رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

والمسلمون ، وهم من أمتين لهما ذات العقيدة الدينية والعادات (١) ، على الاستحمام في هذه الحمامات ودخولها صراحة. أما النساء فإنهن يفدن بأعداد كبيرة إلى هذه المحلات الفخمة ولا يجتمعن في أي مكان آخر عدا قبور موتاهن ، وأمثال هذه الأماكن لا يمكن العثور عليه بحالة جيدة.

حين تدخل إلى الحمام يتلقاك أحد الخدم وهم من الزنوج المسلمين عادة فيطرحك على الأرض ويبدأ بدلك كل مفاصلك ، وبعد أن ينتهي من ذلك يفركها ثانية ، ثم يطوي ذراعيك ويضعها الواحد فوق الآخر على صدرك ويشدهما بقوة لبعض الوقت تحت ركبتيه ومن ثم يثنيهما ويمدهما بحيث تبدو وكأنك أسير بين يديه بينما يظل رأسك منتصبا.

وقد حدث ذات مرة أن ذهبنا إلى الحمام وتولى أحد الخدم تدليك مفاصلنا فضغط أثناء ذلك على رقبة أحد رفاقي فظل ذلك الرفيق لا يستطيع حراك رقبته لعدة أيام.

بعد أن ينتهي الخادم من هذه العملية يقلبك على بطنك ويروح يدلك أعضاء جسمك ثانية فيدوس كتفيك بقدميه ويفرك ظهرك بيديه ومن ثم يتركك ويخرج من الحمام.

وحينما تضطجع لتستريح أو لتعرق جسمك يأتيك الخادم بمادة يقتلع بها الشعر في جسمك ، ذلك أن القوم لا يتركون أي نوع من الشعر فوق أجسامهم. وتتألف هذه المادة من الجير والزرنيخ على شكل مسحوق يواف بالماء ، يغطى به شعرك ويترك هنيهة إلى أن يجد الخادم بأن الشعر قد أخذ يتساقط وإذ ذاك يغسل مكانه بالماء غسلا جيدا قبل أن تشعر بحرقته ، وعندئذ يأتيك بمئزر من القماش الأبيض النظيف ويلف به بدنك.

__________________

(١) يكرر الرحالة نفس النزعة الاستعمارية في فصل الأتراك عن المسلمين في حين أن الرابطة الإسلامية هي التي توحد المسلمين في شتى البلدان.

٤١

أما المآزر التي سبقت الإشارة عنها فتكون بيضاء أشبه بالمنسوجات القطنية لكن خيوطها أشد وأصلب ، وتلك يجلبها الحجاج معهم من «مكة» وهي تصنع من ألياف نوع من الشجر.

وأخيرا يغسل الخدم رؤوس المستحمين ، ويستعملون في ذلك أحيانا ، ولا سيما بالنسبة للنساء ، راسبا يشبه الرماد يغسل به الرأس لأنه ينظف الشعر ويطيله. وهناك نوع من راسب آخر تأكله النساء علانية مثلما اعتادت النساء في بلادنا الأوروبية أن يأكلن الفحم وبعض المواد الأخرى أحيانا.

وتكون هذه الحمامات مباحة لدخول الأجانب إليها من أمثال الألمان والفرنسيين والإيرانيين وغيرهم ، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الأتراك والمسلمين ، ولكن ينبغي على هؤلاء أن لا يأتوا إلى هذه الحمامات في الأوقات التي تكون فيها النساء موجودة هناك ، وإلا عرضوا حياتهم للخطر.

على أن في مقدورك أن تميز الحمامات التي تستحم النساء فيها ، إذ المعتاد أن توضع ستارة على باب الحمام المواجه للشارع. فإذا ما رأى الرجل الذي يريد الدخول إلى الحمام تلك الستارة دلف إلى باب آخر غيره.

وعن الحركة في المدينة ، فإنه بالنظر إلى وفرة مختلف أنواع السلع التي تجلب إليها من أماكن قاصية جدّا ، يشاهد عدد كبير من التجار فيها معظمهم من الفرنسيين والإيطاليين لهم رئيسان حكيمان فاهمان ومدربان يعيش أحدهما ، وهو فرنسي ، هنا في طرابلس بينما يعيش الآخر ، وهو بندقي ، في حلب ، ويطلق على هذين اسم قناصل ، وذلك لمساعدة أبناء وطنهم وتقديم الاستشارات المفيدة لهم. ولقد أرسل هذان القنصلان من قبل حكومتيها فاستقرا هنا وأصبحا يتمتعان بامتيازات كبيرة منحها لهما السلطان التركي كيما يستطيع التجار أن يحملوا بضائعهم معهم وأن يدافعا

٤٢

عنهم ضد أي أذى يتعرضون له من الأتراك والمسلمين ، وممارسة المتاجرة والتعامل مع الآخرين دون أدنى مضايقة.

وما يزال هؤلاء القناصل يرتدون نفس ملابسهم الوطنية المصنوعة غالبا من الستن الأحمر أو البنفسجي أو الحرير الدمشقي وغيره ، وهم يتمتعون بالاحترام الفائق ويجلبون معهم من بلادهم الخياطين وصانعي الأحذية ، لكن الأشخاص الرئيسين الذين يأتون بهم ، يتألفون من الأطباء والصيادلة والجراحين والإداريين ، وفضلا عن ذلك فإنهم يحتفظون بمترجميهم الحاذقين في اللغتين التركية والعربية ، وأخص بالذكر منهم ، القنصل البندقي الذي أمضى هناك ما لا يقل عن ثلاث سنوات ، وعند ما انتهت مهمته بعث دوق البندقية بقنصل آخر مكانه ، وعند ما يصل هذا القنصل الجديد إلى طرابلس لا يجرأ على النزول إلى الشاطىء قبل أن يستقبله القنصل السابق على ظهر السفينة التي أقبل عليها.

