التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

الى الناس ، والمعنى ان الذي قصصناه عليك من أنباء الرسل مع أقوامهم هو حق لا ريب فيه ، وان الغرض منه أن نخفف عنك ما تلاقيه من الأذى ، فإن من رأى مصيبة غيره خفّت مصيبته ، وأيضا في هذه القصص عظة وعبرة لمن يتعظ ويعتبر.

وتجدر الاشارة الى أن المؤرخين القدامى كانوا يهتمون بالأحداث السياسية والدولية ، ثم اهتم الجدد بالاقتصاد والعلم والفن والأدب وغيره من نشاط الإنسان ، أما القرآن الكريم فإنه يستخلص من الأحداث العبر والعظات التي تهدي الإنسان الى سواء السبيل ، وقوله تعالى : (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) صريح في ذلك ، ومثله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى).

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ) مر نظيره في الآية ١٣٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٦٧. (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أيضا مر في الآية ١٥٨ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٨٩.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل سر عنده علانية ، وكل غيب عنده شهادة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ـ ٥٩ الأنعام» ج ٣ ص ١٩٩.

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ولا شيء يستطيع الهرب من سلطانه (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) الفاء للتفريع على ما قبلها أي إذا كان هذا شأنه جل وعلا فهو جدير بالعبادة والاعتماد عليه دون غيره ، وأمر الركوع والسجود سهل يسير ، أما الثقة بالله ، والإعراض عمن سواه فصعب وعسير الا على المتقين (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وفي نهج البلاغة : فلا تغفل فلست بمغفول عنك .. فيا حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة. والله سبحانه المسئول أن يعصمنا عما تعقبه الندامة والكآبة.

٢٨١
٢٨٢

سورة يوسف

٢٨٣
٢٨٤

سورة يوسف

هي مكية ، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ان ٤ آيات منها مدنية : الآية ١ و ٢ و ٣ و ٧ ، ومجموع آياتها ١١١.

اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آيات الكتاب المبين الآية ١ ـ ٣ :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

الإعراب :

تلك آيات الكتاب مبتدأ وخبر. وقرآنا حال من هاء أنزلناه. وعربيا حال من القرآن أو صفة له. وقال الطبرسي وأبو البقاء : يجوز أن يكون قرآن توطئة للحال مثل مررت بزيد رجلا صالحا ، فصالحا حال ، ورجلا توطئة له. وأحسن القصص مفعول مطلق لنقص بالنظر الى اضافة أحسن للقصص. وبما أوحينا (ما) مصدرية أي بوحينا ، ويجوز أن تكون موصولة أي بالذي أوحينا. وهذا مفعول أوحينا. والقرآن عطف بيان من هذا. وان كنت (ان) مخففة من الثقيلة ، واللام في (لَمِنَ الْغافِلِينَ) للفرق بين ان المخففة وان النافية.

٢٨٥

المعنى :

(الر) تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ). تلك اشارة الى آيات هذه السورة ، والكتاب المبين هو القرآن ، وانما وصف بالمبين لأنه ظاهر على نبوة محمد (ص) ، ومظهر للهداية والرشاد.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). المعنى ظاهر ، وهو ان الله سبحانه أنزل القرآن بلغة العرب ليدركوا سره وعظمته ، ويعقلوا معانيه ، ويعملوا بها. وتسأل : ان محمدا (ص) أرسل لجميع الناس كما قالت الآية ٢٨ من سورة سبأ ، ونزول القرآن باللغة العربية يشعر بأن محمدا مرسل إلى العرب خاصة ، دون غيرهم ، فما هو طريق الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : أولا ان نزول القرآن بالعربية لا يستدعي أن يكون العرب وحدهم مكلفين بأحكامه وتعاليمه ، فالقرآن والمؤمنون به يصدقون بالتوراة التي أنزلت على موسى (ع) ، وبالإنجيل الذي أنزل على عيسى (ع) ، مع ان لغتهما غير لغة القرآن ومن آمن بالقرآن.

ثانيا : ان اللغة وسيلة ، والمعاني هي الغاية ، ومحال ان تكون المعاني كاللغة وقفا على قوم دون آخرين ، فإن القيم الانسانية يؤمن بها الناس ، كل الناس ، وبكلمة ان القوميات تتعدد بتعدد اللغات ، أما المعاني فمشاع بين الجميع ، لا قومية لها ولا جنسية.

