رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

بمنتهى الأدب طبقا لشرائعهم ولذلك سرعان ما يثقون بهم ويفضلونهم على غيرهم في المكان والماهية ، ويعتبرونهم من «الشلبية» الحقيقيين ، أي الأشراف.

ومع أن هؤلاء الأشخاص وغيرهم من الأتراك يحتفظون بعدة زوجات متباينات في المولد وفي النسب إلا أن لهن حصة متساوية في إدارة شؤون الأسرة. فكلهن يتزودن بالمأكل والمشرب والملبس على قدم المساواة. كما أن العمل يكون مقسما فيما بينهن بالقسطاس. ذلك لأن أيّا منهن لم تجلب لزوجها شيئا من المال ، بل إن هؤلاء الأزواج هم الذين يشترونهن من آبائهن بمبالغ نقدية كبيرة في بعض الأحيان ، ثم يجهزونهن بالملبس وما شاكله. ولذلك فإن الرابطة الزوجية تمنح الزوج سلطة أقوى من سلطة الزوجة ، ولهذا يستطيع الزوج أن يتزوج امرأة واحدة ثلاث مرات ثم يطلقها مرة أخرى (١).

ولكن الواقع أن الزوج لا يفعل ذلك إلا إذا خشي الفضيحة. وهذا ما تستطيع أن تستشفعه من كلمات السلطان التركي «بايزيد» (٢) التي وجهها إلى «تيمور» أو «تيمور لنك» (٣) والتي يقول له فيها من الأفضل له أن يعيد زوجته بعد أن طلقها ثلاث مرات ، من أن يهب للحرب ضده.

__________________

(١) وهذه مبالغة أخرى من المؤلف أيضا. ذلك لأن المسلم إذا ما طلق زوجته فلن يستطيع أن يتزوجها بعد طلاقها منه لكن إذا ما تزوجت رجلا غيره وطلقها ذلك الرجل طلاقا باتّا جاز لزوجها الأول أن يتزوجها ثانية ولا توجد حوادث تؤكد تكرار الزواج والطلاق من زوجين لأكثر من مرتين.

(٢) بايزيد كتبه المؤلف Bajazet ويقصد به بايزيد الأول الملقب بالصاعقة (ييلدبرم) وهو رابع السلاطين العثمانيين وابن السلطان مراد الأول ولد سنة ٧٦١ ه‍ ـ ١٣٥٩ م وتولى العرش سنة ٧٩١ ه‍ ـ ١٣٨٨ م واندحر أمام تيمور لنك في معركة أنقرة التي وقعت سنة ٨٠٤ ه‍ ـ ١٤٠١ م ثم توفي في السنة التالية.

(٣) تيمور ذكره المؤلف باسم تيميري Temery وعرف باسم تيمور لنك أي تيمور الأعرج

٨١

وقد احتمل تيمور لنك تلك العبارة المستقبحة ، وأسرّها في نفسه ولذلك لم يهزم «بايزيد» في إحدى المعارك حسب بل أخذه أسيرا وحمله في قفص حديدي أشبه بوحش الغابة.

علي أن أعود الآن إلى موضوع الزواج فأقول إن زواج الأتراك لا يشترط فيه أن يصادق عليه أحد من رجال الدين قبل وقوعه (١). ذلك لأن على زوجاتهم أن يعشن في وفاق وسلام ومودة ، وأن لا يعارضن أزواجهن إلا في قضية واحدة هي عدم إحلال المساواة بينهن. فإذا ما حدث ذلك ، وهو يحدث في أغلب الأحيان ، فإنهن لا يجرأن على أن يشكين أزواجهن إلى القاضي أو الحاكم. ولذلك تعرض على القاضي كل يوم قضايا غريبة جدّا (لكنها ليست غريبة بالنسبة إليه). فإذا ما ظهر أن الزوج كان مذنبا كانت الزوجة في حل منه وإذ ذاك يقع الطلاق رأسا وفي ذات الساعة.

والنساء التركيات جميلات ومهندمات جدّا ومؤدبات إلى أبعد حد في تصرفاتهن ومسلكهن. وحين تزوج إحداهن وتزف إلى بيت بعلها يذهب أقاربها معها ، أي أنهم يدعون لحضور حفلة الزواج ، وعندئذ تبدأ الجلبة في الشوارع وتتعالى الأصوات أكثر فأكثر كلما استمروا في السير بحيث تستطيع أن تسمع أصواتهم تلك من مسافة غير قليلة.

ويتظاهر الأغنياء والمقتدرون من الأتراك أثناء زواجهم بمشاهد عديدة. فتراهم أثناء النهار يعقدون حلبات الرقص والسباق والتمثيل

__________________

من أحفاد جنكيزخان ولد سنة ١٣٣٥ م وشغل الوزارة في حكومة سيور غاتماش خان ثم تآمر عليه وأخذ الحكم من يده وأبقاه ملكا اسميّا زحف على إيران فاحتلها ثم توجه إلى بلاد الأتراك فانتزع منهم المدن الواحدة تلو الأخرى وأخيرا هزم سلطانهم بايزيد الأول وفتح الشام ومصر والعراق والتركستان.

(١) هذا زعم باطل من الرحالة لعل مبعثه جهله بأحكام الدين الإسلامي الحنيف. فلا بد لإتمام الزواج من مصادقة القاضي على عقد الزواج وبدون هذا التصديق لا يتم أي زواج.

٨٢

والغناء والقفز والزحف والرقص على الحبال وما شاكل ذلك. وبعد غروب الشمس وحلول الظلام يشرعون بإطلاق عدة إطلاقات وصواريخ نارية علانية وفي الأماكن المكشوفة بحيث يستطيع كل فرد أن يشاهدها ويستمرون في هذه الألعاب حتى انبثاق نور الفجر.