وقد خصصت لهذين القنصلين بنايتان كبيرتان يسمون الواحدة منهما فندقا ، وهما تقعان على مقربة من بوابتي المدينة اللتين تؤديان إلى المرفأ وإلى شاطىء البحر ، وذلك لكي يسهل عليهما إرسال سلعهما من هناك إلى داخل المدينة وخارجها.

وعلى طول النهار وعرضه يرى المسلمون بأعداد كبيرة وهم ينتظرون مع حميرهم فرصة نقل التجار والملاحين مع سلعهم إلى المدينة ومنها. وهناك بيتان كبيران فيهما عدد كبير من الأروقة والغرف يتوفر فيهما السكن للتجار وخزن بضائعهم فيهما.

ويقيم مع الفرنسيين أناس من «جنوا» وفلورنس وسانت لوك وغيرها ، ومن الألمان والهولنديين وسواهم ، في حين يعيش مع البنادقة أناس من «كانديا» و «كورفو» وغيرهما.

وليس لأي من هذه الفنادق أكثر من باب كبيرة واحدة يحرسها

٤٣

الجنود الانكشاريون وحين يدخل أسيادهم القناصل إلى هذه الفنادق يصحبهم في ذلك عدد من التجار والخدم. ويتمتع هؤلاء القناصل بنفوذ كبير لدى الأتراك والمسلمين ، بل إن سلطتهم تتجاوز سلطة الباشا نفسه. فتراهم على الدوام يسيرون ويتقدمهم جنودهم بأعداد كبيرة وهم يحملون الهراوات الطويلة يضربون بها المارة لإخلاء الطريق حتى وإن كان أولئك المارة من الأتراك أنفسهم.

ويدخل التجار يوميّا في مفاوضات مع اليهود الذين يعرفون عدة لغات ، ويعلمون بالأسعار التي تباع بها السلع وتشترى. ولذلك ترى هؤلاء اليهود يساعدون في عقد صفقات بيع السلع ، وفي دفع النقود ، وتنظيم قوائم التحويل النقدي التي يحتفظون بجداولها.

ولقد رأيت بصفة رئيسة ثلاثة أنواع من النقود الفضية هي «الأسبر» (١) والمعدني ، والسيجست (٢). وهذه النقود جيدة وهي سارية المفعول في كل أنحاء تركيا. وحين يتم دفع مبالغ كبيرة منها لا يجري عدها كلها تماما وإنما يعد جزء منها يتم وزنه ، ومن ثم تقاس بقية النقود على أساس ذلك الوزن. أما عن النقود الذهبية فليس لديهم سوى «الدوكات» (٣) التي تصنع من الذهب الخالص وتكون نادرة جدّا. وما خلا ذلك يصعب رؤية أي من العملات الأخرى.

على أن هناك المزيد من الدوكات البندقية «التستون» (٤) و «الجواشيم» و «التالر» الفرنسية. وهم لا يدفعون مع هذه العملات

__________________

(١) الأسبرAspers عملة هولندية.

(٢) سيجست Saijest من عملات أوروبا الوسطى في ذلك الوقت.

(٣) الدوكةDocat عملة إيطالية كانت تعادل ستة شلنات انكليزية في ذلك الوقت.

(٤) تستون Teston وجواشيم Joachim وتاليرThaler وكلها من العملات الفرنسية التي كانت شائعة في فرنسا منذ العصور الوسطى.

٤٤

قوائم الصرف والمبالغ الكبيرة حسب ، بل ويحولونها إلى عملاتهم الخاصة ، ولذلك يتوفر عدد كبير من اليهود في كل أنحاء تركيا وفي كل مدينة تجارية ، وبصفة خاصة في مدينة حلب وفي طرابلس هذه التي أنشأوا لهم فيها عمارة واسعة وبيعة فاخرة.

ويمسك هؤلاء اليهود بزمام إيرادات الكمارك التي يستوفيها السلطان التركي ، ولذلك فليس مستطاعا إرسال بضاعة ما إلى تركيا أو خروجها منها دون أن تكون تحت متناولهم ، وذلك أمر يسبب القلق الشديد لجميع التجار ، إذ إن على هؤلاء إن هم أرادوا شراء حاجة من اليهود ، أن يكونوا في منتهى الحذر من أن يغشوا لأن اليهودي مليء بالغش ، كما يعترفون هم أنفسهم بأن أحدا لا يستطيع الحصول على أي شيء منهم إلا إذا كان أكثر منهم خداعا ، كيما يجرأ على أن يقايض معهم سلعة بأخرى.

وبالنسبة إلى البضائع يشاهد المرء عدة أنواع منها في الخانات كما أشرت إلى ذلك قبلا. غير أن الجزء الرئيس من البضائع يتوفر في الأسواق أو في البيوت التي تتعامل بالبيع والشراء ، أو في محلات المقايضة. وهذه المحلات طويلة وواسعة يكون البعض منها على شكل أروقة ، والبعض الآخر مسقف بالأخشاب بحيث تستطيع أن تتمشى وتساوم وتشتري دون أن تبتل بماء المطر. كذلك تقوم على جانبي محلات المقايضة هذه حوانيت إضافة إلى أصحاب الحرف والصناعات وصانعي الأحذية والخياطين والسراجين ومطرزي الحرير والخراطين وصانعي السكاكين والنساجين والعطارين وبائعي الفواكه وصانعي الأدوات النحاسية وأدوات الطبخ وكثيرين غيرهم ممن تراهم موزعين في شوارع المدينة ومحلاتها.

