إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢١

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مستدرك

مصادر حديث «من كنت مولاه فعلى مولاه»

المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قد تقدم نقل الأحاديث المأثورة في ذلك عن كتب علماء العامة في (ج ٢ ص ٤١٥ الى ص ٥٠١ وج ٣ ص ٣٢٠ الى ص ٣٣٥ وج ٦ ص ٢٢٥ الى ص ٣٦٨ وج ١٦ ص ٥٥٩ الى ص ٥٨٧) ، ونستدرك هاهنا عن كتبهم التي لم تنقل عنها في ما مضى (١) :

__________________

(١) اعلم أن حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» رواه محدثو الفريقين باسنادهم الكثيرة ، وبعضهم أفرد كتابا مستقلا في اسناد هذا الحديث الشريف ، منهم الحافظ المحدث المطلع المتضلع أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة المتولد سنة ٢٥٠ والمتوفى سنة ٣٣٢ وغيره من كبار المحدثين.

١

__________________

قال الشيخ حسام الدين المردي الحنفي في كتاب «آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» ص ٤٤٩ : قال الحافظ ابن حجر : حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» أخرجه الترمذي والنسائي ، وهو كثير الطرق جدا وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد وكثير من أسانيدها (٥) صحاح وحسان.

وقال في ص ٤٥١ :

أخرج النسائي بسنده عن زيد بن يثيغ قال : سمعت عليا يقول على منبر الكوفة فقام سنة من جانب المنبر الآخر فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم. أخرجه الطبراني بسنده عن ابن عمر. وابن أبي شيبة بسنده عن أبي هريرة واثنا عشر من الصحابة. والامام أحمد بن حنبل والطبراني وأبو حاتم هم جميعا بالاسناد عن أبي أيوب. وجمع من الصحابة. والحاكم بالإسناد عن علي عليه‌السلام. وعن طلحة. وأخرجه (كذا) الامام أحمد بن حنبل والطبراني وأبو حاتم هم جميعا بالاسناد عن علي عليه‌السلام وزيد بن أرقم وثلاثين رجلا من الصحابة. وأبو نعيم الحافظ في «فضائل الصحابة» بالاسناد عن سعد. والخطيب البغدادي بالاسناد عن أنس.

الى أن قال : وانه رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثون صحابيا وان كثيرا من طرقه صحيح أو حسن.

وقال العلامة السيد شهاب الدين أحمد بن عبد الله الحسيني الشافعي في «توضيح

٢

__________________

الدلائل» ص ١٩٨ نسخة مكتبة الملي بفارس :

روى هذا الحديث جماعة لهم في الإسلام قديم وحديث ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك والعباس بن عبد المطلب والحسن والحسين عليهما‌السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبو ذر جندب بن جنادة وخزيمة بن ثابت الأنصاري وأسعد بن زرارة الأنصاري وعثمان بن حنيف الأنصاري وحذيفة ابن اليمان وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ورفاعة بن رفاع الأنصاري وسمرة ابن جندب وسلمة بن الأكوع الأسلمي وزيد بن ثابت الأنصاري وأبو ليلى الأنصاري وأبو قدامة الأنصاري وسهل بن سعد الأنصاري وعدي بن حاتم الطائي وثابت بن وديعة وكعب بن عجرة وأبو هيثم بن التيهان الأنصاري وهاشم بن عتبة الزهري والمقداد بن عمرو وعمرو بن أبي سلمة المخزومي وعمران بن حصين الخزاعي وجبلة بن عمرو الأنصاري وأبو هريرة الدوسي وأبو برزة فضلة بن عبيد الأسلمي وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وحريز بن عبد الله البجلي وزيد بن أرقم وأبو عمرة عمر الأنصاري وأنس بن مالك الأنصاري وناجية بن عمرو الخزاعي ويعلى بن مرة الثقفي وزيد بن حارثة الأنصاري وعبيد بن غارب الأنصاري وأبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني وعبد الله بن أبى أوفى الأسلمي وعبد الله بن بسر المازني وأبو فضالة الأنصاري وحسان بن ثابت الأنصاري وعامر بن عمير النميري وعقبة

