التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

اللغة :

الملأ أشراف القوم. واللفت بفتح اللام الصّرف عن الأمر أو إلى الأمر.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ليؤمنوا متعلق بمحذوف خبرا لكانوا أي فما كانوا مريدين للايمان. ومفعول أتقولون جملة محذوفة أي أتقولون للحق هو سحر ، ثم استأنف مستنكرا أسحر هذا ، وسحر خبر مقدم ، وهذا مبتدأ مؤخر ، والجملة لا محل لها من الاعراب. وتكون عطفا على لتلفتنا ، والكبرياء اسم تكون ، ولكما خبرها ، وفي الأرض متعلق بالكبرياء. وبمؤمنين الباء زائدة اعرابا ، ومؤمنون خبر نحن. وما جئتم به السحر (ما) استفهامية ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة جئتم خبر ، والسحر بدل من (ما) على تقدير الاستفهام أي السحر ، مثل كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟.

المعنى :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ). ضمير بعده يعود إلى نوح ، والمعنى ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى قومهم كإبراهيم وهود وصالح ، ومعهم الدلائل والمعجزات ، ولكن هذه المعجزات والدلائل لم تثنهم عن الشرك ، وتحولهم إلى الايمان بوحدانية الله ، واليوم الآخر ، فلقد كذبوا بهما من قبل أن تأتيهم الرسل بالبينات ،

١٨١

وظلوا على هذا التكذيب بعد مجيء الرسل وإنذارهم ، تماما كما كانوا مصرين على التكذيب بالوحدانية والبعث قبل مجيء الرسل اليهم ، وهذا هو المراد بقوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ). وبكلمة انهم لم ينتفعوا بعلم الرسل وهدايتهم.

حول الهداية والضلال :

(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ). وتسأل : إذا كان الله هو الذي طبع على قلوبهم فكيف يعذبهم؟.

الجواب : لقد شاء الله سبحانه أن يكون للهداية طريقها الخاص ، وهو اتباع رسله ، وللضلالة طريقها كذلك ، وهو اتباع الهوى ، فمن مضى على طريق الرسل بلغ الهدى ، وكان حتما من المهتدين : ومن مضى على طريق الهوى فهو حتما من الضالين المعتدين ، تماما كما قدر الله جل وعز أن من رمى بنفسه من علو شاهق فهو من الهالكين ، وان من ألقى بها في البحر جاهلا بفن السباحة فهو من الغارقين ، وبهذا الاعتبار أي ارتباط الطريقين بمشيئة الله صح اسناد الطبع والختم اليه تعالى ، وسبق الكلام عن ذلك أكثر من مرة ، وبعبارات شتى.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا الضمير يعود إلى الرسل الذين جاءوا بعد نوح (ع) (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) وهي المعجزات كالعصا واليد البيضاء ، وقوله : (بَعَثْنا) يدل بوضوح على ان هرون نبي مرسل تماما كأخيه موسى ، وقيل : ان هرون يكبر موسى بثلاث سنوات (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) وكل من استنكف عن قبول الحق والرضوخ له فهو مجرم (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو المعجزات التي أظهرها الله على يد موسى (ع) (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وهكذا قال مشركو قريش عن محمد (ص) لما جاءهم بالقرآن واعجازه .. ومحال ان يسلم المصلح من افتراءات المفسدين ، وهم يكيفونها بحسب الزمن ، كان الناس من قبل يؤمنون بالسحر ، فقال المفترون عن المصلح : انه ساحر ، أما اليوم حيث لا ايمان بالسحر فإنهم يقولون عنه فوضوي خارج على النظام!.