ويبعث التجار بكميات كبيرة من الحرير إذ إن هناك عدد وفير منهم لا يتعاملون بأية بضاعة سوى الحرير الذي يؤتى به من المناطق المجاورة من أمثال لبنان التي يسكنها أناس كثيرون يمارسون صنع الحرير وغزله ،

٤٥

أو من دمشق بالدرجة الأولى حيث تتوفر فيها كميات كبيرة من الحرير مما يستطيع التاجر أن يشتريه بسرعة وبكميات تقدر بعدة آلاف من الدوكات ، وذلك بالنظر إلى وجود كثرة فائقة من أشجار «التوت» (١) الضخمة الشامخة ذات الأوراق الكثيرة التي تتغذى عليها دودة القز. علما أن ثمار التوت هذه تكون بيضاء اللون وتنقل في سلال وتباع لعامة الناس. وهكذا تجد في الأسواق عددا كبيرا من صانعي الحرير الذين يصنعون مختلف المطرزات الحريرية بألوان متباينة وهم يمارسون أعمالهم هذه أمام حوانيتهم حيث تجد الواحد منهم ، حين يريد برم خيوط الحرير ، يمسك بخيطين يربط أحدهما بإحدى قدميه ثم يبدأ يبرمه وهكذا ، ومثل هذا يفعل الخراطون أيضا الذين يمسكون بالحديد الذي يريدون خرطه بين أقدامهم وأيديهم.

وفي أوقات محدودة من السنة تجلب إلى هذه الأسواق من دمشق وغيرها من الأماكن القريبة منها كميات وفيرة من الزبيب الطيب المذاق (٢) الذي لا توجد فيه سوى حبة واحدة ، حيث يتم شحن عدة سفن بهذا الزبيب من هناك إلى بلادنا الأوروبية. فهذه السلع وأمثالها يؤتى بها يوميّا إلى الأسواق التي تستقبلها ، وكذلك السجاد النادر والحرائر الغالية المطرزة بأشكال الورود والأزهار من مختلف الألوان والتي يبدو البعض منها وكأنه من الذهب الخالص.

على أن كثرة التجار الذين يتعاملون بالصابون والقلى تفوق سواهم من التجار الآخرين ولذلك ترى عدة سفن توسق بالبوتاس والصابون وترسل كل سنة من هناك إلى البندقية إذ إن مادة البوتاس تستخدم في صناعة الزجاج مثلما هو الأمر في صناعة الصابون.

__________________

(١) ذكر المؤلف كلمة التوت هذه بلفظها العربي.

(٢) ذكره المؤلف بلفظه العربي Cebib.

٤٦

ويستخرج هذا البوتاس أو القلى من أعشاب يطلق عليها العرب اسم «شنان» (١) وهو على نوعين (وقد ألصقت شيئا منه ـ مع مواد أخرى ـ على الورق). وأحد هذين النوعين لا يختلف عن نبات القلى المعروف عندنا إذ يتألف من نبتة سميكة كثيرة العقد ذات أغصان صغيرة تتفرع منها ولها في رؤوسها عدة عقد ومن تحتها أوراق مدببة. أما النوع الثاني فتكون سيقانه كثيرة مليئة بالعقد وجذوره ملونة.

وينمو هذان النوعان من الأعشاب بكميات هائلة حيث يتم حرقها وتحويلها إلى رماد فوق الجبال. وعند حرقها تسيل منها مادة زيتية تلتصق بالرماد فتصبح صلبة أشبه بالحجارة بعد أن تفقد حرارتها.

ويجلب المسلمون هذا الرماد من الجبال على ظهور الإبل فيبيعونه لبعض التجار الذين يتاجرون به فيصدرون قسما منه إلى البلاد الأجنبية بينما يصنعون من القسم الآخر مادة الصابون طبقا للكمية المتوفرة لديهم وحاجتهم إليها.

ولقد شرحوا لي الطريقة التي يصنعون بها الصابون في سوريا. ذلك أنهم يأخذون ألفا ومائتي وزن (أو اثنتي عشرة مائة) من هذا الرماد فيقسمونه في فصل الشتاء إلى أربعة أقسام وفي فصل الصيف إلى ثمانية أقسام ذلك لأن الصابون سرعان ما يتجمد أيام الشتاء لأن الحرارة تتأثر بالبرودة الخارجية أكثر من الصيف. يؤخذ القسم الأول من هذه الأقسام في شكل طبقة رقيقة تصب في وعاء أو في قدر كبير مصنوع من الحجر ، ويكون قعره مصنوعا من صفيحة نحاسية سميكة جدّا بعد أن يكونوا قد وضعوا فيه مسبقا ألفا وستمائة وزن من الزيت أو الشحم ثم يتركونه يتجمد لمدة أربع وعشرين ساعة وبعد ذلك يضيفون إليه كل يوم طبقة أخرى من قسم آخر. ولكن قبل أن يتجمد الصابون (وهو يحتاج في ذلك

__________________

(١) سماه المؤلف خطأ باسم شوان Shvan.

