التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

اللغة :

من تلقاء نفسي أي من عند نفسي ، ويستعمل بمعنى الاتجاه ، يقال : جلس تلقاءه أي تجاهه. العمر بضم العين والميم البقاء ، وبفتح العين وسكون الميم يستعمل في البقاء ، وفي القسم ، تقول : لعمري ما فعلت أي لديني ما فعلت.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان أبدله اسم يكون ، ولي خبر. وان اتبع (ان) نافية. وأدراكم فعل ماض من دريت. وعمرا على حذف مضاف أي مقدار عمر ، ثم حذف الظرف وأقيم المضاف مقامه.

المعنى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ). المراد بالذين لا يرجون لقاء الله المشركون .. وكان النبي (ص) يحتج عليهم وعلى اليهود والنصارى بالقرآن ، ويجادلهم بالتي هي أحسن ، وكان الجدال بينه وبين المشركين واليهود عنيفا ، لأنهم كانوا أشد الناس عداوة له ، وإعراضا عنه ، وسبق الكلام عن ذلك في العديد من الآيات ، أما النصارى فمنهم من وفد

١٤١

عليه ، ودفع له الجزية كنصارى نجران ، ومنهم من همّ بغزو المدينة ، فقطع النبي (ص) الطريق عليهم وغزاهم في أرض الشام.

وكان المشركون يقترحون على النبي (ص) ألوانا من جهلهم وعبثهم ، من ذلك ما أشارت اليه الآية ١١٨ من سورة البقرة ، حيث طلبوا من النبي أن يكلمهم الله مشافهة ، أما الآية التي نفسرها فهي تحكي اقتراحهم على رسول الله (ص) أن يأتيهم بقرآن غير هذا في جملته ، أو يحرفه بالتقليم والتطعيم ، لأن هذا القرآن قد آتاهم بدين جديد : فهو يدعو الى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء ، ويقر مبدأ العدالة والمساواة ، ويلغي الطبقات والامتيازات ، ويحرم الربا والظلم ، وهم يدينون بتعدد الآلهة ، وينكرون البعث ، ويبيحون ما يشتهون ، فطلبوا من محمد (ص) أن يأتيهم بقرآن يقرهم على دينهم وتقاليدهم ، أو يحذف من القرآن الذي أتاهم به ما لا يرتضونه ـ على الأقل ـ ..

وأي فرق بين هذا الطلب من مشركي الجاهلية ، وبين الكثير من شباب حضارة القرن العشرين الذين يقولون : ولما ذا الدين ، والحلال والحرام؟ .. أجل ، ان في حضارة المنيجوب والميكروجوب غنى عن كل مبدأ ودين.

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). الرسول ناقل عن الله ، لا مشرع ، تماما كراوي الحديث عن الرسول. وقد جاء في الحديث عنه انه قال : «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» فكيف يكذب هو على الله؟. حاشا لصاحب العصمة عن الخطأ والزلل .. وفي الآية تعريض بمن يفتي ويحكم بغير دليل من الشرع ، وفيها أيضا الدليل القاطع على ان النبي ما حكم قط باجتهاده ، وان جميع أحكامه كانت بوحي من الله ، وان من أجاز الاجتهاد عليه فقد قاسه بغيره من الفقهاء .. وبالمناسبة نشير الى ان الشيعة منعوا الاجتهاد على النبي (ص). واختلف السنة فيما بينهم ، فمنهم من وافق الشيعة ، وكثير منهم أجاز الاجتهاد على النبي.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ). وضمير تلوته وبه يعودان إلى القرآن ، والمعنى لو شاء الله إلا يرسلني إليكم لتعلموا وتعملوا بالقرآن ما دعوتكم اليه ، ولكني فعلت ما فعلت تنفيذا لمشيئة الله (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ

١٤٢

أَفَلا تَعْقِلُونَ). ان من عاش في قومه أربعين عاما من قبل أن يوحى اليه لم يقرأ فيها كتابا ، ولم يلقن من أحد علما ، ولا بدرت منه أية بادرة يؤاخذ عليها ، بل كانت حياته كلها فضائل ومكرمات ، وصدقا وأمانة حتى سمي الصادق الأمين ، أفلا تعقلون ان من كان هذا شأنه فهو أبعد الناس عن الكذب والافتراء؟ .. هذا ، إلى أن حقائق القرآن حجة كافية وافية في الدلالة على صدقه وعظمته.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ). معنى افترى على الله كذبا انه نسب إلى دين الله ما هو بريء منه ، ومعنى كذّب بآياته انه نفى عنه ما هو منه في الصميم ، وهذه هي البدعة التي قال عنها الرسول الأعظم : «كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار» (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) لأن طريق الفلاح والنجاة هو الصدق والإخلاص ، أما الكذب والافتراء فهو طريق الهلاك والخذلان ، ولا يسلكه إلا شقي مجرم.