١٨٢

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) كيف؟. والحق يستهدف هداية الناس الى الواقع ، والسحر يزيف الواقع ويحرفه ، ويضلل الناس عنه (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) وهل يفلح المشعوذ الدجّال؟. (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) ـ أي تصرفنا ـ (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). هذه معزوفة يرددها من يحافظ على الأوضاع الفاسدة التي تضمن له منافعه ومكاسبه .. فالمسألة مسألة خوف على المصالح والسلطان ، لا مسألة آباء وأصنام .. والدليل ما حكاه الله عنهم بقوله : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ). هذا قول فرعون وجلاوزته لموسى وأخيه (ع) ، والمعنى ان الدافع لكما على ادعاء الرسالة من الله هو ان يكون لكما الملك والسلطنة في أرض مصر من دوننا .. وبهذا يفصح فرعون وملؤه عن تخوفهم على ملكهم وطغيانهم ، ولذا قالوا لموسى وهرون ، (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) بل مقاومين ومحاربين دفاعا عن منافعنا وامتيازاتنا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) وهو لا يعلم ما ذا يخبئ الدهر له فلما جاء السحرة قال لهم موسى (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ). قال هذا مستخفا بهم وبسحرهم وفرعونهم لأن الله سبحانه وعده الفوز والنصر (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) هو باطل من أصله ، ولكن الله سيظهر بطلانه للناس ، أما عصا موسى فلا يأتيها الباطل إطلاقا لأنها حق من عند الله (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) بل يزيله ويمحقه (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وهي الحجج الدامغة ، والبراهين القاطعة (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) لأن كراهيتهم لا تعطل مشيئة الله.

فما آمن لموسى الآية ٨٣ ـ ٨٩ :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ

١٨٣

مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

اللغة :

الذرية النسل. والفتنة الابتلاء والاختبار. وعال في الأرض أي مستبد. وتبوأ المكان أقام فيه. والقبلة ما يكون تلقاء الوجه ، ومنه قبلة الصلاة. والطمس الازالة. واشدد هنا مأخوذة من الشدة ضد الرخاء والراحة.

الإعراب :

على خوف متعلق بمحذوف حالا من ذرية. وضمير ملئهم يعود على قوم موسى ، لأنهم أقرب من الذرية لفظا ، والضمير يعود الى الأقرب. والمصدر المنسبك من ان يفتنهم بدل اشتمال من فرعون. ويا قوم أصله يا قومي ، وحذفت الياء تخفيفا. وان تبوءا (ان) بمعنى أي مفسرة لأوحينا ، وتبوءا فعل أمر بمعنى اجعلا ، ولقومكما اللام زائدة اعرابا وقومكما مفعول أول وبيوتا مفعول ثان.

١٨٤

ومصر ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، ويجوز أن تصرف لخفتها كما تصرف هند. والخطاب في اجعلوا وأقيموا لموسى وأخيه ومن تبعهما. والخطاب في بشّر لموسى. واللام في ليضلوا للعاقبة. فلا يؤمنوا عطف على ليضلوا ، وما بينهما دعاء مفترض. ولا تتبعانّ اللام ناهية ، والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد ، ومحله الجزم.

المعنى :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ). بعد أن ألقى موسى العصا ، واظهر الله الحق على يده في مشهد عام آمن السحرة وخلق كثير ، أما قبل إلقاء العصا فقد آمن به الفتيان والشبان من بني إسرائيل ، لأن الشباب من كل قوم كانوا وما زالوا يتحمسون لكل جديد ، ولكنهم آمنوا بموسى ، وهم خائفون من فرعون ومن رؤوس الاسرائيليين أيضا ان يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدوا عن دينهم ، فلقد كان أرباب المصالح من اليهود يتآمرون مع فرعون ، ويناصرونه على المستضعفين من قومهم ، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أهل الأديان في كل زمان ومكان (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي طاغية مستبد (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) لا يقف في استبداده وطغيانه عند حد.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ). موسى (ع) أعزل من كل شيء إلا من الحق ، وفرعون يملك كل شيء إلا الحق ، وقد تسلط على من آمن بموسى يضطهدهم وينكل بهم ، فقال لهم موسى : لا قوة لي ولا لكم تصد طغيان فرعون عنكم وظلمه لكم إلا التوكل على الله ، والثقة بوعده ان العاقبة للمتقين ، فسلموا الأمر اليه ان كنتم مطيعين حقا لأوامره. وقد ذكر لهم ثلاثة أوصاف : الايمان ، وهو التصديق في القلب ، والإسلام ، والمراد به هنا الانقياد والاستسلام لأمره تعالى ، والتوكل ، وهو الإخلاص والتفويض الى الله وحده .. فمن جمع هذه الأوصاف كان الله معه.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وتركنا اليه أمرنا ، فهو أعلم بحالنا وصالحنا ، وهو

