التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

الظَّالِمُونَ) .. أعوذ بالله أن أعصي له أمرا ، كيف؟ وقد أفاض علي الكثير من فضله وإحسانه ، إذ أخرجني من البئر ، وسخر لي قلب العزيز الذي أنزلني منه منزلة الأبناء الأبرار .. كيف أظلم نفسي بمعصية الله ، والله لا يهدي القوم الظالمين؟. وهكذا يصنع الايمان الصادق بأهله ، يعصمهم من المحرمات ، ويبتعد بهم عن الهفوات إذا خاضوا المعارك مع الشيطان وحزبه.

وقال أكثر المفسرين : ضمير (إِنَّهُ رَبِّي) يعود الى العزيز زوج المرأة ، وان المعنى قد أكرمني زوجك وأحسن إليّ فكيف أخونه فيك؟ .. أما السياق فيرجح رجوع الضمير الى لفظ الجلالة لقربه منه في قوله : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي). وليس للعزيز ذكر في الآية على الإطلاق .. بالاضافة الى أن الدافع لامتناع يوسف عنها هو الخوف من الله ، وليس مجرد الوفاء للعزيز .. وعلى افتراض رجوع الضمير الى العزيز فإن المقصود توبيخها والتعريض بها ، وان الأولى بها أن تكون تقية وفية لزوجها الذي سمت به الى علو الدرجات.

ولقد همت به وهم بها الآية ٢٤ ـ ٢٩ :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ

٣٠١

كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

اللغة :

قال الطبرسي في مجمع البيان للهمّ معان ، منها العزم ، ومنها خطور الشيء بالبال دون العزم عليه ، ومنها الرغبة كقول القائل : هذا أهم الأشياء إليّ. والقد شق الشيء طولا أي قطعت قميصه طولا من خلف. واستبقا الباب تسابقا اليه ، وألفيا أي وجدا.

الإعراب :

المصدر من ان رأى مبتدأ ، والخبر محذوف ، وجواب لولا محذوف أيضا ، والتقدير لولا رؤيته برهان ربه كائنة لهمّ بها. كذلك الكاف بمعنى مثل في محل نصب مفعولا لفعل محذوف أي أريناه مثل ذلك لنصرف ، والمصدر من أن نصرف مجرور باللام متعلقا بأريناه المحذوفة. والباب منصوب بنزع الخافض أي واستبقا الى الباب ، مثل واختار موسى قومه أي من قومه. ما جزاء (ما) نافية ، وجزاء مبتدأ ، والمصدر من أن يسجن خبر ، أي السجن. أو عذاب عطف عليه. يوسف منادى أي يا يوسف أعرض عن هذا.

المعنى :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). في المجلد الأول من هذا التفسير ص ٨٦ و ١٩٦ والمجلد الثاني ص ٣٥٩ تكلمنا عن العصمة ، وان الأنبياء كلهم معصومون. وعلى هذا تفرع السؤال الآتي : ان يوسف معصوم

٣٠٢

لأنه نبي ، وقوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) يومئ الى عزمه على القبيح ، والاستجابة لمراودة التي هو في بيتها؟.

وأجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة بعضها فيه وقاحة ، وبعضها بعيد عن ظاهر الكلام .. وأقرب الأجوبة الى الظاهر ومقام الأنبياء ان في الآية تقديما وتأخيرا ، والأصل هكذا (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). ومعنى هذا انه ما همّ بها إطلاقا ، تماما كقول القائل : لولا فلان لهلكت.

وببيان ثان : ان جميع المقتضيات كانت متوافرة للفعل ، فالمرأة باذلة بل متهالكة ، وهو قوي وقادر من حيث الرجولة ، والخلوة تامة بأكمل معانيها ، فلا سامع ولا ناظر .. ولكن هناك مانع ليوسف أقوى من كل زاجر ، وأعظم من كل سامع وناظر ، وهو علمه بحلال الله وحرامه ، وحياؤه منه ، ويقينه بأن الله أقرب اليه من حبل الوريد ، وانه يعلم ما توسوس به نفسه ، بل وما هو أخفى من ذلك .. هذا هو البرهان الذي منع يوسف عن التفكير بالحرام ، ويمنع كل من آمن حقا وصدقا بالله واليوم الآخر ، نبيا كان أو غير نبي ، وقال قائل : ان يوسف ما تجلى له برهان ربه هذا الا حين همّت به ، وهمّ بها .. حاشا للأنبياء والصديقين .. ان برهان الله لازم لا ينفك بحال عن المؤمنين الصادقين منفردين ومجتمعين بالحسان وبغير الحسان.

