التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

فهو ينصر ويخذل ويثيب ويعاقب على أساس هذا الصراط ، صراط الحق والعدل.

وتسأل : إذا كان الله سبحانه آخذا بزمام العبد وناصيته ، وهو تعالى على صراط مستقيم ـ فإنه يلزم من ذلك أمران : الاول أن يكون العبد مسيرا غير مخير ، كما هو شأن المقود مع القائد. الثاني أن يكون كل انسان على صراط مستقيم في جميع أفعاله وأقواله ، لأنه تابع لله ، تماما كما تتبع الدابة الآخذ بزمامها ، والله سبحانه على صراط مستقيم ، فينبغي أن يكون العبد كذلك؟.

الجواب : ليس المراد بقوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها). ان العبد لا ارادة له ولا اختيار في شيء ، وانما هو كناية عن قدرة الله على كل شيء ، وانه هو وحده الضار النافع ردا على المشركين الذين نسبوا الى أصنامهم لقدرة على الضر والنفع.

فإن تولوا الآية ٥٧ ـ ٦٠ :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

الإعراب :

تولوا أصلها تتولوا. ويستخلف الجملة مستأنفة ، ولذا رفع الفعل. وشيئا

٢٤١

مفعول مطلق لتضرونه. وتلك عاد مبتدأ وخبر ، والاشارة الى آثارهم أو قبورهم. وألا أداة تنبيه ، وبعدا اي بعد بعدا. وقوم هود بدل من عاد.

المعنى :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) غير وان ولا مقصر (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) بعد ان ينزل عذابه بكم في الدنيا قبل الآخرة (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتوليكم عن الايمان (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يراقب الأشياء ، ويدبرها بعلمه وحكمته. قال ابن عربي في «الفتوحات المكية» : «كما ان ربك على كل شيء حفيظ فهو بكل شيء محفوظ». يشير الى قول من قال : وفي كل شيء له آية.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ). المراد بأمرنا عذابنا ، وبالنجاة الاولى من عذاب الدنيا ، وبالنجاة الثانية من عذاب الآخرة ، وقيل : ان النجاة الاولى كانت لبيان النجاة من العذاب من حيث هو بصرف النظر عن نوعه وانه خفيف او ثقيل ، أما النجاة الثانية فهي لبيان نوع العذاب الذي نزل بقوم هود ، وانه كان من الوزن الثقيل .. وكل من المعنيين محتمل. وتقدمت الاشارة الى نجاة هود ومن معه في سورة الاعراف الآية ٧٢ ج ٣ ص ٣٤٨.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). بعد ان أوجز سبحانه قصة عاد أشار الى سبب هلاكهم ، وانه كفرهم بالله وآياته ، وعصيانهم لرسله وأحكامه ، وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وتهاونهم في مقاومة الباطل ، وانقيادهم لقادة الضلال والطغيان .. وقال سبحانه : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ولم يقل : وعصوا رسوله لان من عصى واحدا من أنبياء الله ورسله فقد عصى الجميع بالنظر الى ان رسالة الكل واحدة ، وهي الدعوة الى الايمان بالوحدانية والبعث.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي انهم فعلوا ما يستوجب اللعن

٢٤٢

دنيا وآخرة ، ومعنى اللعن البعد عن كل خير ، ولذا قال سبحانه : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوه (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ). وكرر كلمة هود مع ألا مبالغة في الذم ، وتأكيدا للتهديد.

صالح الآية ٦١ ـ ٦٣ :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

اللغة :

أنشأكم من الأرض أوجدكم منها. واستعمركم فيها من العمران أي جعلكم تعمرونها. ومرجوا نرجو منك الخير. والمريب الموجب للتهمة والريبة. فما تزيدونني غير تخسير أي الا خسرانا.