٣

__________________

ابن عامر الجهني وجندب بن سفيان البجلي وأسامة بن زيد الكلبي وقيس بن سعد الأنصاري وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعائشة بنت أبي بكر وأم سلمة وأم هاني بنت أبي طالب وأسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله تعالى عنهم جميعا. وكذا يروي جماعة جمة من ثقات الرواة لو نستقرئ أماجد أماثلهم عددا ونستوعب ذكر سائرهم عددا لضاق نطاق التقرير على حصر الحصر عفو الحال ويفضي السأمة الى رهق الملال وعلق الكلال هذا.

والغرض في تعداد أعداد أجلة الصحابة والصحابيات في هذا الحديث الذي هو مطلع نجوم السعادات ومجمع وفود السيادات ومنبع زلال العلا في تأكيد مواجب الولاء لأهل العباء أن يملأ أبهة قدره صدر أحبابهم ارتياحا وانشراحا ، ويكدح أكباد أعدائهم التياحا واجتياحا ، عصمنا الله تعالى من أشواط عقاب الخذلان وأنزلنا في جوارهم بحبوحة الجنان. نعم ولصدر هذه القصة خطبة بليغة باحثة على خطبة موالاتهم فات عني اسنادها عفو البديهة ، وهي هذه الخطبة التي خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فقال : الحمد لله على آلائه في نفسي وبلائه في عترتي وأهل بيتي ، أستعينه على نكبات الدنيا وموبقات الآخرة ، وأشهد أن الله الواحد الأحد الفرد الصمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا شريكا ولا عمدا ، واني عبد من عبيده أرسله برسالاته الى جميع خلقه ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، واصطفاني على العالمين

٤

__________________

من الأولين والآخرين ، وأعطاني مفاتيح خزائنه ووكد علي بعزائمه واستودعني سره وأمرني فأبصرت له ، فأنا الفاتح وأنا الخاتم ولا قوة الا بالله.

اتقوا الله أيها الناس حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون ، واعلموا أن الله بكل شيء محيط ، وانه سيكون من بعدي أقوام يكذبون علي فيقبل منهم ، ومعاذ الله أن أقول على الله الا الحق أو أفوه بأمري الا الصدق ، وما آمركم الا ما أمرني به ولا أدعوكم الا اليه ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فقام اليه عبادة بن صامت فقال : ومتى ذاك يا رسول الله ومن هؤلاء عرفناهم لنحذرهم. قال : أقوام قد استعدوا لهما من يومهم وسيظهرون لكم إذا بلغت النفس مني هاهنا ، وأومأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى حلقه.

فقال عبادة : فإذا كان ذلك فإلى من يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عليكم بالسمع والطاعة للسابقين من عترتي الآخذين عن نبوتي ، فإنهم يصدونكم عن الغي ويدعونكم الى الخير ، وهم أهل الحق ومعادن الصدق ، يحبون فيكم الكتاب والسنة ويجنبونكم الإلحاد والبدعة ويقمعون بالحق أهل الباطل ولا يميلون مع الجاهل الذاهل.

أيها الناس ان الله خلقني وخلق أهل بيتي من طينة لم يخلق منها غيرنا ، كما أول من ابتدأ من خلقه ، فلما خلقنا نور بنور ناكل ظلمة وأحيا بنا كل طينة.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هؤلاء خيار أمتي وحملة علمي وخزانة سري وسادة