(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ). السوء كيد امرأة العزيز ، والفحشاء الزنا ، والمعنى ان الله مع المتقين الذين يلتجئون اليه مخلصين ، فيحرسهم ويصونهم ممن أراد بهم سوءا ، أو حاول ان يوقعهم في الضلالة والغواية ، تماما كما فعل بيوسف ، التجأ الى ربه ، وخاطبه مخلصا بقوله : «والا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم».

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ). حاول يوسف التخلص منها بالفرار من بيتها ، فعدت خلفه كالجمل الهائج ، وأدركته قبل أن يهرب من الباب ، وجذبت قميصه من الخلف فشقته طولا .. وهنا وقعت المفاجأة بمجيء الزوج صدفة (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ). قال صاحب تفسير المنار : «كان النساء

٣٠٣

في مصر يلقبن الزوج بالسيد ، واستمر هذا الى زماننا». دخل سيدها البيت فرأى يوسف واقفا ، وقميصه ممزقا ، وقبل أن يسأل عن الخبر (قالَتْ) ـ له ـ (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ). قالت هذا بكل هدوء ، ودون أن يظهر عليها أي أثر للمفاجأة ، قالت لزوجها : ما جزاء من أراد بي السوء ـ وهي نفسها السوء ـ ومع هذا تتهم الطهر والقداسة بالسوء ، وتطلب معاقبته عليه.

ويذكرنا هذا بالذين يثيرون الآن الحروب في فيتنام والشرق الأوسط والكونغو وغيرها ، ويسلحون الجلادين للفتك بالمستضعفين في أنغولا وجنوب افريقيا وروديسيا ، وأمريكا اللاتينية وغيرها ، ويقيمون ضد من يخرج عن طاعتهم أكثر من ألف قاعدة عسكرية في شرق الأرض وغربها مجهزة بأنواع المبيدات البشرية ، ومع هذا يدعون انهم قتلوا الفيتناميين ، وسلحوا إسرائيل ، ودفعوها الى العدوان والتقتيل والتخريب والتشريد للمحافظة على السلم ، وأمن الشعوب ، وصيانة حقوق الضعفاء. ـ اذن ـ أية غرابة بعد هذا إذا انقادت «امرأة» لنزوتها ، وكذبت على زوجها لتستر خطيئتها؟.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي). وأنا امتنعت عليها ، وفررت منها ، فلحقت بي ، وفعلت بثوبي ما ترى (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). تكلم المفسرون ، وأطالوا هذا الكلام حول هذا الشاهد ، فمن قائل : انه ابن عمها ، وقائل : انه من أصحاب زوجها ، وذهب آخرون الى انه كان صبيا في المهد .. أما نحن فنقف عند ظاهر الوحي الذي دل على ان الشاهد كان من أسرتها ، وانه كان بالغا راشدا لقوله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ). هذا ما نطق به الوحي ، أما أين كان هذا الشاهد؟. ومتى أدلى بشهادته؟. وهل جاء صدفة ، أو بدعوة منها أو من زوجها ، اما هذا أو غير هذا فقد سكت الله عنه ، وفي الحديث : ان الله سكت عن أشياء فلا تتكلفوها.

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). اقتنع الزوج وأيقن بصدق يوسف (ع) وكذبها ، ولكنه رأى الستر والكتمان

٣٠٤

أولى من التشهير والفضيحة ، فاكتفى بقوله لها : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) .. وهذا الوصف يعجب النساء لأنه شهادة بذكائهن وان الرجال لا يفطنون لمكرهن وحيلهن.

وتسأل : جاء في هذه الآية : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). وجاء في الآية ٧٥ من سورة النساء : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). فهل معنى هذا ان كيد النساء أقوى وأعظم من كيد الشيطان؟.

الجواب : ان كيد النساء من كيد الشيطان ، فكيده أصل ، وكيدهن فرع. والمراد بضعف الشيطان في كيده انه لا سلطان له على عباد الله الا من اتبعه من الغاوين ، والمراد بعظمة النساء في كيدهن انهن أقوى جنود الشيطان وأتباعه ، فقد روي عن إبليس انه قال : النساء فخوخي ومصائدي ، فإذا اجتمعت عليّ لعنات الصالحين ذهبت الى النساء فطابت نفسي بهن ..

ثم قال العزيز (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا). اكتمه يا يوسف ، ولا تخبر أحدا بما حدث ، وقال لزوجته : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ). وهذا دليل قاطع على ان الزوج أيقن ببراءة يوسف ، وخطيئة زوجته. وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره «البحر المحيط» : «كان العزيز قليل الغيرة ، وهذا مقتضى طبيعة تربة مصر وبيئتها». ورد عليه صاحب «تفسير المنار» بقوله : «هذا كلام غير مبني على علم صحيح» ونضيف اليه ان مبعثه الهوى والغرض.

