التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

الحرب في هذا العصر وضع كتابا في أسباب النصر لما كان الا شرحا لهذه الكلمات الموجزة التي نطق بها الإمام زين العابدين وسيد الساجدين.

واذا ما انزلت سورة الآية ١٢٤ ـ ١٢٧ :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

الإعراب :

إذا ما (ما) زائدة. وأما بفتح الهمزة ، وتشديد الميم حرف شرط وتفصيل ، ويجب أن يربط جوابها بالفاء. وإيمانا تمييز. وهل يراكم من أحد الجملة مفعول لقول محذوف أي يقولون : هل يراكم من أحد ، ومن زائدة ، وأحد فاعل.

المعنى :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً). ضمير منهم يعود إلى المنافقين ، والمعنى ان بعض المنافقين كانوا يستخفون بالقرآن ، ويتساءلون :

١٢١

أي عجب في هذا؟. فيجعلون من أنفسهم التي سودتها المطامع والآثام مقياسا للحق والصدق .. والغريب ان المشركين كانوا يعترفون بعظمة القرآن وتأثيره البالغ في النفوس ، ويوصي بعضهم بعضا بعدم الاستماع اليه مخافة أن يجذبهم الى الإسلام من حيث لا يشعرون : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ـ ٢٦ فصلت». وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان النفاق اسوأ أثرا ، وأشد جرما من الشرك.

وأجاب سبحانه المنافقين بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي إذا لم تجدوا أيها المنافقون في نفوسكم أثرا طيبا لسور القرآن وآياته بعد أن طبعت عليها الأهواء والأغراض فإن المؤمنين يزدادون بها هدى ويقينا لأن نفوسهم نقية زاكية لم تدنسها الأقذار والأرجاس كنفوسكم (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) كلما نزلت سورة أو آية من القرآن لأنها تبشرهم بالجنة ، وترشدهم الى الطريق القويم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ). كل من ابتعد عن الحق والواقع واستمد إيمانه وآراءه من ذاته وتصوراته فهو مريض القلب والعقل ، وإذا دعي إلى النزول على حكم الواقع ورفض ـ ازداد مرضه وتفاقم .. والنفاق مرض لأنه تزييف وتحريف ، والمنافق يزداد مرضا كلما أوغل في الجحود والعناد للحق وآياته .. وينطبق على المنافق الحديث الذي يشبه الحريص على الدنيا مثل دودة القز ، كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج ، حتى تموت غما (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) بسوء اختيارهم ، تماما كما ماتت دودة القز بصنع يديها.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ). المراد بالفتنة هنا افتضاح المنافقين وإظهار أمرهم لدى الجميع ، وتتصل هذه الآية بالآية التي قبلها وهي (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) الخ) ووجه الاتصال ان المنافقين كانوا يبيتون الشر للنبي (ص) ، ويطعنون به ، من ذلك قولهم : هو أذن ـ كما سبق ـ وكان الله سبحانه يخبر نبيه الأكرم بما يبيتون ويطعنون ، والنبي (ص) يعاتبهم ويفضحهم ، وقد تكرر هذا في كل عام مرة أو أكثر ، وفيه دلالة قاطعة على صدق الرسول ، وان القرآن من عند الله ، فكان عليهم أن يتعظوا ويؤمنوا ، ولا يقولوا ساخرين ومستهزئين : أيكم زادته هذه إيمانا .. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ

١٢٢

وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) وما يذكر إلا أولو الألباب ، وقد أعمت الشهوات قلوبهم وألبابهم.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ). هذا هو شأن المنافقين في كل زمان ومكان ، إذا عجزوا عن مجابهة الحق ، ومواجهة الحجة بالحجة ، تسارقوا النظر وتغامزوا وتضاحكوا معبرين بذلك عن رسوخهم في الكفر والضلالة ، وعدم الارعواء عن الباطل .. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي يقولون هذا بلسان المقال أو الحال : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) ـ ١٠٧ النساء».

(ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي فعلوا فعلتهم وانصرفوا إلى شأنهم غافلين عن جريمتهم كأن لم يفعلوا شيئا (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). صرف الله قلوبهم عن الحق بعد أن أقام عليه الحجج والبينات ، وبعد ان عاندوه ورفضوا التسليم له ، فهم السبب المباشر للصرف ، وأسند الى الله بواسطتهم ، وقد جرت عادة القرآن الكريم ان يضيف الى الله الكثير من أفعال عباده بالنظر الى انه خالقهم والمتصرف في الكون وأشيائه.

بالمؤمنين رؤوف رحيم الآية ١٢٨ ـ ١٢٩ :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

اللغة :

عزيز عليه أي شاقّ عليه. والعنت الشدة والمشقة. والحرص على الشيء الشح به لشديد الرغبة فيه.

١٢٣

الإعراب :

عزيز صفة للرسول. وما عنتم (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك فاعل لعزيز. وحريص ورؤوف ورحيم صفات مثل عزيز ، وبالمؤمنين متعلق برءوف. وحسبي بمعنى كافيني مبتدأ ولفظ الجلالة فاعل ساد مسد الخبر ، ويجوز أن يكون حسبي خبرا مقدما ، والله مبتدأ.

المعنى :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) هذا الخطاب موجه لكل آدمي يبحث عن الحقيقة ، ويريد الهداية اليها ، والرسول هو محمد بن عبد الله (ص) بعثه الله للبشرية جمعاء ، لينقذها من الجهالة والضلالة ، ويرشدها الى طريق الحق والخير ، وما على من يبتغيهما الا ان ينظر بوعي وتجرد الى سيرة محمد (ص) وسنته والكتاب الذي جاء به من عند الله ، فلقد آمن به مئات الملايين قديما وحديثا ، وفيهم العلماء والفلاسفة الذين تركوا دين الآباء والأجداد واعتنقوا الإسلام بعد ان ارتاحت اليه عقولهم وقلوبهم ، وبعد أن رأوا نبيه الأكرم كما وصفه الله بقوله :

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). عزيز عليه ان يلقى كائن على وجه الأرض مكروها ، حتى ولو كان حيوانا ، حريص على هداية كل الناس وسعادتهم وصلاح شأنهم ، أما رأفته ورحمته فقد عمت الناس أجمعين : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ ١٠٧ الأنبياء». ومن أحاديثه : «أنا رجمة مهداة .. الراحمون يرحمهم الله .. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

وتسأل : قال سبحانه في هذه الآية : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال في سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي المؤمنين وغير المؤمنين ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : ان المراد بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ان دين محمد هو دين الانسانية ، وشريعته رحمة بكل الناس لو اتبعوها وعملوا بها لملأت الأرض خيرا وعدلا ، أما قوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فمعناه انه شديد الرأفة

١٢٤

والرحمة بمن آمن بالحق ، وكف أذاه عن الناس ، أما من يعتدي عليهم ، ويعبث بحق من حقوقهم فإنه يقسو عليه قسوته على الباطل والفساد ، ولا تأخذه فيه هوادة ورأفة ، وهذا هو دين الانسانية والرحمة ، فقد نهى سبحانه عن الرأفة في اقامة الحدود على المجرمين ، قال تعالى: (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) ـ ٢ النور».

وقال ابن العربي في الجزء الرابع من «الفتوحات المكية» : المراد بالمؤمنين من آمن بالحق وبالباطل ، لا خصوص من آمن بالحق .. وهذه شطحة صوفية.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). هذه هي مهمة الرسول : التبليغ ، وكفى. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، وكان النبي (ص) على يقين قاطع بأن الله كافيه ومقويه بنصره وعنايته ، لأنه توكل عليه وحده لا إله إلا هو .. ونختم هذه السورة بما ختمها صاحب تفسير المنار ، قال :

«أما اصطفاؤه تعالى لبني هاشم على قريش فقد كان بما امتازوا به من الفضائل والمكارم ، فهاشم هو صاحب إيلاف قريش الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم على حمايتهم في رحلة الصيف الى الشام ، ومن حكومة اليمن في رحلة الشتاء ، وهو أول من هشم الثريد للفقراء من قومه ولأهل موسم الحج كافة ، وقد أربى عليه بالسخاء والكرم ولده عبد المطلب. وجملة القول ان بني هاشم كانوا أكرم قريش أخلاقا ، وأبعدهم عن الكبر والأثرة ، لا ينازعهم احد في ذلك».

