رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

الفصل الثالث

من طرابلس إلى دمشق وحلب

بعد أن استرحت جملة أسابيع في طرابلس وشاهدت معالم تلك المدينة وأبنيتها واطلعت على أحوالها البهيجة ، وأكثر من ذلك عرفت عوائد سكانها وتقاليدهم وأخلاقهم سواء في ذلك الأكابر منهم أم الواطئون ، قررت أن أسافر إلى مدينة «حلب» التي تعتبر أكبر مدينة تجارية في سوريا ، وأكثرها شهرة إطلاقا ، والتي تقع على مسيرة خمسة أو ستة أيام من طرابلس وباتجاهها الشمالي الشرقي.

وحين صادفت بعض الزملاء الراغبين في السفر معي ، تزودنا بالأطعمة التي نحتاج إليها في رحلتنا تلك ، كالخبز والجبنة والبيض وما شاكلها ، وهكذا غادرنا طرابلس في اليوم التاسع من شهر تشرين الثاني سنة ١٥٧٣.

ولقد صادفتنا في الطريق أمطار غزيرة إذ إن الأمطار تسقط عادة في مثل هذا الوقت من السنة ، وتستمر طيلة الشتاء تقريبا ولهذا السبب فقد تأخرت مسيرتنا إذ إننا لم نصل إلى «دمشق» (١) ، التي تقع في منتصف الطريق بين طرابلس وحلب ، إلا في اليوم الرابع لمغادرتنا.

__________________

(١) كتب المؤلف اسم دمشق باسم «دامانت Damant» تارة و «داماندDamand» تارة أخرى وهذا هو الاسم الذي عرفت به قديما.

٦١

وقد نزلنا هنا في النزل الكبير الموجود في المدينة والذي يسمونه «كروان صاري» حيث خصصت لنا إحدى الغرف فيه ، لكننا لم نجد فيها أية موائد أو كراسي أو مقاعد أو أسرة وإنما مدت على الأرض حصيرة من القصب المضفور لتعوض عن كل تلك الأدوات. ولقد ابتعنا من سوق المدينة بعض الأطعمة حسب رغبتنا وأمضينا الليل كله هناك.

وهذه المدينة التي يعتبرها البعض مدينة «أفاميا» (١) القديمة كبيرة وحسنة البناء تقع في واد بين التلال ، ولذلك لا تستطيع أن ترى شيئا منها ، قبل قدومك إليها ، سوى القلعة الحصينة الواقعة على أحد التلال. ومن حواليها بساتين وحقول كثيرة ترتوي من مياه نهر «العاصي» (٢) الواسع نوعا ما والذي يمر عبر المدينة.

ويرفع القوم الماء من النهر عن طريق النواعير التي تقوم داخل النهر ذاته لهذا الغرض ، وتفرغ الماء في أقنية تحمله إلى البساتين والحدائق فتنتعش به رغم شدة حرارة الشمس. ولقد وددت أن أتفرج على هذه البساتين لكن رفاقي كانوا مسرعين في سفرهم ، وعلى هذا غادرنا المدينة صباح اليوم التالي متوجهين إلى حلب.

شاهدنا على امتداد الطريق حقولا واسعة للقمح وبساتين كثيرة للكروم وأخرى زرعت بالأقطان التي تجلب من هذه الأصقاع وتباع لنا في أوروبا وهي تحمل اسم البلد الذي تنمو فيه ، بالإضافة إلى الحرائر والسلع الأخرى التي تشترى هناك في الدرجة الأولى.

__________________

(١) أفامياApamia من المدن التي أنشأها سلوفس نيقاتور خليفة الإسكندر المقدوني في سوريا وتعرف الآن باسم قلعة المضيق وقد دمرتها الزلازل سنة ١١٥٢ م. كما أنشأ سلوقس في العراق مدينة بنفس الاسم.

(٢) ذكره المؤلف باسم هاسي Hasce خطأ وهو من الأنهار الشهيرة في سوريا وقد أخطأ المؤلف أيضا في تحديد موقع نهر العاصي ذلك لأن النهر الذي يمر خلال دمشق هو نهر بردى ، وليس نهر العاصي.

٦٢

وفي هذه البلدان عدد كبير من الحمر الوحشية جلودها سميكة قوية تستعمل للملبس حيث يحسن القوم تطريتها وتحسينها لهذا الغرض. وتعد السيوف والسكاكين التي تصنع في دمشق من خيرة الأسلحة وأكثرها شحذا ورهافة ، إذ إن في مقدورك أن تقطع بها قضيبا من الحديد إلى عدة قطع دون أن يؤثر ذلك في شحذ السكين. ولذلك يفضل سكان المدينة حمل المدى على الخناجر التي يشدونها في أحزمتهم أو يربطونها بأشرطة تتدلى على ظهورهم.

وإذ واصلنا السير وبلغنا قمة جبل لبنان شاهدنا عددا وفيرا من القرى على جانبي الطريق معظمها مأهولة بالمسيحيين من السريان والآراميين وغيرهم ، ممن أقمنا عندهم أثناء الليل أحيانا وقد استقبلونا بمنتهى الأدب وقدموا لنا خمورا من الأعناب التي تنمو فوق تلك الجبال ولم أكن قد شربت في حياتي أفخر من تلك الخمور.