الإعراب :

والى ثمود أخاهم أي وأرسلنا الى ثمود. وصالحا بدل من الأخ. ومريب صفة مؤكدة للشك مثل ظل ظليل. واننا يجوز فيها وانّا بحذف إحدى النونات

٢٤٣

الثلاث تخفيفا. وأرأيتم معلقة عن العمل لوجود ان الشرطية. وغير قال أبو البقاء في كتاب «الاملاء» : الأقوى ان غير هنا استثناء في المعنى ومفعول ثان لتزيدوني.

المعنى :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). مر بالحرف الواحد في سورة الأعراف الآية ٧٣ ج ٣ ص ٣٤٩. ونظيره ما قاله هود في الآية ٥٠ من سورته. وهذه هي دعوة جميع الأنبياء التي لا تتغير ولا تتعدل من عصر الى عصر.

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ). ما من حي إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا الا وينتمي في أصله الى الأرض ، مباشرة أو بالواسطة ، واليها يعود (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة ، أي الاستعمار ، استعملها في احياء الأرض وتعميرها ، وهذا المعنى من أحسن المعاني وأكملها ، أما اليوم فإن هذه الكلمة تستعمل في الظلم والطغيان ، واستعباد الشعوب المستضعفة ، وهو من أقبح المعاني وأسوأها .. أنظر فقرة «الله أصلح الأرض ، والإنسان أفسدها» ج ٣ ص ٣٤٠ (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). هذا بالحرف ما قاله هود لقومه في الآية ٥٢ من هذه السورة ، وعند تفسيرها بيّنا الفرق بين طلب الغفران والتوبة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) قريب ممن أخلص في عمله ، مجيب لمن استجاب لدعوته.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) النهي عن عبادة الأوثان ، أما الآن وبعد ان نهيتنا عن الأوثان فقد خاب فيك الظن (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) .. ان هذا لشيء عجاب .. لقد عبدوها أجيالا وقرونا ، وقرّبوا لها القرابين ، وما نهاهم أحد عنها ، فكيف يستجيبون لدعوته؟ .. (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). هذا هو منطق الجهل في كل زمان ومكان .. كل شيء الا العادات والتقاليد.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ). قالوا لصالح (ع) : نحن في شك من أمرك. فقال لهم :

٢٤٤

اخبروني ما ذا أصنع ان كنت على يقين من ان الله أرسلني إليكم ، وأمرني ان أدعوكم الى التوحيد ، وزودني بالأدلة الكافية الوافية على هذه الرسالة؟ فهل اعصي أمره لأجل مرضاتكم؟ ومن الذي يمنعني من عذابه ان عصيت؟.

(فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ). قال جماعة من المفسرين : معناه ان أطعتكم جعلتموني خاسرا. وقال آخرون : بل معناه لا تزيدونني بإعراضكم عن دعوتي الا ان أنسبكم الى الخسران. والذي نراه ان صالحا أراد بقوله هذا ان يفهم قومه انه لو أرضاهم لربح ثقتهم ، ولكنه يخسر مرضاة الله ، وخسارته هذه تزيد كثيرا عن ربحه بثقتهم ومرضاتهم.

ناقة الله الآية ٦٤ ـ ٦٨ :

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

اللغة :

المراد بالآية هنا المعجزة. وبالدار البلد ، يقال : ديار فلان أي بلده. والمراد

٢٤٥

بالصيحة صوت الصاعقة. وجاثمين ساقطين على وجوههم. وغني بالمكان أقام فيه.

الإعراب :

هذه مبتدأ وناقة الله خبر ، ولكم حال مقدم من آية ، وآية حال من ناقة الله ، والعامل فيه اسم الاشارة لأنه بمعنى أشير فيأخذكم منصوب بأن مضمرة بعد الفاء. وأيام أصلها ايوام ، ثم قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياءان. فصارت أيام. ومن خزي معطوف على نجينا أي ونجيناهم من خزي ، وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف أي كأنهم لم يغنوا.