ثالثا : إذا لم يرسل النبي بلغة قومه فبأية لغة يخاطبهم ، مع العلم بأنه لا توجد لغة إنسانية تعرفها جميع القوميات ، وهنا يكمن السر في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ـ ٤ ابراهيم».

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ). المراد بالقصص أنباء الرسل التي جاءت في القرآن الكريم ، وهي أحسن الأنباء لما فيها من العبر والحكم. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه الأنباء ، لأنها حدثت مند قرون ، وهي مجهولة على وجه العموم. وهذا دليل قاطع على انها وحي من الله. وما كانت معلومات النبي قبل الوحي تعد شيئا بالقياس الى علمه

٢٨٦

بعد نزول الوحي عليه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) ـ ٥٢ الشورى». ومن درس القرآن ، وتدبر معانيه ينتهي حتما إلى الإيمان بأنه لا يعقل ان ينبثق بمجموعه إلا عمن أحاط بكل شيء علما.

رأيت أحد عشر كوكباً الآية ٤ ـ ٦ :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

اللغة :

الرؤيا للمنام ، والرؤية لليقظة. والاجتباء الاختيار ، وأصله من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته ، كما قال الطبرسي. وتأويل الشيء الاخبار بمآله وعاقبته.

الإعراب :

يا أبت التاء عوض عن الياء ، لأن الأصل يا أبي ، فحذفت الياء ، وجيء

٢٨٧

بالتاء بدلا عنها ، وقال أبو البقاء وأبو حيان الأندلسي : لا يجوز الجمع بين التاء والياء ، فلا يصح يا أبتي ، وقيل : التاء للتفخيم مثل تاء علّامة ونسابة. وأحد عشر من الأعداد المركبة ، وهي مبنية على الفتح صدرا وعجزا من أحد عشر إلى تسعة عشر ، ما عدا (اثنا عشر واثنتا عشرة) فان الصدر يعرب بالألف رفعا ، وبالياء نصبا وجرا ، أما العجز فيبنى على الفتح. وكوكبا تمييز. ورأيتهم تكرار لرأيت لطول الكلام ، وأعاد ضمير (هم) على الكواكب لأنها سجدت ، والسجود من صفات العقلاء. وساجدين حال لأن الرؤية هنا بصرية ، وليست قلبية كي تتعدى إلى مفعولين. وفكيدوا منصوب بإضمار ان على جواب النهي ، وكاد تتعدى بنفسها تارة ، وبغيرها تارة ، تقول : كاده وكاد له ، كما تقول شكرتك وشكرت لك. وكيدا مفعول مطلق. وكذلك الكاف بمعنى مثل في موضع نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي اجتباء مثل ذلك. وابراهيم واسحق بدلان من أبويك.

المعنى :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). يوسف هو ابن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل (ع) ، ويسمى يعقوب إسرائيل أيضا ، وكان معناه آنذاك عبد الله ، أما اليوم فإن إسرائيل عبد الاستعمار وقاعدته.

وفي ذات يوم رأى يوسف رؤيا قصها على أبيه يعقوب ، وهي انه رأى في منامه ١١ كوكبا والشمس والقمر سجدا له ، فعلم أبوه ان هذه رؤيا صادقة ، واستبشر بمستقبل ولده الذي كان يعزه ويؤثره. وفي جملة من التفاسير ان عمر يوسف كان إذ ذاك سبع سنين. ولا نعرف مصدرا صحيحا لهذا التحديد ، ولكنه كان غلاما يافعا بهي الطلعة ، جميل الهيئة ، يضرب المثل بحسنه وجماله ، كما يظهر من مجرى القصة وحوادثها ، أما الكواكب فهم اخوته في التأويل ، والشمس والقمر أبواه ، ويشعر بذلك قوله : «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» ويأتي التفصيل.

