رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

جدّا وتقع في سهل وقد ذهبنا إلى النزل الذي فيها فاسترحنا فيه وأمضينا يوم السبت كله هناك.

وعند المساء وحين بدأ الظلام يرخي ستائره طلب إلى رفاقي اليهود أن أوقد لهم أحد القناديل ، وإذ ذاك تذكرت أن اليهود لا يوقدون النار بأنفسهم في مثل هذا اليوم لأن شعائرهم تمنعهم عن ذلك ، وهذا وارد في الإصحاح الثالث والعشرين من «سفر الخروج». فهم في ذلك اليوم لا يوقدون أية نار في بيوتهم ، ويهيئون كل ما يحتاجون إليه قبل يوم سابق كيلا يضطروا إلى مزاولة أي عمل كان في يوم السبت. ولا حاجة إلى القول بأن اليهود يمارسون في صلاتهم ذات الشعائر التي يمارسها المسيحيون والحثيون (١) في الأقطار الشرقية.

وعلى مسافة قصيرة من طاووق شاهدنا قلعة محصنة فيها إحدى الحاميات التركية وهذه تقع في منطقة الأكراد (٢) التي تبدأ من هنا وتسير بامتداد نهر دجلة بين ماذي وبين النهرين حتى تصل إلى أرمينيا.

ومعظم هؤلاء الأكراد من النسطوريين (٣) وهم يتحدثون بلغة خاصة

__________________

ينسبونه إلى الإمام زين العابدين بن الحسين (رض) وذلك وهم لأن زين العابدين لم يزر العراق «بل هو لم يخرج من المدينة المنورة بعد وقعة كربلاء» (عبد الرزاق الحسني : العراق قديما وحديثا حاشية صفحة ٢٢٥).

(١) الحثيون أقوام جاءت من آسيا الوسطى ونزلت في أعالي نهر الفرات قبل الميلاد ثم اجتاحت العراق والأردن وفلسطين واستقرت فيها وكانت عاصمتهم تدعى (خطى) تقع على نهر «قزل أرمق» في تركيا وكانت لهم في الأناضول عاصمة أخرى تدعى «حانوسا».

(٢) المنطقة الكردية لا تبدأ من طاووق ولا من كركوك وإنما تبدأ في الواقع من داقوق إلى أربيل التي يسكنها العرب والأكراد والتركمان.

(٣) هذا وهم من المؤلف ذلك لأن الأغلبية الساحقة من الأكراد هم من المسلمين.

ولكن المؤلف ربما أراد بكلمة النسطوريين الطائفة الأثورية التي يعتبرها البعض من الأكراد وما هي منهم. ومع ذلك فإن قلة من الأكراد تعتنق المسيحية واليهودية

٢٢١

لم يكن رفاقي المسافرون معي يعرفونها ، كما أن الأكراد لا يستطيعون التحدث لا بالفارسية أو التركية الشائعة الاستعمال ما بين بغداد وآشور. وذلك اضطرنا إلى من يعرفون اللغة الكردية أن يكونوا بمثابة مترجمين لنا أثناء مرورنا ببلاد الأكراد.

أما إذا كانت اللغة الكردية منتشرة في بلاد ماذي أم لا فذلك أمر لم أستطع التأكد منه ، إذ إن كلّا من الفرثيين والماذيين والفرس ، كأمم محددة معروفة ، كانت لهم لغاتهم الخاصة بهم ، كما يحدثنا التاريخ عن ذلك وكما نطلع عليه أيضا من «أعمال الرسل» حيث تقول الآية الثامنة من الإصحاح الثاني «وكيف نصغي إلى كل رجل يتحدث بلساننا في الوقت الذي كنا قد خلقنا فيه».

فالفرثيون والماذيون والفرس وسكان ما بين النهرين وغيرهم كلهم من الشعوب التي تخضع اليوم لحكم ملك فارس.

وكان الأكراد يعرفون قبلا باسم «كردوخي» Carduchi ثم عرفوا باسم «كردواني» Cardueni وهذا الاسم قد سماهم به «زينفون» بصفة خاصة (١).

وكانت للأكراد سياستهم وحكومتهم ، ولكن بعد تبدلات وحروب كثيرة أخضعوا في النهاية لحكم السلطان التركي ، وهم لا يزالون يخضعون له حتى هذا اليوم وهو يحتفظ بحامياته العسكرية في كل مكان لمواجهة ملك فارس.

__________________

أيضا. وقد نزح معظم اليهود الأكراد مع بقية اليهود الآخرين من العراق إلى فلسطين المحتلة بعد سنة ١٩٥٠ م.

