تراثنا العدد [ 26 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا العدد [ 26 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

تحيىٰ بهم كُلُّ أرضٍ ينزلون بها

كأنّهم لبقاع الأرض أمطارُ

فوالله قسَماً بارّاً إنّهم كانوا منات الوافد ، وملاذ الجانِي ، وعزّ الجار ، لم تخط أقدامهم لريبة ، ولم تنطق ألسنتهم بغِيبة ، ولم ترمق أعينهم لدنسٍ ومعيبة ، لم أدرِ لأيّ فضائلهم أذكر ، لتلك المضائف المعهودة ، أم لتلك المباني المشيودة ، أم لتلك الموائد المورودة . . . (١) .

وفي الجملة فإنّ الأدب الشيعي قد بلغ في الحويزة ذروته في القرون الأربعة الماضية بفضل إرشاد العلماء واهتمام الحكّام الموالي أُمراء الحويزة ، وقد ذكرتُ في كتابي « الياقوت الأزرق في أعلام الحويزة والدورق » من علماء الحويزة وأُدبائها وشعرائها والمفسّرين والمحدِّثين فيها أكثر من مائة وأحدَ عشر رجلاً ، ترجمتُ لهم بها وَصل إليَّ من حياتهم العلميّة والأدبيّة وذكر نماذج من أدب كلٍّ منهم ، نشرت « مجلّة الموسم » (٢) اللبنانية فهرساً لأسمائهم حسب حروف الهجاء مع ذكر تاريخ وفياتهم .

أمّا الدورق : فإنّه ثالث المدارس الأدبيّة بعد الكوفة والبصرة ، ولأهله انطباع ، وتأثّر بالأدب البصري ، وهو أقدم حضارةً من الحويزة ومن البصرة أيضاً ، إذ أنّ البصرة مُصِّرَت على عهد الخليفة الثاني ، بينما كان الدورق بلداً حافلاً بمعالم الحضارة قبل الإِسلام ، وفتحته الجيوش الإِسلاميّة سنة ١٦ هجرية بقيادة أبي موسىٰ الأشعري ، وارتفع عدد سُكّانه لخصبه وقربه من الحدودِ الشرقيّة للعراق .

وقد طبعت الحوادث التاريخيّة مدىٰ القرون طابعاً شيعيّاً على أهل الدورق بعد أن كانوا شيعة في العقيدة منذ القدم ، فنشأ فيها رجال كبار في عالم التشيّع ، عاصر بعضهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام ورووا عنهم ، وخدموا المذهب والعلم والأدب بما لا مزيد عليه ، كالثقة الجليل علي بن مهزيار الدورقي ، الذي كان حيّاً سنة ٢٢٩ هـ

__________________

(١) الرحلة المكّيّة ، مخطوط : صفحة ٢٢١ .

(٢) مجلّة الموسم ، العدد الأول ، السنة الْأُولى ١٤٠٩ هـ ، صفحة ٢٧٦ .

١٨١
 &

وله ثلاثة وثلاثون كتاباً ، روىٰ عن الأئمّة أبي الحسن الرضا وأبي جعفر الجواد وأبي الحسن عليّ الهادي عليهم السلام .

وأبي يوسف يعقوب بن إسحاق ، المعروف بٱبن السكِّيت الدورقي ، وهو من خواصّ الإِمامين النقيّين عليهما السلام وكان حامل لواء علم العربيّة والأدب والشعر والنحو واللغة ، وله تصانيف كثيرة ، قتله المتوكّل العبّاسي سنة ٢٤٤ هـ .

وكان لأهل الدورق ثبات في العقيدة ممّا جعلهم يتحدّون كثيراً من التيّارات العقائدية والحركات السياسية المشوبة بالمذاهب المختلفة ، كفتن الخوارج والزنوج والقرامطة واصطدامات العبّاسيّين بالعلويّين ، وفي أكثر هٰذه الحوادث كان الدورق عرضة للفتن والغارات .

وبالرغم من قرب الدورق إلى مدينة جُبّى بلد أئمّة المعتزلة ، ووقوعه عُرضةً لجميع تلك الحوادث ، لا يجد المنقّب في عقائد سُكّانِه خارجيّاً أو منحرفاً عن ولاء أهل البيت عليهم السلام .

وبالرغم ـ أيضاً ـ من اضطهاد بني العبّاس للموالين لأهل البيت وتتبُّعهم في أقصى البلاد وأدناها ، فإنّ بذرة التشيّع كانت محفوظةً في هذا البلد ، تنتظر المناخ الملائم والظروف المناسبة لتنشَأَ وتعطي ثمرتها كما ينبغي ، حتّى ظهرت الإِمارة المشعشعيّة في مطلع القرن التاسع ، فكانت الدورق إحدىٰ الحاضرتين لهذه الإِمارة ، إحداهما الحويزة والْأُخرىٰ هي الدورق ، وربّما فضّلها المشعشعيّون لخصوبة أرضها ونقاء هوائها بالنسبة للحويزة ، فاختاروها وطناً لهم .