وفي بعض الروايات ان آخر آية نزلت من السماء قوله تعالى :

(حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

١٢٥
١٢٦

سورة يونس

١٢٧
١٢٨

سورة يونس

مكية ، وآياتها ١٠٩ ، وقيل : ان ثلاث آيات منها أو أربعا مدنية ، وموضوعها كموضوعات السور المكية يدور على اثبات أصول العقيدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آيات الكتاب الحكيم الآية ١ ـ ٢ :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

اللغة :

الآية العلامة. والمراد بالكتاب هنا القرآن. ويستعمل الحكيم بمعنى الحاكم والمحكم وذي الحكمة ، وهذا المعنى أظهر. وقدم صدق أي سابقة حسنة.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان أوحينا اسم كان ، وعجبا خبرها ، وللناس حال من العجب. وان انذر (ان) مفسرة بمعنى أي. والمصدر المنسبك من انّ لهم قدم صدق مجرور بالباء المحذوفة ، ويتعلق ببشر.

١٢٩

المعنى :

(الر) سبق الكلام عن هذه الحروف في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ). تلك إشارة الى أن كل آية من آيات القرآن تشتمل على الحكمة وفصل الخطاب.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ). لقد استكثر الجاحدون ان يتصل الله بعبد من عباده ، ويصطفيه من دونهم .. ولهذا الاستبعاد أسبابه :

أولها : انهم قاسوا محمدا (ص) على أنفسهم ، فإذا لم يتصل الله بهم فينبغي ان لا يتصل بغيرهم .. ونجد الجواب عن ذلك في الآية ١٢٤ من الأنعام : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) اي ان لمحمد (ص) من الصفات والمكرمات ما يؤهله للرسالة من دونهم.

ثانيها : انهم جهلوا نوع الاتصال بالله ، وحسبوا ان اتصاله تعالى بمحمد ، تماما كاتصال بعضهم ببعض ، وهذا ما ترفضه العقول .. ونجد الجواب عن هذا الوهم في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) ـ ٥١ الشورى».

ثالثها : وهو الأهم ، ان محمدا (ص) قد جاءهم بما لا يعتقدون ولا يألفون : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ـ ٢٤ المؤمنون» .. والجواب قوله تعالى : (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ـ ٥٤ الأنبياء».

(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ). بعد ان بيّن سبحانه عجب الكافرين من الوحي الى محمد (ص) بيّن حقيقة ما أوحى به اليه ، وانه إنذار وتبشير ، إنذار لمن خالف وعصى أمر الله بالعذاب الأليم ، وتبشير لمن امتثل وأطاع بالثواب الجزيل ، وعبّر عن هذا الثواب بقوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ). وإذا كان هذا هو الوحي أو الموحى به ، وكان محمد (ص) أهلا لتحمله وتبليغه فأين مكان العجب؟. ان الله سبحانه لا يترك الناس من غير رسول أمين يبلغهم عنه ما يريده لهم من الخير ، ويكرهه من الشر ، ليجتنبوا هذا ، ويفعلوا ذلك ، ولكيلا تكون لهم الحجة عليه لو خالفوا ،

١٣٠

ومحمد (ص) هو الأمين على هذه الرسالة والتبليغ من دون الناس ، فوجب أن يكون هو الرسول المبلّغ عن الله من دونهم.

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ). وصفوا محمدا (ص) بالساحر ، لأنهم أنكروا ان يكون القرآن وحيا من الله ، وأيضا عجزوا ان يأتوا بسورة من مثله ، فلم يبق في زعمهم إلا السحر .. وجهلوا أو تجاهلوا ان كل ما في القرآن حقائق لا ريب فيها ، وان السحر كواذب لا تبتنى على أساس.

الخلق في ستة ايام الآية ٣ ـ ٤ :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

الإعراب :

جملة يدبر حال من الضمير في استوى. وما من شفيع (من) زائدة وشفيع مبتدأ ، ومن بعد اذنه (من) زائدة. وجميعا حال من الضمير في مرجعكم. وعد الله منصوب على المصدر. ومثله حقا. وبما كانوا متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف اي ذلك بما كانوا.

