدره. ومنها ما هو صورة طبق الأصل عن الحادث الذي يقع في اليقظة بعد الحلم ، وهذا النوع نجهل سره ومصدره. ومنها ما هو رموز وإشارات مسبقة الى الواقع المحسوس قبل وقوعه ، كالكواكب التي سجدت ليوسف ، والخبز الذي حمله الفتى المسجون فوق رأسه ، والبقرات والسنبلات التي رآها ملك مصر ، وهذا كسابقه لا نعرف له سرا ولا مصدرا. أما من قال بأن هذا النوع والذي قبله بشرى من الله ، أو حاسة في الإنسان فقد ادعى لنفسه العلم بالغيب ، ولا يرضى أن ينسب الى الجهل ، حتى بما حجب الله علمه عن عباده.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ). في ذات يوم أصبح ملك مصر على رؤيا غريبة .. رأى بقرات يأكلهن بقرات مثلهن ، وما حدث مثل هذا قط ، وبالخصوص ان المهازيل أكلن السمان ، وأيضا رأى سنابل يابسات تلتوي على سنابل خضر في حقل واحد .. وهذا غريب عن المعتاد.

فدعا رجال حاشيته ، وكهنة دولته ، وقال لهم : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ). فعجزوا عن التفسير و (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ). المعنى واضح ، ولكن للرازي هنا كلاما مفيدا يتلخص بأن الله تعالى جعل رؤيا الملك سببا لخلاص يوسف (ع) ، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه ، وقد شاهد الملك ان الضعيف يستولي على القوي ، وهذا بعيد عن الفطرة ، فأيقن ان الرؤيا تنذر بالشرّ ، ولكنه جهل حقيقته وتفاصيله ، فتشوّق إلى المعرفة ، وجمع المعبرين وسألهم عن تفسير ما رأى ، ولكن الله أعماهم عن الحقيقة ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف من سجنه .. ثم قال الرازي : ان المعبرين ما نفوا عن أنفسهم العلم بالتعبير ، وانما قسموا الرؤيا إلى قسمين : منتظمة يسهل معرفتها ، ومضطربة لا تفسير لها إلا الوهم والخيال ، وقالوا : ان رؤيا الملك من النوع الذي لا تفسير له ، أو لا يعرفون هم له تفسيرا ، وان المتبحر في علم الرؤيا قد يهتدي إلى تفسيره.

٣٢١

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ). سبق ان يوسف حين دخل السجن دخل معه فتيان ، وان أحدهما رأى انه يعصر خمرا ، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا ، فعبر لهما يوسف ما رأيا وأحسن التعبير حيث نجا الأول ، وصلب الثاني كما قال .. وهذه الآية تشير الى الذي نجا ، وقال له يوسف آنذاك : اذكرني عند ربك ، فأنساه الشيطان وصية يوسف ، ولما رأى حيرة الملك واهتمامه بتعبير رؤياه وعجز المعبرين تذكر يوسف ، فأخبر الملك عنه وعن صلاحه وعلمه بتعبير الرؤيا ، وقال : لو أرسلتني اليه أيها الملك لجئتك بالخبر اليقين.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ). أمر الملك ساقيه أن ينطلق الى الرجل الصالح الذي حدثه عنه ، وان يقص عليه رؤياه ، ثم يأتيه بما يسمع منه ، فانطلق الساقي الى يوسف ، وبطبيعة الحال اعتذر له عن نسيانه ، بعد أن لقّبه بما هو أهل له من الصدق ، ثم نقل له رؤيا الملك بالحرف ليأتي التفسير على وفق النص (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). أي اخبرني عن التأويل لأنقله عنك الى الملك وحاشيته ، فيعلمون بفضلك ومكانتك ، فيخرجونك من السجن.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) قال يوسف للسائل مفسرا رؤيا الملك : تزرعون سبع سنين متوالية ، وتكون هذه السنين خصبة طيبة ، وهي المشار اليها بالبقرات السمان والسنابل الخضر ، كل سنبلة وبقرة ترمز الى سنة ، ثم نصح لهم يوسف ، وقال : كل ما تحصدونه من الزرع ادخروا سنابله ، ولا تدوسوه لأن القمح في سنابله يصان من السوس والرطوبة : أما الذي تريدون أكله فدوسوه ، مع مراعاة الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أسند الأكل إلى السنين ، والمراد أهلها ، وهذا كثير في كلام العرب ، والمعنى ان السنين المخصبة تعقبها سبع سنين مجدبة ، يتجهم فيها وجه الأرض ، ولا تنبت شيئا ، فتأكلون كل ما ادخرتموه فيما مضى ، ولا يبقى إلا القليل للبذر (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). أي يأتي بعد السبع