وانما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات ، لأن الخطيئة تصدر من الرجال والنساء ، ولفظ خاطئين يصح إطلاقه على الجميع من باب التغليب ، أما لفظ خاطئات فيختص بالإناث فقط.

القضاء بشاهد الحال :

ليس المراد بالشاهد في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ) من نص الشارع على الأخذ بشهادته في فصل الخصومات ، وانما المراد به الخبير الذي يستنتج بذكائه من واقعة معلومة لديه معرفة واقعة مجهولة ، فشق القميص معلوم وثابت بالعيان ، وقد جرت

٣٠٥

العادة إذا أخذ الإنسان من خلفه أن يتمزق ثوبه من هذه الجهة ، وإذا أخذ من أمامه أن يتمزق من الأمام ، وبهذا توصل قريب امرأة العزيز الى التمييز بين الصادق والكاذب.

وبهذه المناسبة نشير الى ان ما يمكن الاعتماد عليه لمعرفة الحق المتنازع فيه ينحصر في ثلاثة أنواع :

النوع الأول : كل ما من شأنه أن يفيد العلم بالضرورة واللزوم العقلي ، مثل أن يدعي من بلغ الأربعين انه ابن أو أب لمن هو في هذه السن أو ما دونها بقليل ، أو يدعي بأنه ورث عن أبيه هذه البناية مع العلم بأن أباه عاش ومات فقيرا ، ولم يترك شيئا لوراثه .. وهذه الدعوى وأمثالها ترفض ابتداء ، ولا يفتقر ردها الى نص من الشارع ، لأنها مردودة بطبعها ، وبالاحساس الغريزي عند كل انسان ، ويحكم على مدعيها بكل ما يستدعيه الرد ويلزمه من الآثار.

النوع الثاني : ما نص الشارع صراحة على العمل به ، والاعتماد عليه في الحكم كالاقرار واليد وشهادة العدلين ، ويسمى هذا النوع في اصطلاح فقهاء الشريعة الاسلامية ، بالبينة الشرعية ، وعند أهل الشرائع الوضعية بالقرينة القانونية ، واتفق الجميع على ان القاضي يجب عليه أن يتعبد ويحكم بما نص عليه الشارع ، سواء أحصل له العلم منه ، أم لم يحصل.

النوع الثالث : ما يستخرجه القاضي باجتهاده وذكائه من القرائن التي ترافق موضوع الدعوى وظروفها ، وهي لا تدخل تحت حصر ، لأنها قرائن خاصة تستنتج من دعوى خاصة. وبديهة ان لكل دعوى موضوعها وظروفها ، ولكل قاض فهمه واجتهاده .. ومن هذه القرائن ان كان قميصه قدّ من قبل الخ ، ومنها أيضا ما نسب لسليمان بن داود ، أو الإمام علي (ع) من الحكم بين المرأتين اللتين ادعتا الولد ، وقوله : ائتوني بسكين أشقه بينهما ، فسمحت إحداهما دون الأخرى ، فقضى به لهذه.

وأغرب ما قرأته في هذا الباب ما نقله «الشاطبي» في «الموافقات» ج ٢ ص ٢٦٧ المسألة الحادية عشرة : «ان أبا بكر أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا

٣٠٦

رؤيت». أي ان رجلا مات ولم يوص في حياته ، ثم أوصى بعد موته ، وأبلغ وصيته لمن أراد في المنام ، فنفذ أبو بكر هذه الوصية.

أمرأة العزيز ونسوة المديبة الآية ٣٠ ـ ٣٥ :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

اللغة :

شغفها أي بلغ شغاف قلبها ، وهو غلاف القلب على هيئة الكيس. والمراد بكيدهن قولهن الذي أردن به اغضابها ، واشاعة أمرها. وأعتدت أعدّت

٣٠٧

وهيأت. والمتكأ ما يتكأ عليه من فرش ونحوه. وقطّعن أيديهن جرحنها. فاستعصم طلب العصمة وامتنع عما أرادت منه.

الإعراب :

وقال نسوة أي جمع النسوة. وحبا تمييز محول عن فاعل أي شغفها حبه ، مثل طاب محمد نفسا أي طابت نفس محمد. ومتكأ أصله موتكأ لأنه من توكأ ، فأبدلت الواو تاء وأدغمت التاءان. وحاش لله أصلها حاشا ، وحذفت الألف تخفيفا ، وهي فعل ماض ، والفاعل ضمير مستتر يعود الى يوسف. ولله اللام حرف جر : والمعنى بعد يوسف عن المعصية لأجل طاعة الله. وقيل : الله فاعل واللام لبيان الفاعل أي حاشا الله. وما هذا بشرا (ما) نافية تعمل عمل ليس على لغة أهل الحجاز ، وهذا اسمها وبشرا خبرها. وان هذا (ان) نافية بمعنى ما. وذلكن (كن) للخطاب ، لا للضمير ولا محل له من الاعراب ، وذا اسم اشارة مبتدأ ، والذي لمتنني فيه خبر. وليكونا من الصاغرين الأصل ليكونن بالنون الخفيفة ، وكتبت بالألف تبعا لخط المصحف. مثل لنسفعا بالناصية. وربّ أصله يا ربي. والسجن أحب مبتدأ وخبر. وإلا مركبة من كلمتين : ان الشرطية ولا النافية.