٢٨٨

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ). خاف عليه أبوه من اخوته ان هم سمعوا منه ما سمع ، وفهموا ما فهم ، لأنه يعرف غيرتهم مما خصه به من الحب والاعزاز ، فنصحه أن لا يحدثهم برؤياه خشية أن يثير حقدهم وكراهيتهم ، وان يغريهم الشيطان بالكيد له ، ونصب الحبائل لهلاكه. وسنتكلم عن الأحلام فيما يأتي من المناسبات.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ). يجتبيك أي يصطفيك على غيرك ، ويفيض عليك بأنواع الكرامات ، وقيل : المراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا ، لأن يوسف قد بلغ الغاية في تفسيرها ومعرفة مآلها .. ولكن ظاهر اللفظ أعم من ذلك ، والأنسب بنبوة يوسف أن يكون تأويل الأحاديث كناية عن معرفة الحقائق ، وان الله سبحانه سيعلمه ما لم يكن يعلم.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ). ان نعم الله سبحانه لا تعد ولا تحصى ، وأكملها إطلاقا النبوة والرسالة ، وقد أنعم الله بها على ابراهيم جد يعقوب ، وعلى اسحق جد يوسف ، وعلى يعقوب نفسه ، وسينعم بها على يوسف بعد هذه الرؤيا ، وعلى أكثر من واحد من أحفاد يعقوب (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). عليم بمن يجتبيه ويصطفيه للنبوة والرسالة ، حكيم في هذا الاصطفاء وفي جميع قضاياه.

يوسف واخوته الآية ٧ ـ ١٥ :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي

٢٨٩

غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

اللغة :

المراد بالآيات هنا العبر. والعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض. والجب البئر. وغيابة الجب غوره وما غاب منه عن عين الناظر. وكل ما غيب شيئا وستره فهو غيابة. والسيارة جمع سيار ، وهو المسافر. ويرتع أي يتنعم.

الإعراب :

اللام في ليوسف في جواب القسم. ويخل مجزوم بجواب الأمر. وتكونوا عطف على يخل. وأرضا مفعول فيه لا طرحوه. وصالحين صفة للقوم. ويلتقطه مجزوم بجواب الأمر ، ومثله يرتع. والمصدر من أن تذهبوا به فاعل يحزنني. ومصدر أن يأكله مجرور بمن محذوفة. ومصدر ان يجعلوه مجرور بعلى أيضا محذوفة.

المصلحة فوق القرابة :

الإنسان عبد مطيع لإحساسه وشعوره ، وليس في استطاعته أن ينعزل عنه أو

٢٩٠

يتجاهله. كيف؟ وهل ينفصل الشيء عن ذاته وهويته؟. والمحرك الأول لهذا الشعور هو المصلحة ، أي طلب اللذة ، وطرد الألم ، وهي المثل الأعلى للإنسان ، واليها يستند الدور الحاسم فيما يفعل أو يترك.

أما القرابة فليست بشيء يحرك الإنسان إذا لم تحقق له شيئا من اللذة ، أو تبتعد به عن الألم ، فحب الإنسان لقريب من أرحامه يقاس بهذه المصلحة ، وعلى نسبتها يضعف الحب أو يقوى ، وأوضح مثال على ذلك ان حزن القريب وأسفه على فقيد من أقاربه يأتي على مقدار نفعه منه في حياته ـ غالبا ـ ويصبح القريب من ألد الأعداء إذا تسبب في آلام قريبه ، أو أفسد عليه لذته وراحته .. فكم من والدة قضت على حياة وليدها لتشبع شهوتها (١) وتتمتع بلذتها؟. وكم من ولد استعجل ميراثه من أبيه فأودى بحياته؟. وقتل قابيل هابيل ، وهما أول أخوين انبثقا من نطفة واحدة ، وتكوّنا في رحم واحد .. وألقى أولاد إسرائيل يوسف في غيابة الجب ، ولم تأخذهم به رأفة على رغم القربى وصلة الدم.

ولذا قال علي أمير المؤمنين (ع) : «القرابة الى المودة أحوج من المودة الى القرابة» حتى المودة والصداقة مصدرها اللذة الروحية ، ولكن كثيرا ما يذهل الإنسان عن نفسه ، ويسهو عن واقعه ، فيشرح بمنطق القرابة ما يفعله بوحي من مصلحته.