٣٢٢

الشداد عام خصب يغيث الله فيه الناس من الشدة بالماء ، فينبت الزرع ، وينمو الشجر ، ويعصر الناس من ثمره خمرا وزيتا وأنواع الدهون والأشربة .. وتجدر الاشارة الى أنه لم يرد في رؤيا الملك أي رمز الى هذا العام ، وانما هو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله أو من ارتضى من رسول.

وقال الملك ائتوني به الآية ٥٠ ـ ٥٣ :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

اللغة :

ما بال النسوة أي ما شأنهن ، ومثله ما خطبكن مع الإشعار بأنه شأن عظيم وجدير بأن يخاطب الإنسان فيه صاحبه. وحصحص أي تبين وظهر.

الإعراب :

ما بال النسوة مبتدأ وخبر ، ومثله ما خطبكن. وحاش لله مرّ إعرابه في الآية ٣١ من هذه السورة. وذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. وليعلم منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر مجرور باللام متعلقا بمحذوف أي أقوله

٣٢٣

ليعلم. والا ما رحم ربي (ما) اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب على الاستثناء أي الا نفسا رحمها ربي. وقيل : يجوز أن تكون مصدرية ظرفية أي الا وقت رحمة ربي.

المعنى :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف .. بعد أن عبّر يوسف الصديق للرسول رؤيا الملك ، ونصح كيف يستعدون لمواجهة السنين الشداد ، بعد هذا رجع الرسول الى سيده بالتعبير والنصح ، واكتشف الملك ان وراء قول يوسف علما جما ، وإخلاصا صادقا ، فأحب ان يقربه اليه لينتفع بعلمه وإخلاصه ، وقال : ائتوني به ، واكتفى القرآن الكريم من هذه الحادثة بقول الملك لأن القارئ يستحضر منه سائر اللوازم التي لا تنفك عنه.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) ودعاه الى حضرة الملك (قالَ) ـ يوسف ـ (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). المراد بالرب هنا السيد .. رفض يوسف الخروج من السجن ، ولم يتهالك على الاستجابة لدعوة الملك ـ كما يفعل الكثير من المتّسمين بسمة الدين ـ بل لم يقم لها وزنا لأمور :

١ ـ ان المؤمن حقا لا يرى عظيما سوى الله : ولا يبالي بشيء في سبيل اظهار الحق وإعلانه ، ومن أجل هذا رفض الصدّيق أن يخرج من السجن بالعفو والتفضل ، وأصر على إعلان الحق قبل كل شيء ، وصمم ان يصبر على السجن وألمه مدى الحياة ، أو يخرج منه مرفوع الرأس مبرأ من كل بهمة.

٢ ـ أحب يوسف أن يجري التحقيق ويتم في غيبته ودون أن يتدخل هو فيه لأن ذلك أبلغ في نزاهته وبراءته ، وأدل على عظمته وحلمه وأناته.

٣ ـ ان يوسف واثق من براءته ، ومطمئن بأن التحقيق سيكن في مصلحته ، وان عدم الاسراع الى الخروج من السجن أدعى الى ثقة الناس واستجابتهم لرسالته .. بالاضافة الى انه يقطع الطريق على من يتوسل بالتهمة الى الطعن فيه عند الملك حين يقربه منه ، وعند غير الملك حين يدعوه الى الله والحق.