المعنى :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). شاع في مصر ، وبالخصوص على ألسنة النسوة ان امرأة العزيز افتتنت بغلامها ، ودعته لنفسها ، ولكنه عزف عنها وزهد فيها ، وقد اجترحت بهذا خطيئة لا تغتفر.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي بقولهن ، وأطلق المكر هنا على القول لأنهن ما أردن به وجه الحق ، بل أردن مجرد التشهير بها. وقال بعض المفسرين : لعلهن لمنها لانكشاف المراودة وظهورها ، وانه كان الأولى بها ان تحكم الخطة ليتم كل

٣٠٨

شيء تحت الستار .. ويصح هذا القول في الفاجرات ، لا العفيفات (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً). أرادت أن تمكر بهن كما مكرن بها ، فأقامت لهن مأدبة في قصرها ، وحاطتهن بهالة من النعيم : متكآت وثيرة وأرائك مريحة ، وطعام سخي شهي ، وأعطت كل واحدة سكينا حادة لتقطع بها اللحم والفاكهة .. واستعمال السكين في الأكل آنذاك يومئ الى الحضارة. وفي تفسير الطبري ان السكاكين لا تدفع الى من دعي الى مجلس إلا لقطع ما يؤكل ، فذكرها يغني عن ذكر المأكول الذي قطعت به.

(وَقالَتِ) ـ ليوسف ـ (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) من شدة الدهشة والذهول ، وقال المفسرون : قطعن أي جرحن ، ولكن الظاهر من القطع الابانة ، لا الجرح .. ومهما يكن فان مثل هذه الحادثة تفسر بالاجتهاد فيما تستدعيه ظروفها وملابساتها ، لا بالنص الحرفي لدلالة اللفظ (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) في صورة البشر لهيبته وجماله الذي جر عليه أنواع البلاء والمحن.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ). قالت هذا بلغة الحرية التي تطالب بها فئة من بنات الجيل الجديد ، حرية بلا مسؤولية ، حتى في التهتك والتفسخ .. ونحن من أنصار الحرية للرجال والنساء ، ولكن في حدود المسئولية عن الأقوال والأفعال (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) على المكشوف (فَاسْتَعْصَمَ) انصرف عني وأعرض (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ). قال صاحب «تفسير المنار» : «والله ما عجبي من يوسف ان راودته مولاته فاستعصم .. وانما عجبي بل اعجابي بيوسف (ع) ان نظره الى الله لم يدع في قلبه البشري مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا». ونعطف على هذا القول ان الله سبحانه ضرب يوسف مثلا للمؤمن المخلص ليعرف به المؤمن المزيف الذي يكيف الدين حسب أهوائه وأغراضه.

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). ليس المراد بأحب هنا التفضيل ، بل مجرد الاختيار ، تماما كقولك : الصحة أحب إليّ من المرض. وقال يدعونني بصيغة الجمع لأن النسوة اللاتي رأينه رغبن فيه أيضا بدليل الآية ٥٠

٣٠٩

«قال ارجع الى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء» .. وآثر يوسف السجن لأنه على مرارته أحلى عاقبة من لذة الحرام ، ومهما اشتدت وطأة السجن فإن الدين أقوى منه.

وتسأل : إذا خيّر المرء بين الزنا والسجن ، ولا مفر له من أحدهما ، فهل يجوز له أن يزني؟.

الجواب : لا يجوز لأن الخيار وقع بين الزنا المحرم ذاتا ، وبين السجن الذي تقع تبعته على الظالم ، لا على المظلوم الا إذا كان السجن علة تامة لمحرم أشد وأعظم ، فيجوز حينئذ أن يزني دفعا لأشد الضررين ، وارتكابا لأخف المحذورين ، ولذا إذا خيّر بين الزنا والقتل فعليه أن يختار الزنا .. هذا في غير المعصوم ، لأن المعصوم له حكم آخر.