٥

__________________

أهل الأرض ، الداعون الى الحق المخبرون بالصدق ، غير شاكين ولا مرتابين ولا ناكصين ولا ناكثين ، هؤلاء الهداة المهتدون والأئمة الراشدون ، المهتدى من جاءني بطاعتهم وولايتهم والضال من عدل عنهم وجاءني بعداوتهم ، حبهم ايمان وبغضهم نفاق ، انهم الأئمة الهادية وعرى الحكام الواثقة ، بهم ينمى الأعمال الصالحة ، هم وصية الله في الأولين والآخرين ، والأرحام الذي أقسمكم الله بها إذ يقول «واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام ان الله كان بكم رقيبا» ثم ندبكم الى حبهم فقال : «قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى» هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من النجس ، الصادقون إذ نطقوا ، العالمون إذا سئلوا ، الحافظون لما استودعوا. أجمعت فيهم الجلال العرش (كذا في المصدر.) لم يجمع الا في عترتي وأهل بيتي الحلم والعلم والنبوة واللب والسماحة والشجاعة والصدق والطهارة والعفاف والحكم لهم كلمة التقوى وسبل الهدى والحجة العظمى والعروة الوثقى ، هم أولياؤكم عن قول ربكم وعن قول ربي ما أمرتكم.

ألا من كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره. أوحى الي ربي ثلاثة : أنه سيد المسلمين ، وامام خيرة المتقين ، وقائد الغر المحجلين. وقد بلغت عن ربي ما أمرت ، واستودعهم الله فيكم واستغفر الله لي ولكم.

__________________

١) کذا ف المصدر.

٦

__________________

قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي المقتول سنة ٦٥٨ في «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب» ص ٦٤ بعد نقل حديث الغدير :

قلت : هذا حديث مشهور حسن روته الثقات ، وانضمام هذه الأسانيد بعضها الى بعض حجة في صحة النقل ، ولو لم يكن في محبة علي عليه‌السلام الا دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمحب علي بكل خير لكان فيه كفاية لمن وفقه الله عزوجل ، فكيف وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عزوجل بموالاة من والاه وبمحبة من أحبه وبنصر من نصره.

وعلى وفق النص قال حسان بن ثابت في المعنى :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم فأسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا

ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا علي فاننى

رضيتك من بعدي اماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى عليا معاديا

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا حسان لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نافحت عنا بلسانك.

٧

__________________

وقال السيد الحميري عليه الرحمة في المعنى :

يا بايع الدين بدنياه

ليس بهذا أمر الله

من أين أبغضت علي الرضى

وأحمد قد كان يرضاه

من الذي أحمد من بينهم

يوم غدير الخم ناداه

أقامه من بين أصحابه

وهم حواليه فسماه

هذا علي بن أبي طالب

مولى لمن قد كنت مولاه

فوال من والاه يا ذا العلا

وعاد من قد كان عاداه

وقال من قصيدة في معناه :

إذا أنا لم احفظ وصاة محمد

ولا عهده يوم الغدير مؤكدا

فاني كمن يشري الضلالة بالهدى

تنصر من بعد التقى أو تهودا

ومالي وتيما أو عديا وانما

أولو نعمتي في الله من آل أحمدا

تتم صلاتي بالصلاة عليهم

وليست صلاتي بعد أن اتشهدا

بكاملة ان لم أصل عليهم

وأدع لهم ربا كريما ممجدا

وقال العلامة الحافظ الشيخ يوسف بن قزأوغلي بن عبد الله المعروف بسبط ابن الجوزي المتوفي سنة ٦٥٤ في كتاب «تذكرة الخواص» ص ٣٠ ط النجف : اتفق علماء السير على أن قصة الغدير كانت بعد رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة ، جمع الصحابة وكانوا مائة

٨

__________________

وعشرين ألفا وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ـ الحديث. نص صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والاشارة.

وذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بأسناده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال ذلك طار في الأقطار وشاع في البلاد والأمصار ، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري ، فأتاه على ناقة له فأناخها على باب المسجد ثم عقلها وجاء فدخل في المسجد فجثا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد انك أمرتنا أن نشهد أن اله الا الله وانك رسول الله فقبلنا منك ذلك ، وانك أمرتنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ونصوم شهر رمضان ونحج البيت ونزكي أموالنا فقبلنا منك وذلك ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته على الناس وقلت «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، فهذا شيء منك أو من الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد احمرت عيناه ـ : والله الذي لا اله الا هو انه من الله وليس مني (قالها ثلاثا) ، فقام الحارث وهو يقول : اللهم ان كان ما يقول محمد حقا فأرسل من السماء علينا حجارة أو ائتنا بعذاب اليم. قال : فوالله ما بلغ ناقته حتى رماه الله من السماء بحجر فوقع على هامته فخرج من دبره ومات ، وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

فأما

قوله «من كنت مولاه» فقال علماء العربية لفظة «المولى» ترد على وجوه : أحدها : بمعنى المالك ، ومنه قوله تعالى («ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا

٩

__________________

يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي على مالك رقه.