وليس من الضروري أن تكون هذه المصلحة التي تحرك الإنسان شخصيته ، فإن المخلص الواعي يؤمن قولا وعملا بأن مصلحته فرع عن مصلحة الجماعة ، فيألم لألمها ، ويفرح لفرحها ، ويرى الخير ، كل الخير ، في احقاق الحق وإقامة العدل .. أما غير المخلص فلا يرى هما غير همه ، ولا حياة غير حياته ، تماما كما فعل أبناء إسرائيل بيوسف ، ليتمتعوا وحدهم بعطف أبيهم .. ولكن الله سبحانه عاقبهم بالحرمان ، وباءوا بغضب على غضب من الله ونبيه يعقوب ، وظفر يوسف بالعز والكرامة ، ووقفوا بين يديه أذلاء يعترفون بالذنب، ويطلبون

__________________

(١). قرأت في الصحف ان امرأة كانت مع عشيقها ، وطفلها الصغير نائم بالقرب منها ، ولما بكى أماتته خنقا ، وقرأت ايضا ان فتاة قتلت أبويها بالسم ، ولما سئلت قالت : أريد ان يخلو البيت لي ولعشيقي. وهكذا يرحل الدين والضمير والرحم إذا جاءت الشهوات.

٢٩١

العفو والصفح بقولهم : «تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين».

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ). ألقى أبناء إسرائيل يوسف في الجب ، لا لشيء إلا لأن أباه فضله عليهم بالعطف والحنان ، وحاربت قريش محمدا ، وبالغت في إيذائه ، وهو قرشي مثلهم ، لأن الله فضله عليهم ، وعلى الناس أجمعين ، ونصر الله يوسف على اخوته ، وكذلك نصر محمدا (ص) على عشيرته ، وفي ذلك عبر وعظات لمن أراد معرفة الحقائق ، ويعتبر بها.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). معنى هذه الآية وما بعدها ظاهر ، ومع هذا نعقب على كل آية بما يناسبها .. لما رأى أبناء إسرائيل ميل أبيهم الى يوسف وأخيه غلى الحقد والحسد في قلوبهم ، وقال بعضهم لبعض : ما الذي حمل هذا الشيخ على أن يؤثر هذين الصبيين علينا ، ونحن أكبر سنا ، وأشد قوة ، وأكثر نفعا وخدمة؟. إن هذا هو الحيف والضلال .. وكان يوسف وأخوه بنيامين من أم ثانية اسمها راحيل ، وكثيرا ما يكون تعدد الأمهات سببا للحقد والحسد بين بني العلّات.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ). تآمروا على قتله ، لا لشيء باعترافهم إلا ليحتكروا عطف أبيهم من دونه .. وهذا هو منطق الاحتكار والمحتكر .. اقتل وشرد .. حتى الأقارب والأرحام حرصا على الأرباح والمكاسب.

(وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ). قال كثير من المفسرين : ان المراد بالصلاح هنا صلاح الدين ، وانهم يتوبون الى الله بعد فعلتهم الشنعاء. ولكن ظاهر السياق يدل على ان المراد بالصلاح صلاح شأنهم مع أبيهم ، وان يتفرغ لهم وحدهم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ). السيارة هم المسافرون. وعن سفر التكوين من التوراة ان الذي أشار عليهم بهذا هو أخوهم روبين ، وانه قد كان في نيته أن يخرج يوسف من الجب بعد ذهاب اخوته.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ). نحبه ونريد له الخير .. وهكذا الغادر الماكر في كل زمان ومكان ، ذئب في جلد حمل (أَرْسِلْهُ

٢٩٢

مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). لقد علموا ان أباهم يحب يوسف ، ويحب أن يتنعم ويفرح ، وعلموا أيضا شدة حرصه عليه ، فدخلوا الى نفسه من أبوابها .. يوسف يلعب ، وهم يحرسونه من كل مكروه .. حاميها حراميها. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ). اعتذر اليهم بأنه لا يطيق فراق يوسف. فضاعف هذا العذر من حقدهم على يوسف. وأيضا اعتذر بأنه يخاف عليه من الذئب ، وعقّب الرازي على هذا العذر بقوله : «وكأنه قد لقنهم الحجة ، وفي الأمثال : ان البلاء موكل بالمنطق».

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ). أي عاجزون لا نصلح لشيء : واغتر الشيخ بقولهم وأرسل معهم يوسف ، وكانوا من القوم الخاسرين (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) ونفذوا ما أجمعوا عليه ، وهم يحسبون انهم قد أصابوا ما يريدون .. ولكن يوسف فوّض أمره الى الله فوقاه سيئات مكرهم (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فألقى الله في روع يوسف انك ناج من محنتك هذه ، وانك سوف تخبرهم بصنيعهم هذا دون أن يعرفوا من أنت.

بين أولاد إسرائيل وأولاد العلماء :

وبهذه المناسبة نذكر أوجه الشبه بين بعض أولاد العلماء بالدين ، وأولاد إسرائيل وهو الاسم الثاني ليعقوب.