ورجع الرسول الى الملك وأخبره بأن يوسف لا يخرج من السجن الا بعد التحقيق

٣٢٤

في شأن التهمة التي سجن من أجلها ، فاهتم الملك ، وأحضر النسوة و (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) .. هذا اعتراف جازم قاطع لكل شبهة ، لأنه من الخصم بالذات .. حاشاه من السوء .. انه لمن الصادقين .. وهكذا تتجلى الحقائق ـ وان طال بها الزمن ـ ويستسلم لها أهل الضلالة مرغمين ، حيث لا مجال للفرار والإنكار.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). اختلف المفسرون في هذه الآية ، فمن قائل انها من كلام يوسف (ع) ، وان المعنى اني طلبت التحقيق مع النسوة ليعلم العزيز اني لم أخنه في زوجته حال غيابه. ومن قائل : ان الآية من كلام امرأة العزيز ، ونحن مع هذا القائل عملا بظاهر السياق من اتصال بعض الكلام ببعض ، وعليه يكون الضمير في لم أخنه ليوسف ، ومرادها بعدم خيانته انها لم تذكره بسوء مدة غيابه في السجن حتى هذه الساعة ، أما إحالتها الذنب عليه حين قالت لزوجها ما قالت فقد كان ذلك بحضور يوسف ، لا بغيابه (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) بل يفضحهم ويهتك سترهم ، وينصر المؤمنين عليهم ، تماما كما فضح النسوة ، ونصر يوسف : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ـ ٧٠ الأنبياء».

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). الإنسان حيوان عاقل ومتدين ، فهو بحيوانيته أو بنفسه الأمارة يميل الى الشهوات والملذات ، لا يبالي بعقل ولا بدين ، وهو بدينه وعقله يرغم نفسه على الوقوف عند حدود الشرع والعقل إذا حاولت تجاوزها والانحراف عنها .. ومن أطلق العنان لنفسه تعمل ما تشتهي وتريد فهو حيوان في صورة انسان ، بل الحيوان خير منه لأنه غير مسؤول عن شيء ، ولذا قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ـ ٤٤ ـ الفرقان». أجل ، قد يضعف الإنسان بعض الأحيان أمام نفسه وشهوته ، ولكن المؤمن العاقل يعود بعدها الى رشده ، ويتوب من هفوته ، فيغفر له ، ويصفح عنه لأن الله غفور رحيم.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) معناه ان النفس ، آية نفس لا تسلم من العيوب الا نفسا عصمها الله من الخطايا والذنوب كنفوس الأنبياء والأئمة الأطهار .. والمهم ان لا يصر المذنب على ذنبه ويعرض أبدا عن ربه. قال الإمام علي (ع) : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه. أي أصر عليه ، ولم يستغفر الله منه.

٣٢٥
٣٢٦

الجزء الثّالث عشر

٣٢٧
٣٢٨

يوسف عزيز مصر الآية ٥٤ ـ ٥٧ :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

اللغة :

أستخلصه أجعله خالصا لنفسي. والمكين من التمكين أي انت عندنا ذو مكانة ومنزلة. ويتبوأ منها يتخذ منها منزلا.

الإعراب :

فاعل كلّمه ضمير مستتر يجوز أن يكون للملك وليوسف أيضا لأن المعنى يصح على التقديرين. وضمير قال انك الخ. مستتر يعود الى الملك. وضمير قال اجعلني الخ. يعود الى يوسف. ومفعول مكنا محذوف أي مكنا الأمر ليوسف ، ويجوز أن يكون يوسف هو المفعول واللام زائدة. وجملة يتبوأ حال من يوسف. وحيث ظرف منصوب بيتبوأ.