ويقولون هؤلاء شفعاؤنا الآية ١٨ ـ ٢٠ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

المعنى :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ). هؤلاء هم الذين قالوا

١٤٣

لرسول الله (ص) : ائت بقرآن غير هذا أو بدله. فقد كانوا يعبدون الأصنام معتقدين انها تنفع وتضر بدليل قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ولكن اعتقادهم لا يقوم على أساس سوى الوهم والخيال .. وقد أمر الله محمدا (ص) أن يقول مكذبا زعمهم: (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). ادعى المشركون ان أصنامهم تشفع لهم عند الله ، ولو كان هذا حقا لعلم الله بهذه الشفاعة ، وحيث انه لا يعلم بها وجب أن تكون دعوى المشركين كذبا وافتراء.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) على فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ثم شتّتهم الهوى عن أصلهم ، وفرّقهم شيعا في دينهم بعد أن اهتدوا الى ملذات الحياة ، وتسابقوا الى نيلها (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). المراد بكلمة الله هنا عدم التعجيل بالعقوبة للعصاة ، وبالمثوبة للطائعين ، بل يؤخرهم جميعا الى يوم يبعثون ، ليبلغ كل انسان بإرادته الى ما يرتضيه لنفسه من خير أو شر ، وفضيلة أو رذيلة ، ولو عجل الله بالعقوبة الى من أساء من الناس لقضي بينهم بالوفاق وعدم الاختلاف ، ولكن خوفا لا طوعا .. وليس من شك ان هذا إلجاء يبطل معه الثواب والعقاب ، ونقض لحكمته تعالى التي قضت بأن يظهر كل انسان على حقيقته عن طريق ما يزاوله من أعمال ، ويختاره لنفسه من كمال .. ومر نظير هذه الآية في سورة البقرة الآية ٢١٣ ، وفي سورة المائدة الآية ٤٨.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). لقد أنزل الله على محمد (ص) العديد من الآيات والمعجزات ، ولكن المشركين الذين قالوا هذا يريدون آية على أهوائهم ، ومعجزة هم يقترحونها ويفرضونها مثل قولهم : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ـ ١١٨ البقرة». وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ـ ٧ الفرقان» ، وما الى ذلك من لغوهم وعبثهم. وسبق الكلام عن اقتراحاتهم الفاسدة في ج ١ ص ١٨٨ عند تفسير الآية ١١٨ من سورة البقرة.

(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ). أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين : ان الآية التي طلبتموها هي في يد الله ، وليس لي من الأمر

١٤٤

شيء ، ولا أدري ان كان الله ينزلها أو لا ينزلها من السماء ، فأنا وأنتم سواء في ذلك ، فلننتظر لنرى أي الفريقين أحق بالأمن من غضب الله وعقابه.

قل الله اسرع مكرا الآية ٢١ ـ ٢٣ :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

اللغة :

المراد بمكر الله تدبيره الخفي الذي يفوّت على الماكر المخادع مكره وخداعه. وقد يستعمل مكر الله بعذابه. والتسيير التحريك دون اختيار من المتحرك ، ومنه مسيّر غير مخير. والفلك السفن ويطلق على الجمع والواحد. والعاصف الذي يعصف الأشياء ويكسرها ، ومنه ريح عاصف وعاصفة. وأحيط به أي هلك.

١٤٥

الإعراب :

إذا لهم (إذا) للمفاجأة وقعت في جواب إذا أذقنا. ومكرا تمييز. والنون في جرين ضمير الفلك. وضمير بهم للناس. ومخلصين حال من الضمير في دعوا. وإذا هم (إذا) للمفاجأة وقعت في جواب لما. ومتاع الحياة منصوب على المصدر أي تمتعوا متاع الحياة ، ويجوز الرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك متاع.

المعنى :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا). قيل المراد بالناس هنا المشركون خاصة ، وليس هذا القول ببعيد عن قرينة السياق ، فإن الآيات السابقة تحدثت عن المشركين ، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون التهديد عاما يشمل كل من جحد أنعم الله ، سواء أكان الجحود من المؤمن أم الكافر ، قبل الضراء أم بعدها .. وفي جميع الحالات فإن مضمون هذه الآية يلتقي مع الآية السابقة رقم ١٢ ، وهي : «وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه». فهذه الآية تقول : ان الإنسان يذكر الله في العسر ، وينساه في اليسر ، والآية التي التي نفسرها تقول : إذا جعل الله عسر الإنسان يسرا مكر في آياته ، والمراد بهذا المكر انه يجحد آيات الله ، ويكذّب بأن الله سبحانه هو السبب في كشف الضر والبلوى عنه ، ويفسر هذا الكشف بأسباب لا أصل لها ولا أساس ، كالأصنام والكواكب والصدفة ، وما إلى ذلك من التفسيرات الفاسدة التي تختلف باختلاف الأشخاص وأوهامهم ومعتقداتهم.

(قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ). المراد بمكر الله تعالى انه يجازي الماكرين على مكرهم ، ويعد لهم العذاب الأليم من حيث لا يشعرون. وتكلمنا عن المراد بمكره تعالى مفصلا في ج ٢ ص ٦٨ عند تفسير الآية ٥٤ من سورة آل عمران ، والمراد بالرسل الكاتبين الملائكة ، والمعنى انه تعالى يحصي أعمال الماكرين ، ويجازيهم عليها بما يستحقون.

١٤٦

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي انه جلت حكمته وهب عباده القدرة على السير فيهما ، والغرض من هذه الاشارة التذكير بفضله وأنعمه لنكون له من الشاكرين .. سبحانك اللهم ما أبين كرمك على من أرضاك وأغضبك .. ومن الطريف قول أبي بكر المغافري في أحكام القرآن : ان هذه الآية تدل على ان ركوب البحر جائز وغير محرم ، وأطال الكلام في التدليل على جواز ركوب البحر ... وذهل عن القاعدة الشرعية التي يعرفها الجاهل والعالم بأن التحريم يحتاج إلى الدليل ، وليس الجواز.

(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). الريح تؤنث وتذكر لأنه تعالى وصفها بالطيبة وبالعاصف ، وهذه الآية تدل على ان الإنسان قد جبل بفطرته على الإيمان بالله لرجوعه اليه عند الشدائد .. انظر تفسير الآية ٤١ من سورة الأنعام ، فقرة : الله والفطرة. وذكر صاحب المنار عند تفسير هذه الآية ما نصه :

«كان المشركون لا يدعون عند الشدائد الا الله ربهم ، أما الكثير من مسلمي هذا الزمان بزعمهم فإنهم لا يدعون الله عند الشدائد ، وانما يدعون الأموات كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم ، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولا سيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم ، ويتأوله لهم بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره». ومثله تماما في تفسير المراغي.

وقرأت في الصحف المصرية ان المصريين يرمون أوراقا في ضريح الولي يشكون اليه فيها من خصومهم ، ويرجون الميت أن يقتص لهم ممن ظلمهم وأساء اليهم ، ونقلت طرفا من هذه الشكاوى في كتاب «من هنا وهناك» ، أما تدفق الجموع على قبر الولي للاحتفال بمولده فندع وصفه لجريدة «الجمهورية» المصرية عدد ١ ـ ١١ ـ ١٩٦٨ : «مثل يوم الحشر كانت الزحمة ، كتل بشرية متلاصقة ومتدافعة كأنها أمواج متلاطمة : أو كحقل مزروع بالبشر».

١٤٧

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). عاهدوا الله أن يتقوه ويشكروه إذا كشف عنهم ، ولما فعل نكثوا العهد ، وهذا تكرار للآية السابقة بتعبير آخر ، قال سبحانه في الآية السابقة : إذا لهم مكر في آياتنا ، وقال في هذه الآية : إذا هم يبغون في الأرض ، والمعنى واحد أو المعنيان متلازمان متشابكان ، والغاية إبراز عتوهم وتمردهم في أقبح الصور.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) لأن من سل سيف البغي قتل به (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). قد يفرح الباغي ويطرب من نشوة النصر ، ولكن الى حين ، ثم تأتي الزفرات والحسرات ، قال رسول الله (ص) : ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر ، ولا يحيق المكر السيء الا بأهله ، والنكث ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، والبغي ، يا أيها الناس انما بغيكم على أنفسكم.

مثل الحياة الدنيا الآية ٢٤ ـ ٢٥ :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

اللغة :

للزخرف معان ، منها الذهب ، ومنها حسن الشيء في مظهره. وغني بالمكان أقام فيه ، والمغاني المنازل. والمراد بدار السلام هنا الجنة.