أما الراقصون على الحبال فإنهم يرقصون فوق ثلاثة منها يكون الواحد منها فوق الآخر ويكون أعلى تلك الحبال أكثرها طولا ثم يبدأون يمارسون فوق كل حبل منها ما تعلموه من فنون خاصة بالرقص بكل دقة ورزانة. ومن أمثال الرقص والنط والجري والإيماء والسير فوق الأرجل الخشبية وغيرها من الألعاب التي تستحق المشاهدة.

وحين يتزوج أولادهم فإنهم سرعان ما ينسون آباءهم ولا يجرأون على رؤيتهم ثانية لفترة طويلة (١) ولو أنهم لا يودون أن يفعلوا ذلك.

وحين يولد لهم أولاد لا يختنونهم في اليوم الثامن لولادتهم ، بل يتركونهم حتى يبلغوا الثامنة أو التاسعة أو العاشرة من أعمارهم وإذ ذاك يجري ختانهم.

ويوجد بينهم ، ولا سيما العرب ، من يقلدون أباهم «إسماعيل» (٢) الذي لم يتم ختانه إلا بعد أن بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره.

والمعتاد أن تتم عملية الختان في بيت الوالدين. وحين يختن أولاد

__________________

(١) هذا رأي غريب من المؤلف وهو لا ينطبق لا على العرب ولا على المسلمين إذ المعتاد أن الغربيين ، وليس الشرقيين ، هم الذين تنقطع الصلة عندهم بين الآباء والأبناء بعد أن يبلغ الواحد منهم سن البلوغ.

(٢) إسماعيل بن إبراهيم الخليل جد العرب. والحقيقة أنه حتى الوقت الحاضر قد يتأخر ختان الأولاد إلى أن يتجاوز الواحد منهم العاشرة من عمره أو يبلغ الخامسة عشرة أيضا.

٨٣

أحد الأغنياء تولم لذلك وليمة ، ويشوى أحد العجول برمته. فهم يجيئون بعجل ويضعون في جوفه أحد الأكباش ثم يضعون في جوف ذلك الكبش دجاجة وفي جوف تلك الدجاجة بيضة ويطهونها سوية ويقدمونها في الوليمة وما بقي منها يوزعونه على الفقراء (١).

وحين يكبر الأطفال ويبدأون المشي يلبسونهم قمصانا فضفاضة من نسيج لطيف في عدة ألوان تسر الناظر إليها ، ثم يضعون على رؤوس الذين لم يختنوا بعد طاقيات ملونة مطرزة بالورود وتباع بشكل اعتيادي في الأسواق. لكنهم بعد أن يتم ختانهم يشرعون بارتداء العمائم البيض التي تصنع من نسيج القطن وتلف حول الطاقيات بطريقة خاصة ، ويبلغ طول الواحدة منها عشرين يردا.

ولدى السكان في هذه الأقطار عادة غريبة أخرى اعتادها الصغار والكبار والرجال والنساء على حد سواء ذلك أنهم يصنعون زواقا رقيقا من العفص والزاج الأخضر المحروق يزوقون به عيونهم ويحفظونها من الرمد كما يصبغون به شفاههم أيضا ، ويرسمون به حول عيونهم دوائر بنفس الطريقة التي نراها في أعناق الحمام المطوق الموجود في بلادنا. ويبدو أنهم ورثوا هذه التزويقات من القدم. كما أنهم يستعملون الكحل في عيونهم أيضا. ولقد قرأنا الكثير عن كحل العين في عدة أماكن في العهد القديم وأخص بالذكر الإصحاح الثالث والعشرين من سفر حزقيال ، الآية (٤٠) التي يقول فيها الرب على لسان النبي «وهكذا أقبلوا على من كانوا يغتسلون ويزوقون عيونهم ويزينون بالحلي».

أما ما يختص بتعليم الشبان فإنهم لا يتعلمون في المدرسة سوى

__________________

(١) هذه الوجبة الغريبة من الطعام غير معتادة لدى العرب أو الأتراك فالشائع أن يحشى جوف الخروف بالرز واللوز والفلافل وما شاكله ثم يطهى ويقدم على المائدة وهو ما يعرف عندنا بأكلة : «القوزي».

٨٤

القراءة والكتابة باللغة العربية ، وهذه حروفها واحدة بالنسبة للعرب وللأتراك وإن كانت لغاتهم متباينة تماما.

وما خلا ذلك توجد مدارس أخرى يدرس فيها الشبان القوانين التي يسنها السلطان ولذلك سرعان ما يطلب إلى هؤلاء الذين يستمرون في دراسة هذه القوانين أن يتولوا المناصب من أمثال القاضي وقاضي الشرع.

أما بالنظر إلى العلوم والفنون الحرة التي نتعلمها نحن في بلادنا فإنهم لا يقبلون على تعلمها ، ولذلك فإن من يعرف هذه العلوم والفنون لا ينعدم وجوده بينهم حسب بل إنهم يعتبرون تعلمها خرافة ومضيعة للوقت (١) ، في حين نراهم يتعشقون الأغاني القديمة والأشعار التي تتحدث عن أخلاق سلاطينهم القدامى وعظمتهم وغيرهم من الأبطال. كما أنهم يحبون القصص الخيالية التي تحط من منزلة الأمم الأجنبية أو أية أمة معادية لهم. وهكذا تجدهم ينهمكون في إنشاد الأغاني والاستماع إلى من ينشدها والتي يكررونها كل يوم بأساليب خاصة ، خارج المدينة وفي الأماكن المخضوضرة التي يمارسون فيها الكثير من المتع الأخرى كالغناء والرقص والنط وما شاكل ذلك. ولهذا نراهم يقبلون على قراءة مثل هذه الأشياء التافهة بدلا من العلوم والفنون التي لا يأبهون بها ولا بأمثالها من الأعمال النبيلة ، من أمثال طبع الكتب التي يتعلمونها والتي يتشوق إليها الكتبة جدّا ، ممن يقل عددهم أو يزيد في مدينة عن أخرى.