١٨٥

على كل شيء قدير. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). المراد بالظالمين هنا الكافرون ، وهم فرعون وقومه ، أما الفتنة فالمراد بها العذاب ، والمعنى لا تجعلنا محلا لعذابهم (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). المراد بالكافرين الظالمون ، وهم فرعون وقومه الذين اضطهدوا وظلموا بني إسرائيل ، والمراد بالنجاة الخلاص من ظلمهم واضطهادهم ، وعليه تكون هذه الآية تفسيرا للتي قبلها.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً). أي لا تخرجا من مصر ، وابقيا فيها ، واتخذا مساكن لبني إسرائيل يأوون اليها ، ويعتصمون بها (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) الخطاب لموسى وأخيه ومن تبعهما. وقيل : معناه اجعلوا بيوتكم متقابلة في جهة واحدة ، أي اسكنوا جميعا في حي واحد ، وهذا التفسير أرجح من تفسير البيوت بالمساجد ، أي اجعلوا بيوتكم مساجد ، ووجه الرجحان ان البيوت غير المساجد ، فهذه للعبادة فقط ، وتلك للسكن (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) لأنها ترمز إلى الإخلاص لله ، وتجمع القلوب على الاحساس المتحد (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنجاة من فرعون وملئه في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وخص الخطاب بموسى وحده لأنه الأصل في الرسالة ، وهرون تبع له.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). نزلت هذه الآية في زمن لم يكن الناس يعرفون شيئا عما تحتويه قبور الفراعنة ، ثم كشف الحفر والتنقيب فيها عن هذه الأموال والزينة التي نص عليها القرآن ، وهذا شاهد محسوس لا يقبل الشك والريب في ان القرآن وحي من علام الغيوب. (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) اللام في ليضلوا للعاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب أي كانت نتيجة انعام الله عليهم بالزينة والمال ان عصوه بدلا من أن يطيعوه.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) بمحقها وتدميرها .. وقد يظن ظان ان في هذا الدعاء إيماء إلى ان موسى طلب من الله ان يمنع الغنى والترف عن أهل البغي والضلال كيلا يزدادوا بغيا وطغيانا .. ولكن الذنب ذنب الأوضاع الفاسدة التي نهى الله عنها. وبسطنا الكلام عن ذلك في ج ٣ ص ٩٤ فقرة : «الرزق وفساد الأوضاع عند تفسير الآية ٦٦ من المائدة».

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) قيل : معناها واطبع على قلوبهم. وقيل : بل المراد

١٨٦

ثبتهم على المقام في بلدهم ، حتى يروا هلاك أموالهم رأي العين ، والذي نراه أن اشدد هنا مأخوذة من الشدة والبلاء ضد الراحة والرخاء ، أي ان موسى (ع) سأل الله تعالى أن ينزل الشدائد على قلوبهم ، وهذا يتناسب تماما مع سؤاله ان ينزلها الله على أموالهم. (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). هذه الجملة معطوفة على ليضلوا عن سبيلك ، والمعنى ان عاقبة تقلب فرعون وملئه في نعم الله ان ضلوا وأصروا على الكفر ، وان لا يؤمنوا إلا عند حلول العذاب حيث لا يقبل الإيمان .. وليس من شك ان موسى (ع) ما دعا عليهم وقال هذا القول إلا بعد اليأس من صلاحهم.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وهي انزال الآفات على أموال فرعون وملئه ، والمصائب والشدائد على قلوبهم (فَاسْتَقِيما) على الطريقة التي أنتما عليها من الجهاد في سبيل الدعوة الى الحق. (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) عظمة الله وحكمته .. وجاز هنا نهي المعصوم عن الذنب لأنه من الله ، لا من سواه ، فإن من شأن الأعلى أن يأمر وينهى من دونه كائنة ما تكون منزلته.

وجاوزنا ببني اسرائيل البحر الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ

١٨٧

صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

اللغة :

ننجيك من النجوة ، وهي المكان المرتفع من الأرض. والمراد بآية هنا العبرة والعظة. ومبوأ صدق أي منزلا صالحا ، والعرب يضيفون الشيء الجيد إلى الصدق.