وكان أُمراؤها قبل ذلك طائفة من بني تميم ، نزحوا إليها من نجد في أواخر القرن التاسع رغبة في جوار المشعشعيّين لأنّهم كانوا من الشيعة أيضاً ، وكان بنو تميم أُمراء الدورق يُجِلّون العلماء والْأُدباء والشعراء ويصلونهم ، وفي ذلك يقول أبو البحر الخطّي في قصيدة يمدح بها المولى خلف بن السيّد عبد المطّلب المشعشعي ، يتطرّق فيها لبني تميم أُمراء الدورق ويذكر إحسانهم للسادة الموالي ، لأنّهم أخوال المولىٰ المذكور ، وقد نظم قصيدته هذه سنة ١٠١٦ هـ :

١٨٢
 &

سقىٰ الله حيّاً من تميم بقدر ما

شربنا بأيديهم من النائل الغمرِ

هُمُ أوْطَأُونا ساحة العسرِ بعدما

أَذَلّتْ خُطىٰ أقدامِنا عثرةُ العُسْرِ

فلم تبلغ الْأُمُّ الرؤوم ببرّها

بنيها مدىٰ ما أسلفونا مِن البرّ

وفي سنة ٩٧٠ هـ عادَ الحكم في الدورق إلى السادة الموالي أُمراء المشعشعيّين ، وأصبح السيّد عبد المطّلب بن حيدر المشعشِعي والياً على الدورق ، وكان عالماً فاضلاً جليل القدر فقصده العلماء والْأُدباء ولجأ إليه المطارَدون مِن قبل حُكّام الظلم والجور .

ومن جملة اللاجئين إليه الشيخ عليّ بن أحمد ابن أبي جامع العاملي ، فإنّه فرَّ بأهله وعياله من بلاده جبل عامل بعد مقتل الشهيد الثاني رحمه الله خوفاً من الظالمين ، فأقام بكربلاء مدّة فوُشِيَ به ، فأمر السلطان العثماني بالقبض عليه وتسييره إليه ، فخرج الشيخ المذكور بأهله وعياله إلىٰ بلاد إيران ، وحينما وَصل الدورق رَحّب به المولىٰ عبد المطّلب والي البلد وأحسَن وفادته وأكرمه وصَرف رأيه عن بلاد العجم ، وحسَّن له الإِقامة في الدورق والإِفادة والتدريس وخدمة العلم ونشر مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فقبل الشيخ وقام هو مع بقيّة أهل العلم وبمساندة الوالي بالإِرشاد والتدريس ، فكان حصيلة ذلك أن تخرّج على أيديهم نخبة صالحة من العلماء والْأُدباء ، أحدهم العلّامة الجليل المولى خلف بن والي الدورق ، صاحب التأليفات النفيسة في الحديث والأدب والمنطق وسائر الفنون العلميّة .

وأخذ العلماء والْأُدباء يتوافدون على الدورق فيحظون بالترحيب والإِكرام من قبل الولاة ممّا يحبّب لهم السُّكنىٰ فيها ، حتّى أصبحَ البلد حافلاً بالعلماء والْأُدباء والشعراء ، وظهر الإِنتاج العلمي والأدبي ، وكثرت التصانيف ، وازداد عدد المجالس العلميّة والأدبيّة من بداية القرن الحادي عشر فما بعد ، وتد ظهرت في تلك الفترة شخصيات علميّة كثيرة ، كما عُرفت عدّة بيوتات بالعلم والفضيلة من السادة المشعشعيّين ، ومن غيرهم من العلويّين والطريحيّين والكعبيّين ، وغيرهم ؛ ذكرتُ جُملةً منهم في كتابي « الياقوت الأزرق في أعلام الحويزة والدورق » .

١٨٣
 &

وقد أُسِّست في الدورق عدّة مدارس ، أشار السيّد عبد الله الجزائري إلى بعضها في كتابه « الإِجازة الكبيرة » وأشار في الضمن إلى بعض أساتذتها ومدرّسيها ، وذكر أنه تلقّى بعض العلوم فيها ، ومن جملة تلك المدارس ( المدرسة الإِبراهيميّة ) في القرن الثاني عشر ، التي لا تزال بعض مخطوطاتها موجودة في المكتبات الكبيرة كما في المكتبة المركزيّة لجامعة طهران .

وبفضل تلك الحركة العلميّة والأدبية خلّد علماء الدورق وأُدباؤها آثاراً قيّمة في شتّى مجالات العلم والأدب ، وأفاضوا على الأدب العربي فضلاً بطابعٍ شيعيٍّ يستحقُّ المزيد من العناية والتقدير ، فلو لاحظنا ( البند ) وهو نموذج من الأدب العربي الشيعي ، لوجدنا أنّ أكبر شعرائه وأجودهم وأكثرهم نظماً فيه هو العلّامة الأديب السيّد علي ابن باليل الدورقي ، المتوفّى حدود سنة ١١٠٠ هـ ، وقد بلغ الذروة في هذا النوع من الأدب الذي ولد ونشأ في الأوساط الأدبية الشيعيّة ، كما أنّ تصنيفه الموسوم بـ « المستطاب » في شرح كتاب النحو لسيبويه المعروف بـ « الكتاب » يبيّن لنا مدىٰ اهتمام علماء هذا البلد باللغة العربيّة وحرصهم على كشف غوامضها ومعرفة أسرارها ، وكذلك كتابه الموسوم بـ « قلائد الغيد » له مرتبة سامية في الأدب العرفاني الرفيع .