١٣١

المعنى :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ). ان ايام الله تعالى ليست كأيامنا هذه ، ومن اين تأتي الأيام قبل ان يوجد الكون؟. اذن ، فالمراد بالأيام هنا الدفعات او الأطوار ، اما العرش فالمراد به الاستيلاء ، وتقدمت هذه الآية مع تفسيرها في سورة الأعراف الآية ٥٤.

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) هذا كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ـ ٢٥٥ البقرة» ، وتفسيره في ج ١ ص ٣٩٤.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) لأنه هو الذي يستحق العبادة ، اما المال والأنساب والسلطان فليست بآلهة تعبد ، ولا قوة يخضع لها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) اي أفلا تعقلون بأن الله وحده هو الجدير بالطاعة والعبادة.

الحساب والجزاء حتم :

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). ان مسألة بداية الخلق وإعادته هي احدى المشكلات الفلسفية الكبرى .. فبعض الناس يقولون : ان الكون وجد من تلقاء نفسه ومن غير موجد .. وهؤلاء أشبه بمن رأى كلاما مكتوبا ، فقال : انه وجد صدفة ، لا لشيء الا لأنه لم ير الكاتب رأي العين. ان الذي خطّ سطور الكون أعظم بكثير من الذي خط حبرا على ورق ، والعيون احقر من ان تراه ، ورأته العقول من الطرق التي تؤدي حتما الى الايمان .. وقد وضعنا في هذه الطرق كتابين : «الله والعقل» و «وفلسفة المبدأ والمعاد» ، ولخصنا بعضها في ج ١ ص ٥٩ وج ٢ ص ٢٣٠ من هذا التفسير.

اما بعث الأموات واعادتهم ثانية للحساب والجزاء فقد نزل به الوحي ، ولا يأباه العقل فوجب التصديق والايمان به.

وقد بيّن سبحانه الحكمة من اعادة الموتى بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ). أقدر الله سبحانه الإنسان على الفعل ، ومنحه عقلا يميز به بين

١٣٢

الخير والشر ، ونهاه عن هذا ، وأمره بذاك ، فأطاعه من أطاع ، وعصاه من عصى ، ثم مضى كل الى حفرته ، دون ان يثاب المطيع ويعاقب العاصي ، بل ان كثيرا من العصاة طغوا وبغوا ، وملأوا الأرض ظلما وجورا ، ولم يحاسبهم محاسب ، ويسألهم سائل ، فإن افترض انه لا بعث ولا حساب غدا فمعنى هذا ان الظالم والمظلوم ، والمؤمن والكافر عند الله سواء ، بل الكافر به خير وأفضل عنده من المؤمن ، والطاغية المفسد أكرم على الله ممن استشهد في سبيل مرضاته .. ولا شك في ان هذا يتنافى مع عدل الله وحكمته وقدرته ، بل ومع وجوده .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. وقد رأينا كثيرا من المظلومين يصرخون من الأعماق قائلين : لو كان الله موجودا لما أبقى طاغية على وجه الأرض .. وليس هذا القول الا انعكاسا عن غريزة الايمان بوجود عادل قادر يقتص للمظلوم من الظالم ، ولكنهم تعجلوا القصاص لحرقة الألم ، وذهلوا عن فطرتهم التي فطرهم الله (١) فقالوا ما قالوا.

كتبت في اثبات البعث والحساب والجزاء مؤلفات ومقالات وعند تفسير الآيات المتصلة بذلك ، وتعيدني اليه الآن الآية التي أفسرها ، وقد اوحت إليّ بأن أقوى الأدلة على ثبوت البعث قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ ١٧ غافر». وهي بمعنى الآية التي نفسرها ، ولكنها أوضح .. انها تحمل برهانها معها ، وتدل على نفسها بنفسها .. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت. ولما ذا؟ لأنه لا ظلم عند الله ، بل هو سريع الحساب. والتحليل العقلي لهذه القضية انه لو لا هذا اليوم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت لكان الله ظالما ، ووجوده نقمة ، وتكليفه عبثا .. سبحانه وتعالى عما يصفون .. والنتيجة الحتمية لهذا المنطق ان كل من أنكر البعث والحساب والجزاء فقد أنكر وجود الله من حيث يريد أو لا يريد.