الإعراب :

ببني إسرائيل الباء للتعدية ، وبغيا وعدوا مفعول لأجله لاتبعهم. وآلآن مركبة من كلمتين : همزة الاستفهام والآن اي أالآن ، والظرف متعلق بمحذوف اي آلآن تؤمن. ومبوأ صدق منصوب على الظرفية ببوأنا ان أريد به المكان ، وان أريد به المصدر فهو مفعول مطلق.

المعنى :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) سبق نظيره في سورة البقرة الآية ٥٠ وسورة الأعراف الآية ١٣٨.

نهاية الطاغية :

(حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). بالأمس كان ينتفخ فرعون ويقول : أنا ربكم الأعلى. وحين أدركه الغرق قال : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، ما كان أغناه عن

١٨٨

الحالين؟. لا هذه ولا تلك ، فقد كان باب الطاعة مفتوحا أمامه حين عصى ، أما الآن فلا طاعة ولا عصيان ، إذ لا ارادة ولا اختيار .. وهذا هو شأن الخسيس اللئيم يتعاظم عند النعماء ، ويتصاغر عند البأساء.

والتاريخ يعيد نفسه ، وأعني بذلك سنة الله في خلقه التي أشار اليها مؤكدا بقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ـ ٤٣ فاطر». وإسرائيل اليوم تسير بمساندة الاستعمار على سنة فرعون بالذات.

كان فرعون يذبح أبناء بني إسرائيل ، ويستحيي نساءهم ، وفعلت إسرائيل بأبناء الشعب الفلسطيني أكثر بكثير مما فعله فرعون.

وقال فرعون : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟. وقالت إسرائيل : أليست لي فلسطين وخيراتها ، ومعها مرتفعات الجولان ، والضفة الغربية؟.

وقال فرعون : أنا ربكم الأعلى. وقالت ربيبة الاستعمار وحربته ، «لا غالب لي اليوم». ولم تمض الأيام ، حتى بدأت سنة الله تعمل عملها ، فمن إغراق ايلات الى موقعة الكرامة ، ومن تدمير مواقع الصواريخ لاسرائيل إلى عمل الفدائيين الذي اضطر «دايان» الى القول : على اليهود ان يستعدوا لتوسيع قبورهم .. وسيقول عاجلا أو آجلا : آمنت بالذي آمن به العرب والمسلمون ، تماما كما قال فرعون من قبل : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، لأنها سارت على نفس الطريق الذي سار عليه ، وستكون نهايتها نهايته لا محالة.

وقد يقول قائل : ان الصراع مع إسرائيل طويل ومركز. ونقول في جوابه أجل ، ولكن النصر النهائي لأصحاب الحق مهما طال الزمن ، والتاريخ البعيد والقريب يشهد بهذه الحقيقة من عهد فرعون وهامان الى عهد هتلر وموسيليني.

(آلْآنَ) بعد أن فات ما فات تقول : آمنت (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) حيث كان الخيار بيدك في التوبة والرجوع الى الحق ، ولكنك طغيت وبغيت (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فذق جزاء عملك بالغرق والهلاك (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) لا بروحك ونلقي بجثتك على نجوة من الأرض ليشاهدها من كان يعظم من شأنك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يتعظ بها كل من تحدثه نفسه بالسير على طريق الفساد ..

١٨٩

ولكن ما أكثر العبر ، وأقل الاعتبار ، ومن أجل هذا استدرك سبحانه ، وقال (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) وغير مغفول عنهم.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ). والمراد بالصدق هنا الخصب بدليل قوله تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) والمعنى اسكناهم بعد هلاك فرعون بلادا خصبة طيبة ، واختلف المفسرون في تحديد هذه البلاد ، فمنهم من قال : هي فلسطين. ومنهم من قال : هي مصر ، وهذا هو الأرجح لقوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ) ـ اي فرعون وقومه ـ (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ـ ٥٨ الشعراء». فالآية صريحة في ان الله اسكن بني إسرائيل ديار فرعون وقومه.

(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ). المراد بالعلم هنا التوراة كما نزلت على موسى (ع) ، وكان فيها الإخبار بنبوة محمد (ص). وكان بنو إسرائيل قبل نزولها كلمة واحدة في كفرهم وضلالهم ، وبعد ان جاءتهم التوراة اختلفوا فيما بينهم على عهد موسى وبعده ، فقد تمرد عليه أكثرهم ، وعبدوا العجل ، وقالوا له : أرنا الله جهرة .. واذهب أنت وربك ، الى غير ذلك مما سجله عليهم القرآن (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) حيث لا كذب في ذلك اليوم ، ولا رياء ، ولا شيء إلا الحق يظهر للجميع جليا واضحا.