المعنى :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ

٣٢٩

أَمِينٌ). بعد أن شهدت امرأة العزيز والنسوة على أنفسهن ، وعرف الناس جميعا ان يوسف منزّه عن الاغراض والعيوب ، بعد هذا رضي يوسف بالخروج من السجن ، وطلبه الملك ليكون زعيما في مملكته وعونا له على تدبيرها وادارتها. ولما اجتمع به ، وسمع منه وقع حبه واحترامه في قلبه ، وقال له فيما قال : أنت محترم عندنا ومؤتمن على كل شيء في الدولة ، وما قال الملك هذا إلا حين أيقن بمقدرته وعلمه وحكمته. وقيل ان يوسف كان عمره آنذاك ٣٠ سنة ، وفي «مجمع البيان» ان يوسف سلم على الملك بالعربية ، ولما سأله من أين لك هذا اللسان؟ قال : هو لسان عمي إسماعيل ، وفي تفسير المنار ان ملك مصر كان في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة «الهكسوس» (١) وقال الطبري ان هذا الملك كان اسمه الوليد بن الريان.

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). بعد أن فوض الملك الأمر ليوسف في كل ما يريد ويختار من المناصب اختار الولاية على خزانة الدولة واقتصادها (٢) ، اختار هذه الولاية بعد أن خيّر ، ولم يطلبها ابتداء كي يقال : كيف طلب الولاية .. وعلى افتراض انه طلبها ابتداء فلم يطلبها لمصلحته الخاصة ، بل للصالح العام ، وليحفظ للمستضعفين حقوقهم وبالخصوص في سني القحط والمجاعة .. لقد علم يوسف ان البلاد مقبلة على بلاء وشدة ، فإذا لم يكن صاحب الخزانة حفيظا عليها عليما بشئونها ضاعت حقوق الناس بخاصة الفقراء والمساكين .. هذا الى أن المال عصب الأمة وحياتها ، فإذا لم يكن زمامه بيد الأكفاء علما وخلقا كان مصير الأمة الى الهلاك والدمار ، حتى في سني الخصب والرخاء.

أما إذا كانت مقادير الأمة بيد الأكفاء والأمناء فإنهم يقودونها الى خيرها وصلاحها دنيا وآخرة ، وقد نقل كثيرون ان يوسف حين تولى أمر الخزانة ، ورأى الناس من عدله وحسن تدبيره ما صان لكل ذي حق حقه آمنوا برسالته ،

__________________

(١). قرأت في جريدة «اخبار اليوم» المصرية تاريخ ٢٥ ـ ١ ـ ١٩٦٩ ان بعثة جامعة فيينا المكونة من ٦ من علماء الآثار أعلنت ان الهكسوس كانوا عربا.

(٢). في مصر يسمون وزير المالية بوزير الخزانة : وغير بعيد ان يكون مصدر التسمية قول يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض».

٣٣٠

حتى الملك آمن وشهد ان لا إله الا الله وان يوسف رسول الله ، قال إسماعيل حقي في «روح البيان» :

«قال مجاهد : أسلم الملك على يد يوسف ، وجمع كثير من الناس» ، وعقّب صاحب «تفسير البيان» على قول مجاهد بهذه الكلمة : «إذا كان الإحسان الى يوسف والإكرام له سببا للايمان والعرفان فما ظنك بمن آسى رسول الله (ص) وذب عنه ما دام حيا وهو عمه أبو طالب ، فالأصح انه ممن أحياه الله للايمان ، كما سبق في المجلد الأول». وسبق الكلام عن اسلام أبي طالب عند تفسير الآية ١١٣ من سورة التوبة.

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). أحفظ المال من الإسراف والضياع ، وأعلم المستحقين له من غيرهم ، وأضع كل شيء في موضعه. وعن الإمام جعفر الصادق انه قال : يجوز للرجل أن يزكي نفسه إذا اضطر الى ذلك ، فلقد قال يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم».

وفي بعض التفاسير : «لم يقل يوسف للملك : عشت يا مولاي ، أنا عبدك الخاضع ، كما يقول المتملقون للطواغيت ، وانما طالب بما يعتقد انه قادر على النهوض به من أعباء الأزمة ، وصيانة الأرواح من الموت ، والبلاد من الخراب .. فيا ليت المتملقين للطغاة يقرءون القرآن ليعرفوا ان الكرامة والاباء والاعتزاز يدر من الربح أضعاف ما يدر التمرغ والتزلف والانحناء». قال الرازي : روي ان الملك قال ليوسف : «أحب ان أشركك في كل شيء الا في أهلي والأكل معي. فقال له يوسف : لا آكل معك وأنا يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل».