المعنى :

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ). تقدمت في سورة الأعراف الآية ٧٣ ج ٣ ص ٣٤٩.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). أمرهم صالح (ع) ان يتركوا الناقة وشأنها ، فعقروها ولم يكترثوا ، فأنذرهم بنزول العذاب بعد ثلاثة أيام. وعن ابن عباس انه تعالى أمهلهم هذه المدة ترغيبا لهم في الايمان والتوبة ، ولكنهم أصروا على الكفر لأنهم لم يصدقوا صالحا بوعده ووعيده.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ). وبعد ثلاثة أيام نزل العذاب ، فسلم المؤمنون ، وهلك الكافرون بعد ان قامت عليهم الحجة .. وهذه نهاية كل من لج وتمادى في الغي والفساد.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ). قال هنا : فأخذ الذين ظلموا الصيحة ، وقال في الآية ٧٨ من سورة الأعراف : فأخذتهم الرجفة. ووجه الجمع ان الصيحة أحدثت في قلوبهم الخوف والرجفة. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي كأنهم لسرعة زوالهم

٢٤٦

لم يقيموا في ديارهم ، ولم يتمتعوا بأموالهم وأولادهم ، ولم يضحكوا للدنيا وتضحك لهم. والعاقل من اعتبر بالغير ، وانتفع بالنذر.

الملائكة يبشرون ابراهيم الآية ٦٩ ـ ٧٣ :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

اللغة :

فما لبث أي أسرع وما ابطأ. والعجل ولد البقرة. والحنيذ المشوي بالحجارة المحماة ، دون أن تمسه النار مباشرة ، وهو ألذ وأطيب من المشوي بالنار. ونكره وأنكره واستنكره بمعنى واحد ، ضد عرفه أي ان ابراهيم لم يعرف سببا لامتناعهم عن الأكل. والإيجاس الاحساس أي أحس بالخوف منهم. والويل كلمة للتفجع. والبعل الزوج وجمعه بعولة.

٢٤٧

الإعراب :

ولقد معطوف على ما قبله ، واللام للتأكيد ، وقد للتحقيق وقيل : للتوقع. وكلمة جاءت هنا متضمنة معنى قصدت ولذا تعدى الفعل إلى مفعول ، وهو ابراهيم. ويجوز أن تكون كلمة جاءت على ظاهرها ، وابراهيم منصوب بنزع الخافض أي جاءت رسلنا الى ابراهيم. وسلاما منصوب على المصدرية أي سلموا سلاما. وسلام خبر لمبتدأ محذوف أي امري سلام ، أو مبتدأ والخبر محذوف أي عليكم سلام. والمصدر المنسبك من ان جاء مجرور بعن محذوفة أي ما تأخر المجيء بالعجل. وخيفة مفعول أوجس ، وهو من الأفعال التي تتعدى بنفسها تارة ، وبحرف الجر أخرى ، تقول : أحسست شيئا ، وأحسست بشيء. وامرأته قائمة الجملة حال. ويعقوب مفعول لفعل محذوف أي ووهبنا له من وراء اسحق يعقوب ، ويجوز الرفع على انه مبتدأ ومن وراء خبر. ويا ويلتا أصله يا ويلتي مثل يا عجبا أصله يا عجبي ، ثم انقلبت الياء ألفا ، ويا حرف نداء وويلتا منادى أي يا ويل احضر. وهذا بعلي مبتدأ وخبر. وشيخا حال من بعلي ، والعامل فيه اسم الاشارة لأنه بمعنى أشير ، ويجوز رفع شيخ على ان يكون بعلي مبتدأ ثانيا ، وشيخ خبره ، والجملة خبر للمبتدإ الأول. وأهل البيت منصوب على النداء أي يا أهل البيت.

المعنى :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ). الرسل جمع رسول ، والمراد ان جماعة من الملائكة دخلوا على ابراهيم في صورة الآدميين ليبشروه باسحق ، وقد بدأوا بالتحية ، فرد عليهم بمثلها أو بأحسن منها ، وأشار سبحانه الى هؤلاء في الآية ٢٤ من سورة الذاريات : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) .. (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) وكان ابراهيم (ع) معروفا بالكرم وحب الأضياف ، ولذا أسرع وهيأ لهم عجلا مشويا عملا بظاهر حالهم ، وكان العجل سمينا بدليل قوله تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) ـ ٢٧ الذاريات.