__________________

(١). انظر تفسير الآية ٤١ من الأنعام ، فقرة «الله والفطرة».

١٣٣

عدد السنين والحساب الآية ٥ ـ ١٠ :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

اللغة :

قدّر الشيء جعله على مقدار معين. والغفلة النسيان. والمراد بدعواهم هنا دعاؤهم.

الإعراب :

الياء في ضياء منقلبة عن واو لأن الأصل ضوء. وقدره بمعنى صيّره ، والهاء مفعول أول ، ومنازل مفعول ثان. لآيات لقوم يتقون (آيات) اسم ان مؤخر ، وفي اختلاف الليل خبر مقدم. أولئك مأواهم النار فأولئك مبتدأ أول ، ومأواهم

١٣٤

مبتدأ ثان ، والنار خبره ، والجملة من الثاني وخبره خبر الأول ، والأول وخبره خبر ان الذين لا يرجون. ودعواهم مبتدأ ، وسبحانك منصوب على المصدر وهو ساد مسد الخبر ، أو ان خبر المبتدأ محذوف تقديره قولهم سبحانك. وان الحمد (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، أي انه الحمد ، والجملة خبر آخر ودعواهم مجرور بالاضافة.

المعنى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً). قيل : ان الضياء والنور كلمتان مترادفتان تعبّر ان عن معنى واحد. وقيل : ان معنى كل يختلف عن معنى الأخرى ، فكلمة الضوء تدل على ما كان نوره ذاتيا ، وليس مستمدا من غيره كضوء الشمس ، وكلمة النور تدل على ما كان نوره مكتسبا من الغير كنور القمر ، فإنه مكتسب من الشمس .. ويلاحظ بأن الآية لم ترد لبيان شيء من ذلك ، وانما القصد التنبيه على وحدانية الله وقدرته ، تماما كالآية التي بعدها بلا فاصل ، وان الحكمة من كوكب الشمس والقمر ما أشار اليه بقوله :

(وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ). الضمير في قدره يعود الى القمر ، والمعنى ان الله سبحانه جعل للقمر منازل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، تماما كغيره من سنن الطبيعة ، والقصد من هذا الثبات هو ضبط الأوقات الذي لا تتم الحياة الا به ، وتكلمنا عن ذلك عند تفسير الآية ٣٦ من سورة التوبة والآية ٩٦ من سورة الأنعام. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). لقد فصل سبحانه آيات الكون خلقا وإيجادا ، وشرحا وبيانا ليتدبرها كل من وهبه الله الاستعداد للتأمل والتعقل الذي يؤدي الى الايمان بالله وقدرته وحكمته .. وسبق أكثر من مرة انه جل وعز يسند اليه الظواهر الكونية ، والتغيرات الجارية على سننها الطبيعية ، يسندها اليه من باب اسناد الفعل الى سببه الأول الكامن وراء الظواهر ، ليبقى الإنسان دائما على تذكّر من الخالق المتصرف في الكون.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

١٣٥

يَتَّقُونَ). سبق نظيره مع التفسير في ج ١ ص ٢٥١ الآية ١٦٤ من سورة البقرة.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) هذه الآية تهديد ووعيد لمن لا يؤمن بالآخرة وحسابها ، ويقول : من مات فات ، مندفعا مع أهوائه وشهواته ، غافلا عن الكون وما فيه من عبر وعظات ، وعن دعوة الأنبياء والمصلحين ، منصرفا عن كل شيء الا عن الدنيا وملذاتها (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). هذا جزاء من كذب باليوم الآخر ، واتخذ إلهه هواه غير مكترث بحق ولا بعدل .. وتجدر الاشارة الى ان هذا التهديد والوعيد لا يختص بمن كفر بلقاء الله قولا وعملا ، فإنه يشمل أيضا من آمن به نظريا ، وجحده عمليا .. فالذين يصلّون ويصومون ويؤمنون بالحساب والعقاب ، ثم لا يتورعون عن حرمات الله فهم في نار جهنم مع من جحد وعاند جزاء بما كسبت يداه.