فإن كنت في شك الآية ٩٤ ـ ٩٧ :

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

١٩٠

الإعراب :

النون في قوله : فلا تكونن للتأكيد ، ودخلت على المضارع لمكان لا الناهية. وحتى يروا أي ان يروا. ويروا هنا تتعدى إلى مفعول واحد لأنها بصرية ، لا قلبية.

المعنى :

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ). المراد بالذين يقرءون الكتاب علماء الإنجيل والتوراة ، والشيء المسئول عنه هو ما جاء في القرآن من قصة موسى وغيره من الأنبياء بقرينة السياق ، لأن الآيات نزلت في قصة موسى مع فرعون.

وتسأل : ما هو الوجه في قوله تعالى لنبيه الأكرم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) مع العلم ان النبي لا يشك في ذلك ، كيف؟ وقد تحمّل من الأذى في سبيل رسالته ما لم يتحمله نبي ولا مصلح.

الجواب : الوجه ان يقول النبي (ص) لمن يشك فيما ذكره القرآن من قصة موسى وغيره من الأنبياء ، ان يقول له : اسأل عن ذلك العلماء المنصفين من أهل الكتاب ، فإنه ثابت في التوراة والإنجيل ، تماما كما جاء في القرآن.

(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ). المراد بالامتراء الشك ، والمعنى بلّغ الناس يا محمد ان من يشك أو يكذب بالحق الذي أنزل اليك فهو من المعذبين الخاسرين يوم القيامة .. وعبّر سبحانه عن هذا المعنى بنهي النبي عن الشك والتكذيب ليقول محمد (ص) للناس : أنا بشر مثلكم وواحد منكم أحاسب وأعاقب كأي انسان يشك أو يكذب بآيات الله إذا أنا شككت وكذبت .. وهذا الأسلوب هو أبلغ الأساليب وأنجحها في الدعوة الى الحق الذي تتساوى أمامه جميع الناس.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى

١٩١

يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). المراد بكلمة ربك هنا العذاب ، ولا يؤمنون خبر ان الذين حقت عليهم ، والمعنى ان الذين يعذبهم الله هم الذين لا يؤمنون بالحق بحال ، حتى ولو قام عليه ألف دليل .. اللهم إلا إذا شاهدوا العذاب وأيقنوا به .. ومعلوم ان الايمان في هذه الحال لا يجدي شيئا ، لأنه تماما كإيمان فرعون حين أدركه الغرق ، وتقدم الكلام عنه قريبا في الآية ٩٠.

قوم يونس الآية ٩٨ ـ ١٠٠ :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

اللغة :

الخزي الذل. والحين مدة من الزمن ، والمراد به هنا العمر الطبيعي للإنسان. والرجس الشيء القذر ، والمراد به هنا الكفر.

الإعراب :

لولا بمعنى هلا ، وتستعمل على وجهين : الأول الطلب مثل لولا تأتينا. الثاني التوبيخ مثل لولا امتنعت عن ضلالك. وقرية على حذف مضاف أي أهل

١٩٢

قرية. وقوم يونس منصوب على الاستثناء المنقطع اي لكن قوم يونس ، ويونس ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

القصة :

وصف الله سبحانه يونس بأنه من المرسلين والصالحين ، وبصاحب الحوت ، وبذي النون أي الحوت ، وأيضا وصفه بالمغاضب لقومه ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فلم يستجيبوا له ، فدعا الله عليهم ، ورحل عنهم يائسا من إيمانهم .. وفي سورة القلم أمر الله نبيه محمدا (ص) أن يصبر ولا يتعجل بالدعاء على قومه بالعذاب كما فعل يونس : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ـ ٤٨ القلم».

أما قوم يونس فقد زاد عددهم على مائة ألف : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ـ ١٤٧ الصافات». وقال الرواة والمفسرون : ان قوم يونس كانوا يقيمون بنينوى من أرض الموصل ، وانهم كانوا يعبدون الأصنام ، فنهاهم يونس عن الكفر ، وأمرهم بالتوحيد ، فأصروا على الشرك شأنهم في ذلك شأن من تقدمهم من أقوام الأنبياء.