من بين القرى التي وصلنا إليها قرية تدعى «حماة» (١) تقع في أرض خصبة وقد قيل عنها إنها كانت في يوم من الأيام مدينة جميلة جدّا لكنها تهدمت بمرور الزمن وتخربت فلم تعد في أيامنا هذه سوى قرية صغيرة. كذلك تناثرت هنا وهناك بين الحقول خرائب بيوت صغيرة.

استأنفنا مسيرتنا بين الجبال ، وشاهدنا عن بعد مدينة صغيرة تقع فوق التلال وإلى أعلى منها قلعة حصينة قيل إن الفرنسيين هم الذين شادوها قبلا ، ولما كانت الأرواح الشريرة والهوام تعيش فيها فقد تركت متهدمة وغير مأهولة.

تركنا هذه القلعة على يسارنا وانتقلنا إلى حقل قمح جيد الزرع ، وإذ

__________________

(١) دعاها المؤلف باسم هنال Hanal وحماة من المدن المهمة والقديمة في سوريا تقع على نهر العاصي وتشتهر بنواعيرها التي ما زالت قائمة حتى اليوم.

٦٣

ذاك شاهدنا عن يسارنا مدينة «سرمين» (١) وهي على مسافة بعيدة عنا ، وعلى مقربة منها وحواليها غابة كثيفة من أشجار الفستق الذي يجمعونه هناك ويبعثون به إلى طرابلس ومن ثم يصدره التجار منها إلى بلادنا الأوروبية. وتنمو هذه الأشجار على مقربة من الطرق الخارجية وعلى الأخص عند قرية «باسيلو» (٢) التي مكثنا فيها طيلة الليل.

مررنا في طريقنا بتسعة أو عشرة خانات وهي عبارة عن منازل مفتوحة تدخلها القوافل والمسافرون عند المساء عادة لتمضية الليل فيها ويكون المبيت فيها مجانا ، لكنك لا تعثر فيها لا على اللحم ولا على الشراب. فإذا ما أردت أن تصيب شيئا منهما فإن عليك أن تجلبهما معك ، وأن تقنع بالمنام على كومة من القش ، فإن لم تحصل على ذلك فإنك تنام على إحدى الدكاك التي تحيط بكل جدران الخان ، والتي يوضع عليها العلف الذي تتناوله الخيل والحمير والإبل.

والمعتاد أن تكون المسافة بين خان وآخر ثلاثة أميال ، وتكون هذه الخانات واسعة منتظمة ، جدرانها حصينة مثل جدران القلاع ، وتبنى على شكل مربع عادة وفي وسطها باحة كبيرة تحيط بها زرائب مفتوحة أشبه بالقلايات في الأديرة.

ويحتفظ البعض من هذه الخانات بحامية تتألف من تسعة أو اثني عشر من الجند الإنكشاريين ، وذلك لإبقاء الطرق أمينة ولحماية المسافرين من هجمات السكان والأعراب.

بعد أن واصلنا السير في عدة جبال وعرة ، وأصبحنا على مقربة من

__________________

(١) سرمين Sermin تعرف الآن باسم «أدلب» وهي من المدن القديمة تمتاز بوجود جامع فيها مؤلف من تسع قباب.

(٢) باسيلو لم نستطع أن نعثر على الاسم الحقيقي لهذه القرية.

٦٤

حلب ، وجدنا في النهاية مدينة تشبه مدينة دمشق (١) وهي في حجمها مثل مدينة «ستراسبورغ» ، وإذ ذاك ترجلنا عند أبوابها لأنه لا يسمح في تركيا لأي أجنبي أن يدخل أية مدينة راكبا ، وعلى هذه الشاكلة دخلنا المدينة فمضيت إلى الفندق الفرنسي للمبيت فيه ، وهذا ما يفعله كل الألمان.

__________________

(١) لعل هذه المدينة التي لم يذكر المؤلف اسمها هي مدينة «الرصافة» التي عرفت منذ العهد الأشوري بهذا الاسم ثم أبدل اسمها فيما بعد الميلاد باسم «سرجون بولس» وأعاد المسلمون لها اسمها القديم الرصافة وكانت مقر الخليفة الأموي الشهير هشام بن عبد الملك.

٦٥
٦٦

الفصل الرابع

مدينة حلب

الأوضاع في مدينة حلب. الأبنية القائمة فيها ، الفواكه الفاخرة

تبدو مدينة حلب ، وهي من أعظم المدن وأشهرها في سوريا ، وكانت تدعى قديما باسم «نيريا» (١) ، محصنة في بعض المواقع بالخنادق والأسوار لكن هذه لا تدور حول المدينة كلها. ولذلك فإن في مستطاع أي امرىء ـ كما هو الأمر بالنسبة لمدينة طرابلس أيضا ـ أن يدخلها ويخرج منها في أي وقت يشاء من الليل. ولا تكون بوابات المدن ـ كما هو معتاد في بلادنا ولا سيما بالنسبة إلى المدن الشهيرة ـ محمية بالجنود. فلا يشاهد سوى اثنين أو ثلاثة يقفون عند البوابات الرئيسة التي تنطلق منها الطرق الخارجية ، إذ يقف هؤلاء لاستيفاء الأتاوة لا لمحافظة أبواب المدينة. كما أنهم لا يحملون معهم أية أسلحة.