كما أنّ للشيخ فتح الله بن علوان الكعبي الدورقي ، المتوفّى سنة ١١٣٠ هـ عدّة آثارٍ أدبيّة هي خير شاهد على مستوى الأدب في هذا البلد .

وقد اعترف المستشرق الألماني بروكلمان في كتاب « تاريخ الأدب العربي » بحقّه واعتبره من روّاد الأدب العربي ، وأشار إلى آثار الأدبيّة الممتعة في مكتبات الغرب .

كما أنّ شرح الشيخ جمال الدين بن إسكندر الدورقي ، المتوفّى حدود سنة ١١٥٠ هـ ، على نهج البلاغة للإِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام فيه دلالة واضحة على مكانة الأدب العربي ومِقامه ، ومدىٰ اهتمام علماء الدورق به آنذاك .

وهذه الآثار الأدبيّة وغيرها ، التي لا تزال مبعثرةً في شتّى أنحاء العالم ، ما هي إلّا شيءٌ يسير من تُراث أدبيّ كثير خلَّفه لنا علماء الدورق ، وقد لعبت به أيدي

١٨٤
 &

الزمان ، وجارت على بعضه يدُ الإِنسان .

قال العلّامة السيّد نعمة الله الجزائري ـ رحمه الله ـ في كتابه « مسكّن الشجون في جواز الفرار من الطاعون » : في سنة ١١٠٢ أصابَ الطاعون مدينة الدورق ، فأهلك عدداً كبيراً من العلماء والْأُدباء والصالحين والأتقياء ، فعطّلت المدارس وخلت المساجد فسمِّيت تلك السنة بعام الحُزن .

وطبيعيٌّ أنّ نكبة كهذه التي يذكرها السيّد الجزائري تترك الآثار النفيسة ضائعةً ، إذ لا يعرف قدرَ العلم إلّا العالم ، ولا يقيم وزناً للأديب إلّا الأديب .

ثُمّ جرت بعد تلك النكبة حوادث لا طائل من ذكرها ، كانت سبباً لضياع معظم ذلك التراث القيّم ، إلى أن انتقل الناس من الدورق القديمة إلى مدينة الفلاحيّة حدود سنة ١١٦٠ هـ ، وذلك إبّان ظهور الإِمارة الكعبيّة في الدورق ؛ وكان الكعبيّون شيعةً اثنا عَشريّين ، يوقَّرون العلماء ويعظّمونهم ويعطفون على الشعراء والْأُدباء .

ولهذا ، فقد أخذت الحركة العلميّة والأدبيّة تستعيد نشاطها في الفلاحيّة من الدورق بعد أن أُصيبت بالتفكّكِ والخمول في الدورق القديمة .

ونظراً لِما كان يولونه حُكّام كعب من إكرام وحفاوةٍ بأهل العلم والفضيلة ، وما يبدون من ودٍّ واحترامٍ للمنتسبين لأهل البيت عليهم السلام ، فقد ظهرت بيوتات علميّة جديدة في الفلاحيّة ، وقصدها العلماء والْأُدباء والشعراء ، وكان البلد كثير الخيرات وافر الأرزاق فانجذبت نحوه نفوس الشيعة .

ويُذكر أنّ أُمراء الكعبيّين راسلوا جماعة من علماء النجف الأشرف ، وطلبوا منهم القدوم إلى الفلاحيّة بأهليهم وعيالهم وضمنوا لهم القيام بكلّ متطلّباتهم وشؤون حياتهم ، خدمةً للدين وحُبّاً لنشر العلم ، وكان لأحدِ أُمرائهم ـ وهو الشيخ بركات بن عثمان بن سلطان بن ناصر الكعبي الدورقي ، المتوفّى سنة ١١٩٧ هـ ـ خزانة كتب كبيرة في الفلاحيّة تضُمُّ أُمّهات الكتب وفي الفقه والحديث والتفسير والأدب والتاريخ وغيرها ، وقد فوّضَ أمرها إلى العلّامة الشيخ خلف العصفوري ، المتوفّى سنة ١٢٠٨ هـ .

وكان الشيخ خَلف هذا من كبار علماء الشيعة ، وهو ابن أخ العلّامة المحدّث

١٨٥
 &

الجليل الشيخ يوسف البحراني ، صاحب الموسوعة الفقهيّة الموسومة بـ « الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة » فدعىٰ الشيخ خلف جماعةً من علماء البلد للتحقيق والتنقيح ومقابلة تلك الكتب والاستنساخ ، ومن جملة من آزره في هذا العمل الشيخ محمّد بن شمس الدين الطريحي ، ولا تزال بعض نسخ هذه المكتبة موجودة في المكتبات العامّة والخاصّة وعليها ختم مكتبة ( الشيخ بركات ) وعلى صفحاتها حواشٍ وتعليقات لهذين العالمين الجليلين .