(١) زينفون Zenophon (٤٤٤ ـ ٣٥٩ ق. م) فيلسوف وقائد يوناني معروف اشتهر بحملته التي قاد فيها عشرة آلاف يوناني لمناصرة كورش الصغير ملك فارس ضد أخيه أردشير وقد تراجعت هذه الحملة على امتداد نهر دجلة إلى آسيا الصغرى.

٢٢٢

ومما يجب التحدث به عن هؤلاء الأكراد ما يتعلق بديانتهم ، ولسوف أشير إلى ذلك فيما بعد حين أقدم لك قدرا من الحديث عن المسيحيين الذين يسكنون في معبد يقوم على جبل (الصلب) (١) في القدس.

بعد أن ولى اليوم الذي سبت فيه رفاقي اليهود استأنفنا مسيرتنا فوصلنا في السادس والعشرين من كانون الأول إلى «كركوك» وهي مدينة جميلة وكبيرة تقع في سهل كثير الخصب. وعلى بعد أربعة أميال منها تقع مدينة أخرى على مرتفع (٢) ولما كانت لرفاقي أشغال في المدينتين فقد أمضينا فيها يومين قبل أن نواصل سفرتنا.

أمضينا اليوم التاسع والعشرين من الشهر في مسيرة عبر مروج واسعة حتى وصلنا ليلا إلى خيام صنعت من نسيج الشعر أمضينا الليلة في واحدة من هذه الخيام مع أناس فقراء من العرب بيض الوجوه يشبهون الغجر في أشكالهم وسحناتهم. ولم أستطع أن أقدر من نوع الملابس التي كانوا يرتدونها ما إذا كانوا يخضعون للسلطان التركي أم لملك فارس ، لأنهم كانوا جميعا يرتدون ذات اللباس ، كما أنني لم أستطع أن أميز شيئا في لغتهم.

بعد قليل أقبل علينا مسافرون آخرون حلوا معنا وبذلك أصبح من المتعذر علينا أن نجد مكانا ننام فيه. وكان القوم جد كرماء إذ انهمكوا في

__________________

(١) ذكر راوولف هذا الجبل باسم كلفارياCalvaria وهو الجبل الذي قيل إن السيد المسيح ـ عليه‌السلام ـ قد صلب فوقه ولذلك سمي باسم جبل الصلب أو جبل الجلجلة.

(٢) لا توجد مدينة أخرى تبعد أربعة أميال عن كركوك كما ذكر ذلك راوولف ولكن الشيء الذي يخيل إلينا أن هذه المدينة هي قلعة كركوك أو «القورية» التي تقع على الضفة الشرقية من نهر «خاصة صو» بينما يقع القسم الآخر من كركوك على الضفة الغربية منه ، ولذلك خيل إلى راوولف أن القسمين يؤلفان مدينتين منفصلتين.

٢٢٣

تقديم اللحوم والشراب لنا. ذلك لأننا ما إن أقلبنا عليهم حتى أسرع رب البيت بالخروج من خيمته بجمع الأحطاب الجافة لشي اللحم بها.

ولم تكن النسوة خاملات ، فقد أسرعن بتقديم اللبن والبيض لنا ، بينما شرع غيرهن في عجن الطحين لتهيئة الخبز وذلك بصنعه على شكل أقراص سمك الواحد منها سمك الأصبع ومن ثم إلقاؤه على أحجار ساخنة وتقليبه فوقها وتغطيته بأحجار ساخنة أخرى إلى أن ينضج.

وهذه الطريقة في صنع الخبز ليست حديثة العهد فلقد اعتادها القدامى من السكان حيث نجد ذلك مذكورا في المدونات القديمة. فنحن نقرأ في الإصحاح الثامن عشر من «سفر الخليقة» كيف أن «سارة سارعت إلى صنع الخبز حين أقبل ثلاثة رجال على إبراهيم».

تحركنا من هذا الموضع ظهيرة يوم الثلاثين من كانون الأول فوصلنا إلى مدينة تدعى «برستا» (١) على مقربة من النهر القائم هناك ، وهي محصنة تحصينا جيدا ، لكنني لم أعرف الاسم الذي يطلقه السكان على ذلك النهر ، ولكن طبقا لموقعه لا بد أن يكون هو النهر الذي أطلق عليه «بطليموس» اسم «غورغوس» (٢) والذي يصب في دجلة.

وفي هذه الأماكن تصنع الأرماث وهي وإن لم تكن كثيرة جدّا ولا توجد أخشاب كثيرة فيها ، إلا أنها تحوي عددا وافرا من جلود الماعز

__________________

(١) برستاPresta هي مدينة ألتون كوبري الحالية التي بناها السلطان مراد الرابع أثناء حملته على العراق سنة ١٦٢٩ م وكلمة برستا محرفة عن كلمة «بردى» الكردية وتعني «الجسر».