على أن في وسط المدينة قلعة تقوم على تل مرتفع ، وهي حصينة وكبيرة محاطة بالأسوار والخنادق وفيها حراسة جيدة. أما الأبنية الأخرى ، وكلها مستوية السطوح ومغطاة بالملاط بحيث يستطيع المرء أن

__________________

(١) نيرياNerea اخطأ المؤلف في ذكر هذا الاسم إذ الصحيح أن حلب كانت تدعى «بيريا» Boarea وهذا الاسم أطلقه عليها سلوقس وهو اسم لإحدى المدن المقدونية القديمة. وكانت حلب في عهد الأراميين تدعى خالوبي وحالوبي وسميت حلبو وحلبون وحلبا أيضا.

٦٧

يمشي فوقها ، فإنها أشبه بالأبنية التي شاهدتها في طرابلس. وقد شاهدت بين هذه الأبنية بناية فخمة جدّا قيل لي إن صاحبها أنفق على بنائها مبالغ طائلة ، لكن مدخلها ليس سوى باب ضيق واطئ ولذلك فإن على من يريد الدخول إليها أن يحني جسمه تماما.

وما خلا ذلك فإن حلب محاطة بتلال صخرية وأوديتها ذات تربة طباشيرية ومع ذلك فلا تعوزها الحنطة ولا الشعير وغيرهما من الحبوب لأن أرضها خصبة. ويبدأ الحصاد فيها عادة في شهري نيسان وأيار.

ولا يوجد في هذه الأودية سوى القليل من أشجار البلوط ، والأعشاب الجافة ، ذلك لأن الجفاف فيها شديد وأرضها رملية ، في حين ترى التلال وعرة مليئة بالأدغال ليس فيها سوى القليل من العشب الجاف ، ولذلك وجدنا السكان يعلفون مواشيهم بالشعير والتبن الذي تدوسه أدوات الدراسة التي تجرها الثيران. وكذلك وجدنا الأودية مليئة بأشجار الزيتون وهذا هو الذي جعل الأهلين هنا ينتجون في كل سنة مئات الألوف من أطنان زيت الزيتون الذي يستعمل في صناعة الصابون.

وإلى جانب ذلك توجد بساتين كثيرة لأشجار اللوز والتين والسفرجل والتوت الأبيض والفستق الذي يجمعه المسلمون في فصل الربيع بكميات كبيرة فيملحونه ويقشرونه ويأكلونه مثلما نفعل نحن بنبات الجنجل.

وفضلا عن ذلك تكثر بساتين البرتقال والليمون والرمان والخوخ وغيرها غير أن ثمار التفاح والكمثرى تعد قليلة بالنسبة إلى الثمار الأخرى وتكون صغيرة الحجم وغير ملونة بالشكل المعروف منها في بلادنا. ويعقب ذلك وجود كثرة من حاصلات الرقي والبطيخ والخيار وما شاكلها فضلا عن وفرة أنواع الخضار. ولقد شاهدت ثلاثة أنواع من الباذنجان تختلف ألوانه بين الأسود والبني ، والفاصوليا وغيرها من الخضار التي

٦٨

تباع بكثرة في الأسواق وتطبخ لتهيئة الطعام اليومي كما أنهم كثيرا ما يتناولون بعض هذه الخضراوات وهي فجة أي دون طبخ.

وهناك نوع من اللوبياء أو الكستناء تطبخ أو تحمص ثم تنزع قشورها وهم يتناولونها عند ما يجلسون في المقاهي ، كما يقدمونها على مائدة الطعام بعد انتهاء الوجبات عوضا عن الحلويات أو الفواكه من أمثال الزبيب والجوز وغيرهما.

وهناك عدة نباتات تستعمل طعاما بالطبخ منها العدس. وهذا ذكرني بنبتة مماثلة يسميها العرب «ماش» وهي في شكلها وأوراقها تشبه نبتة الفاصوليا عندنا. ولقد أشار «سيرابيو» إلى هذه النبتة باسم «مليس» (١) في الفصل ١١٦ من كتابه كما أشار إليها ابن سينا أيضا باسم «ميسى» (٢) في الفصل ٤٨٨ من كتابه. غير أن العالم النباتي الشهير «كارلوسي كلوفيوس» (٣) سماها في كتابه «ملخص النباتات الهندية» باسم «مونغو» (٤) وقد وجدت الأتراك يحبون تناول الماش كثيرا ولا سيما مع الرز (٥).

__________________

(١) MES وسيرابوSerapio هذا يذكر عادة باسم سرابيون وسيرافيون أيضا وهو مطران معبد ثميوس في دلتا النيل بمصر ، وضع كتابه عن الصلاة ويعتبر من أشهر المصادر عن المثولوجيا وقد عثر على هذا الكتاب ضمن مجموعة من الوثائق القديمة في دير «لورا» وتم نشره سنة ١٨٩٤ وقد توفي سرابيو في حدود (٣٥٠) ميلادية.