وفي هذه الفترة من تاريخ الدورق ( في نهاية القرن الثاني عشر ) ظهرت معالم الأدب الشيعي في أعلى المستويات كما تشهد مخطوطات وآثارُ تلك الفترة على هذا ، ففي نسخةٍ من ديوان المتنبّي أورد المستنسِخُ هذه الأبيات في قافية اللام :

وقيل له وهو بالكوفة : لِم لا تقول في أهل البيت رضوان الله عليهم شيئاً ؟ فقال :

وتركتُ مدحي للوصيِّ تعمّداً

إذ كان نوراً مستضيئاً شاملا

وإذا استقامَ الشيءُ قامَ بِذاتِهِ

وكَذاك وصفُ الشمس يذهبُ باطلا

وهذه النسخة من الديوان كُتبت سنة ١١٩٦ هـ في مدينة الفلاحيّة ، وكاتبها الشيخ عبّاس بن الشيخ عيسىٰ بن الشيخ إسكندر الفلاحِي الأسدي ، من البيوتات العلميّة في الفلاحيّة ، ترجم العلّامة الطهراني لجماعة مِن رجال هذه الْأُسرة في « الكرام البررة » ومن جملتهم الشيخ إسكندر بن عيسى الفلاحي أخ كاتب نسخة الديوان ، وابنه الشيخ عبد عليّ بن إسكندر الفلاحي ، وللشيخ عبد عليّ هذا تملّك على ظهر النسخة بخطّه ؛ وكان السيّد عبد اللطيف الجزائري صاحب كتاب « تحفة العالِم » قد ورد الفلاحيّة سنة ١٢٠٠ هـ في سفره إلى العتبات المقدّسات ، فزار الشيخ إسكندر ـ الآنف الذكر ـ ووصفه بأنّه كان عالماً أديباً . . .

وهذا يعني أنّ الأديب الشيعي في الدورق كان واعياً لا تخفىٰ عليه التمويهات والتضليلات .

أمّا ديوان الحاج هاشم بن حردان الكعبي الدورقي ، فإنّه نار على علم ، إذ ما

١٨٦
 &

سبقه فني الماضين ولا لحقه في المتأخّرين شاعر عبّر عن ولائه وتفانيه في حبّ أهل البيت كما عبّر هو بذلك السبك الأدبي الرائع .

ولو فتّش المحقّق في أحوال علماء الدورق ، لَما وجد عالماً ينتسب إلى هذا البلد إلّا وله يد في الأدب بغضّ النظر عن مستواه في سائر الفنونِ العلميّة .

فمن يتصفّح كتب التراجم يرىٰ شخصيّاتٍ كبيرة منسوبة إلى هذا البلد قد امتزجت حياتهم بالأدب ، مثل العلّامة الكبير الشيخ محمد تقي الدورقي ، المتوفّى حدود سنة ١١٨٦ هـ ، فإنّه مع مستواه العلمي الرفيع ، ومرجعيّتِه العامّة آنذاك ، وكونه من أساتذة العلّامة السيّد بحر العلوم رحمه الله ، فإنّه كان يحضر الندوات الأدبيّة في النجف الأشرف ويُساهم في معركة الخميس الشعريّة ويُحكّم فيها .

ويظهر لي أنّ هناك روحاً أدبيّة شبه وراثيّة في بعض البيوتات العلميّة ، يتوارثها الأحفاد عن الآباء عن الأجداد إلى عدّة ظهور حتّى ينقرض المتّصفون بالعلم من تلك الْأُسرة ، كما كانت أُسرةُ العلّامة الجليل الشيخ أحمد المحسني الفلاحي ، المتوفّى سنة ١٢٤٧ هـ ، فإنّ هذا العالم الفقيه مع إحاطته وتبحّره في الفقه وسائر العلوم الإِسلاميّة ، له ديوان شعر حسن طافح بحبّ أهل البيت وولائهم ، وكذلك ابنه العلّامة الشيخ حسن الفلاحي ، المتوفّى سنة ١٢٧٢ هـ ، فإنّه من كبار أُدباء زمانه وله ديوان شعر جلّه في أهل البيت عليهم السلام .

وقد سَرَت هذه الروح الأدبيّة إلى ولديه الشيخ موسىٰ والشيخ محمّد ابنَي الشيخ حسن ، ففاقا أباهُما وجدّهما في المجال الأدبي ، ولكلٍّ منهما ديوان شعر يفوح منه شذا التشيّع الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا تمويه .

وعلى هذا نشأ وشبّ خَلُفهم العالم الجليل الشاعر الأديب الشيخ سلمان بن محمّد بن حسن بن أحمد المحسني الفلاحي ، المتوفّى سنة ١٣٤٠ هـ ، ففي شعره ومخطوطاته الأدبيّة دلالة جليّة على مقامه الأدبي الرفيع هذا .

وقد كان الجدّ الأعلى لهذه الْأُسرة ، أي الشيخ أحمد المحسني ، من أهل الأحساء فخرج بأهله وعياله فارّاً من الأحساء على أثر ظلمِ الوهّابيّين ومطاردتهم

١٨٧
 &

لعلماء الشيعة ، فوجد في الفلاحيّة ( الدورق ) مأمناً له ، فحطّ رحل سيره فيها سنة ١٢١٣ هـ .