قال أولاد إسرائيل : «ان أبانا لفي ضلال مبين».

وبهذا الوصف ينعت بعض أولاد العلماء آباءهم إذا قالوا كلمة أو تصرفوا تصرفا لا يعجبهم ولا يتفق مع أهوائهم ، حتى ولو كان وحيا منزلا.

وقال أولاد إسرائيل : «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين».

وهكذا يفعل بعض أولاد العلماء .. يتآمرون على الناصح الأمين ، ويدسون عليه الدسائس والمفتريات ليخلو لهم وجه أبيهم وللشياطين من أمثالهم ، ثم يوحون اليه

٢٩٣

بما استوحوه من وسطاء الشر وعملاء الشيطان ، ويقبضون الأجر بالعملة الصعبة والنقد النادر ، وكلما كان التأثير بالغا تضاعف الأجر.

وجاء أولاد إسرائيل على قميص يوسف «بدم كذب».

وفي كل يوم يحمل بعض أولاد العلماء لأبيهم أحاديث وروايات ابتدعوها ظلما وزورا ينالون بها من مقام المخلص الأمين ، ويرفعون من شأن الخائن العميل عند أبيهم ليأخذ منه ومنهم دون مراقب ومعاتب.

وجاء أولاد إسرائيل «أباهم عشاء يبكون» يسترون فعلتهم الشنعاء بالنفاق ودموع التماسيح.

وتظاهر أولاد العلماء أمام أبيهم المقدس بالتقى والقداسة كذبا ورياء ، لينخدع بدسائسهم ومؤامرتهم.

وجاؤ آبائهم عشاء يبكون الآية ١٦ ـ ٢٠ :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

٢٩٤

اللغة :

الاستباق من السبق ، ومنه المسابقة ، ويكون برمي السهام ، وعلى الخيل والإبل ، وعلى الأقدام. والمراد بالمتاع هنا ما يحمله المسافر من زاد ولباس. وسولت زينت. والوارد هو الذي يتقدم القوم ليستقي لهم. والدلو مؤنث ، وقد يذكّر ، وأدلى دلوه أرسلها في البئر. ويا بشرى كلمة تقال عند البشارة ، مثل يا عجبا تقال عند التعجب. وأسرّوه أي انهم وجدوه في الجب : وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم. وبضاعة أي سلعة ومكسبا. وشروه باعوه. والبخس النقص من الحق ، يقال : بخسه الكيل إذا أعطاه دون حقه.

الإعراب :

عشاء ظرف زمان منصوب بجاءوا. وجملة يبكون حال ، ومثلها جملة نستبق. وعلى قميصه حال مقدم من دم كذب. فصبر جميل (صبر) خبر لمبتدأ محذوف ، وجميل صفة لصبر أي فأمري صبر جميل. ويا بشرى منادى أي احضري يا بشارة فهذا أوانك. وبضاعة حال. ودراهم بدل من ثمن.

المعنى :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) تمويها لما لفقوا من الكذب والتزوير (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نتسابق في العدو أو الرمي (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ). وفي الأمثال : براءة الذئب من دم يوسف. ونقل عن أحد القصاصين القدامى انه كان يحكي قصة يوسف لجماعة ، ولما وصل الى الذئب قال : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف (هكذا). فقال له بعض من حضر : ان الذئب لم يأكل يوسف. فقال القصاص : فليكن هذا الاسم للذئب الذي لم يأكل يوسف. (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) لأنها كذبة مكشوفة (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ). وعن الإمام علي (ع) : كفى بالكاذب عقوبة انه إذا قال الصدق لا يصدّق.