أين المتقون؟

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). المراد بالهداية هنا الثواب ، أي ان الله يثيبهم بسبب إيمانهم .. ذكر سبحانه في الآية السابقة الجاحدين وأوصافهم ومآلهم ، وذكر في هذه الآية المؤمنين وأوصافهم ومآلهم ، كعادته جل ثناؤه من المقابلة بين الأضداد وصفا ومآلا ، فالمؤمنون على عكس الجاحدين يرجون لقاء الله ، ويتورعون عن محارمه عملا بمقتضى دينهم وإيمانهم ، والله سبحانه يثيبهم بجنات تجري من تحتها الأنهار .. وقد جاء في الحديث : ان الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة : اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي .. أين المتقون؟. هذا هو نداء الله يوم الحق والفصل : أين المتقون الصادقون في أقوالهم ، المخلصون في أعمالهم ، أما نداء الشيطان في هذه الدار ، دار الظلم والفساد فأين الطغاة المجرمون المتهتكون المفسدون؟.

وكل من أكرم مؤمنا تقيا لإيمانه وتقواه فقد نادى بنداء الله : أين المتقون؟. وكل من احترم طاغية لاجرامه فقد نادى بنداء الشيطان : أين المجرمون؟. قال

١٣٦

الإمام الصادق (ع) : يكره القيام تعظيما إلا لرجل في الدين ، وقال : لا تقبل يد أحد إلا يد رسول الله (ص) أو من أريد به رسول الله (ص).

والحكم في تعظيم الرجال يختلف باختلاف الموارد ، فان كان تشجيعا للإثم ومعصية الله فهو حرام ، وان كان للتحابب والتآلف ، ودفع الضرر أو قضاء حاجة محتاج فهو حسن ، وإلا فمكروه ، أما تعظيم المجاهد لجهاده ، والمخلص لاخلاصه ، والمصلح لإصلاحه ، والعالم لعلمه وعمله به فهو من تعظيم شعائر الله وحرماته الذي أشار اليه بقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ـ ٣٢ الحج». وقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ـ ٣٠ الحج».

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). هذه الآية بجملتها إخبار بأن أهل الجنة في روح وريحان لا يشغلهم شيء مما كان يهمهم في الحياة الدنيا من جلب مصلحة أو دفع مضرة .. فلا يطالبون بإقامة العدل والسلام ، ولا بإقرار الأمن والنظام ، ولا بزيادة الأجور والمرتبات ، ولا بشيء على الإطلاق ، فكل شيء مما تشتهيه الأنفس ، وتلذه الأعين جاهز متوافر ، وما عليهم إذا أرادوا شيئا إلا أن يستحضروا صورته في أذهانهم ، ومن أجل هذا تفرغوا للتسبيح والتحميد ، والتحيات الزاكيات : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) ـ ٢٦ الواقعة». وقد سمعوا هذا السلام من الله حين لقائه : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) ـ ٤٤ الأحزاب». وسمعوه من الملائكة : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ـ أي الجنة ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ـ ٧٣ الزمر». وسمعه بعضهم من بعض. وتكلمنا عن تحية الإسلام عند تفسير الآية ٥٤ من الأنعام.

ولو يجعل الله الشر الآية ١١ ـ ١٤ :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ

١٣٧

فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

اللغة :

الطغيان مجاوزة الحد في الشر. والعمه التحير والتردد في الضلال. والقرون جمع قرن ، وهو أهل كل عصر. والخلائف جمع خليفة ، وهو من يخلف غيره في شيء.

الإعراب :

بالخير الباء للتعدية ، لجنبه في موضع الحال أي دعانا مضطجعا. وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف أي كأنه لم يدعنا. وكذلك الكاف بمعنى مثل في موضع نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي تزيينا مثل ذلك. ومثله كذلك نجزي. والمصدر المنسبك من ليؤمنوا متعلق بمحذوف على انه خبر لكانوا أي وما كانوا مريدين للايمان. وكيف محل نصب بتعملون.