وجدير بأن يستهويه ذلك البلد الذي وُلِدَ ونَشَأ وترعرع على تربته ثُلّة من كبار شعراء الشيعة ، مثل ناعية الحسين الحاج هاشم بن حردان الكعبي الدورقي وأمثاله من مُحبّي أهل البيت عليهم السلام .

*       *      *

١٨٨
 &

مجلة تراثنا العدد 26

١٨٩
 &

مجلة تراثنا العدد 26

١٩٠
 &

الباقيات الصالحاتُ

في أُصول الدين الإِسلاميّ

على مذهب الشيعة الإِماميّة الاثني عشريّة

تأليف

آية الله العظمى

السيّد محمّد هادي الخُراساني الحائري

( ١٢٩٧ ـ ١٣٦٨ هـ )

تقديم

السيّد محمّد رضا الحُسَينيّ

١٩١
 &

مجلة تراثنا العدد 26

١٩٢
 &



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين محمّد الرسول الكريم ، وعلى آله الأئمّة الطاهرين .

وبعد :

فالحملاتُ الطائشةُ تُشَنُّ ـ هذه الأيام ـ على الْأُمّة الإِسلامية من قِبَلِ الأجهزة الحاقدة على الإِسلام والمسلمين ، بأشكال مختلفة ـ إعلاميّةً ، واقتصاديّةً ، وعسكريةً ، ونفسيّةً ـ وخاصّةً من قِبَلِ الدول الْأُوربيّة الصليبيّة ، وعميلتها الصهيونيّة العالميّة ، مركّزين حربهم على المسلمين الواعين ، الّذين تيقّظوا بأثر الضغوظ السياسية الظالمة ، وأدركوا عمق ما حلّ بالْأُمّة من هوانٍ ودمارٍ ، بأثر الهيمنة الغربيّة على البلدان الإِسلاميّة .

وركّز الاستعمارُ حملاته على الشعب المسلم في إيران باعتباره الطليعة المؤمنة التي أثبتت قدرة الإِسلام والْأُمّة الإِسلاميّة على التحرّك نحو تحقيق الأهداف السامية ، وتحطيم الهيمنة الاستعمارية على العباد والبلاد ، من خلال تشكيل الدولة الإِسلاميّة

١٩٣
 &

على أنقاض حكومة العملاء .

ولقد أقضّ هذا الحدثُ مضاجعَ المستعمرين ، فكان صاعقةً على الغرب ، وزلزالاً تحت عملائهم في الشرق .

والشعوبُ الإِسلاميّة ـ وخاصةً في البلدان العربيّة ـ قد استيقظوا كذلك ، ووجدوا في الشعب الإِيرانيّ المسلم مثالاً في العزم والتصميم والجدّ ، والاعتقاد بالإِسلام ، وبالسعي في إحياء الإِسلام وتحكيمه ، وتطبيقه .

وبعد أن كانت على جهلٍ كامل بحقيقة هذا الشعب وبانتمائه المذهبي ، حيث يعتنق مذهب التشيّع والولاء لأهل بيت النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ، أصحبت الشعوبُ أمام حقيقة غير قابلة للإِنكار والتشكيك ، وهي أنّ الشيعة هم موالون للإِسلام بأعمق ما يكون الولاء ، مناصرون للقرآن بأقوى ما يكون النصر ، محبّون للنبيّ وأهل البيت والصحابة بأشدّ ما يكون الحبّ ، عارفون بأحكام الإِسلام بأوسع ما تكون المعرفة .

فكان ـ عند ذلك ـ أن تبخّرت كلّ الدعايات المضلِّلة التي كان دعاة التفرقة بين المسلمين ، يبثّونها ، وٱنقشعت السُحُبُ السوداء من التهم التي كانوا يكيلونها ضدّ شيعة أهل البيت ، واندحرتْ مساعي الْأُمويّين وذيولهم الناصبين العداء لعليٍّ عليه السلام وآل عليّ .

وكان قبل هذا ، قد اشترك شيوخٌ أجلّة من علماء المسلمين ، في الدفاع عن حقّ الشيعة . وإبطال الطعن عليهم ، وفي مقدّمتهم الإِمام الأكبر الشيخُ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر ، حيث أعلن عن حجّيّة مذهب الشيعة ، في فتواه التاريخيّة الهامّة الصادرة في ( ٧ ـ تموز ـ ١٩٥٩ ) ونصّها :

إنّ مذهب الجعفريّة ، المعروف بمذهب « الشيعة الإِماميّة الاثنا عشرية » مذهب يجوز التعبّد به شرعاً ، كسائر مذاهب أهل السُنّة .

ونصح المسلمين بقوله :

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلّصوا من العصبيّة بغير

١٩٤
 &

الحقّ لمذاهب معيّنة ، فها كان دين الله ، وما كانت شريعته بتابعة لمذهب ، أو مقصورة على مذهب .

فكان في هذه الدعوة الإِصلاحية المباركة ، وَأْدُ كلّ دعوات التفرقة ، ونداءات الشقاق الشيطانيّة التي كانت تصدر من حناجر النواصب ، العملاء لصالح الاستعمار من وراء الستار .