(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ). لما كثر على يوسف الإغراء والتهديد خاف على نفسه أن تضعف في جنب الله ، ففزع اليه تعالى يطلب المخرج ، ويقول : إلهي لقد نزل بي ما لا طاقة لي به الا بمعونتك ، وأنت القادر على كشفه ، فإن لم تكشفه عني تضعف قوتي ، وتقل حيلتي (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) كما استجاب له من قبل وصرف عنه كيد اخوته ، وما أخلص عبد لخالقه الا جعل له فرجا ومخرجا : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ـ ٤٧ الروم» (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع دعاء من تضرع اليه ، ويعلم اخلاص من أخلص له.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). ضمير لهم يعود الى العزيز وامرأته ومن على رأيهما ، وقيل : يعود الى العزيز وحده ، وصح بصيغة الجمع لأنه لم يذكر باسمه ، والمراد بالآيات الدلائل التي دلت على براءة يوسف ونزاهته ، و (حَتَّى حِينٍ) أي يسجن سجنا مؤقتا ، لا مؤبدا .. ولا ذنب له الا الطهر والعفاف ، ولو كان خائنا مثلهم لرفعوه مكانا عليا .. أبى يوسف ان ينصاع لرغبة المجرمين فعاقبوه كمجرم .. وهكذا في جميع أدوار التاريخ يعاني الحر الكريم إذا ألقى به القدر في بيئة الظلم والفساد ، ولكن الله مع الذين اتقوا

٣١٠

وصبروا على الهول في سبيله ، لا في سبيل أنفسهم ، ويمد للباغي أمدا ، ثم تدور عليه دائرة السوء ، ويؤيد الله بنصره من آمن وصبر ، تماما كما حدث ليوسف مع اخوته وامرأة العزيز ، حيث قال له اخوته بعد ان آتاه الله الملك : «تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين». وقالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين.

ودخل معه السجن فتيان الآية ٣٦ ـ ٣٨ :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

الإعراب :

فوق ظرف مكان والعامل فيه احمل ، وجملة تأكل صفة للخبز. وهم بالآخرة هم كافرون ، هم الأولى مبتدأ ، والثانية تأكيد وكافرون خبر وبالآخرة متعلق بالخبر. ما كان لنا (ما) نافية ، ولنا خبر كان مقدم ، والمصدر من ان نشرك اسم كان ومن زائدة اعرابا ، وشيء مفعول مطلق. لنشرك. أي شيئا من الشرك.

٣١١

المعنى :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) ـ أي عنبا ـ (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ). دخل يوسف الطهر السجن ، وبقيت امرأة العزيز الرجس في قصرها طليقة تأمر وتنهى ، ولكن يوسف دخل السجن طيب النفس ، وهو الذي أحبه وآثره لأن فيه راحة الضمير ، والنجاة من المعصية ، والفوز بمرضاة الله ، أما امرأة العزيز فهي في سجن من العذاب الأليم ، عذاب الضمير والحرمان والفضيحة.

ودخل مع يوسف (ع) السجن فيمن دخل اثنان من حاشية الملك : ساقيه ، وخازن طعامه لتهمة ألصقت بهما ، قال الساقي : رأيت فيما يرى النائم اني أعصر خمرا ـ أي عنبا لأنه يؤول الى الخمر ـ وقال الخازن : أما أنا فرأيت على رأسي خبزا يخطفه سرب من الطير ، ويذهب به (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) خبرنا بتفسير ما رأينا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في سيرتك مع أهل السجن.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما). ذكر في تفسيره ستة اقوال ، ويتلخص أقربها الى ظاهر اللفظ بأن يوسف قال للسائلين : انا وأنتما محجوبان في هذا المكان لا يعلم أحدنا ما ذا يجري في خارجه ، ومع هذا فأنا اعلم أي طعام يرسل إليكما ، ما هو نوعه ، وما هي الغاية من إرساله قبل أن يرسل.

وتسأل : لقد سألاه عن تعبير ما رأيا فأجابهما بأنه يخبر عن الغيب فيما يأتيهما من طعام ، وهذا لا يمت الى السؤال بصلة؟.

أجل ، ليس هذا تعبيرا للرؤيا ، ولكنه تمهيد له ، فلقد أراد يوسف ان يغتنم هذه الفرصة ليثبت لأهل السجن انه نبي مرسل من عند الله ، واستدل على نبوته بالإخبار عن الغيب ، تماما كما استدل عيسى (ع) على صدقه بقوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) ـ ٤٩ آل عمران». وبديهة ان الغرض الأول ليوسف (ع) ان يبث بين السجناء عقيدة التوحيد والاعتراف باليوم الآخر ، كما هو شأن الأنبياء ، ويظهر ذلك من أقواله التالية :

٣١٢

(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). ذا إشارة الى الاخبار بالغيب و (كما) حرف خطاب للسائلين عن تعبير الرؤيا ، والمعنى ان ما أخبركم به من الغيب ليس كهانة ولا سحرا أو عرافة ، وإنما هو وحي أوحاه الله إليّ كما أوحى الى الأنبياء من آبائي (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). أي برئت من قوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .. وفي هذا تعريض ـ ولكن بلطف ورفق ـ بالسجناء وغيرهم من المشركين ، لتكون دعوته أوقع في نفوسهم ، وفي التاريخ ان المصريين كانوا يومذاك يعبدون آلهة ، منها الشمس ، ويسمونها (رع) ، ومنها عجلهم (ابيس).