٤٧

إلى خمسة أيام في الشتاء وإلى تسعة أو عشرة أيام في الصيف) يأخذون مائة وزن من الجير فيمزجونه مع الرماد ثم يسحبون من هذا المزيج طبقة يتركونها مدة يومين قبل أن يضعوها في القدر وذلك بكميات تزيد أو تنقص تبعا لسمك الطبقة ورقتها.

ولكن إذا حدث وتكونت كمية كبيرة في القدر فإنهم إذ ذاك يرفعون صفيحة النحاس من القدر فلا تبقى فيه سوى الكمية المناسبة من المزيج وبعد أن يتجمد يخرجونه منه ، ويوضع في صحن من النحاس يتسع لثمانية أو عشرة باوندات ، الصابون الذي يطفو على سطح المزيج ويسكبونه على الأرض ثم يغطونه بالجير أو الطباشير ويتركونه على هذه الشاكلة مدة يوم واحد في الشتاء ويومين في الصيف كيما يتصلب إلى درجة أنهم يستطيعون السير فوقه ، وعندئذ يصقلونه ويقطعونه إلى قطع صغيرة ويبصمون علاماتهم عليها.

٤٨

الفصل الثاني

ظأفراد الطبقة العليا من رجال الأتراك ونسائهم ، أعمالهم

ودوائرهم ، عاداتهم وتقاليدهم وملابسهم

تعد مدينة طرابلس أكبر بكثير من بقية المدن والولايات القريبة منها والتي تخضع للسلطان التركي الذي يحتفظ بضباط له في كل الأماكن الأخرى وهم يحكمون تلك البلاد طبقا لرغائبه ، ويحمونها من كل الأضرار والأخطار.

ويطلق على هؤلاء الرؤساء اسم لواء أو باشا وهم يعتبرون حكام الدولة والممسكين بزمامها ، إذ إن تحت إمرتهم عدد من الفرسان ، يزيد أو يقل تبعا لإيرادات الولايات التي يلتزمون بإدارتها. وهؤلاء الباشوات من العسكريين الشجعان المدربين الذين يقودون رجالهم عدة مرات في الأسبوع لتدريبهم ، راكبين أو مترجلين ، على استعمال السهام والنشاشيب وتسجل لهم علاماتهم بالقفز من فوق صواري عالية وبإطلاق السهام أثناء ركضهم ، على استعداد لدخول الميدان في الحال ومحاربة الأعداء. ويعمل تحت إمرة هؤلاء الألوية عدد آخر من الضباط والآمرين. ويكون الصوباشيون (١) والقضاة هم المبرزون بين هؤلاء الموظفين وهم يعينون من قبل الباشا في الأماكن القريبة كي ييسروا له عمله في المحلات التي لا يستطيع المكوث فيها.

__________________

(١) الصوباشي رتبة وظيفية تعادل رتبة مدير الشرطة عندنا.

٤٩

ويستدعى لإدارة مثل هذه الأماكن مواطنون من سكنتها لا يمكثون فيها أكثر من نصف سنة ، وهم يبتون في كل المسائل الإجرامية ، ولديهم سلطة تعذيب المجرمين لإرغامهم على الاعتراف بجرائمهم ، كما أنهم يصحبون المجرمين الذين يحكم عليهم بالسجن أو الموت إلى الأماكن التي يتم فيها تنفيذ مثل هذه العقوبات.

وغالبا ما كنت أرى أولئك الجنود راكبين. وفي إحدى المرات شاهدتهم يصحبون مجرما حكم عليه بالموت وقد أركبوه على ظهر بعير ، وأوثقوا ذراعيه وساروا به إلى ساحة الإعدام بعد أن وضعوا بين صدره وكتفيه مصباحين متقدين مزودين بالشحم فكان الدهن المتقطر من الشحم يسيل على جسده فيحرقه بشدة.

وينفذ الأتراك عددا من العقوبات لجملة من الجرائم التي تقترف أعداد كبيرة منها ، ومنها معاقبة اللصوص والقتلة وقطاع الطرق والمغتصبين وما شاكلهم. وكذلك يستخدم الأتراك عددا كبيرا من الضباط والموظفين يبعثون بهم إلى مختلف الأصقاع لمطاردة الذين يشتبه بهم لخروجهم على القوانين وإلقاء القبض عليهم ، وضربهم وإصابتهم بجروح.

أما بالنسبة إلى الاعتداءات والمخالفات الأخرى فإن الأتراك يحاكمون أمام حاكم يسمونه «قاضيا» وهو من الملمين بالقوانين وممارسة المحاكمة وإصدار الأحكام بعد الاستماع إلى الشهادات وتمحيصها.

فإذا كان الحكم عن دين أودع المدين السجن في الحال إلى أن يسدد الدين الذي بذمته ، أو أن يجد وسيلة أخرى يضمن بها تسديد دينه ، وإن كان الحكم عن مخالفة للقانون حكم عليه بالغرامة أو الجلد.

ويعمل تحت إمرة القاضي عدد من الأتباع والجواسيس الذين يبعث بهم يوميّا للتجسس على من يخرقون القوانين ، من أمثال أولئك الذين

٥٠

يتناولون المسكرات ، أو يمتنعون عن أداء الصلاة أو الصوم ، أو مخالفة القوانين الموضوعة بأية وسيلة أخرى. فإذا عثروا على واحد من هؤلاء جاؤوا به أمام القاضي الذي يفرض عليه العقوبة طبقا للذنب الذي اقترفه. فإذا لم يستطع دفع الغرامة مثلا حكم عليه بالجلد عدة مرات على قفا قدميه ، وإلا وجب عليه أن يدفع عن كل جلدة نصف «بني» ونظرا لكثرة أمثال هؤلاء المخالفين الذين يؤتى بهم أمام القاضي كل يوم ، ويحكم على القسم الأعظم منهم بالجلد ، فقد كنا أثناء وجودنا في الفندق الفرنسي ، الذي يقع قبالة مقر القاضي ، نسمع عويل أولئك التعساء وصراخهم.