٢٩٥

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) المعنى ظاهر ، ولما لم يجد المفسرون ما يقولونه اختلفوا في الدم الذي جاء به أولاد إسرائيل : هل هو دم ظبي أو دم سخلة. وقال آخر : على هنا بمعنى فوق. وقال غيره : لما رأى يعقوب قميص ابنه صحيحا قال : والله ما رأيت أحلم من هذا الذئب أكل ابني ولم يمزق قميصه ، أما نحن فنؤمن بأن يعقوب (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). هذا ما نزل به الوحي في جواب يعقوب لأولاده ، ولا دليل على غيره. وتومئ الآية إلى أن يعقوب شعر بكذبهم لحسدهم الشديد ليوسف ، ولكنه صبر مفوّضا أمره الى الله.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) جماعة من المسافرين ، وفي سفر التكوين من التوراة انهم كانوا من الاسماعيليين أي من العرب لأنهم ينتهون بنسبهم الى إسماعيل بن ابراهيم (ع). (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي من يرد الماء ويأتيهم به (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أرسله في البئر ولما رأى الوارد يوسف في البئر (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) يبشر نفسه أو جماعته بهذه الغنيمة ، فأخرجوه من البئر (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي من الناس ، لئلا يتعرف عليه أهله ، واعتبره السيارة رقيقا من جملة سلعهم التجارية (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ). هذا تهديد للسيارة أخفوا أمره ، وعرضوه للبيع على انه رقيق ، وهو حر.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ). شرى الشيء باعه. واشتراه ابتاعه. والبخس القليل الناقص عن ثمن المثل. وقال كثير من المفسرين : ان أهل ذاك الزمان كانوا يزنون الثمن إذا كان كثيرا ، ويعدونه إذا كان قليلا ، وان قوله تعالى : دراهم معدودات يشير الى قلة ثمن يوسف (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) حيث تعجلوا التخلص منه بأبخس الأثمان ، لئلا يتهموا بسرقته.

وقال الذي اشتراه الآية ٢١ ـ ٢٢ :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا

٢٩٦

أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

اللغة :

الثواء الاقامة ، والمثوى موضع الاقامة ، والمراد بأكرمي مثواه أحسني معاملته. ومكّنا له في الأرض جعلنا له مكانة فيها. وبلغ أشده أي استكمل قوته جسما وعقلا.

الإعراب :

مصر لا تنصرف للعلمية والتأنيث. وعسى تامة ، والمصدر من أن ينفعنا فاعل. ولنعلمه منصوب بأن مضمرة ، والمصدر مجرور باللام ، ومتعلق بفعل محذوف أي ولتعليمه من تأويل الأحاديث مكناه.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً). عرض يوسف للبيع في أسواق مصر ، فاشتراه العزيز ، وهو لقب لأكبر وزراء الملك وأمنائه ، والذي دلنا على انه هو المشتري قوله تعالى : «وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه» .. وقد توسم العزيز في يوسف الذكاء والنجابة ، فأوصى به خيرا ، وقال لامرأته : احسني معاملته ، واكرمي إقامته عندنا ، وعلل ذلك بأنه يرجو إذا بلغ يوسف أشده أن يقوم بتدبير شئونهم ،

٢٩٧

أو يتبنوه ، لأن العزيز كان عقيما ، لا ولد له ، كما قال أكثر المفسرين. والآية تومئ الى ذلك (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ). أنعم الله على يوسف بالنجاة من كيد اخوته وإخراجه من البئر ، ثم بجعله في بيت العزيز ، بيت الجدة والرفاه ، وبتمكنه في قلب صاحب البيت ، ثم بتعليمه حقائق الأمور ، ومنها تعبير الرؤيا ، وهذه النعم وما اليها قد رفعت من شأن يوسف عند الناس ، وجعلته محلا لثقة الجميع واحترامهم ، ومهدت له أن يتولى خزائن الأرض في مصر ، وان يقول له ملكها : «انك اليوم لدينا مكين أمين».

(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ). أراد اخوة يوسف له الشر ، وأراد الله له الخير «إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون». (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ان الأمر لله وحده ، وان من طغى وبغى مغترا بحوله وطوله أخذه الله من مأمنه أخذ عزيز مقتدر.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً). بلغ أشده أي اشتد واستكمل قوته جسما وعقلا ، وفي الغالب يبدأ هذا الاشتداد ببلوغ المرء سن الثلاثين ، ويستمر الاشتداد الجسمي حتى الأربعين ، وفي هذه المدة يتم الاستعداد للنبوة وتلقي الوحي ، والمراد بالحكم هنا الحكمة ، وهي وضع الشيء في موضعه ، ومنها وآتيناه الحكم صبيا ، والمعنى ان يوسف بعد أن استكمل الرشد منحه الله العلم ، ووفقه الى العمل به. وقيل : المراد بالعلم هنا النبوة ، وليس هذا ببعيد لأن يوسف من الأنبياء (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). لقد أحسن يوسف بصبره وطاعته لله ، فأحسن الله اليه ، لأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.