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). صبر يوسف على إلقائه في البئر ، وعلى بيعه في سوق العبيد ، وخدمته في بيت العزيز ، وعلى التهمة بالخيانة ، والسجن ، والأسر ، صبر على ذلك وأكثر من ذلك ، صبر واحتسب وتوكل على الله .. فما ذا كانت النتيجة؟. لقد خرج من السجن خروج الأبطال من معارك النصر .. خرج ليحكم في الأرض مطلق اليد مسموع الكلمة ، نافذ السلطان .. وهكذا يوفّى الصابرون

٣٣١

أجرهم في الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). وأجر الآخرة الجنة التي «لا ينقطع نعيمها ، ولا يظعن مقيمها ، ولا يهرم خالدها ، ولا يبأس ساكنها» كما قال الإمام علي (ع) .. وأين من هذا النعيم الدائم الذي لا يشوبه بؤس ولا هرم ذلك الملك الزائل المشوب بالأتعاب والآلام؟. وفي بعض الروايات ان امرأة العزيز أتت يوسف في السنين العجاف تطلب منه قوتا ، وقد مات زوجها ورماها الدهر بالخطوب ، ونال منها ما نال ، وان يوسف لما رآها قال لها : ما الذي أوصلك الى ما أرى؟. فقالت له : سبحان من جعل الملوك بمعصيته عبيدا ، وجعل العبيد بطاعته ملوكا.

وجاء اخوة يوسف الآية ٥٨ ـ ٦٢ :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

اللغة :

منكرون أي لم يعرفوه. ويختلف معنى الجهاز باختلاف مورده من جهاز العروس الى جهاز الميت ، والمراد به هنا الطعام الذي جاءوا من أجله. وخير

٣٣٢

المنزلين أي للضيوف. وقال لفتيانه أي لخدمه. والرحال جمع رحل ، وهو ما يوضع على ظهر الدابة كالسرج ، والمراد به هنا أوعيتهم التي توضع فوق السرج ونحوه. وانقلبوا رجعوا.

الإعراب :

ألا ترون (ألا) أداة تنبيه. ولا تقربون أصلها ولا تقربوني ، وحذفت الياء للتخفيف.

المعنى :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). امتد القحط الى البلاد المجاورة لمصر ، ومنها فلسطين أرض كنعان ، حيث يقيم نبي الله يعقوب ، وكان قد شاع ان عزيز مصر قد أعد للجوع عدته ، وانه يوزع الحنطة بالقسط بين الناس ، لا فرق عنده بين شعب وشعب ، وكان قد نزل ببيت يعقوب من العوز ما نزل بغيره ، فأمر بنيه أن يتجهزوا ، ويذهبوا الى مصر يشترون الطعام ، فذهبوا ، وهم عشرة ، ولما وصلوا الى مصر دخلوا على يوسف ، وهو في مجلس الولاية ، لأنه كان يشرف على أمر الميرة بنفسه ، فعرفهم وما عرفوه.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ). بعد أن أعد لهم كل ما جاءوا من أجله ، وما يحتاجون اليه في سفرهم (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ). قال أهل التفاسير : ان يوسف أكرم وفادة اخوته ، وأحسن ضيافتهم ، فاطمأنوا اليه ، وحدثوه عن حياتهم وعن أبيهم ، وان لهم أخا من أبيهم أصغر منهم ، وبعد هذا قال لهم يوسف : ائتوني بهذا الأخ الأصغر ، ولا شيء في الآية ولا في غيرها يدل على انهم حدثوه عن أبيهم وأخيهم ، أما إكرامه لهم فتدل عليه قرينة الحال وقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). فإذا جئتموني بأخيكم أوفي الكيل له أيضا ، وأكرمه كما أكرمتكم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