ورغم انشغال القاضي بالبت في هذه المخالفات فإن قضايا الزواج تأخذ جزءا كبيرا من وقته. ذلك لأن كل من يريد أن يتزوج عليه أن يقصد القاضي ليعقد له عقد زواجه المثبتة صورته في كتاب بين يديه. ويعتمد عليه في حالة وقوع خلاف بين الزوجين حيث يحق للأتراك والمسلمين أن يتزوجوا من عدة زوجات ، وأن يطلقوهن لأدنى سبب (١). ويسلم القاضي المتزوجين نسخا من عقود الزواج التي تكتب لعامة الناس على ورق ناعم مستو. أما الأثرياء فتكتب عقود نكاحهم على قطعة من القماش الحريري الأبيض يبلغ طولها زهاء ياردة. ولا تشتمل هذه العقود إلا على كلمات قليلة يكتبونها بأحرف قصيرة ذلك أن كل قطعة من هذه القطع لا تحتوي أكثر من ثمانية أو عشرة أسطر تفصل بين كل سطر وآخر مسافة بوصتين. ولأداء هذه المهمة يحتفظ القاضي بجملة من الكتبة الذين غالبا ما يكتبون وهم يضعون أوراقهم على ركبهم بدلا من المناضد أو الموائد.

__________________

(١) هذا قول هراء من الرحالة فالمسلم لا يحق له أن تكون في عصمته ، وفي وقت واحد ، أكثر من أربع زوجات شريطة أن يعدل بينهن فإذا ما فقد العدل يقتصر الأمر على زوجة واحدة.

أما الطلاق فإنه لا يقع لأدنى سبب كما ذكر الرحالة ذلك فإن شروط الطلاق كثيرة وثقيلة ولا يسمح به إلا إذا توفرت تلك الشروط كلها.

٥١

ويلبس أمراء الألوية والصوباشيون والقضاة الذين أشرت إليهم قبلا وكذلك زوجاتهم أغلى الملابس وأثمن أنواع الحرير المطرز بالورود وبمختلف الألوان. وغالبا ما تقدم إليهم هذه الملابس من الأناس الذين لهم معاملات عندهم ، إذ إن هؤلاء الحكام لا يودون أن ينفقوا من نقودهم شيئا ، وذلك بقصد تأييد تلك المعاملات ونوال الحظوة بينهم. فهؤلاء الحكام شديد والجشع ، وإذا لم تقدم لهم العطايا لا يؤدون سوى القليل من الأعمال.

ولما كان الباشوات وأمراء الألوية الذين يديرون الممالك والولايات تحت إمرة السلطان يدركون جيدا أن بقاءهم في هذه الأماكن لا يزيد على ثلاث سنوات ، وأن عليهم أن ينتقلوا منها إلى أماكن أخرى حالما يأمرهم السلطان بذلك ، وقد تكون هذه على مسافات بعيدة جدّا ، فإنهم لهذا السبب يتطلعون دوما إلى الثراء والغنى فيحصلون على الهبات أو يرفعون من قبل البلاط إلى منصب أو وظيفة أعلى ، وحتى إذا لم يحصلوا على هذا المنصب فإنهم يحققون لهم ثراء كبيرا نتيجة المنزلة الرفيعة التي أصابوها قبلا.

حين كنت في طرابلس تولى أحد أمراء الألوية هذا المنصب الذي كان يشغله آمر لواء سابق له. وهكذا توجه اللواء الجديد إلى دائرته يحف به رجال حرسه ، واستقبلته المدينة استقبالا فخما ، وكان موكبه يتألف معظمه من الفرسان وحملة السهام والرماح والتروس ، بالإضافة إلى حملة الطبول والمزامير وغيرها وكانت هذه الرماح والأسلحة متوجة ببعض المعادن الصقيلة البراقة ، كما كانت ركاب سروجهم تلتمع من مسافات بعيدة.

ويود كل هؤلاء الموظفون أن يظهروا ، عند أداء وظائفهم ، بمظاهر العظمة ومع ذلك فكلهم عرضة للجشع (وهو أصل كل الشرور) والتطلع إلى الهبات والرشاوى ، وتلفيق التهم ضد الأبرياء في سبيل الحصول على

٥٢

الأموال. وعلى هذا فإن من اليسير جدّا على من يريد الانتقام من خصمه أن يثير له المتاعب ويلحق به الخسائر عن طريق تقديم الهبات إلى الموظفين ، ولا يختلف أحد عن هذا في شيء قط. فهم في سبيل المال الحرام ، لا يأنفون إطلاقا من معاقبة الأبرياء إذا ما كان هؤلاء من الأغنياء أو الغرباء ، ولذلك فإن الموظفين الذين يعملون تحت إمرة الصوباشين في مثل هذه الأمور حاذقون جدّا ، إذ تراهم يتعقبون كل من يعارضهم أو لا ينساق إليهم.