__________________

(١) يبدو أن جهل الرحالة بالمدينة الإسلامية الزاهرة وسطوع أنوارها في أوروبا التي كانت غارقة في الظلام ، هو الذي جره إلى هذا القول المهجور ففي الوقت الذي كانت تقوم فيه الجامعات الإسلامية في الأندلس والمغرب ومصر والعراق وغيرها من ديار الإسلام ، كان حتى ملوك أوروبا في ذلك الوقت لا يعرفون كتابة أسمائهم وذلك بشهادة المنصفين من مؤرخي الغرب. والحقيقة أن المدنية الإسلامية كانت المصدر الأول للحضارة الغربية الراهنة وأن أوروبا لم تستيقظ من سباتها العميق إلا بنفحات الحضارة الإسلامية التي عمت معظم أرجائها.

٨٥

ذلك لأن أمثال هؤلاء الكتاب يحصلون على قدر من النقود كل يوم لقاء ما ينسخونه من كتابات النبي «محمد» فيجنون من وراء ذلك أموالا طيبة حيث تشاهد هؤلاء الكتاب بعمائمهم الكبيرة التي تميزهم عن الآخرين (١).

والورق الذي يكتب عليه هؤلاء الكتاب صقيل عادة. وهم يكتبون حروفهم بكلمات قليلة. وحين يرسمون هذه الحروف في أعلى الورقة يطوونها بحيث لا يزيد عرضها عن بوصة واحدة ومن ثم يملأون الشقوق الخارجية في الورقة بالشمع من الداخل ، ويلصقون الواحدة بالأخرى بلصاق يستعملونه لهذا الغرض ويختمون أسماءهم عليها بأختامهم التي تدهن بالحبر فلا يبقى فيها أي بياض سوى الحروف.

وتصنع هذه الأختام بصفة عامة في دمشق التي يوجد فيها أحسن الفنانين في هذه الصنعة. وهم يصنعونها من الحديد ولا يكتبون فيها شيئا سوى أسمائهم.

وهم لا يستعملون الورق الذي سبق لهم أن كتبوا عليه على الرغم من توفره بكميات كبيرة. كما أنهم لا يصنعون أي شيء فيه ولا يستعملونه لأي غرض. ومع ذلك فإذا ما وجدوا شيئا من هذا الورق المكتوب في الشارع فإنهم لا يتركونه ملقى هناك بل يلتقطونه ويطوونه بعناية ثم يضعونه في غار يصادفونه مخافة أن يكون اسم الله مذكورا في الكتابة المدونة عليه.

وبدلا من هذه الأوراق المكتوبة يستعمل العطارون أوراق شجر «القلقاس» التي يحتفظون بمخازن كبيرة منها.

__________________

(١) إن ما قصده الرحالة بعبارة «كتابات النبي محمد» هو الأحاديث النبوية الشريفة التي تتم الأحكام الواردة في القرآن الكريم وتعد كالقرآن ذاته ، ركنا من أركان الشريعة الإسلامية السمحاء.

٨٦

الفصل السادس

المعاملات التجارية في مدينة حلب. جملة أنواع من المأكولات

والمشروبات والولائم

بعد أن تناولت وصف الأبنية والأوضاع الجارية في مدينة حلب العظيمة الفخمة ، وكذلك عوائد الأتراك وأخلاقهم ودوائرهم ، على قدر ما استطعت أن ألمّ به ، لم يعد أمامي ـ قبل أن أغادرها ـ إلا التحدث عن المعاملات التجارية التي تجري كل يوم فيها ، وهي معاملات واسعة النطاق بشكل يدعو إلى الإعجاب ذلك لأن قوافل عديدة من البغال والحمير ، بل وأكثرها من الإبل ، تتدفق كل يوم على المدينة من كل الأقطار الأجنبية ، من الأناضول وأرمينيا ومصر والهند وغيرها ، وهي مثقلة بالأحمال. ولذلك ترى الشوارع مزدحمة بحيث يصعب مرور القافلة منها تلو الأخرى.

ولكل من هذه الأقطار أو الأمم خان خاص بها وهو يحمل عادة اسم الشخص الذي بناه من أمثال «خان العجمي» و «خان وزوادا» و «خان الأبرق وسبيل» و «خان محمد باشا» وغيرها من الخانات التي يستعملونها بمثابة فنادق ، ينزلونها ويعيشون فيها ويعرضون فيها سلعهم للبيع حسبما يشاؤون. ولذلك نجد بين بقية أفراد هذه الأمم جماعة من الفرنسيين والإيطاليين وغيرهم ممن لهم أبنيتهم الخاصة بهم والتي مرت الإشارة عنها قبلا مما يسمونه بالفنادق. ويعيش البعض من هؤلاء سوية في هذه الفنادق بينما يسكن غيرهم ، ولا سيما الإيطاليون المتزوجون ، في بيوت

٨٧

أخرى غيرها حيث يقيم عدة أنفار منهم في كل بيت من هذه البيوت ويعيشون في اقتصاد مثلما يفعل الأتراك ذلك.

ويستطيع المرء أن يعثر في هذه الخانات على جملة من أنواع السلع الغريبة. مثال ذلك أنك قد تجد في «خان العجمي» كل أنواع المنسوجات القطنية كالمناديل اليدوية وعصب الرأس والأحزمة التي يشدون بها أوساطهم والطرحات على رؤوسهم إضافة إلى أنواع أخرى من المنسوجات يسميها العرب «موصلي» نسبة إلى بلد «الموصل» (١) الذي يجلبونها منه ، والذي يقع في بلاد ما بين النهرين ، وهذه الأقمشة هي التي نسميها نحن الأوروبيين «موسلين» والتي يصنع السادة الأتراك ألبستهم منها أيام الصيف.