٣٣٣

المعنى واضح ، وبالمناسبة نشير الى أن الفقهاء أجمعوا على ان لكل من البائع من والمشتري أن يشترط لنفسه ما يشاء على ان لا يحلل شرطه حراما ، ولا يحرم حلالا ، وشرط يوسف على اخوته من هذا النوع.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ). انهم يعلمون بأن أباهم يضنّ بأخيهم ، ولا يأتمنهم عليه بعد فعلتهم بيوسف .. ولذا قالوا سنراود أي نجتهد ونتلطف لاقناع أبيه رغم صعوبة المطلب ومناله (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ). أمر يوسف خدمه أن يدسوا بضاعة اخوته التي اشتروا بها الطعام ، يدسوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون.

(لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). هذا تعليل لإرجاع الثمن الى اخوته ، وان القصد منه ترغيبهم في العودة اليه ثانية ، فإنهم إذا فتحوا رحالهم ووجدوا فيها بضاعتهم ، بعثهم ذلك الى الرجوع طمعا في جوده وكرمه .. وغير بعيد ان من مقاصد يوسف أن يطمئن أبوه ، ولا يثقل عليه إرسال أخيه له.

فأرسل معنا اخانا الآية ٦٣ ـ ٩٦ :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

٣٣٤

اللغة :

المراد بالمتاع هنا وعاء الطعام. ونمير أي نجلب الميرة بكسر الميم ، وهي الطعام. والمراد بكيل البعير حمله. وموثقا أي عهدا. وان يحاط بكم أي ان تغلبوا على أمركم.

الإعراب :

نكتل مجزوم جوابا لأرسل. وحافظا تمييز ، ويجوز في غير القرآن الجر بالاضافة فتقول : الله خير حافظ ، ونقل الطبرسي عن الزجّاج ان حافظا يجوز أن يكون حالا ، وهذا خطأ حيث يصير المعنى ان الله ليس بخير الا إذا كان حافظا .. تعالى الله .. ما نبغي (ما) استفهام في محل نصب مفعولا مقدما لنبغي. وتؤتون منصوب بأن بعد حتى ، وأصله تؤتوني بالياء وحذفت تخفيفا. والمصدر من أن يحاط منصوب على الاستثناء أي حال الاحاطة بكم.

المعنى :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) في المستقبل ، يشيرون بذلك الى ما قاله يوسف لهم : «فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ..». ثم قالوا لأبيهم : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وعدوه بحفظه وصيانته كيلا يضن به عليهم (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) الذي فعلتم به ما فعلتم .. ثم انصرف عنهم ، والتجأ الى الله ، وقال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأنا أعتمد في صيانة ولدي على حفظ الله ، لا حفظكم ، وهو يرحم ضعفي وشيخوختي. وقيل : ان اسم ولده الأصغر الذي طلبه يوسف كان بنيامين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) فأسرعوا الى أبيهم مسرورين و (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ما ذا نطلب من عزيز مصر؟. وبأي

٣٣٥

شيء نعتذر له إذا لم نأته بأخينا ، وقد أكرمنا بما ترى من رد الثمن؟. (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) قيل : كانت نعالا وجلودا ، وقال بعض المفسرين الجدد : انهم وجدوا بضاعتهم ولم يجدوا قمحا ، وان يوسف لم يعطهم شيئا ليضطرهم الى العودة بأخيهم .. وهذا خطأ لأنه يتنافى مع ظاهر القرآن ، وهو قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) بالاضافة الى ان منع الطعام عن الأهل والأقربين مع شدة حاجتهم اليه قسوة ولؤم ، ويوسف (ع) أجلّ وأعظم ، أما قولهم : منع عنا الكيل فالمراد به منع ثانية وفي المستقبل كما أشرنا.