١٤٨

المعنى :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ). الباء في (به) للسببية ، أي ان الدنيا التي تباهون بها وتفاخرون هي أشبه بمطر نزل على الأرض ، فأخصبت وأنبتت من كل زوج بهيج ، واختلط بعض نباتها ببعض لكثرته ونموه (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ). كل الأحياء عيال على الأرض تملأ بطونهم الجائعة ، فالناس يأكلون حب الزرع وثمر الشجر ، والدواب تأكل الحشائش وما اليها.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) كالعروس المجلوة انصرفت عن كل شيء ، وتفرغت ليتمتع العريس بها (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) ويملكون التصرف في ثرواتها ، ويملئون بها جيوبهم وخزائنهم ـ بعد هذا الوثوق والاطمئنان (أَتاها أَمْرُنا) وهو الهلاك والآفات (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) تماما كالأرض المحصودة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) بعد أن زال كل شيء حتى الآثار التي تخبر عما كان .. فيالنكد الطالع .. لقد خابت الآمال ، وتبخرت الأحلام.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في ان متاع الدنيا إلى زوال ، وان من ركن اليه وحدها فقد ركن إلى سراب ، وانه ليس بشيء تراق له الدماء ، وتثار من أجله الحروب ، وتسخر لها عقول العباقرة وكبار العلماء.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) قال المفسرون : المراد بدار السلام الجنة ، وليس من شك ان الجنة دار السعادة والسلام ، ولكن دعوة الله تعم كل عمل يحقق لعياله الأمن والراحة ، بل ان الله سبحانه حرم الجنة إلا على المتقين والعاملين في هذه السبيل (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). ان دعوة الله سبحانه لعمل الخير تشمل كل بالغ عاقل : دون استثناء ، فمن عصى وأهمل فهو الضال ومن أطاع وعمل فهو المهتدي ، ويصح أن تسند هدايته هذه إلى الله لأن الطريق الذي سلكه اليها كان بأمر الله وعنايته وتوفيقه ، أما ضلال من ضل فلا تصح نسبته اليه تعالى بحال ، لأنه قد نهاه عنه ، والله لا ينهى عبده عن عمل ثم يلجئه اليه إلجاء.

١٤٩

للذين أحسنوا الحسنى الآية ٢٦ ـ ٣٠ :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

اللغة :

يرهق وجوههم أي يغشاها ويغطيها. وقتر بفتح القاف والراء غبار أو دخان أسود ، والذلة الهوان ، والعاصم المانع. وزيّلنا فرّقنا وميّزنا.

الإعراب :

للذين أحسنوا خبر مقدم ، والحسنى مبتدأ مؤخر. والذين كسبوا مبتدأ ، وجزاء سيئة خبر ، وبمثلها متعلق بجزاء ، وقيل : جزاء مبتدأ ثان ، وبمثلها خبره. وقطعا مفعول ثان لأغشيت لأنها بمعنى ألبست. ومظلما صفة لقطع ، وقيل حال.

١٥٠

وجميعا حال من ضمير نحشرهم. ومكانكم في محل نصب قام مقام فعل الأمر أي الزموا. وأنتم توكيد للضمير في الزموا. وكفى بالله الباء زائدة ، والله فاعل ، وشهيدا حال ، ويجوز أن يكون تمييزا على معنى من شهيد. وان كنا (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها (نا) محذوف وجملة كنا خبر ، واللام في لغافلين للفرق بين ان النافية والمخففة. وهنالك ظرف زمان منصوب بتبلو. ومولاهم بدل من الله ، والحق صفة.

المعنى :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال الرازي : نظير هذه الآية قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). ويلاحظ بأن الإحسان يختص بالتفضل على الغير ، والحسن ما كان محبوبا للفطرة سواء أكان تفضلا ، أم لم يكن ، ويدخل فيه حسن العقيدة ، وحسن القول والفعل ، ونية الخير ، بل والشعور بالذنب ، فكل هذه محبوبة لله وللفطرة ، وهو سبحانه يكافئ عليها بالحسنى ، اذن ، فالآية نظير قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) ـ ٢٣ الشورى». واختلف المفسرون في معنى الزيادة ، لأنها ان كانت من نوع الحسنى فما هي بزيادة ، وان كانت غيرها فالكلمة مبهمة ، والذي نفهمه نحن ان المراد بالزيادة هنا انه جل ثناؤه يثيب الذين أحسنوا بأكثر مما يستحقون ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ـ ١٧٢ النساء». فعطف الزيادة على توفية الأجور دليل على ما قلناه.

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). كل ما في القلب من حزن وسرور ، وأمن وخوف ينعكس أثره في الوجه بوضوح ، ولكن أثر الخوف والقلق أظهر أثرا فيه من غيره ، بخاصة وجوه أهل النار إذا عاينوها ، فإنها تسود من الرعب ، حتى كأنها مغطاة بدخان ، أو بغبار أسود ، أما أهل الجنة فوجوههم ضاحكة مستبشرة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) ـ ٤٠ عبس» ، أي تغطيها غبرة سوداء.