٢٤٨

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). امتنعوا عن الطعام لأنهم ليسوا بشرا ، وخاف ابراهيم (ع) منهم لأنه عاملهم على انهم من البشر ، وإذا بهم ليسوا كما ظن ، وهو لا يعلم ما ذا يريدون .. وكل انسان معصوما كان أو غير معصوم إذا فاجأه أمر لا يعرف عواقبه يوجس منه خيفة ، ولما رأى الملائكة ما به (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) ولا نريد بك ولا بقومك سوءا. وفي سورة الحجر الآية ٥٣ صارحهم بهذا الخوف حيث (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ).

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ). وقيامها كناية عن سماعها لما دار بين بعلها والملائكة ، أما ضحكها فلكل حديث عندهن بشاشة ، والله أعلم بالسبب الذي أضحكها ، وقد ذهب المفسرون فيه مذاهب (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي تلد هي اسحق ، ويولد لاسحق يعقوب ، وفيه دلالة على ان ولد الولد ولد.

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ). تعجبت حيث لم تجر العادة ان تلد من هي في سنها ، ويلد لمن هو في سن زوجها ، وعن سفر التكوين ان ابراهيم (ع) كان عمره مائة سنة آنذاك ، وان سارة كانت في التسعين. ونحن لا نعترف بهذا السفر ، وكل ما نعرفه انهما كانا متقدمين في السن ، أما التحديد فعلمه عند ربي.

(قالُوا) ـ اي الملائكة ـ (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) كيف؟. وانما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) وقد خصكم بالكثير من نعمه ، وهذه واحدة منها ، وما هي بأعجب من جعل النار بردا وسلاما على ابراهيم (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). هذه الجملة توضيح وتأكيد لما قبلها ، والحميد صاحب الأفعال المحمودة ، والمجيد صاحب الفضل والجود ، اذن ، فلا عجب إذا أعطى الله من سأله ومن لم يسأله ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب.

٢٤٩

ابراهيم يجادل في قوم لوط الآية ٧٤ ـ ٧٦ :

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

اللغة :

الروع بفتح الراء الخوف ، وبضمها النفس. والحليم الذي يصبر على جهل الغير وأذاه ولا يعالجه بالعقوبة. والأواه مبالغة في التأوه مما يكره. والمنيب الذي يرجع الى الله في كل أمر.

الإعراب :

وجاءته عطف على ذهب. وجملة يجادلنا حال ، وجواب لما محذوف أي لما ذهب الروع أخذ في القول مجادلا. وحليم خبر ان ، وأواه خبر بعد خبر ، ومثله منيب. والضمير في إنه للشأن. وعذاب فاعل آتيهم ، وغير مردود صفة لعذاب.

المعنى :

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) بعد ان عرف إبراهيم هوية أضيافه ومهمتهم اطمأن اليهم ، واغتبط هو وامرأته بالبشرى السارة بالابن والحفيد ، ولكن أزعجه ما سمع من ملائكة العذاب في شأن قوم لوط ، فأخذ يجادل من أجلهم .. وقال جمهور المفسرين ، ومنهم الرازي وصاحب

٢٥٠

المنار : لم يجادل إبراهيم من أجل قوم لوط ، وإنما جادل من أجل لوط ، وانه خاف أن يصيبه ما يصيب قومه من العذاب ، واستدل المفسرون على ذلك بالآية ٣٢ من سورة العنكبوت : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ). والصحيح ان هذه الآية لا تمت الى مجادلة ابراهيم بصلة ، وإنما هي مجرد اخبار منه بأن فيها لوطا ، ولذا قالوا له : نحن أعلم بمن فيها. والآية التي نفسرها نص في المجادلة من أجل قوم لوط ، لا من أجل لوط .. بالاضافة الى قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فالضمير في انهم وآتيهم يعودان الى قوم لوط الذين جادل ابراهيم فيهم ومن أجلهم.