(وَنَمِيرُ أَهْلَنا) نأتيهم بالميرة ، وهي الطعام (وَنَحْفَظُ أَخانا) من كل مكروه (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لأن يوسف كان يعطي للرجل حمل بعير واحد اقتصادا في الطعام كي ينال منه الجميع ، فإذا صحبوا أخاهم معهم ازدادوا حملا من الطعام (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي ان زيادة الحمل ميسرة مع وجود أخينا ، أما بدونه فلا لأن العزيز لا يبيع للرجل إلا حملا واحدا في هذه الأزمة المجدبة ..

ورأى يعقوب ان الحاجة ماسة الى الطعام ، لأن ما جاءوا به من مصر أوشك على النفاد ، فاستسلم لضغط الحاجة ، لا لضغط أبنائه ، بالاضافة الى ثقته بالعزيز بعد ان سمع الكثير عنه ، ورأى من صنعه مع أولاده. (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ). اذن لهم بأخيهم بنيامين على أن يعطوه عهدا أكيدا ان يرجعوه اليه سليما معافى إلا ان ينزل بهم ما لم يكن في الحسبان (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). فأعطوه العهد الذي أراد ، وأكدوا الايمان بأنهم يفدونه بالأرواح ، وعندها قال : الله وحده هو الشاهد على عهدكم هذا ، فان وفيتم جازاكم أحسن الجزاء ، وان غدرتم كافأكم بأشد العقوبات.

لا تدخلوا من باب واحد الآية ٦٧ ـ ٦٨ :

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ

٣٣٦

وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

الإعراب :

من شيء (من) زائدة اعرابا وشيء مفعول مطلق لأغني. وفاعل يغني عنهم ضمير مستتر يعود الى التفريق المفهوم من قوله : أبواب متفرقة. والا حاجة مفعول من أجله ليغني ، وقيل : نصبت حاجة على الاستثناء المنقطع ، لأن المعنى لكن حاجة.

المعنى :

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ). بعد أن أعطوا أباهم الميثاق المؤكد أذن لهم بصحبة أخيهم ، وأوصاهم بوصيته هذه ، ويظهر منها انه قد كان للمدينة أبواب ، لا باب واحد ، وفي بعض التفاسير انها كانت أربعة. واختلف المفسرون في الغرض من وصية يعقوب أبناءه ان يدخلوا من أبواب متفرقة ، وما أتى واحد منهم بما تركن اليه النفس .. وقد يكون الغرض انهم ان دخلوا مجتمعين ، وهم أحد عشر رجلا ترامت نحوهم الأنظار ، وكثرت التساؤلات والإشارات ، أو ان الغرض ان يعرفوا أخبار المدينة ، ويطلعوا على أحوالها لعلهم يقفون على ما يومئ الى يوسف وأخباره ، ومهما يكن فنحن غير مكلفين بالبحث عن السبب ما دامت الآية لم تشر اليه .. وفي تفسير «البحر المحيط» ان يعقوب أمر بنيه أن يبلغوا تحياته لعزيز مصر ، ويقولوا له : ان

٣٣٧

أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا ، وان يوسف بكى حين سمع هذه الرسالة .. وليس هذا ببعيد عن الموضوع وطبيعته.

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). عند تفسير الآية ٤٠ من هذه السورة ، فقرة «لا حكم الا لله» بيّنا ان حكمه تعالى يطلق على حلاله وحرامه المعبّر عن كل منهما بالحكم الشرعي ، وأيضا يطلق على قضائه وقدره الذي لا مفر منه للإنسان ، وسياق الآية يدل ان هذا هو المراد بحكم الله هنا ، وعليه يكون المعنى اني حريص عليكم ، ناصح لكم ، ولكن حرصي ونصحي لا يغني عن قضاء الله وقدره .. وغرضه من ذلك أن يبين لأبنائه ان على الإنسان ان لا يعتمد على العمل وحده ، ولا على الايمان وحده ، بل عليه أن يعمل ويجتهد متوكلا على الله ، ومعتقدا بأنه هو الذي يمده ويعينه ، ولذا قال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي أنا مؤمن بالله متوكل عليه ، لا على غيره ، وعلى كل من آمن بالله أن يكون كذلك.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من الأبواب المتفرقة (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). اسم كان ضمير مستتر يعود الى الدخول المستفاد من قوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا) والمعنى ان أولاد يعقوب دخلوا المدينة من أبواب متفرقة امتثالا لأمر والدهم ، ولكن دخولهم لم يجد نفعا ، ولم يرد بلاء كما قال يعقوب : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، حيث اتهموا بالسرقة ، وأخذ منهم بنيامين ، ورجعوا الى أبيهم منكسرين كما يأتي. (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها). اختلف المفسرون في تحديد هذه الحاجة التي قضاها الله ليعقوب ، فمن قائل : ان لا يصاب أولاده بالعين عند دخولهم الى مصر. وقائل : ان لا ينالهم العزيز بسوء الخ .. والذي نراه ـ استنادا الى طبيعة الحال ، والى الآيات الدالة على حرصه ولهفته على يوسف وأخيه ـ ان الحاجة الأولى والأخيرة ليعقوب من هذه الحياة كانت سلامة يوسف وأخيه ، واجتماعه بهما قرير العين ، وقد أتم الله له ما أراد على أحسن حال.