وهناك نوع من السجاد الفاخر المحلى بالألوان الزاهية ، وهو من النوع الذي نستورده نحن إلى بلادنا أحيانا.

وهم يجلبون من بلاد فارس في أكياس من الجلد كميات كبيرة من «المن» يسمونه «طرنجبيل» (٢) ويجمعونه من نبتة يسميها العرب «عاقول» و «الحاجي» (٣). وهذا هو السبب الذي يجعله يمتزج مع أشواك صغيرة وقش أحمر اللون. ولهذا المن شيء من الحبوب أحيانا على غرار حبات «الكزبرة» عندنا. ولذلك فهو في كل مظاهره يشبه «المن» الموجود في بلادنا والذي نجنيه من شجر اللاركس (٤) كما أن هذا المن يشبه المن

__________________

(١) الموصلي وهو ما يعرف حتى الآن في أوروبا باسم موسيليني ، نسبة إلى الموصل وقد سميت عدة عوائل في أوروبا كانت تتاجر بهذا القماش الموصلي باسم «موسوليني» ومنها عائلة دكتاتور إيطاليا السابق موسوليني Mosselini.

(٢) طرنجبيل Trunschibil وهي تسمية فارسية.

(٣) عاقول Agul والحاجي Alhagi.

(٤) لاركس Larix.

٨٨

الذي تناوله الإسرائيليون الذي وفره الله فكان على شكل معجزة خارقة للطبيعة (١).

أما المن الذي يسقط على الأشواك فقد أكده كل من «سيرابيو» و «ابن سينا» في الفصول التي تناولوا فيها هذه المادة من مؤلفاتهم وكانوا يسمونها «تسريابين» و «طرنجبيين» (٢).

كذلك عرفه العالم النباتي الشهير «كارلوس كلوفيوس» وأكده في كتابه «موجز النباتات الهندية».

ولقد عثرت في أطراف حلب على بعض هذه الشجيرات التي يبلغ ارتفاعها حوالي ذراع وتتفرع منها عدة سيقان مدورة تنقسم بدورها إلى عدة أقسام كالزهرة. ويستخدم الأهلون هذه الشجيرات للتنظيف والتعقيم ، إذ إنهم يأخذون كمية منها يغلونها بالماء.

وما خلا ذلك فإن لديهم نوعا آخر من المن شبيه بالنوع السابق. وهذا النوع يرسل إلى بلادنا من «كالبريا» (٣) عن طريق البندقية.

وفضلا عن ذلك يعرض الأهلون للبيع أحجارا يسميها العرب «يازور» (٤) وهي على أشكال مستطيلة ومدورة صقيلة وذات لون أخضر

__________________

(١) يظهر الرحالة تأثره العظيم بأقوال التوراة في كل ما يتحدث عنه ويعتبر وجود «المن» من المعجزات الخارقة للطبيعة. في حين أن هذا المن يسقط في أصقاع كثيرة من العالم وفي القسم الشمالي من العراق وهو ما يعرف ب «من السما».

أما اليهود فقد عثروا على هذه الحلوى وعلى طائر السلوى ، أثناء متاهاتهم في صحراء سيناء حين خرج بهم موسى من مصر هربا من الفراعنة ولم يكن عثورهم على المن والسلوى معجزة لموسى ولا نعمة خصهم الله وحدهم دون غيرهم كما يزعمون ذلك.

(٢) Trangibine.

(٣) أحد أقاليم أيطاليا.

(٤) كتبه المؤلف باسم بازوراBazora والذي أعتقده أنه أراد بذلك حجر اليازور أو اللازورد.

٨٩

غامق. ويحصل الفرس على هذه الأحجار من نوع خاص من الصخور وهم يستعملون مسحوقه ضد المساحيق السامة والمميتة.

وهناك أنواع أخرى تشبه هذه الأحجار في الشكل والصورة لكنها ليست مثلها في الجودة ولذلك ينبغي للمرء أن يكون في منتهى الحذر كيلا يغش بها.

على أن هناك بعض الدلائل التي يمكن بها معرفة جودة هذه الأحجار من عدمها مما أطلعني عليه أحد التجار. وذلك بأن تأخذ شيئا من الجير وتمزجه بالماء مع شيء من مسحوق هذه الأحجار وتصنع منه مزيجا. فإذا ما جف المزيج اطحنه. فإن بقي لونه أبيض كان ذلك مغشوشا. أما إذا تحول إلى لون أصفر دل ذلك على جودته.

وهذا النوع يؤتى به من بلاد فارس. كذلك يجلب الفرس إلى تركيا أحجارا لا توجد إلا في بلادهم ، ويحتفظ ملكهم الصفوي (١) بخزائن كبيرة منها وقد صدرت في الآونة الأخيرة كميات كبيرة من هذه الأحجار إلى بلادنا وإذ ذاك هبط سعرها في الحال. وما إن سمع ملك فارس ذلك حتى حظر مباشرة إصدار أي منها واستمر الحظر سبع سنوات. ولذلك فإن من المحتمل أن تكون أسعار هذه الأحجار قد عادت الآن إلى مستواها السابق لأن مدة السبع سنوات قد انتهت الآن كما أخبرت بذلك.

كذلك يعرض الأهلون للبيع أقراطا عديدة من اللالىء الشرقية الغالية الثمن التي يعثر على القسم الأعظم منها في «البحار العربية» (٢)

__________________

(١) يطلق الأوروبيون على العائلة الصفوية التي حكمت إيران والعراق من سنة ٩٠٧ إلى ١١٤٨ ه‍ (١٥٠٢ ـ ١٧٣٦ م) اسم صوفي Sophy وهو الاسم الشائع لها في كل المدونات الغربية عنهم.

(٢) وردت عبارة «البحار العربية» لدى المؤلف باسم «البحار الفارسية» وهي التسمية

٩٠

وعلى مقربة من جزيرة يسمونها «البحرين» (١) لا تبعد في موقعها كثيرا عن المدينة التجارية التركية «البصرة» (٢).