والثاني : بمعنى المولى المعتق بكسر التاء.

والثالث : بمعنى المعتق بفتح التاء.

والرابع : بمعنى الناصر ، ومنه قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ، أي لا ناصر لهم.

والخامس : بمعنى ابن العم ، قال الشاعر :

مهلا بني عمنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بنينا ما كان مدفونا

وقال آخر :

هم الموالي حتفوا علينا

وانا من لقائهم لزور

وحكى صاحب الصحاح عن أبي عبيدة ان قائل هذا البيت عنى بالموالي بني العم ، قال : وهو كقوله تعالى (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

والسادس : الحليف ، قال الشاعر :

موالي حلف لا موالي قرابة

ولكن قطينا يسألون الأتاويا

يقول : هم حلفاء لا أبناء عم ، قال في الصحاح : وأما قول الفرزدق :

ولو كان عبد الله مولى هجوته

ولكن عبد الله مولى المواليا

فلأن عبد الله بن أبي إسحاق مولى الحضرميين ، وهم حلفاء بني عبد شمس ابن عبد مناف ، والحليف عند العرب مولى ، وانما نصب «المواليا» لأنه رده الى

١٠

__________________

أصله للضرورة ، وانما لم ينون مولى لأنه جعله بمنزلة غير المعتل الذي لا ينصرف.

والسابع : المتولي لضمان الجريرة وحيازة الميراث ، وكان ذلك في الجاهلية ثم نسخ بآية المواريث.

والثامن : الجار ، وانما سمي به لماله من الحقوق بالمجاورة.

والتاسع : السيد المطاع ، وهو المولى المطلق ، قال في الصحاح : كل من ولي أمر أحد فهو وليه.

والعاشر : بمعنى الأولى ، قال الله تعالى (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) أي أولى بكم.

وإذا ثبت هذا لم يجز حمل لفظة «المولى» في هذا الحديث على مالك الرق لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مالكا لرق علي عليه‌السلام حقيقة. ولا على المولى المعتق ، لأنه لم يكن معتقا لعلي ولا على المعتق لأنه عليه‌السلام كان حرا ، ولا على الناصر ، لأنه عليه‌السلام كان ينصر من ينصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخذل من يخذله. ولا على ابن العم ، لأنه كان ابن عمه. ولا على الحليف ، لأن الحلف يكون بين الغرماء للتعاضد والتناصر وهذا المعنى موجود فيه ولا على المتولي لضمان الجريرة ، لما قلنا أنه انتسخ ذلك. ولا على الجار ، لأنه يكون لغوا من الكلام ، وحوشي منصبه الكريم من ذلك. ولا على السيد المطاع ، لأنه كان مطيعا له يقيه بنفسه ويجاهد بين يديه ، والمراد من الحديث الطاعة المحضة

١١

__________________

المخصوصة ، فتعين الوجه العاشر ، وهو الأولى ، ومعناه من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به.

وقد صرح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن السعيد الثقفي الاصبهاني في كتابه المسمى بمرج البحرين ، فانه روى الحديث بإسناده الى مشايخه وقال فيه : فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد علي عليه‌السلام فقال : من كنت وليه وأولى به من نفسه فعلي وليه ، فعلم ان جميع المعاني راجعة الى الوجه العاشر.

ودل عليه أيضا قوله عليه‌السلام : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وهذا نص صريح في اثبات إمامته وقبول طاعته ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأدر الحق معه حيثما دار وكيف ما دار ، فيه دليل على أنه ما جرى خلاف بين علي عليه‌السلام وبين أحد من الصحابة الا والحق مع علي عليه‌السلام ، وهذا بإجماع الأمة. ألا ترى أن العلماء انما استنبطوا أحكام البغاة من وقعة الجمل وصفين.