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ). ضمير انه وعلمناه يعودان الى يعقوب. وهو نبي ، وكل نبي يؤدبه الله بآدابه ، ويعلمه من لدنه علما ، ومن تأدب يعقوب

٣٣٨

بآداب الله صبره على البلاء ، وتوكله على الله ، وعدم يأسه من رحمته ، ومن علمه مما علمه الله إيمانه بأن فوق تدبير العباد لله تدبيرا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ان الحكم لله ، وان تدبيرهم من غير عناية الله وتوفيقه لا يجديهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا.

أنا أخوك فلا تبتئس الآية ٦٩ ـ ٧٦ :

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

اللغة :

آوى اليه أخاه ضمه اليه ، ولا تبتئس أي لا تحزن مأخوذ من البؤس. والسقاية لغة

٣٣٩

وعاء يسقى به ، والمراد بها هنا الصواع بدليل قوله : نفقد صواع الملك. والصواع والصاع بمعنى واحد ، وهو المكيال. والعير الإبل. وزعيم كفيل.

الإعراب :

تالله التاء للقسم مثل الواو ، ولكنها تختص باسم الله ، فلا يقال تالرحمن وتالقرآن. وجزاؤه مبتدأ ، ومن وجد خبر أي جزاؤه استعباد من وجد في رحله. والمصدر من ان يشاء مجرور بالباء المحذوفة أي الا بمشيئة الله. ودرجات مجرورة بإلى محذوفة.

المعنى :

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). ذكر أهل التفاسير ، ومنهم الطبري والرازي والطبرسي وأبو حيان الأندلسي ، ذكروا في شرح هذه الآية تفصيلات لا دليل عليها من القرآن ، ولا هي من خصائص الواقعة التي لا تنفك عنها ، ولكنها تلائمها وتناسبها ، ومن أجل هذا نلخص أقوالهم بأن اخوة يوسف لما وصلوا الى مصر دعاهم الى طعامه ، وأجلسهم مثنى مثنى لغاية أرادها ، وهي ان يبقى اخوه بنيامين وحيدا ليجلسه معه على مائدته ، تماما كما آخى الرسول الأعظم (ص) بين أصحابه مثنى مثنى ، وأبقى عليا لنفسه ، وبعد الطعام أنزل يوسف كل اثنين من اخوته في حجرة ، وبات اخوه بنيامين معه في حجرته ، وعند ما اختلى به قال له : أتحب ان أكون أخاك؟. فأجابه : ومن يجد أخا مثلك؟. ولكن لم يلدك يعقوب ، ولا راحيل ، وراحيل هي أم يوسف وبنيامين ، فعانقه وقال : أجل ، لقد ولدني يعقوب وراحيل ، فأنا أخوك ، ولا تحزن بما كان من إخوتك معي ومعك .. ففرح بنيامين للمفاجأة السارة ، وحمد الله.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). أراد يوسف أن يفصل بنيامين عن اخوته ، ويبقيه عنده ،

٣٤٠