١٥١

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها). ان الله عادل يجزي من أساء بما يستحق ، ولا يظلمه مثقال ذرة ، بل ويعفو عن كثير ، لأنه كريم ، ولجوده وكرمه يضاعف لمن أحسن أضعافا كثيرة (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي ترهق المسيئين ذلة الفضيحة وكسوف الخزي ، ولا أحد أذل وأخزى ممن يفتضح على رؤوس الأشهاد (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يمنع عنهم سخط الله وعذابه.

(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). بعد أن قال سبحانه : ان الذين أحسنوا لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة قال : ان الذين أساءوا تسود وجوههم حتى كأنها قطعة من الليل البهيم. قال الإمام علي (ع) : ما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الذين أحسنوا والذين أساءوا (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ). يقف غدا للحساب في موقف واحد المشركون والذين كانوا يزعمونهم شركاء لله ، ويتقابلون وجها لوجه ليدلي كل فريق بحجته فتخيب آمال المشركين فيمن كانوا يأملون بهم ، ويرجون منهم النفع في هذا الموقف ، ويتبين لهم انهم كانوا على ضلال في شركهم وعنادهم لرسل الله وكتبه.

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ان الله سبحانه يميز يوم الحساب بين جميع خلقه بصفاتهم التي هم فيها وعليها ، ويظهر كل واحد على حقيقته ، وعندها يتبين للمشركين انه لا أحد يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، وان الأمر لله وحده لا شريك له ولا ند (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) حين أوقف الله المشركين والذين يعبدون في موقف واحد ، وقابل بينهم وجها لوجه ، قال هؤلاء لأولئك : ما كنتم لنا عابدين ، وانما خيل ذلك إليكم ، وصوّرت لكم الأوهام ان لله شركاء واننا نحن أولئك الشركاء الذين لا وجود لهم الا في مخيلتكم ، فأنتم في الحقيقة تعبدون لا شيء ، ونحن شيء ، اذن لستم لنا بعابدين (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فهو يعلم انكم اخترعتم في أوهامكم شركاء لا وجود لهم ، وأيضا يعلم ببراءتنا من شرككم (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) لا نعرف عنها شيئا ، وفيه إيماء الى نفي الأهلية عنهم للعبادة ، وانهم عبيد وليسوا بمعبودين.

١٥٢

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). أي انه تعالى يجمع الناس للحساب ، ويجزي كل نفس بما كسبت ، ولا تجد شيئا مما كانت تعتقده وتتوهمه ينفعها ويدفع عنها الا العمل الخالص لوجه الله وحده .. وقد تكرر هذا المعنى بأساليب شتى في العديد من الآيات.

من يرزقكم من السماء والأرض الآية ٣١ ـ ٣٤ :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤))

اللغة :

تصرفون من الصرف عن الشيء إلى غيره ، أي كيف تعدلون عن التوحيد إلى الشرك. وهذا المعنى هو المراد من قوله : فأنى تؤفكون.

الإعراب :

فأنّى تصرفون (أنى) مجرورة بإلى محذوفة أي الى أين تصرفون ، والعامل

١٥٣

الفعل المذكور ، ومثلها فأنّى تؤفكون. والمصدر المنسبك من أنهم وخبرها مجرور باللام المحذوفة ، والعامل حقت أي حقت كلمة ربك عليهم لعدم إيمانهم.

المعنى :

أركان الإيمان الحق عند الله ثلاثة : الوحدانية ، والنبوة ، والبعث ، وعرض القرآن ألوانا من الأدلة على هذه الأركان ، وسبق بيانها مفصلا ، والآيات التي نفسرها الآن والتي بعدها من هذا الباب ، لأنها وردت لإبطال الشرك وزعم المشركين بأن أصنامهم تقربهم من الله زلفى ، وانه لا بعث ولا حساب ، وان القرآن افتراه محمد على الله .. وفيما يلي إبطال هذه المزاعم:

١ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). كل سبب من أسباب الرزق قريبا كان أو بعيدا لا بد أن يكون سماويا أو أرضيا ، فمن الأسباب السماوية المطر والضياء وغيرهما مما اكتشفه العلماء أو يكتشفونه في المستقبل القريب أو البعيد ، ومن الأسباب الأرضية النبات والحيوان والمعادن ، وجميع الأسباب ترجع الى الله وحده بواسطة السنن والنواميس الكونية ، لأنه تعالى هو خالق الكون ، والمشركون يعترفون بهذه الحقيقة ، ويقرون بأن الله هو الخالق الرازق .. وهنا يأتي السؤال ، ويرد عليهم هذا الاشكال : ما دمتم تعتقدون أيها المشركون بأن الله هو الخالق الرازق فكيف تجعلون له شركاء؟. وكيف يكون الشيء شريكا مع العلم بأنه لا أثر له على الإطلاق؟. وهل يصح أن تكون شريكي أيها القارئ ـ في تأليف هذا الكتاب ، وأنا الذي فكرت وصبرت وكتبت؟ .. وقد بسطنا القول في هذا الموضوع ، وذكرنا الأدلة الكافية على بطلان الشرك وفساده في ج ٢ ص ٣٤٤ عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء.