(٢) Meisee المراد بكتاب ابن سينا هو كتاب «القانون» من أشهر الكتب الطبية العربية الذي ظل يدرس في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر.

(٣) كارلوس كلوفيوس Carlus Clvius عالم نباتي ومؤرخ لاتيني شهير وقد اشتهر بكتابه الموسوعي المعنون «تاريخ النبات في البلاد الأجنبية».

(٤) مونغوMungo ليست هي الموننا الهندية التي تعرف عندنا باسم عنبة.

(٥) لما كانت الغاية التي وفد راوولف من أجلها إلى الشرق هي جمع مختلف أنواع النباتات والأعشاب التي تدخل في إنتاج الأدوية الطبية ، لذلك نراه في كل مكان يحل فيه يركز اهتمامه على وصف مختلف النباتات والأعشاب التي يجدها هناك

٦٩

وجدت التجار في مدينة حلب هذه يشترون كميات كثيرة من الأدوية التي يجلبونها من أنحاء مختلفة بطرق القوافل.

__________________

وحيث إن ذكر هذه النباتات وصفاتها بشكل مسهب لا يهم القارىء كثيرا ، سيما وأننا قد ثبتنا ملحقا في آخر الكتاب ضم أهم النباتات التي وجدها راوولف في الشرق ، فقد ضربنا صفحا عن هذه التفصيلات واكتفينا بذكر أسماء النباتات والفواكه والأشجار ليس إلا.

٧٠

الفصل الخامس

المناصب الرفيعة والسلطات الواسعة التي يتمتع بها

الباشوات في حلب. البلاطات الكبيرة التي يحتفظون بها

تخضع مدينة «حلب» ، التي يعتقد أن اسمها وموقعها يشيران إلى مدينة «شاليبون» (١) التي قال عنها بطليموس إنها تقع في بلاد «الشاليبيين» (٢) ، للسلطان التركي مع بقية الأماكن القريبة منها. ويقيم فيها أحد الباشوات فيحكمها هي وباقي أنحاء الولاية حسب هواه. ولما كان الباشوات في الغالب هم أعلى طبقة تأتي بعد السلطان ، لذلك فإنهم يعيشون في أبهة ومراكز رفيعة ، وتكون بلاطاتهم أشبه ببلاطات النبلاء في بلادنا. وتبعا للولايات التي يحكمونها إن كانت كبيرة أم صغيرة ، فإنهم يستخدمون حاكمين يخضعون لسلطتهم من أمثال أمير اللواء و «بلك» باشا (٣) وغيرهم. وهؤلاء يرافقونهم باستمرار ، ويذهبون معهم حتى إلى

__________________

(١) شاليبون Chalibon اسم قديم أطلقه المؤرخون الإغريق والرومان على مدينة حلب وهذا الاسم في الواقع محرف عن الاسم الأرامي وهو «خالوبي» و «حالوبي» الذي عرفت به مدينة حلب.

(٢) الشاليبيون Chalibonite أي سكان مدينة حلب أي الحلبيون.

(٣) بلگ (بالكاف المعجمة) كلمة تركية تعني «سرية» من الجيش ولا توجد رتبة في الجيش التركي باسم «بلك باشا» كما ذكر المؤلف ذلك ، وإنما هناك رتبة «بلك أميني» وتعني عريف الإعاشة المختص بالسرية ، أما بلك باشا فقد يكون المقصود بها آمر السرية.

٧١

المساجد ، أو إلى أي مكان آخر يفكرون في الذهاب إليه وذلك في مواكب كبيرة سيرا على الأقدام أو على ظهور الخيل ، ولهم شاراتهم الخاصة بهم ولا سيما البلك باشا الذي يكون في رتبة تعادل رتبة نقيب ، وتحت إمرته مائة من الجند الإنكشاريين الذين يرتدون الملابس الفاخرة ويضعون الريش في رؤوسهم ويسيرون على الأقدام. وما خلا ذلك فإن بلاطات الباشوات تشبه بلاط السلطان نفسه تماما ، ولهم أماكن سكناهم هم ومحظياتهم اللواتي يحصلون عليهن من هنا وهناك ، من المدن والأقطار الأجنبية ، أو اللواتي ينقلن زمن الحرب في البر والبحر من الأمم المسيحية وغيرها. كذلك يحتفظ هؤلاء الباشوات بعدد كبير من الخصيان الذين يحصلون عليهم باستمرار.

ويسر الباشوات سرورا كبيرا بممارسة الصيد وغالبا ما يقومون برحلات تستغرق عدة أيام في حملات الصيد هذه. وحين يصطادون خنازير برية يتركونها للمسيحيين ، ذلك لأن شريعتهم الإسلامية تحظر عليهم تناول لحم الخنزير ، الأمر الذي يجعل الأتراك في معظم الأحيان يهزأون بالمسيحيين في الشوارع ويصرخون بهم ويسمونهم بالكفرة أو أكلة الكلاب (١).