وهم يجلبون إلى هنا كثيرا من الأفاوية من أمثال «الدار صيني» (٣) والفلفل والهيل (٤) وجوز الطيب (٥) وقشر جوز الطيب (٦) وغيرها من الجذور الصينية التي يستعملها العرب بوفرة ، وجذور ثمينة يسمونها «الراوند» (٧) بالإضافة إلى الأقداح والصحون الصينية أيضا.

يضاف إلى هذا أنهم يعرضون للبيع عدة أنواع من الأحجار الكريمة من أمثال العقيق والياقوت ، والياقوت الأزرق والألماس وكذلك أغلى أنواع المسك الذي يتألف من حبات صغيرة.

ويخفي التجار هذه الأحجار الثمينة في قوافل كبيرة ترد من الهند وهم يأتون بها سرّا كيلا يدفعوا عنها الرسوم الكمركية. ذلك لأن الباشوات وأمراء الألوية وغيرهم لا يتورعون عن سلب هذه الجواهر من التجار إذا ما عثروا عليها في الطرق الخارجية.

أتخلى الآن عن متابعة الحديث عن هذه المواد والأدوية الأخرى وكذلك البضائع التي يجلبها التجار إلى هنا من البلاد الأجنبية كل يوم ثم يصدرونها إلى بلاد أخرى ، إذ ليس من مهمتي التحدث عنها.

__________________

المغلوطة التي سار عليها قدامى المؤرخين وغيرهم من مؤرخي الغرب حتى الوقت الحاضر. والمقصود بالبحار العربية هنا هو الخليج العربي.

(١) ذكرها المؤلف باسم «بحاري» Bahare.

(٢) الاسم الذي عرفت به «البصرة» لدى الأوروبيين هو باتوزورا وبلصره Balsora وقد أوردها المؤلف بهذين الاسمين.

(٣) Cinnanon.

(٤) Cardamom.

(٥) Nutmeg.

(٦) Mace.

(٧) Rhubarb.

٩١

من بين المواد التي يجلبها التجار من الهند بعض القصب الطويل الصلب الممتلىء بمادة لزجة ذات لون أصفر. ويكون هذا القصب على نوعين قصير وطويل. فأما الطويل فهو أصلب ويستعمله الشيوخ والعرج بدلا من العكاكيز ، أما النوع الآخر فيصنعون منه القسي والسهام حيث نجد الأتراك يغلفونها بأغلفة حريرية مختلفة الألوان ويتباهون بها كثيرا.

كذلك توجد في الحوانيت أنواع أخرى من القصب القصير المجوف الصقيل ذي الألوان البنية والحمراء. وهذه الأنواع يستعملها الأتراك والمسلمون وغيرهم من أبناء الأقطار الشرقية لغرض الكتابة بها ، ذلك أنهم لا يستعملون ريش الإوز لهذا الغرض.

وفضلا عن ذلك يوجد نوع من العصي يجلبها الحجاج معهم من «مكة» حين يذهبون لزيارة قبر نبيهم «محمد». وأهل تلك البلاد ولا سيما العرب يحملونها معهم على ظهور الخيل بدلا من الرماح لأنها قوية وطويلة وخفيفة وفي الوقت نفسه صلبة يستطيعون بها مقارعة الأعداء ، ذلك أنهم يمسكون بها من الوسط بقوة ، ويرفعونها عاليا ثم يقذفون بها أعداءهم فتتغلغل في الأجسام التي تصيبها عميقا بفعل القطع الحديدية الحادة التي تثبت بها من خلف ومن أمام.

وإلى هذه الرماح أشار «ثيوفراستس» (١) في الفصل الحادي عشر من الجزء الرابع من كتابه. كذلك أشار إليها «بليني» (٢) أيضا في الفصل السادس والثلاثين من الجزء السادس عشر من كتابه.

__________________

(١) ثيوفراستس Theophrastus مؤرخ يوناني شهير ولد في حدود سنة ٣٠٠ ق. م. واشتهر بكتابه المهم «تاريخ النبات» الذي كان من المراجع الرئيسة في أوروبا حتى العصور المتأخرة.

(٢) Pliny هو بليني الكبير (٢٣ ـ ٧٩ م) مؤرخ وسياسي روماني شهير وعالم في النبات أيضا شارك في الحروب الرومانية في ألمانيا وأسبانيا وبلاد الغال ومات في مدينة

٩٢

ولم نشاهد في بلادنا الأوروبية سوى قلة من هذه الرماح ، ذلك لأنه يحظر على المسيحيين حملها وأنهم يتعرضون لعقوبات شديدة إن هم أقدموا على ذلك ، وكذلك إن حملوا بقية أنواع الأسلحة الأخرى التي تستخدم أثناء الحرب خارج البلاد. فإذا ما عثر على أي منهم يحمل هذا السلاح تعرض لمصاعب ومخاطر شديدة. وهذا ما وقع لواحد منهم في وقتي. فبعد أن عثر على سيف عربي معه وجهت إليه تهمة شديدة لقاء ذلك وحكم عليه بغرامة مقدارها سبعون دوكة فرض عليه أن يسددها في خلال يومين فإن لم يفعل ذلك ختنوه واعتبروه تركيا.

وما خلا الخانات التي مرت الإشارة عنها قبلا ، هناك حوانيت كثيرة داخل المدينة وخارجها تباع فيها مختلف أصناف السلع الكبيرة والصغيرة ، الجديدة والقديمة وما سواها (١).