ولكن المفسرين قالوا : ان المجادلة في قوم لوط جرأة على الله وابراهيم (ع) معصوم عن الذنب ، فلا بد ان تكون المجادلة في لوط ، لا في قومه.

ويلاحظ أولا : لا فرق بين المجادلة في لوط ، وفي قومه ، فإن كانت هذه جرأة فكذلك تلك.

ثانيا : ان المجادلة مع الله في دفع العذاب عن عباده أو تأخيره ليست من الذنب والمعصية في شيء ، بل العكس هو الصحيح ، لأن هذه المجادلة لا مخالفة فيها ولا نزاع ، وإنما هي من باب طلب الرحمة من القوي للضعيف ، وهذا الطلب يدل على الحلم والرأفة ، ولذا أثنى الله على ابراهيم بأجمل الثناء ، ووصفه بأنه (لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) بعد ان سأله الرفق بقوم لوط.

ثالثا : ان ابراهيم جادل في قوم لوط ليكون على يقين من أنهم بلغوا من التمرد الحد الذي لا يرجى معه صلاحهم وهدايتهم ، تماما كقوله : «بلى ولكن ليطمئن قلبي». ويؤكد ارادة هذا المعنى قوله سبحانه : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ). أي لا تسألني يا ابراهيم في قوم لوط ، فإنهم مهلكون لا محالة ، لاصرارهم على الشرك والفساد وايأس منهم ومن توبتهم.

٢٥١

لوط الآية ٧٧ ـ ٧٠ :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

اللغة :

سيء بهم اي وقع لوط فيما أساءه بسبب مجيء الرسل. والذرع منتهى الطاقة ، ومثله الذراع ، تقول : ضقت به ذرعا او ذراعا اي صعب عليك احتماله. والعصيب الشديد. ويهرعون يسرعون ، ولا تستعمل صيغة الفاعل فيه الا على لفظ المفعول ، ومثله أولع. ولا تخزون اي لا تخجلوني. والرشيد العاقل. والمراد بالركن الشديد الناصر الذي يعصمه من قومه.

الإعراب :

سيء مبني للمفعول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر عائد الى لوط. وذرعا تمييز. وجاءه بمعنى قصده ولذا تعدى الفعل الى مفعول. ومن قبل الواو للحال. ويا قوم أصله يا قومي. وهؤلاء مبتدأ وبناتي عطف بيان او بدل وهنّ ضمير فصل لا محل له من الاعراب وأطهر خبر ، ويجوز ان تكون هنّ مبتدأ ثانيا

٢٥٢

وأطهر خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول. ولا تخزون أصله لا تخزوني. والضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث. ولو ان لي (لو) للتمني ولا تحتاج الى جواب.

المعنى :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً). انطلق الرسل من عند ابراهيم (ع) الى لوط ، وفي ج ٣ ص ٣٥٣ عند تفسير الآية ٨٠ من سورة الأعراف ذكرنا ان لوطا هو ابن اخي ابراهيم ، وانه كان في شرق الأردن ، وان قومه أول من اتى الرجال شهوة دون النساء .. وكانوا يتعاطون هذه الفاحشة جهرا ، لا سرا ، ومن امتنع عنهم اغتصبوه قهرا ، حتى ولو كان من الضيوف الشرفاء .. ومن اجل هذا لما اتى رسل الله لوطا على هيئة الآدميين خاف من قومه ان يعتدوا عليهم ، وهو عاجز عن مقاومتهم ومدافعتهم ، فتألم (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قال الرازي : وانما قيل للشديد : عصيب لأنه يعصب بالشر.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) اسرعوا الى بيت لوط ، وفي ظنهم ان هذه المرة كغيرها (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ولم يحسبوا للعواقب والمخبآت (قالَ) ـ لوط ـ (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) والمراد ببناته بنات أمته ، لأن النبي في أمته كالوالد في أسرته ، والمعنى تزوجوا النساء ، واستمتعوا بهن حلالا طيبا ، ودعوا اللواط ، فإنه رجس من عمل الشيطان (فَاتَّقُوا اللهَ) يخوفهم من الله ، وهو أهون شيء عند اهل الفسق والفجور (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) ان كنتم لا تخافون الله فاخجلوا من أنفسكم ، ولا تمتهنوا كرامتي في الاعتداء على ضيوفي (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) عاقل يحول بينكم وبين ما تريدون؟.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) ـ أي من رغبة ـ (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ). قد علمت وتعلم .. الى هذا الحد تبلغ الصلافة بالإنسان إذا تحرر من القيود ، وتنكر للقيم ، وفقد الشعور بالمسؤولية .. وقد علمت أننا لا نرغب