ومع أن الباشوات هم من كبار الأشخاص وأنهم يحكمون المدن والبلدان إلا أنهم يعتبرون مع ذلك ، ومثل البقية ، أرقاء لسيدهم السلطان ، وأنهم لا يستطيعون أن يمتلكوا ما يستطيعون تركه لورثتهم أو ذريتهم بعد

__________________

(١) هذا القول محض كذب وافتراء على الأتراك وغيرهم من المسلمين فعلى العكس من ذلك قامت الشريعة الإسلامية على أساس احترام جميع الأديان التي سبقتها ولقد بقي الكتابيون محافظين على طقوسهم وشعائرهم الدينية في ظل الدولة الإسلامية ابتداء من عهد الرسول وحتى في عهد السلاطين العثمانيين وكانت الحظوة التي لقيها المسيحيون في البلاط العباسي على الأخص مضرب المثل في التسامح الذي جاء به الإسلام.

٧٢

مماتهم (١) ، مثلما يفعل ذلك النبلاء في بلادنا ، وذلك لأن السلطان يستولي بعد مماتهم على كل ممتلكاتهم المنظورة ولا يسمح لذريتهم إلا بماهية سنوية ليس إلا. وحين يأمرهم السلطان بالانتقال من مكان إلى آخر غريب عنهم وأن يبرهنوا على نزاهتهم وطيب سمعتهم ، فإنهم ينفذون أمره في الحال ، إن كانوا لا يريدون تعريض أنفسهم للمصاعب والأخطار ، وهذا هو السبب الذي يجعل مثل هؤلاء الأشخاص ، حتى وإن كانوا أثرياء ، يهتمون بتشييد المباني الضخمة ولذلك فإنك لا تستطيع أن ترى مثل هذه الأبنية في كل البلاد ، عدا المساجد والخانات التي يشيدونها كيما يتذكرهم الناس بها.

والغالب أن يحتفظ هؤلاء الأشخاص بثرواتهم بصفة كميات من الذهب والفضة ، مما يستطيعون إخفاءه وتسليمه سرا إلى ذريتهم. وهم لا يهبون المحتاجين سوى الضئيل من الهبات ولا يستخدمون عددا كبيرا من العاملين لديهم ، كل ذلك نتيجة شدة جشعهم.

ويتفق كل هؤلاء الباشوات في صفة واحدة هي العمل لمصلحتهم الخاصة والتطلع إلى الثراء ، ولذلك يظل الأفراد يخضعون لحكمهم في فاقة وإرهاق شديدين ولا سيما الأجانب الذين يعيشون في حركة تنقل هناك كالإيطاليين والفرنسيين وغيرهم ، والذين كثيرا ما تحدث بينهم وبين الباشوات ـ الذين لا يفكرون في الصالح العام قط بل في مصالحهم الذاتية ـ خلافات كبيرة يتعرضون بسببها إلى أضرار جسيمة ، إلا إذا أراد ملوكهم أن يحولوا دون هذه الأمور ، وأن يعامل رعاياهم معاملة مضمونة ، فإذ ذاك يبعثون ببعض الرجال المحنكين الذين يسمونهم بالقناصل حيث يحصل هؤلاء على امتيازات عظيمة من السلطان التركي

__________________

(١) هذا خلط فاضح من الرحالة فالمواطنون ليسوا أرقاء للسلطان ولا توجد عليهم أية قيود بالنسبة لأموالهم وما يخلفونه لذريتهم من بعدهم.

٧٣

ويصبح في مقدورهم أن يرفعوا شكاوى أبناء جلدتهم إليه ، وحمايتهم ضد أي اعتداء يتعرضون له.

وقد حدث في الوقت الذي كنت فيه أثناء مكوثي هناك أن نشب خلاف شديد بين القنصل البندقي والباشا الجديد الذي أرسل إلى هناك بدلا من الباشا الذي توفي في السادس من شهر آذار سنة ١٥٧٥ م. فلقد أقبل الباشا الجديد لاستلام منصبه في موكب حافل من الفرسان والمشاة. وعند وصوله إلى مقر عمله توجه القنصل البندقي مع عدد كبير من التجار في موكب كبير لمقابلة الباشا والترحيب به ، وتقديم هدية إليه تتألف من أربع عشرة كسوة من الملابس الحريرية الفاخرة ، والطلب إليه أن يكلأ بين عنايته أبناء وطنه كيما يتاجروا ويتعاملوا بأمان في ظل حكمه. ونظر الباشا إلى الملابس فثار سخطه ثم عاد ونظر إليها ثانية وإذ ذاك لم يرفض قبولها حسب بل رد على القنصل بكل فظاظة.

وغالبا ما يحدث أن يثير أمثال هؤلاء الكبار الخلافات ، وأن يشتطوا في خلافاتهم تلك إلى أبعد الحدود ، وقد يؤدي ذلك إلى أن تعرض هذه الخلافات في النهاية على السلطان ومحكمته. فإذا ما ظهر أن الباشا كان مسيئا عوقب في الحال ، دون اعتبار للسلطة الواسعة التي يتمتع بها بل طبقا للخطأ الذي ارتكبه ، إما بالغرامة أو بسواها. وإذا كان الجرم كبيرا فإنه قد يفقد حياته بسبب ذلك وهذا ما يحدث في أغلب الأحايين ، وهو يعتمد كثيرا على طرق المواصلات التي تدر إيرادات جسيمة على السلطان كل سنة.