وقد أكثرت الشعراء في يوم غدير خم ، فقال حسان بن ثابت :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم فأسمع بالرسول مناديا

وقال : فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ومالك منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فانني

رضيتك من بعدي اماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

١٢

__________________

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى عليا معاديا

ويروى ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمعه ينشد هذه الأبيات قال له : يا حسان لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا او نافحت عنا بلسانك.

وقال قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وأنشدها بين يدي علي عليه‌السلام بصفين :

قلت لما بغى العدو علينا

حسبنا ربنا ونعم الوكيل

وعلي امامنا وامام

لسوانا به أتى التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب جليل

وأن ما قاله النبي على الأمة

حتم ما فيه قال وقيل

وقال الكميت :

نفى عن عينك الأرق الهجوعا

وهما تمترى عنه الدموعا

لدى الرحمن يشفع بالمثاني

فكان له أبو حسن شفيعا

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان له الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطرا منيعا

ولهذا الأبيات قصة عجيبة ، حدثنا بها شيخنا عمرو بن الصافي الموصلي رحمه‌الله تعالى قال : أنشد بعضهم هذه الأبيات وبات مفكرا ، فرأى عليا عليه‌السلام في المنام فقال له : أعد علي أبيات الكميت ، فأنشده إياها حتى بلغ الى قوله «خطرا

١٣

__________________

منيعا» فأنشده علي عليه‌السلام بيتا آخر من قوله زيادة فيها :

فلم أر مثل ذاك اليوم يوما

ولم أر مثله حقا أضيعا

فانتبه الرجل مذعورا.

وقال السيد الحميري :

يا بايع الدين بدنياه

ليس بهذا أمر الله

من أين أبغضت علي الرضى

وأحمد قد كان يرضاه

من الذي أحمد من بينهم

يوم غدير الخم ناداه

اقامه من بين أصحابه

وهم حواليه فسماه

هذا علي بن أبى طالب

مولى لمن قد كنت مولاه

فوال من والاه يا ذا العلا

وعاد من قد كان عاداه

وقال بديع الزمان أبو الفضل احمد بن الحسين الهمداني :

يا دار منتجع الرسالة

وبيت مختلف الملائك

يا ابن الفواطم والعواتك

والترايك والأرايك

انا حائك ان لم أكن

مولى ولائك وابن حائك

وقال العلامة أبو جعفر الاسكافي محمد بن عبد الله المعتزلي المتوفى سنة ٢٤٠ في كتابه القيم «المعيار والموازنة» ص ٢١٠ ط بيروت قال :

ثم قوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] له في غدير خم «من كنت مولاه فعلي

١٤

__________________

مولاه» [يكون] ابانة له منهم وتقريبا له من نفسه ، ليعلموا أنه لا منزلة اقرب الى النبي صلى الله عليه من منزلته.

فان قال قائل : انما قال ذلك النبي عليه‌السلام في ولاء النعمة ، ومعنى الحديث في زيد بن حارثة ، لأنهما قد كانت بينهما مشاجرة فادعى علي بن أبي طالب ولاء زيد بن حارثة وأنكر ذلك زيد ، فبلغ ذلك النبي عليه

السلام فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، [فيكون ذلك إذا] في ولاء العتق.

قلنا : ليس لما ذهبتم اليه معنى يصح ، لأن أول الحديث وآخره يبطل ما ذكرتم لأنه ذكر في أول الحديث

[انه صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب الناس] فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ و [من] كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا : اللهم بلى. فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه.

فلا يكون من البيان في نفي ما قلتم أوضح من هذا ، لأنه قد نص على المؤمنين جميعا بقوله ، ودل على ابانة علي من الكل بمولويته على كل مؤمن ومؤمنة ، ثم اقامه في التقديم عليهم مقامه ، وأعلمهم ان تلك لعلي فضيلة عليهم كما كانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلة ، تأكيدا وبيانا لما أراد من قيام الحجة ونفي تأويل من تأول بغير معرفة.