ولدى الأهلين «بورصة» يسمونها «السوق» وتقع في وسط المدينة ، وهي أكبر من بورصة «فرايبرغ» في «بافاريا» تتوفر فيها عدة منعطفات يختص كل منعطف منها بطائفة من أصحاب الحرف والصناعات ، من أمثال العطارين والبزازين وتجار السلع والأقمشة الصوفية الرفيعة وكل أنواع المنسوجات الحريرية والقطنية ، ناهيك عن أصناف غالية من الفراء وعلى الأخص جلود الحيوانات البرية التي توجد وفرة كبيرة منها في هذه البلدان.

وفي المدينة عدد من الجوهريين الذين يبيعون مختلف أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة واللآلىء وما عداها. يضاف إلى هذا

__________________

«بومبي» التي غطاها بركان فيزوف عند ثورانه في آب سنة ٧٩ م ترك كتابا عن التاريخ الطبيعي يقع في اثنين وعشرين جزءا تحدث فيه عن الطبيعة والتاريخ وغيرهما.

(١) ذكر المؤلف هذه الأوصاف بألفاظها العربية فقال كبيرQuibir وصغيرSougir وجديدGedith وعتيق Atich.

٩٣

وجود أصناف أخرى من أصحاب الحرف كصانعي الأحذية والخياطين والنحاسين والحدادين وما عداهم ممن لهم حوانيت في السوق يمارسون فيها أعمالهم. ولكن الفئة الغالبة بينهم هم صاغة الفضة والذهب وصانعي الأقفال الذين لا يقل عددهم عن عدد أمثالهم في بلادنا.

وهناك الخراطون وصانعو السهام الذين يصنعون القسي والرماح والذين يحتفظون إلى جانب حوانيتهم بمحلات صغيرة تمارس فيها أعمال الرمي والتهديف يستطيع كل إنسان يمر بها أن يجرب حظه في التهديف أو أن يختبر سهمه قبل أن يشتريه.

وبعض هذه السهام بسيطة أحيانا لكن بعضا منها يكون مكفتا بالعاج وقرون العظام وغيرها مما يجعل أسعارها متباينة.

ويضع رماة النبال والسهام حلقة في الإبهام الأيمن ـ مثلما يفعل النجار عندنا ذلك إذ يضعون أختامهم في الإبهام الأيمن ـ حين يريدون إطلاق السهام. وتكون هذه الحلقات مصنوعة من الخشب أو القرون والفضة ، ومرصعة بالأحجار الكريمة في بعض الأحايين.

وما عدا هؤلاء فإنك تجد في الأسواق الكبيرة عددا من «الحلاقين الجراحين» (١). فإذا لم يجد هؤلاء شخصا يحلقون رأسه أخذوا يطوفون في الشوارع وهم يحملون معهم أدواتهم مع قطعة من الصابون معدة للعمل. فإذا ما عثروا على شخص يبغي الحلاقة لا يعودون به إلى حوانيتهم ليحلقوا رأسه بل يمارسون هذه العملية في الشارع أو في أي

__________________

(١) أوردهم المؤلف بهذه الصفة «الحلاقون الجراحون» Barbar Surgeons ويبدو من هذا أن الحلاقين حتى في أوروبا كانوا يمارسون بعض العمليات الجراحية وقد ظلت هذه صفتهم في الشرق إلى ما قبل ربع قرن تقريبا وربما لا تزال باقية في بعض القرى والأرياف حتى الآن.

٩٤

خان قريب منهم ، وعندئذ يمسحون شعر رأسه بالصابون ثم يحلقونه كله ولا يبقون منه سوى خصلة طويلة تتدلى من وراء على ظهره.

وفي المدينة أماكن لبيع الرقيق من كلا الجنسين ، كبارا وصغارا ، يباعون بأسعار مرتفعة أو منخفضة تبعا لقوتهم وجمالهم وما شاكل ذلك.

ولم أشاهد في هذه البلاد أية عجلات أو مركبات ويبدو أن هذه ليست مستعملة لديهم. كما أنني لم أعثر في هذه المدينة الكبيرة على صانع أسلحة يستطيع أن يصلح أي عطب يحدث في مغلق البندقية ، على الرغم من وفرة التجارة التي يؤتى بها يوميّا إلى هذه الأسواق ، حيث تستطيع أن تجد فيها ، وفي كل أوقات النهار ، عددا كبيرا من أبناء مختلف الأمم يطوفون فيها جيئة وذهابا ويسببون الازدحام في هذه الأسواق حتى لكأنك في معرض من المعارض.

وغالبا ما تجد بين هؤلاء المتجولين عددا من الأتراك السكارى الذين يتدافعون مع الناس الذين لا يفسحون الطريق أمامهم ولا سيما إن كان أولئك الناس من المسيحيين (١). ولهذا ترى المسيحيين لا يخشون مثل هؤلاء السكارى حسب بل يعدون أنفسهم لمثل ذلك مسبقا فإذا ما أبصروا أحدهم ـ وهم لا يسيرون إلا وحراسهم معهم ـ استداروا إلى جهة أخرى أو إلى واجهة أحد الحوانيت. وكثيرا ما يحدث أن يحني بعض الأتراك ظهورهم تجاه الحوانيت فإن مر بهم أحد المسيحيين مدوا واحدة

__________________

(١) هذا ادعاء باطل لا أساس له من الصحة إطلاقا. ذلك لأن أحدا أيّا كان من الناس لا يجرأ في تلك الأيام على أن يتظاهر بالسكر ، وتناول الخمور بله أن يسير في الشوارع سكران. ولقد انتشرت المسكرات في البلدان الإسلامية بتسلط المستعمرين الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين والهولنديين وغيرهم عليها ، إذ سارع هؤلاء المستعمرون إلى افتتاح الحانات علانية فأصبح تناول المسكرات يجري علانية كما هو ظاهر الآن في العراق وفي بلدان إسلامية أخرى. كما أنه لم يكن للمسيحيين في ذلك الوقت زي خاص يعرفون به حتى يتعمد الأتراك مضايقتهم كما ادعى المؤلف ذلك.