ورغم أن بعض العقوبات التي يعاقب بها الباشوات شديدة أحيانا ، إلا أن أبهتهم ومطامعهم تكون واسعة ، وإنهم في سبيل الاحتفاظ بعظمتهم تلك ، لا ينفكون عن التطلع بكل الوسائل إلى الغنى والثراء ، في حين يتعرض رعاياهم كل يوم لمختلف صنوف الاضطهاد والمعاناة ولا سيما إذا كانوا من الأغنياء ناهيك عن الأجانب ، بحيث لا يستطيع هؤلاء أن يكسبوا شيئا.

٧٤

وأكثر من هذا فإن هؤلاء الباشوات يستولون ، بعد وفاة الأغنياء من رعاياهم على أكبر جزء وأعظم نصيب مما يخلفه أولئك المتوفون ، ويودعونه في جيوبهم. ولذلك فإن أمثال هؤلاء الناس لا يعانون أية آلام أو يتحملون أية نفقات في سبيل بناء منازلهم أو فلاحة أراضيهم مثلما نعاني ذلك نحن في بلادنا.

والغالب أن يعيش السكان في المدن والقرى التجارية في بيوت أو صالات واطئة معظمها تحجبها التلال بحيث لا تستطيع أن تراها إلا إذا أصبحت أمامها مباشرة. حتى إذا ما ولجتها لا تجد فيها كراسي أو مقاعد أو موائد فكل ما هناك قطعة مزدوجة من سجاد يجلسون عليه (إذ إنهم لا يستعملون الأسرة الوثيرة إطلاقا) ، وحصرا وأبسطة يلفونها سوية خلال النهار ويعلقونها في إحدى الزوايا ، ثم يفرشونها ثانية أثناء الليل ليناموا عليها. وهم لا يستعملون الشراشف كما نفعل نحن ذلك ، ولا المناشف أيضا وكل ما يستعملونه خرقة طويلة من القماش يلفون بها رقابهم العارية أو يتمنطقون بها. وكثيرا ما يشاهد في منازلهم وفي كل أنحاء بلادهم جملة من الأوعية الطينية غريبة الأشكال تغطي كل جوانب الجدران في الغرف ممّا اعتاد أقاربهم أن يهدوهم إياه أثناء الخطوبة الأمر الذي يسرهم كثيرا ، لكنهم يستعملون هذه الأوعية ليس لغرض الذكرى وإنما لأي نوع من الاستعمال.

ولا يستخدمون في مطابخهم سوى أدوات قليلة جدّا من أمثال القدور والصحون والأواني ذلك لأنهم يطبخون كل أطعمتهم سوية في قدر واحد ولذلك لن يتعب الخدم عندهم في تنظيف الأواني وترتيبها.

وهم لا يهتمون بالملابس اهتماما كافيا رغم نجاحهم في الحصول عليها. ذلك لأنهم يحبون المال حبّا جمّا ولا ينفقون طيلة اليوم بنسا واحدا دون رضا منهم. ولذلك فإن على الرجل الذي يريد الطواف في هذه الأقطار أن يكون كيسه مليء بالنقود وأن يحفظها قريبة جدّا منه ، وأن

٧٥

لا يدع أحدا يعرف مقدار ما فيها ، وأن يكون في منتهى الحذر من اليهود الذين لا يؤتمنون ، إذا ما أردت الخلاص من خطر جسيم ، ذلك لأن اليهود لا يؤدون لك أية خدمة كانت من دون مكافأة. وليس هذا حسب بل إنهم إذا ما أحسوا بأنك تحمل نقودا معك راحوا يسعون بكل الوسائل لابتزازها منك. وعلى هذا فإن الناس الذين يحجون إلى فلسطين ويرتدون ملابس رثة لا يأبهون بهؤلاء اليهود.

ويشاهد ندمان الباشا ، ومنهم الخصايا والدراويش الذين يحتفظون بأعداد كبيرة منهم ، يتهادون في أردية الحرير الطويلة الحسنة التفصيل التي يزودهم بها سيدهم ويوزعها عليهم وهي في الأصل هدايا قدمت إليه.

أما الجند من الخيالة والإنكشاريين وغيرهم ، فإنهم يحصلون عادة على ملابس صوفية زرقاء من البلاط ، ويعيشون على المرتب الذي يتقاضونه وهو يبلغ إما أربعة «معدني» أو خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية. وكل معدني يعادل ثلاثة «فارثنغات» (١).

ويقل هذا المرتب أو يزيد تبعا للأماكن التي يعمل الجند فيها ، وهو يدفع لهم يوميّا سواء في ذلك أيام السلم أم أيام الحرب.

أما إذا ما استطاع الجند أن يحصلوا على أي شيء بالقوة أو بالحرب من أعدائهم فإن ذلك يكون ملكا خاصّا لهم.

والعادة الجارية هي أن يعتمر الجنود بعمائم بيضاء ، وذلك ما يفعله جميع الأتراك. وفضلا عن هذا فإنهم يضعون ورقة ملونة تحت العمامة ، ويفعلون ذلك بصفة رئيسة عند ما يتوجهون إلى الحرب اعتقادا منهم أنهم إن فعلوا ذلك فلن يصابوا بأذى أو جرح.