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ). لقد كان هؤلاء مشهورين مكرمين عند الجميع وبالخصوص ابراهيم الخليل (ع) ، ولذلك أضاف يوسف نفسه اليهم نسبا ودينا ، قال الرازي :

«لما ادعى يوسف النبوة وتحدى بالمعجزة ، وهي علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة ، وان أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء ، فإن الإنسان متى ادعى حرفة آبائه لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا ان درجة ابراهيم وإسحاق ويعقوب كانت معروفة عند الناس ، فإذا ظهر انه ولدهم عظموه ، وكان انقيادهم له أتمّ ، وتأثير كلامه في قلوبهم أكمل».

(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ). أي ان اختصاصنا بالنبوة فضل من الله حيث رآنا أكفاء لرسالته ، وأيضا فضل على الناس لأنهم بنا اهتدوا إلى سواء السبيل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) بل يشركون ويجحدون : وكلما زادوا غنى ازدادوا كفرا وطغيانا.

ياصاحبي السجن الآية ٣٩ ـ ٤٠ :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)

٣١٣

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

اللغة :

الدين القيم هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

الإعراب :

أأرباب الهمزة استفهام انكاري. ومتفرقون صفة. وسميتموها تتعدى إلى مفعولين والثاني محذوف أي سميتموها آلهة. وأنتم توكيد لضمير الفاعل ، وآباؤكم عطف عليه أو على الضمير المتصل. ومن سلطان (من) زائدة إعرابا وسلطان مفعول أنزل. وان الحكم (ان) نافية. والا تعبدوا (الا) مركبة من كلمتين ان المصدرية ولا النافية ، والمصدر المنسبك مجرور بالباء المحذوفة ، أي أمر بعدم عبادة غيره.

المعنى :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). المراد بصاحبي السجن الفتيان اللذان دخلا السجن مع يوسف ، وسألاه عن تعبير الرؤيا ، وأضافهما الى السجن بالنظر لاقامتهما فيه ، مثل أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ويحتمل أن يكون يوسف أضافهما الى نفسه أي يا صاحبيّ في السجن ، وحذفت (في) توسعا ، والأول أظهر ، ومهما يكن فإن يوسف (ع) قد جادلهما فيما يعبدان وقومهما من دون الله ، وأورد الجدال والحجاج في صيغة السؤال والاستفهام لأنه أقرب

٣١٤

الى الطباع من المجابهة بفساد العقيدة .. وقد ذكرنا الدليل على التوحيد في ج ٢ ص ٣٤٤ عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء.

ثم خطا يوسف (ع) خطوة ثانية في الدعوة الى التوحيد ، ونبذ الشرك ، وقال : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). انكم تعبدون مجرد أسماء لا وجود لمعانيها إطلاقا ، وكل ما لا وجود له لا أثر له ، وتستحيل اقامة الدليل عليه .. فمعبودكم ـ اذن ـ خيال في خيال .. وهكذا العالم الحكيم ينتقل من أسلوب الى أسلوب لاقناع الجاهل ، يلوح ثم يصرّخ حتى يصل الى ما يبتغيه من الإذعان والتسليم لدعوته.

لا حكم الا لله :

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ). معنى لا تعبدوا الا إياه واضح ، أما معنى الحكم لله فيحتاج الى تفسير ، ويتلخص بأن حكم الله على قسمين : الأول قضاؤه وقدره ، وهذا لا مفر منه للإنسان. الثاني حلال الله وحرامه المعبّر عن كل منهما بالحكم الشرعي. ومعلوم ان الله تعالى لا يتصل بعباده بلا واسطة ، ويحكم بينهم مباشرة في هذه الحياة ، وانما يشرع الأحكام ويبلّغها لعباده بلسان أنبيائه. ورسله والمراد بالحكم لله المعنى الثاني وانه تعالى هو مصدر التشريع ، وليس الأفراد ولا الجماعات ، ولا أية سلطة الا الله وحده لا محلّل ولا محرم الا هو ، ومن حكم بشيء فلا يكون حكمه حقا وعدلا الا إذا كان على وفق ما أوحى الله ، وأجمع كلمة تعبّر عن ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ـ ٤٥ المائدة» ، وفي آية ثانية هم الفاسقون ، وفي ثالثة هم الكافرون ، فأي حكم لا يعبّر عن ارادة الله ومرضاته فهو كفر وظلم وفسق ، وبتعبير ثان ان حكم الله أشبه بالخارطة يضعها المهندس للبنّاء ، ومن يتولى الحكم ويمارسه أشبه بالباني.