ولما كانت مدة بقائهم في مناصبهم قصيرة ، فإن هؤلاء الصوباشين يبذلون قصارى جهودهم في زيادة ثرائهم في أسرع وقت مستطاع ، وهم في هذا لا يخشون أمراء الألوية ولا الباشوات لأن هؤلاء شركاء معهم في هذه الغنائم وأنهم يتلقون أنصبتهم من هذه الغنائم كل أسبوع. وبعبارة موجزة إن في مقدور أي فرد ارتكب جريمة ما أن ينجو من العقاب ويعود رجلا صالحا مثلما كان عليه قبلا إذا ما قدم الرشوة إلى هؤلاء الحاكمين.

ولكن هؤلاء الموظفين عرضة للمحاكمة ، كما نصت القوانين على ذلك ، أمام قضاة كبار يسمونهم «قضاة الشرع» والتعرض للعقوبة جزاء ابتزازهم الأموال. ويعتبر الأتراك هؤلاء القضاة بأنهم المعلمون الأساسيون للشريعة الإسلامية وهم يمتازون بالذكاء والمعرفة ولديهم سلطة محاكمة كل الموظفين والضباط ولا سيما القضاة ، والحكم عليهم ، والإفراج عنهم تبعا لمخالفتهم. ويتنقل قضاة الشرع من مدينة إلى أخرى للاطلاع على كيفية تطبيق العدالة من قبل القضاة ويخشى هؤلاء كثيرا مقدم قضاة الشرع إلى أماكن عملهم وإذا ما وجدوا أنفسهم مذنبين بارتكاب جريمة ما فإنهم يهربون من أماكن عملهم في أغلب الأوقات. وإذا ما شكا الناس أولئك القضاة عند قضاة الشرع عوقبوا بالجلد علانية ، ونقلوا من أماكن عملهم. أما إذا كانت الجريمة جسيمة فإنهم يشنقون أو يحرقون وهذا ما يحدث غالبا في هذه البلدان.

٥٣

أما إذا اعتدى القاضي على أحد الناس فإن المعتدى عليه لن ينتظر مقدم قضاة الشرع ليرفع إليهم شكواه ، وإنما يسلك طريقة أخرى وذلك بأن يعرض شكواه على الباب العالي أو إلى محكمة السلطان أو أن يذهب بنفسه إلى هناك ليقدم شكواه بصفة شخصية. وسرعان ما يسمع جواب شكواه تلك. فقد علمت أن مثل هذه القضايا ينظر فيها مرة كل أسبوعين. وإذا كان أحد المشتكين فقيرا تقوم المحكمة بأوده إلى أن تنتهي قضيته.

ولقد وقعت مثل هذه الحادثة قبلا لمترجم القنصل البندقي الذي نجح في شكواه ضد أحد الصوباشيين حين أراد هذا أن يسلبه ، لكنه لم يستطع أن يثبت أية تهمة عليه تكون موجبة للعقاب ، وإذ ذاك وجد الصوباشي طريقة لذلك بأن أمر أحد خدمه أن يخفي عاهرة في بيت المترجم دون علم منه ليكون ذلك دليلا كافيا لاتهامه. ونفذ الخادم تلك العملية فعلا ، وهرع موظفو القاضي إلى البيت ففتشوه وعثروا على العاهرة فيه فألقي القبض على المترجم وزج به في السجن دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه وتبرئته ، وأنه كان يجهل تلك الواقعة جهلا تاما ولم يستطع أن يقنع القاضي ببراءته بكل الوسائل ، وهكذا حكم عليه بأداء غرامة مقدارها تسعمائة دوكة أرغم على دفعها. وقد أثار هذا الأمر قلق المترجم لأنه لم يستطع دفع هذه العقوبة القاسية عنه. ولما كان رجلا مجربا وخبيرا بالقوانين السارية المفعول فقد أعد له جوادا ، دون علم من القاضي ، وانطلق به إلى اسطنبول ليرفع شكواه بنفسه إلى محكمة السلطان وقد نجح في ذلك وأعلنت براءته من التهمة التي أسندت إليه.

ولما كانت هذه المحكمة تعاقب بشدة من يقترفون الظلم ، فإن ذلك القاضي لم ينج من العقاب ، إذ لم يلبث السلطان أن أرسل بعد فترة قصيرة بأحد سيافيه ومعه تذكرة قصيرة يطلب فيها إرسال رأس القاضي مع حامل تلك التذكرة. وقد فزع القاضي لذلك فزعا شديدا لكنه بعد أن استرحم زوجة رسول السلطان سلم نفسه إليه ، وهذا هو السبب الذي

٥٤

يجعل الكثير من الخطط والمقاصد الشريرة ـ ولا سيما إذا استدعى أحدهم آخر للحضور أمام محكمة السلطان ـ يصيبها الفشل ويتم نقضها من المحكمة ، وإلا أصبحت نافذة المفعول.

وحين يظهر إنسان ما أمام أحد الأتراك من ذوي المنزلة الرفيعة فإن عليه أن يكون حذرا في ذلك ولا سيما حين يغادره بأن لا يدير له قفاه لأن ذلك يعتبر أعظم إهانة وتحقير ، وهذا من الأمور الشائعة في الممتلكات التركية.

ولكن إذا ما ظهر خادم أمام سيده يطلب عفوه عن ذنب ارتكبه فإنه يتبع في ذلك أسلوبا خاصا إذ يقدم نفسه أول الأمر إلى سيده ويبدي له كل صنوف الاحترام التي تخطر على باله ثم يقبع على ركبتيه ويمسك بيدي سيده يقبلهما فإذا ما سمح له سيده بذلك انتعشت آماله في أن سيده سيلبي له طلبه ، أما إذا سحب سيده يديه وإن كان قد هم بإمساكها عدة مرات ، أدرك تماما أن سيده ما يزال غاضبا عليه وليس هناك سوى أمل ضئيل في العفو عنه.