لكنّ هذه المرّة ، أسفر الاستعمارُ عن وجهه القبيح وكشّر عن أنيابه ، ودخَلَ معركة التفرقة بين المسلمين بكلّ ثقله ، ورَجْله ، وعملائه ، فأطلق عفاريت النفاق من جحورهم ، فطلعوا من حيث يطلع قرن الشيطان من « نجد » (١) حيث يملك الأعرابُ الجهلةُ أزمّة الحكم وألسنة الإِفتاء ، فأخذوا يُسَعِّرون نيران فتنة التفرقة ويؤجّجونها من جديد ، لصالح الأجانب الكفرة ، طمعاً في أنْ يوقفوا السيل الإِسلامي الهادر ، ويصدّوا الوعيَ الإِسلاميَّ الجارف ، الذي دخل ديار المسلمين وأيقظهم من السُبات العميق .

فراح عملاءُ الغرب ، يستعملون نفس الطريقة البائدة ، يعلنون عن « تكفير » هذه الفرقة وتلك ، طمعاً في أن يجدوا لفتاواهم أُذناً صاغيةً .

جهلاً منهم بأنّ المسلمين يعلمون أنّ تلك الفتاوى إنّما هي صادرة ممّن ينتمون إلى الفرقة الوهّابيّة التي نبذها علماءُ المسلمين أجمعون ، وحكموا بضلالها وجهل المنتمين إليها بقواعد الدين أُصولاً وفروعاً ، وبالمعارف الإِسلاميّة وبالمصطلحات العرفية عموماً ، حتى مداليل الألفاظ ، ومفاهيم الجُمل ، ومعاريض الكلام .

والطائفةُ الإِسلاميّةُ الشيعيّةُ ليست هي الوحيدة المستهدَفة لهذه الحملات من قبل الوهّابيّين ، بل كلّ المسلمين الّذين يقدّسون النبيّ وأهل البيت والأولياء والصالحين ، ويُعظمون أسماءهم ، ويكرمون مقاماتهم وقبورهم ، ويُحيون ذكرياتهم ، كلّ أُولئك مستهدَفون من الوهّابيّة بالتكفير والتفسيق ، لإِنكارها كلّ كرامة للنبيّ وأهل البيت وكلّ وليّ كريم .

__________________

(١) أُنظر صحيح البخاري .

١٩٥
 &

ومن سخافاتهم أنّهم يعتبرون دعاء النبيّ والتوسّل به إلى الله كفراً ، ومنافياً للتوحيد ، وكذلك دعاء أهل البيت وسائر الأولياء الصالحين .

جهلاً منهم بأنّ الدعاء غير العبادة ، والتوسُّل والاستشفاع غير العبودية ، فإنّ العبادة إنّما تبتني على قصد التعبّد والعبودية ، وإنّما تحرم لمن يدّعي الألوهيّة من دون الله ، والمسلمون ـ سُنّة وشيعة ـ يعبدون الله ، ولا يقصدون غيره بذلك .

وأمّا الدعاء فهو نداءٌ وطلبٌ يُقصد به التوسّط بمنزلة النبيّ وآله والصالحين من أوليائه ، لأنّهم مكرّمون عند الله ، ويشفعون لمن ارتضى ، وليسوا معبودين ولا مقصودين بالعبادة ، وإنّما المعبود هو الله وحده .

ثمّ إنّ المسلمين ـ سُنّة وشيعة ـ إنّما يتّبعون في دعاء النبيّ وآله ، سُنّة رسول الله وتعليماته ، فقد جاء في الحديث الصحيح أنّه علّم رجلاً ضريراً أن يقول :

« اللّهمَّ

إنّي أسألك .

وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة .

يا محمّد :

إنّي توجّهتُ بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتُقضى لي .

اللّهمَّ :

فشفّعه فيّ » .

رواه الترمذي في الجامع الصحيح ج ٥ ص ٥٦٩ كتاب الدعوات ، باب ١١٩ ح ٣٥٧٨ وقال : حسن صحيح غريب .

ورواه الحاكم النيسابوريّ في المستدرك على الصحيحين ١ / ٥٢٨ ، وقال : على شرط الشيخين البخاريّ ومسلم ، ووافقه الذهبيّ أنّه على شرط البخاري .

ونقله السيوطيّ عنهما في الجامع الصغير وصحّحه .

ولنا في رسول الله أُسوة حسنة .

والوهّابيّون بإعراضهم عن سُنّة النبيّ هذه ، والاعتراض على المسلمين في

١٩٦
 &

ذلك ، يبتعدون عن سُنّة النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ، وهذا واحد من أدلّة جهلهم ، ومخالفتهم لنصوص القرآن والسُنّة .

وقد ألّف علماءُ المسلمين من الفرق الإِسلاميّة كافّة ، شافعية ، وحنفيّة ، ومالكيّة ، وحنبليّة ، سُنّة وشيعة ، ردوداً حاسمة على مزاعم الوهّابيّة ومفترياتهم ، في كتب ورسائل ، شعراً ونثراً ، بما تمّت الحجّة على كلّ الناس (١) .