وقد استوحينا هذا التفسير من قول الإمام علي (ع) ، فإنه لما سمع قول الخوارج : لا حكم الا لله قال : «كلمة حق أريد بها باطل ، نعم لا حكم الا

٣١٥

لله ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة الا لله .. وانه لا بد للناس من أمير بر ، أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر». أي ان حق التشريع لله وحده ، وعلى الناس أن يطبّقوا ما شرعه الله ، والذي يحملهم على هذا هو هذا الأمير ، والخوارج خلطوا بين مصدر الشريعة ، وبين من يطبّقها ويزاولها ، ولم يميزوا بين الاثنين.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). ذلك اشارة الى حصر التشريع والعبادة بالله ، والمعنى ان الدين المستقيم الذي لا عوج فيه هو الذي يخص الله وحده بالتشريع والعبادة ، وليس لأي انسان أن يستعبد الناس ، أو يشرع لهم الأحكام والحلال والحرام ، فالكل حتى الأنبياء عبيد لله يعملون بأمره ونهيه ، ومعنى هذا ان كل الناس خلقوا اخوة متساوين ، وقد منحهم خالقهم حقوقا انسانية أبدية لا تقبل التبديل أو التعديل ، وأظهر هذه الحقوق الحياة والحرية والسعي الى السعادة ، ومن وقف في طريق حق منها فهو أعدى أعداء الله ودينه وشريعته.

تعبير رؤيا صاحبي السجن الآية ٤١ ـ ٤٢ :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

٣١٦

اللغة والإعراب :

بضع من الأعداد ، ويطلق على الثلاثة الى العشرة ، ونصب على انه ظرف زمان لاضافته الى سنين ، والعامل فيه لبث.

المعنى :

بعد أن أدى يوسف واجب الدعوة الى الله تعالى عبّر لكل من الساقي وخازن الطعام ما رآه في منامه ، فقال للساقي : تنجو من السجن ، وتعود الى سابق عهدك ساقيا للملك ، وقال للخازن أو للخباز : تصلب وتأكل الطير من رأسك ، وقد كان يوسف على ثقة من تعبيره لأنه وحي من الله ، ولذا قال لهما : ان هذا الأمر قد بتّ فيه ، وانتهى حكمه.

وقال يوسف للساقي الناجي : إذا رجعت الى قصر الملك فقل له : اني سجنت من غير محاكمة أو سؤال ، وإذا فحص عن الحقيقة ظهر اني أخذت بغير سبب. وعاد الساقي الى القصر ، ونسي في زحمة أعماله في خدمة الملك أن يذكر يوسف ، فلبث في السجن بضع سنين .. وفي رواية انها سبع ، وقيل بل ١٢ والله أعلم.

سبع بقرات سمان الآية ٤٣ ـ ٤٩ :

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ

٣١٧

فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

اللغة :

سمان جمع سمين وسمينة. والعجاف ضد السمان ، وهو جمع أعجف للذكر وعجفاء للأنثى أي هزيل وهزيلة. وعبرت الرؤيا فسرتها ، وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط : المشهور تخفيف الباء وأنكر البعض تشديدها. والأضغاث جمع ضغث ، وهو الحزمة من كل شيء ، وقيل : من النبات فقط يختلط فيها الرطب باليابس. وادّكر واذكر بمعنى واحد ، قال الطبرسي في مجمع البيان : الأجود الدال وأصله اذتكار. وبعد أمة أي بعد حين. والدأب العادة والمراد به هنا الدوام على الزرع. وتحصنون أي تحرزون ، يقال : أحصنه احصانا إذا جعله في حرز. ويغاث الناس أي يفرج الله عنهم ، ويطلق الغيث على المطر وعلى ما ينبت بسببه. ويعصرون أي يستخرجون العصير مما يعصر كالعنب والزيتون ، وهو كناية عن الخصب.

الإعراب :

للرؤيا اللام زائدة لتقوية الفعل وبيان المفعول ، ومثلها لربهم يرهبون. وأضغاث

٣١٨

خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أضغاث. ودأبا مصدر وضع موضع الحال أي دائبين. وصاحب الحال واو تزرعون. ومفعول يعصرون محذوف أي ما من شأنه أن يعصر.