٢٥٣

في البنات ، وان رغبتنا في الرجال والغلمان ، وعلمت أيضا اننا لا نكترث بك ولا بإلهك ، فعلام هذا الفضول في قولك : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي).

ولقوم لوط أشباه ونظائر في الوقاحة والصلافة ، وما أكثرهم اليوم!. ومنهم مربون ومعلمون في المدارس والجامعات .. ونحن لا نشك ان في رجال الدين من هم أسوأ ألف مرة من هؤلاء ، ولكن المؤكد ان العالم يكون اسوأ حالا مما هو عليه الآن لو لم يكن هناك دعاة الى الدين والقيم.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ). بعد ان آيس لوط من من قومه تمنى ان يكون له ناصر ينصره عليهم ، أو مجير يجيره منهم ، تمنى هذا ، وهو لا يعلم ان نصر الله عنده وفي بيته ، وانه لم يبق من الوقت لهلاك الظالمين سوى سواد ليلته.

لن يصلوا اليك الآية ٨١ ـ ٨٣ :

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

اللغة :

السرى بالضم والاسراء يكون في الليل ، والسير يكون في النهار ، يقال : سرى واسري به ليلا ، وسار نهارا. والقطع من الليل بكسر القاف جزء منه.

٢٥٤

والسجيل الطين المتحجر. ومنضود وضع بعضه على بعض. ومسومة عليها علامة.

الإعراب :

الا امرأتك استثناء من أهلك. ولا يلتفت منكم أحد جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. وضمير انه للشأن. وما أصابهم فاعل مصيبها. وعاليها مفعول أول لجعلنا وسافلها مفعول ثان. ومنضود صفة لسجيل. ومسومة صفة لحجارة. وهي تعود الى الحجارة أو الى قرى لوط. ومحلها الرفع بالابتداء ، وببعيد الباء زائدة اعرابا وبعيد خبر.

المعنى :

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ). قال الرازي : لما رأت الملائكة قلق لوط وحزنه بشّروه بأنواع البشارات : إحداها انهم رسل الله. ثانيها ان الكفار لا يصلون إلى ما هموا به ثالثها انه تعالى مهلكهم. رابعها انه ينجيه وأهله من العذاب. خامسها ان لوط في ركن شديد لأن الله ناصره على القوم الظالمين.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ). طلب الملائكة من لوط (ع) ان يخرج ليلا بأهله ، وألا ينظر أحد منهم إلى ما وراءه .. وربما كانت الحكمة من ذلك ألا يرى الملتفت ما نزل في دياره من الهلاك فيرق ويحزن .. اما امرأة لوط فقد تركها بأمر الله مع القوم الكافرين لأنها منهم ، فكان عليها ما عليهم من لعنة الله وغضبه. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ). هذا من كلام الملائكة ، ويومئ الى الجواب عن استعجال من استعجل نزول الهلاك بالقوم.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها). المراد بأمر الله هنا حكمه وقضاؤه ، وضمير عاليها يعود الى قرى لوط ، ومثله ضمير سافلها ، أي ان الله سبحانه

٢٥٥

خسف الأرض بتلك القرى ، وفي بعض التفاسير انها تبعد عن بيت المقدس ثلاثة أيام. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ). وقد جاء تفسير السجيل بالطين في الآية ٣٢ من سورة الذاريات : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) والمنضود المتراكم بعضه فوق بعض أو ينزل متتابعا بعضه اثر بعض ، والمسومة التي لها علامة خاصة ، ولا تصيب إلا من يستحقها ، والمعنى ان الله انزل على قرى لوط عذابين : المطر بهذه الحجارة ، والخسف.

(وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). قال المفسرون : المراد بالظالمين هنا كفار مكة ، وان الله توعدهم بما أصاب قوم لوط من الهلاك إن هم أصروا على تكذيب محمد (ص). وليس هذا ببعيد ، مع العلم بأن كل ظالم في شرق الأرض وغربها معرّض لنزول العذاب به من السماء ، او من المعذبين في الأرض .. فإن كل ثورة تحررية حدثت او تحدث لا مصدر لها الا النقمة على الظلم واهله ، والفساد وأنصاره.

شعيب الآية ٨٤ ـ ٨٦ :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

٢٥٦

اللغة :

البخس النقص والعيب. والعثو الفساد. ومفسدين اي متعمدين. وبقية الله ما يبقى بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال ، وان قل.

الإعراب :

والى مدين معطوف على ما قبله اي وأرسلنا الى مدين أخاهم ، وشعيبا بدل من الأخ. ومن إله (من) زائدة إعرابا. ومحيط صفة ليوم لفظا ، ولعذاب معنى ، وصح وصف اليوم بالاحاطة مع انه وصف للعذاب لمكان الاضافة. وأشياءهم بدل اشتمال من الناس. ومفسدين حال من واو لا تعثوا. وبقية الله مبتدأ ، وخير خبر. والباء في بحفيظ زائدة إعرابا.

المعنى :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). مرّ بالحرف الواحد في الآية ٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٦.

(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ). هذا نهي عن التطفيف ، ومثله الآية الأولى من المطففين : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) اي ينقصون (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) المراد بالخير السعة في الرزق (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) هذا إنذار لهم بالعذاب ان أصروا على العصيان.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بعد أن نهاهم عن النقصان أمرهم بالوفاء والتمام ، والمعنيان واحد ، ولا نفهم الغرض من ذلك إلا التأكيد (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ). والأشياء تشمل كل شيء ، ومنه الحق المادي والمعنوي وعليه يكون التحريم عاما للبخس في الكيل والميزان ، ولبخس الإنسان وانتقاصه في علمه أو خلقه.

٢٥٧

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). ظاهر اللفظ يدل على ان المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين ، لأن العثو والفساد بمعنى واحد ، فوجب إما تأويل كلمة العثو بالسعي ، ويكون المعنى ولا تسعوا في الأرض مفسدين ، وإما تأويل كلمة مفسدين بمتعمدين ، ويكون المعنى ولا تفسدوا في الأرض متعمدين أو معتدين ، وذلك بأن تثيروا الحرب وتسفكوا الدماء بلا سبب موجب ، اما إذا كانت الحرب للقضاء على الفساد والحرب فيكون تركها ، والحال هذه ، هو الفساد ، ومن هنا كان الجهاد من أفضل الطاعات. وهذا التأويل أرجح من غيره.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ان الحلال الطيب خير وأبقى وان قل ، والحرام الخبيث شر محض وان كثر ، ولو بحثنا عن أسباب الحروب في هذا العصر لوجدناها تكمن في الاحتكارات وتكدس الثروات في ايدي القلة القليلة ، وحرمان الاكثرية الغالبة .. ومن الصدف اني قرأت في صحف اليوم ٢٤ / ١٢ / ١٩٦٨ ان جماعة من اللندنيين تظاهروا بالأمس متوجهين الى قصر باكنجهام ، وقدموا مذكرة الى الملكة يطالبونها بأن تتخلى عن قصرها الذي يستوعب ألف شخص ، بينما لا يجد ٦ آلاف شخص مسكنا لهم في لندن وحدها .. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) يمنعكم عن المعصية بالقهر والغلبة ، ولا مهمة لي سوى النصح والتبليغ ، وقد أديتها كاملة ، وخرجت من عهدتها ومسؤوليتها.