ويود الأتراك أن يعاملوا بقدر كبير من الاحترام والتبجيل فهم يعرفون أن سلطة أسيادهم السلاطين كانت خلال الأزمنة الماضية تتعاظم بدلا من أن تنقص ، ولذلك تراهم يعتنون بأنفسهم فيرتدون دوما أغلى الملابس ، ويمتطون أحسن الجياد المطهمة بأفخر السروج المطرزة المصنوعة من أجود أنواع الحرير ذي الألوان الحمراء والبنفسجية ، واللجم والركائب المصنوعة من الذهب والفضة.

واللغة التركية هي اللغة التي يتحدثون بها عادة ، وهي نفسها التي يتحدث بها جند الحاميات. وينطقون بهذه اللغة بعظمة وفخامة ويكون نطقهم بها أشبه بنطق لساننا الألماني. على أنهم في الوقت ذاته يحذقون اللغة العربية بصفة عامة وهي اللغة السائدة في هذا البلد كله وفي بلاد

٥٥

أخرى جديدة حيث تجد العرب والسريان واليعاقية وغيرهم يتحدثون بهذه اللغة أيضا.

وللأتراك عادات وتقاليد حسنة يتمسكون بها فهم يبدأون أحاديثهم ، ولا سيما مع الأقارب والمعارف ، بالتحية الودية والتقبيل لكنهم في نفس الوقت يتصفون بالكسل ولا يهتمون بالعلوم والفنون الحرة ، ويحبون البطالة أكثر من العمل ، إذ إنك تراهم ينفقون اليوم كله في لعبة الشطرنج وغيرها من الألعاب الأخرى ، ويعزفون على القيثارة التي تتألف من ثلاثة أو خمسة أو سبعة أوتار ، وأحيانا أحد عشر وترا ، كما لا حظت ذلك في القيثارات التي كان يحملها الموسيقيون الذين يعملون تحت إمرة باشا «حلب». ويعزف هؤلاء على القيثارة بالسبابة أو بقطعة من الريش ، ويسيرون في الشوارع ، وعلى الأخص الجند منهم ، طيلة النهار وبذلك ألفوا الكسل والبطالة ، والتعود على اقتراف الأعمال القبيحة.

وهم يحبون ارتداء الملابس الجيدة ذات الألوان البراقة دون المبالاة بتكاليفها فملابسهم الفوقانية التي تمتد إلى أسفل تكون مثقلة بالأزرار ، ويرتدون تحتها صداريات تشبه صداريات الجنود عادة وتكون مصنوعة من قماش أزرق اللون ليست لها ياقات عند الرقبة. وتكون القمصان من القطن وفتحاتها عند الرقبة واسعة مثل بقية ملابسهم الأخرى وبدلا من الربطة يستعملون قماطا للرقبة يلفونه على رقابهم ليبعدوا به شدة وهج الشمس.

أما في أيام الصيف فإنهم يرتدون السراويل القطنية البيضاء الفضفاضة التي تتدلى إلى كعوبهم وتكون جد ضيقة من الأسفل.

والأتراك لا يستعملون الجواريب كي يستطيعوا أن يتوضأوا ويغسلوا أقدامهم وأذرعهم ورقابهم دون أدنى عائق طبقا لما تفرضه عليهم شريعتهم الإسلامية. وهم يشدون هذه السراويل من أوساطها على أجسادهم

٥٦

العارية بأحزمة ثم يرتدون قمصانهم فوقها. وحين يريد أحدهم أن يتبول يفك سرواله ثم يجلس ويلف كل ملابسه حوله مثلما تفعل النساء ، ويستدير عن ناحية الجنوب لأنها الناحية التي يتجهون إليها عند أداء الصلاة. وإذا ما شاهدوا رجلا يتبول واقفا استنتجوا من ذلك أنه مسيحي وليس من أفراد طائفتهم وحين يجلسون تكون سيقانهم في الغالب مطبقة الواحدة فوق الأخرى وذلك هو الوضع الشائع في الشرق كله إذ إنهم لا يستعملون الكراسي ولا الموائد ، وإنما يستعيضون عنها بدكاك مبلطة ترتفع مقدار درجتين أو ثلاث درجات سلم تقوم فوقها أروقة وتكون هذه الدكاك نظيفة مفروشة بالسجاد أو الأبسطة أو الحصر المضفورة ضفرا جيدا والمحلاة بالألوان تبعا لقدرة أهل البيت على توفيرها.

ويخلع الأتراك أحذيتهم عند باب الغرفة عادة. وتكون هذه الأحذية أشبه بالأحذية التي يلبسها الدهانون عندنا وعلى غرار الصنادل التي يسهل لبسها وخلعها وتكون بيضاء أو زرقاء عادة مصبوغة من أمام وتنتهي بمسامير في الأسفل وبمهماز من الخلف. وهذه الأحذية يلبسها الكبار والصغار ، الرجال والنساء ، الأغنياء والفقراء.

وما عدا ذلك فإنهم يلبسون الأحذية الخشبية أحيانا. وهذه تباع في كل مكان وتعلو بزهاء ثلاث بوصات وتكون أواسطها مقعرة من الأسفل وذلك لتميز قفا الرجل عن كعبها. وتدهن هذه الأحذية بألوان مختلفة وتلبسها النسوة أيضا ، إذ إن هؤلاء يرتدين في الغالب ذات الألبسة التي يرتديها الرجال ومنها السراويل الطويلة التي تلبس تحت الصداريات وتكون مصنوعة من القطن الجيد ذي الألوان المتعددة ولها أزرار من الجوانب.