٩٥

من أرجلهم أمامه فيسقط وإذ ذاك يهزأون به ويضحكون عليه. على أن بعض المسيحيين ما إن يشاهدوا ذلك حتى يرفسوا الرجل الأخرى التي استند عليها التركي ويدعونه يسقط على الأرض.

ومن المعتاد أيضا أن يحاول الأتراك اختبار المسيحيين لمعرفة حقيقة معدنهم وما إذا كانوا من الشجعان أم لا ، للتأكد من ذلك قبل التحرش بهم حيث يواجهونهم أول الأمر بكلمات خشنة ، فإذا ما وجدوهم يشعرون بالخوف سخروا منهم واغتصبوا ما عندهم. أما إذا ما أبدوا مقاومة سامحوهم في الحال وعدوهم من الشجعان اللائقين لدخول غمار الحروب.

كذلك تجد بين هذا الحشد جملة من المحافظين على النظام وهم «السقاة» وهؤلاء يكونون عادة من الحاج الذين حجوا إلى «مكة» (١). فهؤلاء السقاة يحملون ماء الشرب في أوعية جلدية ويتصدقون به على كل من يحتاج إليه بما في ذلك المسيحيون.

ولما كان محظورا في القرآن على المسلمين شرب الخمور ، فإنك تجد الكثيرين من هؤلاء السقاة يتمسكون بعوائد خاصة. فتراهم يتنقلون ـ بدافع من إيمانهم ـ طيلة النهار بين الناس يقدمون الماء للعطاش منهم بدافع من المحبة والإحسان ويحمل الواحد منهم في إحدى يديه قدحا يصب فيه الماء من الأوعية الجلدية التي يحملونها ويضعون فيها عادة العقيق الأبيض (٢) وحجر اليشب (٣) وغيرهما. كما يضعون في بعض الأحيان فواكه لذيذة كيما يظل الماء عذبا ومنعشا وحين يناولونك شيئا من

__________________

(١) يبدو أن المؤلف قد فهم من مناداة الناس للساقي بلقب «الحاج» أن هؤلاء من الحجاج حقا. والواقع أنهم ليسوا كذلك أبدا فلربما كانت كلمة حاج تطلق على كل شخص كما تطلق الآن كلمة «سيد» مثلا.

(٢) العقيق الأبيض Chalcedonick.

(٣) اليشب Jaspir.

٩٦

هذا الماء لتشربه ، يقدمون إليك مرآة لتنظر إلى نفسك فيها ولتتذكر بأنك هالك وإنك ميت لا محالة!

وهم لا يطلبون إزاء هذه الخدمة أي شيء منك. أما إذا ما منحتهم شيئا ما تقبلوه منك شاكرين ، ورشوا على وجهك ولحيتك من ماء يحملونه في أقداح زجاجية مطوقة بسلاسل نحاسية ، إظهارا بهذا مدى شكرانهم لك.

وكذلك يعتبر الأتراك والعرب أن من المودة والإحسان أن يضعوا أمام دورهم حبابا مليء بالماء العذب طيلة النهار بحيث يستطيع أي مار أو ظامىء أن يطفىء ظمأه من مائها ، إذ يعلقون بهذه الحباب كؤوسا لتناول الماء بها فإذا ما أقبل أحد الناس إلى هذه الحباب وشاهده الآخرون ، لحقوا به ورووا ظمأهم منها. ولذلك تجد في الغالب حشدا من الناس عند هذه الحباب.

أما إن فكرت في تناول طعام أو شراب فإنك تجد عادة حانوتا مفتوحا لهذا الغرض تجلس فيه على الأرض أو على السجاد وتتناول ما تريده من طعام وشراب.

من بين الأشربة التي يتعاطونها في هذه البلاد ، شراب حسن جدّا يسمونه «قهوة» أسود اللون كالجير تماما ، وهو مفيد جدّا للمرض ولا سيما أمراض المعدة!.

والقوم يتناولون هذا الشراب في باكر الصباح وفي أماكن مفتوحة أمام كل الناس دون أدنى خوف أو اعتبار. وهم يصبونه في أقداح صينية وهو جد ساخن فيرفعون القدح إلى شفاهم لكنهم لا يتناولون منه سوى شفة واحدة بين آونة وأخرى. وتدار عليهم هذه الأقداح حين يجلسون وهم يضعون في هذا الماء ثمرة يدعونها «البن» (١) هي في حجمها وشكلها

__________________

(١) ذكره المؤلف باسم بنروBunru.

٩٧

ولونها تشبه ثمرة التوت ، ولها قشرتان رقيقتان تحيطان بها. وقد أنبأوني عنها بأنهم يجلبونها من الهند. وحيث إن كل ثمرة من هذه تحوي حبتين صفراوين ذات قشرتين مميزتين لها ، فإنها في شكلها وصفتها واسمها تتطابق مع الثمرة التي ذكرها ابن سينا باسم «بانتشو» (١) والرازي باسم «بانتشا» (٢) ولذلك اعتبرها واحدة إلى أن اطلع على حقيقة أمرها من العارفين بها.

وهذا الشراب كثير الشيوع جدّا لدى القوم ، ويوجد عدد كبير ممن يتعاطون بيعه ، مثلما يبيع الآخرون التوت في الأسواق. وهم يعدونه من المواد الغالية مثلما نعد نحن في بلادنا الخمر المصنوعة من الشجر أو التي يجري تحضيرها من أعشاب وعقاقير أخرى.

ومع ذلك فإن القوم يفضلون الخمر لو سمحت لهم شريعتهم بتناولها ، كما شاهدنا ذلك في عهد السلطان (سليم) (٣) الذي سمح لقومه بتناول الخمور ولذلك أخذوا يلتقون يوميّا في حانات الشراب ولا يكتفي الواحد منهم بتناول قدحين أو ثلاثة من الخمر غير الممزوجة بالماء ، بل وأربعة أو خمسة أقداح أيضا وبشوق كبير طالما كانت مثل هذه الخمور تنقل إليهم من «البندقية» بسرعة.