وقالت هيث لك الآية ٢٣ :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

٢٩٨

اللغة :

المراودة المطالبة برفق ولين مع ضرب من المخادعة. وهيت أقبل أو أسرع.

الإعراب :

هيت اسم فعل بمعنى اقبل أو اسرع. واللام في لك لبيان الفاعل أي اسرع أنت ، مثل سقيا لك ، وشكرا لك. ومعاذ الله منصوب على المصدر. وضمير انه للشأن ، وجملة لا يفلح الظالمون خبر.

المعنى :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ). راودته كلمة تدل على ان المرأة خادعت الرجل وراوغته ليريد منها ما تريده منه ، وهذه الكلمة بمفردها غاية في الاحتشام ونزاهة التعبير .. ولكن بعض المفسرين سود في شرحها وتفسيرها صفحات عرض فيها صورا لاغراء امرأة العزيز يوسف بمحاسنها ومفاتنها ، ولا مصدر لذلك إلا الاسرائيليات. قال صاحب المنار ، ونعم ما قال :

«نقل رواة الاسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة انه كذب ، فان مثله لا يعلم إلا من الله تعالى ، أو بالرواية الصحيحة ، ولا يستطيع أحد ان يدعي هذا»(١).

الإنسان والمال والجنس :

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ). وتساءل مصطفى صادق الرافعي : لما ذا قال : وغلقت

__________________

(١). نقل الشيخ المراغي هذه العبارة بالحرف ، ولم يشر الى مصدرها ، او يضعها بين قوسين ، وهكذا فعل في الكثير من أقوال صاحب «تفسير المنار» ، ينقلها موهما انه هو القائل .. وللشيخ رأيه.

٢٩٩

الأبواب ، ولم يقل : وأغلقت الأبواب؟. وأجاب : «بأن هذا يشعر انها لما يئست ورأت منه محاولة الانصراف أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة ، وتجري من باب إلى باب ، وتضطرب يدها في الاغلاق كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط».

أما نحن فلا نرى أي فرق بين غلقت وأغلقت ، وان دل تصوير الرافعي على شيء فإنما يدل على مكانته في الأدب ، ومقدرته على إخراج شيء من لا شيء. ومهما يكن فقد عاش يوسف مع امرأة العزيز تحت سقف واحد أمدا غير قصير ، وكان في ريعان شبابه ، وضيء الطلعة ، فتانا في هيئته ومنظره .. فلا عجب أن تفتتن به ، وتتهالك «امرأة». وأيضا لا عجب أن يصمد يوسف (ع) لوسائلها ، وينجو من حبائلها على رغم ان الجنس صرع كثيرا من العقول .. فليس الإنسان عبدا لغريزة الجنس فقط ، كما قال فرويد : ولا للرغبة في المال والاقتصاد ، كما قال ماركس : وانما هو مسير بكثير من الدوافع والمحرضات ، منها الجنس والمال ، ومنها الشهرة والسيطرة ، ومنها الدين والعادات ، وحب الخير والوطن ، ونحو ذلك.

وقد يتنازع الإنسان عاملان متضادان : خيّر يهديه إلى سبيل النجاة ، وشرير يسوقه إلى طريق الهلاك ، ويتذبذب هو بينهما أمدا يطول أو يقصر الى ان يتغلب أحد العاملين على الآخر ، وقد يستمر التوازن بينهما إلى النهاية ، فيبقى الإنسان حائرا مذبذبا تبعا لهذا التوازن مدى حياته.

وقد تنازع امرأة العزيز عاملان : شهوتها الحيوانية تدعوها الى مراودة يوسف عن نفسه ، وينهاها العز والكبرياء عن التذلل لمن ابتاعه زوجها بثمن بخس ، وبقيت تتذبذب حائرة بين هذين العاملين أمدا غير قصير ، ثم انهارت أعصابها ، ووقعت فريسة النزوة وشهوة الجنس التي تجسمت في قولها الثائر الفاجر : «هيت لك» .. ولا تقولها أنثى إلا إذا اشتد اهتياجها وغليانها حتى بلغ الجنون.

أما يوسف (ع) فلم يكن له الا دافع واحد ، ورغبة واحدة هي التي تقوده وتسيره ، ولا ذرة لغيرها في قلبه وعقله .. وهي تقوى الله ومرضاته ، فهي هي لذته ومتعته ، ومطلبه وأمنيته : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ

٣٠٠