المعنى :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) المراد

١٣٨

بالخير هنا ما ينتفع به الإنسان في هذه الحياة ، ومن أجل هذا يستعجل به ، ولا يصبر عنه ، والمراد بالشر ما يتضرر به ، وهو يأباه ويكرهه بفطرته الا لسبب عارض كدرء ما هو أشد ، قال الشاعر :

تحملت بعض الشر خوف جميعه

كذلك بعض الشر أهون من بعض

أو يكون الإنسان في حال غير طبيعية كمن يقدم على الانتحار ، أو في حال عناد يواجه خصما عجز عن مقاومة حجته بحجة مثلها ، كما عجز المشركون عن الرد على محمد (ص) حين أظهر الله على يده ما أظهر من المعجزات ، وقالوا : اللهم ان كان ما يقوله محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم .. وقد أجاب سبحانه كل من يستعجل الشر ونزول العذاب من السماء ، أجابه بأن الحكمة تقتضي أن لا يستجيب الله الى طلبه ، وأن يستبقيه الى حين ، فربما زال العارض الذي تمنّى معه الشر ، وتحقق بعده الخير ، كما حصل من كثير من الذين قالوا : اللهم أمطر علينا حجارة من السماء ، فقد أسلم منهم جماعة ، وخرج من صلب آخرين كثير من المؤمنين ، ولو عجل الله بأجلهم لما حصل شيء من ذلك.

والخلاصة انهم استعجلوا وقوع الشر ، تماما كما يستعجلون الخير ، ولكن الله سبحانه أخرهم الى ما أراده لهم من الخير.

(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). أي انه تعالى لا يعجل العذاب لمن لا يوقنون بالبعث ممن كفر بنبوة محمد (ص) ، بل يتركهم وشأنهم ، حتى لو تمردوا على أمره سبحانه ، وترددوا في الطغيان والعصيان.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً). لجنبه وقاعدا وقائما كناية عن خضوعه وتضرعه في جميع حالاته وحركاته وسكناته ، والمعنى لو نزل أدنى مكروه بمن استعجل الشر لفقد الصبر ، وانهارت أعصابه ، ولجأ إلينا خاضعا متذللا في جميع أحواله لنكشف عنه الضر (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ). ان الأوضاع الفاسدة قد تضطر الإنسان الى الكذب والرباء والتملق لمن حاجته في يده ، ولكن ما الذي يضطره الى العقوق ونكران

١٣٩

الجميل ، والتنكر لمن دعاه بالأمس الى قضاء حاجته خاضعا متذللا ، حتى إذا استجاب له ، وحصل منه على ما يريد تجاهله ، ومر به كأن لم يدعه الى ضر مسه؟ .. ولا يصح تفسير هذا العقوق بالأوضاع الفاسدة ، ولا بشيء الا بالاستهتار ، والكفر بالحق والقيم ، والإسراف في هذا الاستهتار والكفر (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). والذي زين لهم سوء أعمالهم هو اللامبالاة بشيء الا بمنافعهم وأطماعهم.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). هذا تهديد من الله للذين كذبوا محمدا (ص) بأن يحل بهم من العذاب ما حل بمن كان قبلهم من الأمم الذين كذبوا رسلهم. ومر نظير هذه الآية مع تفسيرها في سورة الأنعام الآية ٦.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). تمضي أمة وتخلفها أخرى ، أما الغاية من وجوه الإنسان في هذه الأرض فهو العلم والعمل النافع ..

وتسأل : ان الله سبحانه يقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ـ ٥٦ الذاريات». وتقول انت : ان الله خلق الإنسان للعلم والعمل النافع؟.

الجواب : ان المراد بالعبادة في الآية المذكورة العمل الصالح بدليل قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ـ ١٠ فاطر». بل ان سبحانه خلق الكون بأرضه وسمائه من أجل العمل الصالح ، قال جلت عظمته : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ ٧ هود». وبيّنّا معنى الابتلاء والاختبار من الله عند تفسير الآية ٩٤ من المائدة.

انت بقرآن غر هذا الآية ١٥ ـ ١٧ :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ

١٤٠