٢ ـ (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) خص سبحانه هاتين الحاستين بالذكر لأنهما الوسيلة الأولى لتحصيل العلوم ، حتى النظرية منها ، لأنها تنتهي إلى الحس والمشاهدة. وقال الرازي عند تفسير الآية : «كان علي رضي الله عنه يقول : سبحان من بصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وانطق بلحم».

١٥٤

٣ ـ (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي يملك الموت والحياة ، ومن أمثلة خروج الحي من الميت ما يأكله الحيوان ويمر بمعدته وامعائه وتجري عليه جميع عمليات التحليل ، وبالنهاية تتكوّن منه خلايا جديدة بدلا من الخلايا القديمة ، ومن أمثلة خروج الميت من الحي موت الخلايا التي يتخلص منها الجسم الحي بالتنفس والافراز. وتكلمنا عن الحياة عند تفسير الآية ٩٥ من سورة الأنعام ، فقرة : «من أين جاءت الحياة».

٤ ـ (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في الكون كله بما فيه ومن فيه (فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله وتخافونه فيما اخترعتم له من شركاء؟ .. انهم لا ينكرون ان الله وحده هو الذي يرزق ويملك السمع والبصر والموت والحياة والأمر كله ، ولكنهم يجعلون لله شركاء .. أما سر هذا التناقض فهو انهم نظروا الى الخالق نظرة موضوعية فآمنوا بأنه المكوّن والمصور ، ثم نظروا الى ما يقربهم منه زلفى نظرة عاطفية ذاتية فأخطأوا الواقع ، فبدلا أن يتقربوا اليه بالعمل والإخلاص اخترعوا له في أوهامهم شركاء ، وتقربوا بهم اليه.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أبدا لا واسطة بينهما اما حق وهدى واما باطل وضلال ، والله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض بالحق وفيهما أسباب الرزق ، وخلق السمع والبصر بالحق ، وهما طريق العلم : وهو يملك الموت والحياة بالحق ، وهذا الملك دليل القدرة والعظمة ، وهو يدبر الأمر بالحق ، وهذا التدبير يدل على العلم والحكمة .. فأي شيء بعد هذا الا الضلال والباطل والجهل والعناد (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) تاركين الحق الى الضلال ، والتوحيد الى الشرك.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). كذلك اشارة الى ما تقدم من انه ليس بعد الحق الا الضلال ، والمراد بكلمة ربك هنا العذاب كقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) ـ ٧١ الزمر» ، والمراد بالذين فسقوا المشركون ، والمعنى ان الله سيعاقب المشركين عقاب من عاند الحق ورفض الايمان به بحال من الأحوال ، لأن هذا هو شأنهم في الواقع ، فلقد دعوا الى التوحيد ، وقامت عليه عندهم الدلائل والبينات ، ومع ذلك أصروا على الشرك وماتوا عليه.

١٥٥

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي قل يا محمد للمشركين : ان الله يخلق الشيء من لا شيء ، ويعيد الحياة لمن مات ، فهل يقدر شركاؤكم على ذلك؟ وإذا عجزوا عنه فكيف تتحولون عن التوحيد الى الشرك؟

وتسأل : لقد عرفنا وجه الاحتجاج على المشركين بأن الله يبدأ الخلق لأنهم يعترفون بذلك ، أما الاحتجاج عليهم بإعادته فلم نعرف له وجها لأن المشركين ينكرون الاعادة والحشر والنشر؟.

الجواب : لقد أقام القرآن في العديد من آياته الحجج الكافية الوافية على الاعادة والحشر والنشر ، وعجز المشركون عن ردها والطعن فيها ، وعجزهم هذا هو الوجه في إلزامهم والاحتجاج عليهم بأن الله يعيد الخلق كما بدأه أول مرة. وبكلمة ان الحكم يرتكز على الدليل ، لا على تسليم الخصم به.