وواحدٌ من مظاهر جهلهم أنّهم ، في نفس الوقت الذي يعارضون تمجيد أهل بيت النبيّ وتقديسهم وتعظيمهم ، يحاولون التمجيد بِحُثالات التاريخ الإِسلاميّ ممّن ملأوه بالجرائم والفضائح والآثام ، مثل : يزيد الخمور ، وحجّاج الدماء ، والوليد الكفور ، وسائر بني أُميّة وآل مروان وآل زياد ، الّذين حاربوا عليّاً أمير المؤمنين ، وسفكوا دماء المسلمين ، وقتلوا عمّاراً ، وقتلوا حجر بن عديّ صحابيّ رسول الله ، وقتلوا الحسين سبط رسول الله ، وسَبَوا زينب عقيلة بني هاشم ، وعليّاً السجّاد زين العابدين ، وهدموا الكعبة ، واستباحوا المدينة حرم رسول الله ، وقتلوا العلويّ المجاهد زيد الإِمام الشهيد وصلبوه ، وتتبّعوا أهل البيت قتلاً وتشريداً حتى أوغلوا في سفك دماء آل محمّد وظلمهم .

وهذا التاريخ قد ملئت صحائفُه وٱسودّ وجهُه ممّا جناه أُولئك على الْأُمّة الإِسلاميّة .

فاقرأ عنه كتاب « مقاتل الطالبيّين » لتقف على بعض الحقيقة ، فما لم يكتب منها أكثر وأكثر .

كما شوّه أُولئك سُمعةَ الإِسلام وحرّفوا تعاليمه وموازينه بما ارتكبه أشياخهم ، وأُمراؤهم ، وخلفاؤهم ، ونساؤهم ، بفجورهم ، ولهوهم وبذخهم ، فليقرأ المسلم عن ذلك كتاب « الأغاني » ليقف على بعض المخازي والإِجرام والتعدّي على حقوق الله وحدوده

__________________

(١) وقد أعددنا قائمة بمؤلّفات المسلمين في الردّ على الوهّابيّة نشرت في مجلّتنا هذه « تراثنا » العدد ١٧ ، السنة ٤ ، ١٤٠٩ هـ .

١٩٧
 &

وحرماته ، والعبث بكرامة الْأُمّة وأعرافها وموازينها .

هؤلاء هم القدّيسون عند الوهّابيّة ! !

أمّا أهل البيت النبويّ الطاهر ، الّذين لم يعهد التاريخ ـ بطوله وعرضه ـ منهم سوى التقى والورع والعبادة والعلم والخير والفضيلة والزهد والجهاد في سبيل الله ، لإِحياء الإِسلام ، وبسط العدل والحقّ ، ومقاومة الظلم والفساد ، طالبين للإِصلاح ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر .

أمّا أهل البيت : فحبّهم عند الوهّابيّة ـ فسقٌ ، ودعاؤهم كفر ، وتعظيمهم رفض ، واتّباعهم جريمة !

لماذا ؟ ! !

وأمّا المسلمون المخلصون ، والشيعة المؤمنون فهم من أهل البيت ومعهم ، لا يحيدون عن تعاليم القرآن ، وسُنّة النبيّ ، وسيرة أهل البيت قيد شعرة ، فهم يحبّونهم لحبّ الله ورسوله ، ويلتزمون فيهم بوصيّة جدّهم رسول الله ، ويعظِّمونهم لعلمهم ومعرفتهم ولجهادهم في سبيل الله حقّ الجهاد ، ويشايعونهم ويوالونهم لأنّهم الأحقّون بالولاء والولاية ، ولأنّهم أثبتوا جدارتهم للقيام بالأمر بالعلم والعمل والزهد والفضيلة .

وإذا كانت الأشياء تعرف بأضدادها :

فانظر إلى تاريخ أهل البيت الأبلج ، المليء بالمفاخر والمكارم ، والخير والرحمة ، والعلم ، والبركة ، وزُر مشاهدهم الشريفة تجدها مليئة بالعبادة ، عبقة بالروح ، مُضيئة بنور المعرفة والتوحيد ، عطرة بأريج الرسالة والنبوّة ، زاهية بأمجاد الإِمامة والعدل ، يتصاعد فيها نَغَمُ القرآن والذكر ، تقف فيها على كرامة النسب وعظمة المقام ، ومحبّة الله ، وتنشدّ إلى العقيدة الراسخة ، وتمتلئ بالعزم والجدّ .

ولكن انظر إلى تاريخ أعدائهم الْأُمويّين والمروانيّين وسائر الخلفاء والملوك والْأُمراء ، فلا تجد إلّا الدماء ، والفجور بالنساء ، واللعب بالكلاب والحمام ، والقمار والخمور ، والملاهي ، والمغنّيات والمغنّين ، ولا ترى فيمن حولهم إلّا الابتعاد عن الفضيلة والانعطاف على الرذيلة .

١٩٨
 &

وأمّا قبورهم ، فأفضلها « الذُبابُ فيه يعربدُ » .

وقد انمحت آثارهم وما شيّدوه من قصور وسجون ومظالم .