وكما شاهدتهم أنا نفسي فإنهم لا يتناولون لقمة أو لقمتين من طعام عند تعاطي الشراب ، وهذا ما يجعلهم خشني الطباع بشكل يفوقون به بقية الأمم.

__________________

(١) Bancho.

(٢) Bancha.

(٣) السلطان سليم Selyme هو سليم الثاني ابن السلطان سليمان الأول ولد في السادس من شهر رجب سنة ٩٣٠ ه‍ وتولى الحكم في سنة ٩٤٧ ه‍ وتوفي في ٢٧ شعبان ٩٨٢ ه‍ ـ ١٥٧٤ م ودفن على مقربة من جامع أيا صوفيا.

٩٨

ولكن ما أن توفي «سليم» وخلفه ابنه «مراد» (١) في الحكم حتى أصدر أوامره بحظر شرب الخمور في أوائل حكمه مباشرة وراح يطارد من يشربونها بمنتهى القسوة إلى درجة أن أي فرد تشم منه رائحة الخمر يسجن في الحال ، ويفصل من عمله ، وتفرض عليه غرامة ثقيلة طبقا لحالته المالية ، بالإضافة إلى جلده عدة جلدات على قفا قدميه.

وقد حدث ، عند ما فرض هذا الحظر ، أن كان باشا حلب خارجا من دائرته في أحد الأيام فشاهد أحد السكارى في الساحة وما إن تأكد من ذلك حتى استل سيفه وقطع به رأس ذلك السكران وتركه جثة هامدة في مكانه.

ولكن على الرغم من كل هذه الصرامة وشدة الحظر ، فإن القوم ـ ولا سيما الكفرة منهم الذين تعودوا تناول المسكرات ـ قد اعتادوا في أيام الصيف أن يحملوا معهم ، مثلما يفعل النمل ذلك ، كميات كبيرة من الخمور سرّا ، وأن يوجدوا لهم بعض الأماكن التي يجتمعون فيها ليلا ويعكفون على تناول المسكرات حتى تمتلى بها بطونهم ثم يمضون الليل كله في تلك الأماكن كيلا تشم منهم رائحة الخمر في اليوم التالي.

وفي الوقت الذي حظر فيه تناول الخمور في هذه الأقطار كنا ، نحن المسيحيين ، نتزود بها تزويدا حسنا وبأسعار رخيصة إلى أن جاء الوقت الذي سمح فيه للأتراك بتعاطيها مرة أخرى.

والخمرة التي يتناولها الأتراك حمراء اللون جيدة ومنعشة وهم يضعونها في زقاق ويأتون بها إلى «حلب» من أماكن عديدة ، ولكن بصفة

__________________

(١) مرادAmurath هو السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني ولد في ٥ جمادى الأولى سنة ٩٥٣ ه‍ ـ ١٥٤٦ م وتولى الحكم سنة ٩٨٢ ه‍ وتوفي في الثامن من جمادى الأولى سنة ١٠٠٣ ه‍ (١٥٩٤ م) ودفن في قبر أبيه.

٩٩

رئيسة ، من مدينة «نصيبين» (١) الشهيرة التي تقع على مسيرة يومين عن حدود أرمينيا. واستعمال الزقاق في حفظ الخمور ما يزال شائعا كما كان عليه في العصور السابقة ، وكما ورد عن «المسيح» في إنجيل «متى» (٢) حيث جاء في الآية التاسعة عشرة من الإصحاح التاسع قوله «يجب أن لا يضع المرء فيها خمرة جديدة». ولذلك رأينا المسيحيين قد أبيح لهم تناول الخمور وبيعها وشرائها بالإضافة إلى زرع الكروم في القرى التي يمتلكونها.

أما الأتراك الذين تحرم عليهم ديانتهم تناول الخمور ، فإنهم لا يهتمون كثيرا بزراعة الكروم ، وإذا ما فعلوا ذلك فإنهم يعصرون العنب بعدة وسائل ، ويصنعون منه الزبيب ، ولا سيما الناس الذين يعيشون في دمشق وضواحيها ، بينما يعمد آخرون إلى غلي الأعناب ليصنعوا منها الدبس. ونخص من هؤلاء أولئك الذين يعيشون في مدينة «عينتاب» (٣) التي تقع بين «بيره» (٤) ونصيبين. وهم يصنعون نوعين من هذا الدبس أحدهما ثخين والثاني خفيف. والنوع الأول أفضل من الثاني وهم يضعونه في «براميل» يبعثون بها إلى أقطارنا الأوروبية.

أما النوع الثاني فإنهم يمزجونه ويقدمونه بدلا من «الجلاب» (٥)

__________________

(١) نصيبين Nisibis ,Nisis من المدن القديمة في العراق تقع على نهر جغجغ أحد روافد نهر الخابور ورد في التوراة أن «نمرود» ملك آشور هو الذي بناها وأحاطها بالأسوار. تقع اليوم ضمن أراضي تركيا.

(٢) القديس متى St.Mathew أحد تلامذة السيد المسيح (ع) والذين رووا عنه أقواله وقد وضع واحدا من الأناجيل الأربعة التي جمعت فيها أقوال المسيح.

(٣) عينتاب Andeb من المدن القديمة في العراق أيضا. تقع على الطريق بين نصيبين وحلب وهي من أراضي تركيا في الوقت الحاضر.

(٤) بيراBirtha وتعرف باسم بيرجك هي مدينة براثا القديمة تقع على نهر الفرات وعندها أحد المعابر الرئيسية لهذا النهر عرف لدى الآشوريين باسم «زجما».

(٥) الجلاب Julep هو أي نوع من المرطبات المبردة التي تستعمل أيام الصيف ويسميه

١٠٠