من يهدي الى الحق الآية ٣٥ ـ ٣٩ :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ

١٥٦

كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

الإعراب :

هل من شركائكم (من) هنا للتبعيض أي هل بعض شركائكم. ومن يهدي الى الحق (يهدي) وهدى تتعدى الى مفعولين ، الى الأول بنفسها والى الثاني بواسطة الى أو اللام ، والمفعول الأول هنا محذوف أي من يهدي أحدا الى الحق. والله يهدي للحق تقديره يهدي من يشاء للحق. وأحق هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعنى حقيق. والمصدر المنسبك من يتبع مجرور بياء محذوفة أي حقيق بالاتباع. والمصدر المنسبك من أن يهدى في محل نصب على الاستثناء. وأمن لا يهدّي بفتح الياء وتشديد الدال معناه لا يهتدي في نفسه. فما لكم مبتدأ وخبر ، وكيف في محل نصب بتحكمون. وشيئا في قوله : «لا يغني من الحق شيئا» مفعول مطلق. «وما كان هذا القرآن» هذا اسم كان والقرآن عطف بيان ، والمصدر المنسبك من أن يفترى خبر كان أي ما كان هذا القرآن افتراء ، وتصديق بالنصب خبر كان محذوفة أي ولكن كان القرآن تصديق ، وتفصيل الكتاب عطف على تصديق. وام يقولون (ام) منقطعة أي أيقولون. ولما يأتهم أي لم يأتهم. وكيف خبر كان مقدم ، وعاقبة اسمها مؤخر.

المعنى :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ). تضمنت هذه الآية الرد على من يعبد مع الله إلها آخر ، ووجه الرد ان أول صفة يجب أن يتحلى بها المعبود أن يكون هاديا الى الحق بذاته ، دون أن يستمد الهداية من غيره ، أما من لا يهدي الى الحق فلا يصلح للألوهية بحال .. وهذه حقيقة لا تقبل الجدال والنقاش ،

١٥٧

ولذا أمر الله نبيه محمدا (ص) أن يحتج بها على المشركين ، ويلقي عليهم هذا السؤال المحرج: هل يوجد واحد من أصنامكم هذه التي تعبدونها من يهدي الى الحق؟. وليس من شك انهم لم يجرءوا على الجواب لأن أصنامهم أحجار صماء نحتوها بأيديهم. وبما ان النبي (ص) يملك الدليل القاطع على ان الله يهدي الى الحق وجّه الله اليه هذا الأمر :

(قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) دون غيره ، وهدايته ذاتية غير مكتسبة ، والدليل على ان الله يهدي الى الحق الرسل الذين أرسلهم الى عباده مبشرين ومنذرين ، والكتب التي أنزلها عليهم ، وفيها الآيات البينات التي ترشد الناس الى خيرهم وسعادتهم ، وهذا محمد يقابل المشركين والجاحدين وجها لوجه ، ويتحداهم بالقرآن الذي فيه تبيان كل شيء ، فأين هي رسل شركائكم أيها المشركون وكتبها؟. ولو كان لله شريك لجاءتنا رسله.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليس الغرض من ذلك المقارنة بين الله جلت كلمته وبين الأصنام ، كلا .. وإنما القصد إيقاظ المشركين وتنبيههم إلى جهلهم وضلالهم عسى أن يؤوبوا الى رشدهم ، ويرجعوا عن غيهم.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى). أحق هنا بمعنى حقيق وجدير ، و (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) بتشديد الدال معناها لا يهتدي .. بعد أن ذكر سبحانه ان الله يهدي الى الحق ، وان غيره لا يهدي الى الحق ، بعد هذه المقدمة أوضح نتيجتها ، وهي ان الله وحده هو الذي يجب أن يتبع دون غيره ، وأشار الى هذه النتيجة بهذا السؤال الذي يحمل معه الجواب : أيهما يجب اتباعه والاهتداء بهديه : الله الهادي بذاته ، أم شركاؤكم التي لا تهتدي إلا بمعلم ومرشد؟.

وتسأل : ان مشركي مكة المخاطبين بهذا السؤال كانوا يعبدون الأصنام ، وهي أحجار لا تهتدي وان حاول المعلمون والمرشدون هدايتها ، فما هو الوجه لقوله تعالى : الا ان يهدى؟.

وأجاب المفسرون بأن هذا على سبيل الفرض ، أي لو افترض ـ جدلا ـ أن أصنامكم أيها المشركون تهتدي ان هديت فهي لا تصلح أن تهدي إلى الحق ،