وبعد ان رحل يونس عن قومه أتتهم نذر العذاب ، وطلائع الهلاك من السماء فتابوا الى الله ، ودعوه مخلصين ان يكشف عنهم العذاب ، ففعل ، وأبقاهم الى انقضاء آجالهم ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

وقال المفسرون : ان قوم يونس لبسوا المسوح ، وخرجوا الى الصحراء ، ومعهم النساء والأطفال والدواب ، وفرقوا بين كل والدة وولدها إنسانا وحيوانا ، فحن بعضها إلى بعض ، وعلت أصواتها ، واختلطت أصوات الآدميين بأصوات الحيوانات ، فرفع الله عنهم العذاب ، ورجعوا الى ديارهم آمنين.

أما يونس فقد ضرب في الأرض ، حتى انتهى الى ساحل البحر ، فوجد جماعة في سفينة ، فسألهم ان يصحبوه ، ففعلوا ، ولما توسطوا البحر بعث الله عليهم

١٩٣

حوتا عظيما حبس عليهم سفينتهم ، فأيقنوا انه يطلب واحدا منهم ، فاتفقوا على الاقتراع ، فوقع السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو نفسه في البحر ، فابتلعه الحوت ، كما جاء في سورة الصافات : وان يونس لمن المرسلين إذ ابق ـ اي هرب ـ الى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين ـ اي المغلوبين بالقرعة ـ فالتقمه الحوت وهو مليم ، اي وهو يلوم نفسه.

وألهم الله الحوت ان يطوي يونس في بطنه ، دون ان يمسه بأذى ، وفزع يونس الى ربه يناديه ويستجير به ، وهو في جوف الحوت (١) ، والى هذا أشارت الآية ٨٧ من سورة الأنبياء : «فنادى في الظلمات ان لا إله إلا انت سبحانك اني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين».

ثم نبذه الحوت على ساحل البحر بعد ان لبث في جوفه ما شاء الله ان يلبث. قال المفسرون : ان يونس خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط ، وان الله أنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ، وذلك حيث يقول عز من قائل : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) ـ اي في مكان خال من النبات ـ (وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) ـ ١٤٦ الصافات». قالوا ، وعاد يونس بعد هذا الى قومه ، ففرحوا بقدومه ، وفرح هو بإيمانهم.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً). أي لو شاء الله ان يكره الناس على الايمان ويلجئهم اليه إلجاء ، أو يخلقهم منذ البداية مؤمنين ـ لو شاء ذلك لما وجد كافر على ظهرها ، ولو فعل لبطل الثواب والعقاب ، وكان فعل الإنسان كالثمرة على الشجرة .. وسبق نظير هذه الآية في سورة الأنعام : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ـ ٣٥» .. (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) ـ ١٠٧» وفي سورة البقرة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ـ ٢٥٣». وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج ١ ص ٣٨٨.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الخطاب لمحمد (ص) ، والمعنى لقد شاءت حكمته تعالى ان يكون الخيار في الانقياد الى الحق ، او عناده بيد

__________________

(١). لو تنبه الى هذه الآية الكريمة الذين ينسبون المخترعات الحديثة الى القرآن لقالوا : ان حوت يونس يشير الى الغواصة. انظر المجلد الأول من هذا التفسير ص ٣٨ ، فقرة «القرآن والعلم الحديث».

١٩٤

الإنسان ، ليتميز الخبيث من الطيب ، ولا احد في مقدوره ان يعاند مشيئة الله .. فعلام ـ اذن ـ تحزن وتذهب نفسك على كفرهم وعدم ايمانهم؟. والقصد من هذا التخفيف عن الرسول الأعظم (ص). وقد تكرر هذا المعنى في الكثير من الآيات ، منها قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) ـ ٤٤ ق» اي بمسلط .. ان عليك الا البلاغ.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). ان للإنسان حالات ، ولكلّ سببها ، ومنها الايمان ، وطريقة النظر الى آيات الله بوعي وتجرد ، فمن أدركها على وجهها وحقيقتها انتهى حتما الى الايمان بحكم الله ومشيئته ، لأنه هو الذي جعل التدبر لآياته سببا للايمان به ، ومن أعرض عنها انتهى حتما الى الكفر أيضا بحكم الله لأنه هو الذي جعل الإعراض عن آياته سببا للكفر ، ولكنه تعالى جعل الخيار في سلوك احد الطرفين بيد الإنسان ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ـ ١٠ الشمس» اي ان الفلاح ثابت حتما لمن طهر نفسه من الأهواء والشهوات ، والخيبة ثابتة حتما لمن دنسها بالأقذار والآثام.