كذلك يثبت الجند في عمائمهم ريشا من ريش الكركي لكي

__________________

(١) الفارثنغ Farthing أصغر عملة إنكليزية وهي تعادل ـ قبل التسعير الأخير في إنكلترا ـ مليما مصريّا أو فلسا عراقيّا.

٧٦

يعتبرهم الغير من الجنود الشجعان. ومن عدد هذه الريش يستطيع الأهلون أن يقدروا عدد المعارك التي خاضها أولئك الجنود ، أو العدد الذي قتلوه من الجنود المسيحيين.

وما خلا هذه العمائم يرتدي الإنكشاريون قبعات ذات تيجان عالية ، مصنوعة من اللباد الأبيض ، وهم يرتدونها بدلا من الخوذ ، وذلك حين يكونون في تأهب أو خروج إلى الحرب وتتدلى منها على الناصية شرائط مثقلة بالعقيق والياقوت والجواهر الأخرى التي يعلقون بها الريش ، وإن كانت هذه الحلي ليست غالية الثمن.

وهؤلاء الجند مثل بقية الأتراك المسلمين لا يطيلون شعور رؤوسهم بل يحلقونها عندما ينمو الشعر فيها ولا يتركون منه سوى خصلة من الخلف تتدلى إلى مسافة معتدلة. وهم في الوقت الحاضر يطلقون لحاهم وإن كانوا يحلقونها قبلا ، كما أنهم أخذوا في السنوات الأخيرة يربون الشوارب الغليظة. وتراهم يحملون البنادق أيام الحرب. أما في أوقات السلم ولا سيما عند ما يكونون في الحراسة فإنهم لا يحملون سوى الهراوات الطويلة.

ويسمح للجند بالزواج ، وأن يمتلكوا ـ إضافة إلى زوجاتهم ـ ما يغنمونه من أسيرات أثناء الحرب أو غيرها ، أو أن يبيعوهن إلى أي راغب في الشراء.

أما في أوقات الحرب وحين يكونون في إحدى الحملات العسكرية فإنهم يستطيعون العيش في تقشف شديد ، وأن يواصلوا السير طيلة اليوم كله دون أن يريحوا أنفسهم.

والحقيقة أن هؤلاء الجند وغيرهم من الجند الآخرين ، وبسبب المرتبات الجيدة التي تدفع لهم أيام السلم كما هي في أيام الحرب ، لا يبدون أية رغبة في التوجه إلى ميادين القتال ، أو أن يغيروا واجباتهم

٧٧

الهادئة بأخرى مضطربة ، أو أن يستبدلوا حياة مضمونة بأخرى معرضة للخطر ، مثلما كانوا عليه في العهود السابقة ، ولذلك تراهم قد اعتادوا حياة الكسل ولمدة طويلة.

وما خلا ذلك فإن سيطرة الأتراك وقوتهم أحط من قوة المسيحيين ، لأننا ، نحن المسيحيين ، مسلحون تسليحا جيدا بالبنادق والرماح الأمر الذي نستطيع به أن نصدهم إلى مسافات بعيدة بحيث لا يستطيعون الالتحام معنا والتغلب علينا. ذلك لأن الخصم إذا ما صمد أمامهم ولم يتراجع في أول التحام معهم فإنهم سرعان ما يديرون ظهورهم ويولون الأدبار.

ولكن على الرغم من ذلك كله فإننا لم نصب من الأتراك شيئا إذ كانوا هم الغالبون. والسبب في هذا يعود ـ ولا أريد أن أشير هنا إلى تجاوزاتنا المتعددة ـ إلى انقساماتنا ومنازعاتنا الكثيرة التي تعيقنا عن مجابهة مثل هذا الجيش بما يجب علينا أن نفعله. كذلك أظهر الأتراك بسالة أكثر في إرهابنا ، وتوجيه الضربات إلينا ، واستعمال مختلف أنواع الستراتيجية لإلهائنا ، أو للإيقاع بنا في فخ ، عند ما نشرع بتعقبهم ، حتى إذا ما خيل إليهم أننا قد كللنا أطبقوا علينا وبأعداد كبيرة وجديدة من قواتهم للإحاطة بنا وسحقنا.

يضاف إلى هذا أن الأتراك إذا ما فقدوا كتيبة أو أخرى فإنهم لا يقيمون لذلك وزنا ، بالنظر لوجود عدد واف من هذه الكتائب. كما أنهم يعرفون كيف يعبئون للقتال كتائب أخرى يكون أفرادها متشوقين جدّا لتقبل القتال لأنهم يتلقون ماهياتهم من أميرهم كل يوم حتى وإن كانوا خارج نطاق ولايته ، ولذلك فإن هذا الأمير لا يحتفظ بولايته تلك حسب بل يضيف إليها ولايات أخرى غيرها ، ويروح يوسع ممتلكاته كل يوم. وعلى هذا ينبغي لنا أن نكون في منتهى الحذر منه ، لأنه كلما ازداد تطلعا إلى توسيع ممتلكاته ، تضاعف الخطر علينا. وهكذا نراه يستولي على