١٥٨

ومن كان كذلك فلا يكون إلها .. والأولى في الجواب ان الآية وردت للرد على جميع المشركين ، لا على مشركي مكة فقط الذين يعبدون الأحجار بل عليهم ، وعلى من يعبد إنسانا أو ملكا من الملائكة ، وعلى هذا يكون معنى الآية ان كل من لا يهدي إلى الحق بذاته فهو لا يصلح للألوهية ، سواء أكان فاقد الأهلية والاستعداد للهداية كالحجر أم كان قابلا لأن يهتدي بواسطة المعلم والمرشد كالإنسان والملك. (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وتؤمنون بالخرافات والضلالات ، مع الأدلة الواضحة على فسادها وبطلانها؟.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الضمير في أكثرهم يعود إلى المشركين ، وأخرج بعضهم ، لأن فئة من المشركين كانوا يعتقدون بصدق محمد ونبوته ، ويعلمون علم اليقين بأن أصنامهم ليست بشيء ، ولكنهم عاندوا وكابروا حرصا على منافعهم وامتيازاتهم ، أما الأكثرية الغالبة من المشركين فقد كانوا يعبدون الأصنام تقليدا للآباء .. وعبّر سبحانه عن عبادتهم لها بالظن مع انهم كانوا على يقين بأنها تضر وتنفع ، لأن يقينهم هذا لا يستند إلى أساس صحيح ، وكل يقين يستند الى التقليد وما اليه يجوز التعبير عنه بالظن ، وتكلمنا عن التقليد مفصلا في ج ١ ص ٢٥٩ عند تفسير الآية ١٧٠ من سورة البقرة.

(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ليس المراد بالظن هنا عدم القطع والجزم ، كما يبدو للوهلة الأولى ، وإنما المراد به الإيمان بأصل من أصول الدين ، أو بفرع من فروعه بلا دليل من العقل أو الوحي ، حتى ولو بلغ هذا الإيمان مبلغ القطع والجزم ، كتقليد المشركين في عبادة الأصنام ، والحاد الملحدين قبل أن ينظروا ويبحثوا عن سبب الكون ووجوده ، وما فيه من نظام وانسجام ، وهل كان بالصدفة أو بتدبير عليم حكيم؟.

وهذه الآية واضحة الدلالة على نفي القياس وبطلانه فيما يرجع إلى القضايا الدينية ، لأنه عمل بالظن الذي لا يغني عن الحق في أصول العقيدة ، وأحكام الشريعة.

أما القضايا الزمنية ، والشؤون الدنيوية فخارجة عن موضوع الآية. وكيف ينهى الله عن اتباع الظن في الزراعة والتجارة والعلاقات الاجتماعية؟ .. ولو وقف الناس في كل شيء عند العلم واليقين فقط لتعطلت الحياة .. أجل ، لا يجوز

١٥٩

إدانة أحد بشيء وتجريمه والشهادة عليه إلا بعد العلم ، والسر هو الحرص على أن تسبر الحياة في طريقها القويم ، وبالاختصار ان اتباع الظن حتم في موارد ، ونهي في موارد ، وصاحبه بالخيار في موارد أخرى .. ومن أحب معرفة التفاصيل فليرجع إلى كتاب فرائد الأصول المعروف بالرسائل للشيخ العظيم الأنصاري ، فقد تعمق في بحثه ، واستغرق حوالى ١٥٠ صفحة بالقياس الكبير.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ). هذا تهديد للمشركين الذين اتبعوا الظن في عبادة الأصنام وتكذيب النبي (ص) دون أن يقيسوا ظنهم هذا بمقياس الفطرة والعقل ، وهو أيضا تهديد لكل من يتبع الظن في أمر من أمور الدين.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) لاعجازه في الأسلوب ، ولما فيه من علوم وشريعة انسانية ، وآداب اجتماعية ، وإخبار بالغيب ، وما الى ذلك مما يستحيل معه ان يكون من عند غير الله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مما تقدمه من الكتب الإلهية (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) المراد بالكتاب هنا كل ما شرّعه الله مما يحتاجه الإنسان لسعادته دنيا وآخرة (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا ينبغي لعاقل ان يرتاب في كتاب الله ، وقد حوى من المعجزات والآيات ما تذعن له الفطرة الصافية والعقل السليم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). سبق نظيره مع التفسير المفصل في سورة البقرة الآية ٢٣ ج ١ ص ٦٤.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) هذا هو شأن الجاهل الأرعن يسرع الى التصديق أو التكذيب قبل أن يتأمل ويتدبر ، وفي قوله : (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) اشارة الى ان العاقل لا يثبت شيئا ولا ينفيه الا بعد أن يدرسه بروية وهدوء دراسة شاملة كاملة من جميع جهاته (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ان المشركين كذبوا بالقرآن قبل أن يعرفوا ما فيه من حقائق وأسرار ، ولو انهم عقلوا تعاليمه وأحكامه لصدقوا به إن كانوا من طلاب الحقيقة.

وجاء في مجمع البيان : «قيل : ان أمير المؤمنين علي (ع) أخذ من هذه الآية قوله : الناس أعداء ما جهلوا ، وأخذ قوله : قيمة كل امرئ ما يحسن

١٦٠