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). المراد بالرجس هنا الكفر المقابل للايمان الذي هو بإذن الله ، والمعنى ان الإعراض عن آيات الله وعدم تدبرها يؤدي حتما الى الكفر ، كما ان تدبرها يؤدي حتما الى الايمان. وبهذا يتبين ان المراد بإذن الله الايمان اللازم لادراك الدلائل والبينات التي أقامها الله على وجوده ، على أن يكون مع هذا الإدراك الانصاف والتجرد عن الغايات والأهواء.

وما معنى الآيات والنذر الآية ١٠١ ـ ١٠٦ :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي

١٩٥

شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦))

اللغة :

النذر جمع نذير ، وهو الذي يحذر من العواقب. والحنيف المائل عن الباطل الى الحق.

الإعراب :

ما ذا (ما) استفهام مبتدأ ، وذا بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون الكلمتان بمعنى أي شيء مبتدأ والخبر في السموات. وما تغني الآيات (ما) نافية وليست باستفهام. وكذلك الكاف بمعنى مثل مفعول ننج ، اي مثل ذلك الانجاء ، والاشارة هنا الى إنجاء قوم يونس ، وحقا منصوب على المصدر أي يحق حقا ، وعلينا متعلق بحق او بيحق. والمصدر المنسبك من ان أكون مجرور بالباء المحذوفة. ومثله وان أقم اي وبالاستقامة. وحذفت الياء من ننج للتخفيف ، وحنيفا حال من الدين.

المعنى :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لمناسبة ذكر الايمان في الآية السابقة امر سبحانه بالنظر في الكون وعجائبه لأنه السبيل الى معرفة الله والايمان به. وتقدمت آيات كثيرة بهذا المعنى (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)

١٩٦

كل دليل على الحق فهو ينذر من يخالفه بالعقوبة ، وكل رسول من عند الله تعالى فهو يحمل معه الدليل على رسالته ، ولكن الأدلة والرسل لا ينتفع بها إلا من كان الحق ضالته يأخذه انّى وجده ، ولو كان فيه ذهاب نفسه ، أما من لا يرى في الدين والحق والانسانية إلا مصلحته ومنافعه ، أما هذا فهو عدو الأدلة والبراهين ، والأنبياء والمصلحين ، فكيف ينتفع بها ويؤمن بمبادئها؟.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ). يقال : ايام فلان ويراد ايام دولته او ايام محنته ، والمراد بأيام الذين خلوا ايام قوم نوح وعاد وثمود ، وما حل بهم من الهلاك والعذاب ، وضمير ينتظرون يعود الى الذين كذبوا محمدا (ص) بدليل قوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فانه تهديد لمن كذب محمدا بسوء العاقبة.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا). هذه الجملة عطف على جمل محذوفة والتقدير انه قد جرت سنة الله في خلقه ان يرسل الى الناس رسلا منهم مبشرين ومنذرين ، فيصدقهم البعض ، ويكذبهم آخرون ، فيهلك المكذبين ، ثم ينجي الرسل والمؤمنين .. قال صاحب المنار : «هذا من الإيجاز المعجز الذي انفرد به القرآن» .. ووجه الاعجاز ان الله سبحانه ذكر جملة واحدة تدل دلالة واضحة على عدد من الجمل المحذوفة.