٧٨

إحدى المدن أو الأقطار أو الممالك الواحدة بعد الأخرى بحد السيف ، كما رأينا ذلك قبلا في أوروبا (ولا نريد أن نذكر شيئا ما عما حدث في آسيا) ، وهذا لا يخلو من أخطار وأضرار على كل المسيحيين فهو يقترب كل يوم من حدودنا ولذلك فإننا في النهاية يجب علينا أن لا نتوقع لنا مصيرا أفضل مما حل باليونان وتراقيا والبوسنة وهنغاريا وفلاشيا (١) وغيرها ، التي خضعت للعبودية ، وما يزال فيها عدد من الشخصيات الرفيعة يئنون ويتحسرون حتى اليوم. ففي أثناء وجودي في حلب عثرت على ملكة فالاشيا مع أولادها وكان أصغر أولئك الأولاد قد ولد بعد وفاة أبيه الملك.

وتعيش هذه الملكة مع أولادها على ماهية ضئيلة خصصها لهم السلطان التركي. وهي امرأة ذكية تجيد اللغتين التركية والعربية وما يزال رعاياها يأملون أن يعيدها الله العظيم إليهم ثانية ، وبذلك تنتهي عبوديتهم.

وعند ما ينتصر الأتراك في معركة ما تراهم يرفعون أكفهم بالحمد والشكر لله ، ولمبعوثه الحبيب الرسول «محمد» ، ويبتهلون إلى الله بأن يثير الخلافات والمنازعات فيما بيننا نحن المسيحيين (لأنهم لا يؤمنون بالإنجيل) ، وأن يتخاصم حكامنا مع رعاياهم ، ويتنازع رجال الدين مع علية القوم ، فتنشأ عن ذلك الاضطرابات ، وتتجاوز الحدود التي وردت في شرائع الله أكثر فأكثر ، ويزول إيماننا بالمسيح وتتحلل كل أنظمتنا وسياسياتنا الصالحة ، وإذ ذاك يبعث الله بالأتراك لمعاقبتنا.

وحين يرى الأتراك أن الأغنياء منا يضطهدون الفقراء ، وأن الحكام لا يحمون العدل ولا الأبرياء ، بل يتطلع الرؤساء والكبار إلى أن يفتك

__________________

(١) فالاشياWallachia المقصود بها بلاد بولندا الحالية وقد سبق للأتراك أن احتلوها فترة من الزمن ونشروا فيها الدين الإسلامي مثل بقية الممالك الأخرى التي افتتحوها في أوروبا.

٧٩

الواحد منهم بالآخر ، فإنهم ـ أي الأتراك ـ يفرحون آنذاك بهذا البلاء الذي حل بنا ، ولا يخافون أي ضرر قد نلحقه بهم ـ وهذا ما نستطيع أن ننجزه بيسر لو كنا متحدين ـ بل يهددوننا بما سينزلونه بنا من أضرار.

وحين يستولي الأتراك على مدينة محصنة أو على البلد كله بحد السيف ، وذلك ما يقدرون عليه من دون عساكر كبيرة أو متاعب أو أخطار ، فإنهم يدمرون الأماكن غير الحصينة فيها ، ويبعدون من فيها من النبلاء والشخصيات البارزة ـ لأن هؤلاء قد يلحقون أضرارا جسيمة ـ ثم يحلون محلهم أمراء الألوية بعساكرهم وذلك للمحافظة على الأماكن المحصنة ، والاهتمام بجباية الإيرادات للسلطان ، ولذلك لا نجد في مثل هذه البلدان المحتلة أحدا من النبلاء المتحدرين من سلالات حاكمة قديمة ، ممن ظلوا محتفظين بمقاطعاتهم وأملاكهم الخاصة بهم والتي يتوارثونها أبا عن جد. وهذا ما يتصوره المرء عندما يأخذ بنظر الاعتبار شريعة «محمد» التي تسمح للرجل بأن يتزوج من أربع زوجات في وقت واحد بالإضافة إلى الجواري أو الإماء حسب هواه.

ولا أريد هنا أن أتحدث عن حرية الطلاق عند المسلمين لأدنى سبب ، واستبدال الزوجات المطلقات بأخرى جديدات مما ينجم عنه الخلافات والقلاقل إلى درجة أنه لا توجد سوى قلة من الأطفال ممن يعرفون آباءهم (١) ولا يظهر بينهم سوى القليل من الود مثلما يفترض المرء ذلك. على أن هذا الأمر لا يحط من قدر الرجال بل يزيدهم شهرة لأن الناس يستنتجون بأن الرجال الذين يحتفظون بعدة زوجات إنما يتصرفون

__________________

(١) هذا أمر مبالغ فيه جدّا من جانب المؤلف إذ إن من النادر أن لا يعرف الولد أباه إلا إذا كان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به أو كان في الأشهر الأولى من عمره وانقطعت صلته به وبأمه بتاتا منذ وقوع الطلاق. كما أن الزوج لا يستطيع أن يمتلك ما يشاء من الإماء ، إلى جانب زوجاته الأربع.

٨٠