أصلاتك تأمرك الآية ٨٧ ـ ٩٠ :

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ

٢٥٨

وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

اللغة :

أنيب ارجع. ولا يجرمنكم أي لا يكسبنكم. والشقاق شدة الخلاف ، حيث يكون كل طرف من المتخاصمين في شق غير الذي فيه الآخر.

الإعراب :

المصدر المنسبك من أن نترك مجرور بالباء المحذوفة. والمصدر من أن نفعل معطوف على ما يعبد آباؤنا ، والتقدير أصلاتك تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا أو بترك فعل ما نشاء في أموالنا. وما استطعت (ما) مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي ، ويجوز ان تكون اسم موصول في محل نصب بدلا من الإصلاح أي الا الإصلاح الذي استطيعه. وشقاقي فاعل يجر منكم ، والمصدر من ان يصيبكم مفعول ثان ليجر منكم.

الاشتراكية والرأسمالية عبر التاريخ :

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا). كل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر يتخذ من الصلاة موضوعا للاستهزاء والسخرية من المصلين ، وقد كان شعيب (ع) ولا شك من المصلين ..

٢٥٩

ولما أمر قومه بنبذ الأصنام وعبادة الله وحده ، ونهاهم عن الاستغلال والكسب الحرام تهكموا به ، وقالوا : أصلاتك التي تصليها ، وتدل على السفه والحماقة أوحت اليك ان تأمرنا بترك التقاليد والعادات التي ألفها الآباء والأجداد جيلا بعد جيل ، وان تنهانا عن تحصيل المال كيف نشاء؟ (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)؟. أي هل انت عاقل في قولك هذا؟. وتتضمن هذه الآية الدلالات التالية :

١ ـ ان رسالة الأنبياء لا تنحصر بالدعوة الى اقامة الشعائر ، بل تشمل ايضا الحياة الاجتماعية ، وتحد من حرية الإنسان في تصرفاته ، وتقيده بعدم الاعتداء على غيره ، وتحجر عليه كل عمل يستلزم الإضرار بالفرد او الجماعة ، وأوضح دليل على ذلك قوله : «ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين».

٢ ـ لقد دلت الآية ان أشد الناس عداوة للأنبياء والمصلين هم الذين يجمعون المال بالخديعة والاحتيال ، ويتصرفون في مقدرات الناس على أهوائهم ، تماما كما تفعل شركات الاستغلال والاحتكار.

٣ ـ تدل الآية ايضا على ان للرأسمالية المتطرفة جذورا وأنصارا في التاريخ ، والشواهد على ذلك من الآثار لا يبلغها الإحصاء .. وهذه الرأسمالية تطلق للفرد الحرية الكاملة في تحصيل الثروة واستغلالها في مشاريع السلب والنهب ، وأوضح تعريف لها قول المترفين لشعيب : «او ان نفعل في أموالنا ما نشاء». فليس مرادهم بهذا ان ينفقوا أموالهم في المأكل والملبس .. كلا ، وانما مرادهم ان يستغلوا أموالهم في السيطرة على الناس ، والتحكم بأقواتهم.

وكما دل التاريخ على ان الإنسان قديم العهد بهذه الرأسمالية فقد دل أيضا على انه قديم العهد بالاشتراكية ، فقد جاء في دروس التاريخ للمؤرخ «ول ديورانت» : ان الباحثين قد عثروا على لوحة سومرية يرجع تاريخها الى ٢١٠٠ قبل الميلاد ، تقول : كانت الدولة هي التي توجه الاقتصاد القومي. وان في بابل سنة ١٧٥٠ قبل الميلاد كان قانون حامورابي يحدد أسعار كل شيء. وان في عصر البطالمة سنة ٣١٣ قبل الميلاد كانت الدولة تملك الأرض ، وتدير الزراعة ، الى غير ذلك.

والإسلام يرفض كلا من الاشتراكية والرأسمالية بمعناهما الشائع اليوم ، ويقر

٢٦٠