(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بعد ان قال سبحانه : انه ينجي المؤمنين قال : ان نجاة المؤمن من العذاب حق له على الله يطالبه به ، تماما كأصحاب الحقوق ، وان على الله تعالى ان يؤديه له كاملا غير منقوص ، وهذا رد صريح على السنة الذين قالوا : ان الله سبحانه له ان يعاقب المطيع ، ويثيب العاصي (المواقف ج ٨ المقصد الخامس والسادس من المرصد الثاني في المعاد).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). لقد أدى النبي (ص) امانة الله الى خلقه ، وبلّغهم رسالات ربهم ، فاستجاب له من استجاب وأبى من أبى ، فأمره الله تعالى أن يقول للذين أصروا على الشرك : ان كنتم في شك من ديني فأنا لا أعبد أصناما لا تعقل كما تفعلون ، ولكن أعبد إلها قادرا عادلا ، وحكيما عالما ، وهو الذي يقبض أرواحكم ، فأي المعبودين جدير بالشك؟.

١٩٧

وهذا نوع من أساليب الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). المراد بالوجه هنا النفس ، والمعنى ان الله أمرني ان اتجه اليه معتنقا الإسلام ، سائرا على نهجه قولا وعملا دون سائر الأديان.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ). والنبي لا يدعو أحدا من دون الله ، ومحال ان يدعو سواه ، وإنما القصد الإخبار بأن من يدعو غير الله فهو من الظالمين الخاسرين.

وتجدر الاشارة الى ان الآيات الثلاث الأخيرة تعبر عن معنى واحد بعبارات شتى ، وهو الأمر بالإيمان ونبذ الشرك ، مع اختلاف يسير في المعنى ، فالآية الأولى أمرت بالإيمان ، مع الاشارة الى ان دين التوحيد لا ينبغي الشك فيه ، وان الذي فيه الشك والريب هو دين الشرك وعبادة الأصنام ، والآية الثانية أمرت بالايمان ، مع الاشارة الى ان الإسلام هو الدين القيم الذي لا عوج فيه ، دون سائر الأديان ، والآية الثالثة أمرت بالايمان مع الاشارة الى أن من يبتغي غير الإسلام دينا فهو من الظالمين لأنفسهم. وعلى أية حال فان من عادة القرآن ان يكرر ويؤكد كل ما يتصل بالعقيدة وأصولها.

وان يمسك الله بضر الآية ١٠٧ ـ ١٠٩ :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

١٩٨

المعنى :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ). قد يتضرر الإنسان بما كسبت يداه ، كما لو أقدم مختارا على الإضرار بنفسه ، أو ترك العمل مع قدرته عليه ، أو أقدم على عمل ما هو بأهل له ، وقبل ان يعد له العدة ، وهذا الضرر لا تصح نسبته إلى الله لأنه تعالى أمر بالعمل والاعداد له ، ونهى عن الإضرار بشتى أنواعه. وقد يتضرر الإنسان بسبب الأوضاع الفاسدة في المجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا أيضا لا ينسب إلى الله ، لأنه تعالى نهى عن الفساد ، وأمر بالصلاح والإصلاح. وقد يتضرر الإنسان لا من كسبه ولا من مجتمعه ، كما لو ولد ناقص الخلقة ، أو كان بليدا لا استعداد فيه للعلم والمعرفة ، مهما جد واجتهد ، أو نزلت عليه صاعقة من السماء ، وما إلى ذلك ، وهذا النوع من الضرر هو المراد بقوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) مع العلم بأنه لو شاء سبحانه أن يكشف الضر من أية جهة أتى لانكشف وزال ، لأنه على كل شيء قدير.

(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). قدمنا ان الضرر لا تصح نسبته إلى الله تعالى بقول مطلق ، أما الخير فتصح نسبته اليه بشتى أنواعه ، سواء أكان لعمل الإنسان تأثير فيه ، أم لم يكن ، لأنه تعالى يريد الخير ويأمر به ، وهو الذي أقدر الإنسان عليه (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ورحمته وسعت كل شيء ، تماما كعلمه وقدرته.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). ويتلخص معنى هذه الآية بقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ـ ٢١ الطور» ، وتقدم نظيرها في سورة الأنعام الآية ١٠٤ ج ٣ ص ٢٣٨.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). هذه الآية تحدد وظيفة الرسول بتبليغ الوحي ، والعمل به ، والصبر على ما يلاقيه في سبيل ذلك من أذى المكذبين إلى أن يظهر الله دينه ، ويعلي كلمته .. وهذه هي مهمة كل من ينوب عن المعصوم في تبليغ أحكام الله ونشرها.

١٩٩
٢٠٠