ولو كان ذلك من النبي عليه‌السلام على طريق الولاء والملك لكان العباس بذلك أولى من علي ، لأنه اقرب الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه.

١٥

__________________

وآخر الحديث [أيضا] يدل على أن ذلك لم يكن لما ذكروه من العلة ، وهو قوله «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ، وهذا كله يدل على ما قلنا [ه] من تقدمه [على الناس] في الدين وتفضيله على العالمين و [ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما] اختاره [لعلمه] بأنه لا يكون منه تغيير ولا تبديل ، وان حاله واحدة متصلة عداوته بعداوة الله وولايته بولايته ، كما اتصل ذلك من النبي عليه‌السلام.

[وقد ذكرنا من مدلول الحديث ما يلفت نظركم الى الحق] لتعلموا ان النظر في الحديث يوجب ان النبي انما أراد بهذا الحديث ابانة علي رضي‌الله‌عنه من المؤمنين جميعا ، واعلامهم ان منزلته في التفضيل عليهم والتقدم لهم بمنزلته عليه‌السلام.

ففكروا في هذا الحديث ، فما أبين دلائله وأوضح حجته وتأكيده وما أعجب قوته عند النظر فيه من جميع أسبابه ومعانيه.

[وفكروا أيضا في] قول عمر ـ له عند ما سمع [من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] هذا الحديث ـ بخ بخ [لك] يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

فهذا حديث يؤكد بعضه بعضا ويشهد بشهادة واحدة ، وينفي تحريف الشاكين والمقصرين ، ويوجب قول أهل العلم واليقين.

وقد قال قوم : ان معنى الحديث انما هو في الولاية ، فمعنى قوله «من كنت

١٦

__________________

مولاه فعلي مولاه» من كنت وليه فعلي وليه. ويدل على ذلك قول الله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [١١ / محمد : ٤٧] فإنما أراد الله بهذه الولاية ، فخص علي بن أبي طالب بهذه الكلمة [لأنه أراد منها الرئاسة والامارة ، ولو كان يريد منهما غير الرئاسة والأمارة من مثل المحبة والنصرة] و [كان] المؤمنون جميعا في معنى الولاية [بهذا التفسير] داخلون ، لأنهم لله ولرسوله موالون [لم يكن وجه لتخصيصه عليا بها] كما خصت الأنصار باسم النصرة والمؤمنون جميعا في معنى النصرة [لله] ولرسوله داخلون.

[قال أبو جعفر الإسكافي] : وهذا أيضا خطأ من التأويل بدلالة اول الحديث لأن قوله «ألست اولى بالمؤمنين من أنفسهم وبكل مؤمن ومؤمنة؟» [وهذا] يدل [على] أنه لم يرد بذلك الولاية ، لأن هذا المعنى لا يجوز أن يكون لهم ، لأن الوليين كل واحد منهما مولى صاحبه.

وقوله «ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة؟ واولى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ إيجاب ان للنبي عليه‌السلام عليهم في ذلك ما ليس لهم في التقدمة ، وكذلك علي مولاهم انه أولى بهم جهة التقدمة ، لان آخر الكلام على اوله مردود ، فمن أراد ان يدخل في آخر الحديث معنى يزيل ما قلنا [ه] نفاه اول الحديث ، ومن أراد ان يدخل في اوله معنى غير ما وصفنا [ه] نفاه آخر الحديث ، فالحديث يشهد بعضه لبعض بما قلنا ، ويوجب الحجة الواضحة بما اليه ذهبنا.

١٧

__________________

فان قال قائل : فإذا كنتم قد أبطلتم من معنى الحديث ولاية الدين والولاء والعتق فليس لما ذهبتم اليه معنى.

قلنا لهم : قد أوضحنا لكم معنى ثالثا لو فهمتم ، لأن أول الحديث فيه ذكر كل مؤمن ومؤمنة ، فيعلم أنه لم يرد بذلك زيد بن حارثة الا بدخوله في اسم الايمان وما في آخره من ذكر العداوة والولاية.