الأحلام ونظرية فرويد :

الأحلام ظاهرة نفسية ، وقد تناولها بالبحث والتمحيص علماء النفس وكثير غيرهم من كل مذهب ، وتكلموا عنها كثيرا ، وما أتوا بضابط كلي يمكن الاعتماد عليه في تفسير الأحلام بشتى أنواعها .. أجل ، لقد اهتدوا الى المصدر الأول لنوع من الأحلام ، وفسروه تفسيرا صحيحا ، واكتشفوا منه بعض الأمراض العصبية ، لأنه انعكاس عنها ، ولكن هناك أحلاما تتكلم بغير لغة الحالم ونفسه وحياته ، وعجز العلماء عن تفسيرها.

وحاول «فرويد» أن يفرض التفسير الجنسي على جميع الأحلام ، بل وعلى كل شيء في هذه الحياة أو على أكثر أشيائها .. فالأحلام عنده كلها رموز جنسية ، دون استثناء ، والأمراض العصبية سببها كبت الغريزة الجنسية ، وحب الولد لوالدته ناشئ عن التفكير فيها وغيرته من أبيه عليها ، وكذلك تعشق البنت أباها ، وتغار من أمها عليه ، بل كذلك جميع الصداقات والأشواق .. حتى فكرة التدين والضمير مصدرها الخوف من مضاجعة المحارم .. وعلى هذه فقس ما سواها ..

ورد العارفون هذه النظرية بأن الإنسان مسير بالعديد من الغرائز ، لا بغريزة الجنس فقط ، وألف «جاسترو» البولندي كتابا في جزءين ردا على فرويد ، وأسماه : الأحلام والجنس ، وترجمه فوزي الشتوي ، ومما جاء فيه ان العلماء درسوا بضعة آلاف من الأحلام لبضع مئات من الناس ، فوجدوا أن أقل من ٥٠ بالمائة منها لا يمكن تفسيرها بنظرية فرويد ، وان هذه النظرية تترك كثيرا من الأسئلة بغير إجابة. وقال أديب ذكي معاصر.

«ان نظرية فرويد لا تدين سوى صاحبها ، فهو صاحب الخيال الجنسي الذي يرى في كل شيء مستدير عضوا انثويا ، وفي كل مستطيل عضوا مذكرا .. أما

٣١٩

الانسانية فهي بريئة من هذا الرأي ، ان هذه النظرية الضيقة لا يمكن أن تكون صادقة ، فالإنسان ليس عبدا للجنس فقط ، وإنما هو عبد لأكثر من لذة ، لذة الجنس ، ولذة الحب ، ولذة الصداقة ، ولذة الجمال ، ولذة المعرفة ، ولذة السيطرة ، ولذة القوة ، ولذة الحرية ، والسعادة هي ائتلاف هذه اللذات في حياة منسجمة ، وفي نظرة رحبة واسعة الأفق».

والذي نراه ان الأحلام على أنواع :

«منها» ما هو انعكاس لعادات الإنسان وتفكيره ، كالفيلسوف يرى انه يناقش أفلاطون وأرسطو ، والمسلم يصلي في المسجد ، والمسيحي يصلّب في الكنيسة والفلاح يزرع ، والباني يبني ، وما أشبه ذلك. وهذا النوع واضح ولا يختلف فيه اثنان ، لأنه يحمل تفسيره معه.

و «منها» ما هو غريب عن حياة الحالم وتفكيره ، كرؤيا الملك البقرات والسنبلات .. وما هو فلاح ، ولا براعي بقر ، وجاءت رؤياه إنذارا بما حدث من الجدب بعد الخصب.

و «منها» ما يقع في اليقظة ، تماما كما رآه الإنسان في منامه دون زيادة أو نقصان .. وهذا نادر جدا ، ولكنه حدث قطعا ، وحتى الآن لم يهتد العلم إلى تفسير هذا النوع والنوع الذي قبله ، وقد يهتدي اليه في المستقبل القريب أو البعيد .. وفسرهما البعض بالصدفة .. وليس من شك ان الصدفة هي ملجأ العجزة ، وقال آخر : انهما نتيجة لحاسة في الإنسان نجهل كنهها .. وهذا أيضا من العجز.

وفي سنة ١٩٥٦ رأيت فيما يرى النائم المرحوم أخي الشيخ عبد الكريم ، وكان قد مضى على وفاته عشرون سنة ، وأخبرني عما سيحدث وعيّن الوقت ، فكان كما قال .. وبعد هذا بسنوات رأيت رؤيا فصدقت ، وكانت سوءا كالأولى ، فقلت لصديق لي مداعبا : ان رؤيا الشر تصدق ، دون رؤيا الخير .. وحين وصلت في التفسير الى أول سورة يوسف قرأت هذه العبارة للرازي : «اعلم ان الحكماء يقولون : ان الرؤيا الرديئة يظهر تفسيرها عن قريب» فتعجبت ، وتذكرت قول الشاعر البائس :

فإن أر خيرا في المنام فنازح

وان أر شرا فهو مني مقرب

٣٢٠