نعم ، قد بقي من آثارهم هذه الفئةُ الباغيةُ تتطاول على المسلمين بألسنة حِداد ، وقلوب مليئة بالأحقاد ، وعقائد سخيفة أساسها الجَبْرُ والقَدَرُ ، وأفضل إبداعهم هو في تبديع المسلمين وتكفيرهم وتفسيقهم ! وأهمّ فضيلة لهم هو ممالأة أُمراء الفجور ، وملوك الخمور ، وتأييد ظلمهم ، والتذلّل للكفّار الأجانب ، ومطاوعة أفكارهم في إصدار الفتاوى الباطلة بتكفير المؤمنين بالله وبالرسول .

أمّا المسلمون ، فقد أصبحوا اليوم ـ والحمد لله ـ يعلمون أنّ وراء هذه النعرات الطائفيّة أيد أُخرى .

وخاصّة في هذه الفترة الزمنيّة الحسّاسة التي تمرّ بالأُمّة ، حيث هي في أسوأ الظروف ، وعلى أضعف الحالات ، وفي أضنك الأيّام ، وفي أكثر ما يتوقّع من التشتّت والتفكّك والافتراق ، والهجمة الاستعماريّة في أقسى حالاتها ، وعلى أرفع مستويات السلطة ، والرِجْلُ الأمريكيّة تدنَّسُ أرض المقدّسات في الجزيرة ، أرض الحجاز ! والهيمنة الأمريكيّة تخيّم على كلّ العواصم العربيّة ، والعتوّ والتمرّد الصهيونيّ في أوج درجاته .

إنّ صدور فتاوى تكفير المسلمين له مدلول آخر ، أكبر من مجرّد مسألة شرعيّة فرعيّة !؟

ونحن واثقون بالْأُمّة الإِسلاميّة الرشيدة ، ووعيها المتكامل في هذا العصر ، أنّها لا تغترّ بأراجيف هذه الزمرة الوهّابيّة ، المدعومة بالسلطة الحاكمة ، والدولار الأمريكيّ ، والمتخلّية عن كلّ معاني الحياء والتقوى والشعور .

فلو كانوا يتمتّعون بأدنى شيء من ذلك لَما سكتوا عن ملوكهم وأُمرائهم وخلفائهم وسلاطينهم ، الّذين ملأوا الدنيا بفجورهم وفسقهم ، عاراً على المسلمين وإهانة للإِسلام ، بتصرّفاتهم الهوجاء الجنونيّة ، وتبذيرهم الأموال الطائلة في أندية القمار والخمور ، في سبيل شهواتهم ورغباتهم التافهة ، ممّا لا يمكن ستره عن أحد من العالمين .

ولَمنعوهم من التعدّي على كرامة الشعوب الإِسلاميّة بالقتل والاغتيال ،

١٩٩
 &

والعدوان ، تلبية لأوامر الدول المسيحيّة واليهوديّة .

فتلك الحرب الاستنزافية المدمّرة التي موّلوها ، وأجّجوا نيرانها ، ضدّ دولة الإِسلام في إيران .

وهذه حرب الخليج التي خرّبوا فيها بيوتهم بأيديهم وأموالهم .

وهذا الدمار الواسع والقتل الذريع والإِبادة الشاملة بأبناء العراق .

واليوم يقفون وراء فتاوى مزيّفة بغرض التفرقة بين الأُمّة ، وإغراء طائفة منهم بطائفة أُخرى !

ألا يفتح « أعضاء مجلس الإِفتاء الأعلى السعوديّ » عيونهم على كلّ هذه الجرائم التي يرتكبها ملوكهم وأُمراؤهم وسلاطينهم وخلفاؤهم ، ليمنعوه أو يحرّموه أو يستنكروه أو يقبّحوه .

إنْ كانت لهم كلمة مسموعة ؟ !

وإلّا ، فمن خوّلهم حقّ التكفير والتفسيق والتبديع ، للمسلمين ؟ !

إنّ بالإِمكان إصدار أكثر من منشور وفتوى ضدّ هؤلاء وفتاواهم الباطلة ، لكنّا ندعو المسلمين إلى ضبط النفس والتزوّد بالتقوى ، وحماية وحدة المسلمين ، والمحافظة على جماعتهم ، والإِعداد للمعركة الكبرى الفاصلة ضدّ الاستعمار والصهيونيّة .

فإنّ هؤلاء الذيول لا تبقى لهم قائمة بعد أُولئك .

ولنتمثّل بقول الشاعر :

وما كلّ كلبٍ نابحٍ يستفزّني

ولا كلّما طنّ الذُبابُ أُراعُ

هذا الكتاب وعملنا فيه :

وعلى أساس من هذا المبدأ ، رأينا الإِحجام عن الردّ على تلك الفتاوى الهزيلة ، وصمّمنا على تقديم هذه الرسالة : « الباقيات الصالحات » للتعريف بعقائد الشيعة الإِماميّة ، بصورة موجزة ، مع الاحتواء على كلّ ما هو أساسيّ من الأدلّة والبراهين في ملتزمات هذه الطائفة الإِسلاميّة في مجال التوحيد وما يتعلّق بصفات الله جلّ وعزّ ،

٢٠٠