ولم يرد بقوله «ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة» الولاية ، لأن هذه منزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست لأحد من المؤمنين ، والولاية لهم هم لها موصوفون فتلك منزلة علي بن أبى طالب.

فان قال قائل : وبما استحق علي بن أبي طالب هذه المنزلة؟

قلنا له : ان قولكم «بما استحق علي بن أبي طالب هذه المنزلة» بعد ما أوقفناكم وعرفتم أن النبي عليه‌السلام أنزل هذه المنزلة وأبانه بهذه الفضيلة تهمة وسوء ظن بالنبي عليه‌السلام ، لأن الذي فعل [به] النبي عليه‌السلام [ذلك] قمن بذلك لم يفعله [به] الا بالاستحقاق ، ولأن النبي عليه‌السلام لم يكن بالذي يتقدم بين يدي الله ، فبين علي بن أبي طالب هذه البينونة ويشهره هذه الشهرة الا بأمر من الله ، فهذا من قولكم تهمة ، فان أقمتم عليه بعد البينة كفرتم.

فان قالوا : فدلونا على قوله «من كنت مولاه فعلي مولاه» يحتمل ما قلتم من التقدمة والابانة في اللغة.

١٨

__________________

قلنا : ذلك ما لا يستنكر في كلامهم وتعاملهم ، قد يقول الرجل للرجل إذا أراد تقديمه وتفضيله على نفسه : فلان مولاي ، يريد بذلك انه سيدي والمتقدم علي والبائن مني.

والمولى قد يكون في اللغة على طريق الولاية وعلى طريق الولاء في العتق وعلى طريق السؤدد والابانة في الفضل ، واحتمل [اللفظ] هذه الوجوه الثلاثة ، فبطل الوجهان من الحديث وثبت الثالث ، وهو ما قلنا.

على أنا قد بينا استحقاق علي بهذه المنزلة من النبي عليه‌السلام بما قد ذكرنا من مناقبه وفضائله ، فله على جميع المؤمنين التقدمة في السؤدد ، والفضل بماله عليهم من النعمة والمنة والشرف ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مولى المؤمنين جميعا بالسؤدد ، لأن به تخلصوا من الضلال ودخلوا في نعمة الإسلام ، حتى استنقذهم بدعائه وأمره وقيامه وصبره في ساعات الخوف والضيق من شفا الحفرة ومعاطب الهلكة.

ولعلي الفضل عليهم بذبه عنهم بسيفه وقيامه بالاصطلاء بحروب عدوهم منة ونعمة استحق بها عليهم السؤدد والتقدم ، لأنه قوى بذلك عزائمهم ، وأزال الشكوك بفعله عنهم وثبت يقينهم ، وحامى عن أنفسهم وأموالهم في مواقف مشهورة قد ذكرنا بعضها.

ثم حفظه لما جاء به النبي عليه‌السلام من الدين والسبق وعنايته بذلك ينبه

١٩

__________________

عاقلهم ويعلم جاهلهم ويقيم الحجة على معاندهم ، وسنذكر فضله عليهم في العلم في موضعه.

وقال العلامة أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري المقرئ المتوفى سنة ٨٣٣ في «اسمى المناقب» ص ٢٢ ط بيروت بعد نقل حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» ما لفظه :

هذا حديث حسن من هذا الوجه صحيح من وجوه كثيرة ، تواتر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو متواتر أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم ، فقد ورد مرفوعا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والعباس بن عبد المطلب وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وبريدة بن الحصيب وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعبد الله ابن العباس وحبشي بن جنادة وعبد الله بن مسعود وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وأسعد بن زرارة وخزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري وسهل بن حنيف وحذيفة بن اليمان وسمرة بن جندب وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وغيرهم من الصحابة وصح عن جماعة منهم ممن يحصل القطع بخبرهم.

وثبت أيضا أن هذا القول كان منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم ، وذلك

٢٠