ومن النادر مشاهدة امرأة تركية في الشارع أو في السوق لشراء الحاجيات أو في المساجد التي تؤمها الشهيرات بينهن وإن يكن ذلك

٥٧

نادرا أيضا. فالنساء لهن أماكن مفصولة عن أماكن الرجال ، ولهن في بيوتهن محلات وزوايا سرية يخفين أنفسهنّ فيها حالما يقبل أحد الرجال على زيارة بيوتهن وحين يخرجن ، وذلك نادر أيضا ، هنالك ترى ثلاثا أو أربعا منهنّ مع أطفالهنّ سوية وكلهنّ زوجات لرجل واحد إذ إن شريعتهم تبيح للرجل أن يمتلك أكبر عدد يستطيع امتلاكه من النساء (١).

وتخفي النسوة وجوههن بالحجب التي يصنع البعض منها من الحرير الفاخر بينما يصنع البعض الآخر من شعر الخيل وهذا النوع تستعمله الفقيرات. وهن يغطين رؤوسهن بطرحات مصنوعة من القطن واسعة بحيث تغطي حتى أذرعهن وأكتافهن ، وبالشكل الذي تستعمله فتياتنا حين يحاولن محافظة أنفسهن من البلل فيلقين بأمثال هذه الطرحات فوق رؤوسهن.

ولما كان الأتراك شديدي الغيرة فإن من النادر أن تلتقي زوجاتهم في الشارع أو السوق ، وإنما في البيوت وحدها ، أو حين يذهبن لزيارة قبور آبائهن أو أقاربهن المتوفين والتي تكون في خارج المدينة عادة وعلى مقربة من الطريق ، ويحصل أحيانا حينما يذهبن إلى هناك أن يأخذن معهن الخبز والجبنة والبيض وما شاكله ليتناولنه عند القبور. وكثيرا ما يتركن شيئا من طعامهن هذا للحيوانات وللطيور تأكله بعد مغادرتهن ، اعتقادا منهن أن مثل هذا العطف على الحيوان مقبول عند الله كالعطف على البشر.

وتتألف القبور عادة من حفر مغطاة بأحجار كبير وتكون على شكل أسرة الأطفال في بلادنا إذ ترتفع عند الرأس وعند الأقدام وتكون مجوفة

__________________

(١) هذا محض افتراء ووهم باطل من المؤلف فالشريعة الإسلامية لا تسمح بأكثر من أربع زوجات وبشرط العدالة بينهن ، كما ذكرنا ذلك في حاشية سابقة. لكن للرجل الموسر أن يستخدم العديد من الخدم والإماء في بيته على أن يقوم بإعالتهن إعالة تامة.

٥٨

في الوسط ، تملأ بالتراب وتزرع فيها الأعشاب الجميلة ولكن الغالب تثبت الرايات فيها. ومن المعتاد أن يزرع أهل الموتى الريحان الأخضر في حفر صغيرة يحفرونها حول القبور ، إذ إنهم يعتقدون أن موتاهم سيكونون أسعد حالا طالما بقيت الرياحين يانعة محافظة على ريعانها. وبسبب هذه الخرافة تكثر المحلات التي يباع فيها الريحان وهم ينعشونه بالماء كيما يظل طريّا إذ تقبل النساء على شرائه وغرسه في قبور موتاهن.

وتكون الأماكن التي تقام فيها القبور خارج المدينة عادة وعلى مقربة من الطرق الخارجية بحيث يستطيع كل امرىء يمر بها أن يتذكرها وأن يستغفر الله لها ، وهذا هو السبب الذي يدعهم يقيمون القباب فوق القبور ، ذلك لأن الناس الذين يزورون هذه القبور ، ومعظمهم من أقارب الموتى ، يستطيعون دخول هذه القباب وأداء الصلاة فيها على أرواح الموتى.

وحين يتوفى أحد منهم يتم غسل جثمانه ، ويلبس أفخر ثيابه ، ثم يلقى به على لوح ويغطى بالرياحين والأزهار العطرة ، ويترك وجهه مكشوفا بحيث يستطيع كل واحد أن ينظر إليه ويتعرف عليه قبل أن ينقل إلى المقبرة (١) فإذا كان المتوفى «شلبيّا» أي شخصا نبيلا ، فإنهم يضعون طربوشه وحليه الأخرى عند رأسه ، ثم يسير أصدقاؤه ومعارفه في المقدمة خلف الجنازة مباشرة ، ويكون عملهم هو نقل الجثمان من واحد إلى الآخر إذا ما أحسوا بالتعب جراء ذلك ، ومن ثم يمضون به في رفق وهم ينتحبون طوال الطريق إلى المقبرة ، في حين تسير النسوة وراءهم صارخات معولات يسمعهن كل من يكون على قارعة الطريق.

__________________

(١) لسنا نعرف إن كانت مثل هذه العادة سائدة في سوريا أو بين الطوائف المسيحية على الأخص. ولكن الشائع عندنا في العراق أن يلفّ الميت بعد تغسيله بالكفن ، ولا يترك أي جزء ظاهر من جسمه ثم يحمل في جنازة على الأكتاف وبعد أن يصلى عليه صلاة الميت يلقى في القبر ويهال عليه التراب.

٥٩
٦٠