(٢) غورغوس Gorgus هو الاسم الذي أطلقه الجغرافي اليوناني الشهير بطليموس على نهر الزاب الصغير الذي تقع عليه مدينة ألتون كوبري ، أي «قنطرة الذهب» ، و «الزاب» هو أقدم اسم لنهري الزاب الكبير والصغير معا إذ ورد ذكرهما بهذا الاسم في النصوص الآشورية حوالي سنة ١٢٥٠ ق. م.

٢٢٤

المنفوخة والتي توضع في القعر لتحمل المزيد من الأثقال فوقها ، ولما كان النهر سريع الجريان فلا يخشى عليها من الخطر كثيرا.

وينقل القوم على هذه الأرماث أنواع السلع ولا سيما الثمار من أمثال التين واللوز والزبيب والجوز وكذلك الحنطة والشراب والصابون وغيرها من السلع الأخرى التي يجري نقلها إلى الهند.

واصلنا مسيرتنا في آخر يوم من كانون الأول عبر الحقول فوصلنا ليلا إلى مدينة أربيل ، وهي مدينة كبيرة لكن أبنيتها زرية المنظر تحيط بها أسوار هزيلة ولذلك يمكن الاستيلاء عليها بيسر ومن دون قوة كبيرة أو خسائر.

ولقد استرحنا في هذه المدينة حتى اليوم التالي وهو يوم السبت والذي يقع فيه «رأس السنة الجديدة» (١).

وقد علمت في ذات الوقت أن آمر لواء تركي كان قد أقدم قبل أيام قلائل على تنفيذ حكم الإعدام بثمانية من المجرمين الكبار الذين اقترفوا أعمال السلب والقتل في الطريق العام ، حيث يوجد عدد كبير من هؤلاء السلابين في تلك المنطقة ، على حدود أرمينيا. وهؤلاء هم من سكان الجبال الذين يجعلون السفر في تلك الأنحاء محفوفا بالمخاطر.

ولقد اضطربت الأحوال وساءت العلاقات بين أولئك القتلة وقطاع الطرق. ولذلك قرر أمير اللواء التركي أن يقدم على إعدامهم قبل أن يثأروا منه بأي من الطرق ، لكنهم ما لبثوا أن تفاهموا فيما بينهم واتفقوا على العمل سوية ، وتهيأوا للهجوم عليه طبقا لما خططوه. ولما كانت لأمير اللواء استخبارات حسنة عن نواياهم فقد استطاع أن يشخص إلى اسطنبول ليعلن أمرهم للسلطان التركي وذلك أمر لا بد أن يطلعوا عليه بعد وقت قصير.

__________________

(١) رأس السنة الجديدة بالنسبة للتقويم الميلادي وهي سنة ١٥٧٥ م.

٢٢٥

وحين وجد أمير اللواء ضرورة في نجاته ، وحاجة ماسة إلى الأموال التي غدت نادرة لديه ، استدان من أحد التجار الأرمن ، وهو من الأثرياء وقد وصل إلى أربيل توّا لشراء العفص منها والذي يكثر فيها ، ثلاثمائة دوقة الأمر الذي وضع ذلك التاجر في خطر كبير ، لأن المتمردين ما إن علموا بذلك حتى استاؤوا منه وهددوه فاضطر إلى أن يمكث مدة أطول كيما تتهيأ جماعة أكثر عددا يستطيع السفر معها بأمان.

وبعد أن انضم إلينا ذلك التاجر الأرمني نفسه رحلنا من أربيل في الخامس من كانون الثاني سنة ١٥٧٥ م في عدد كبير من البضائع ، إذ إن ذلك التاجر وحده كان يملك حوالي خمسين بعيرا وحمارا محملة بالعفص الذي يريد نقله إلى «قره آمد» (ديار بكر) التي يسكن فيها ومن هناك يبعث به إلى حلب حيث يقبل التجار هناك على شرائه وإرساله إلى بلادنا الأوروبية. وهكذا أمضينا النهار ونصف الليل الذي أعقبه ونحن نعد السير دون أن نتناول أي طعام أو شراب إلى أن توقفنا للاستراحة بعد منتصف الليل.

بعد أن أمضينا بقية الليل في التزود بالطعام والشراب لنا ولدوابنا استأنفنا مسيرتنا عند انبلاج الصبح. وحين كنا نسير في سهول مزروعة مثمرة وصلنا إلى نهر آخر سماه «بطليموس» باسم «كابروس» (١) وهو وإن لم يكن عريضا لكنه عميق الغور جدّا ، ولذلك وجب علينا أن نعد وسيلة ما لعبوره ، مما جعلني أحرص كل الحرص على وقاية النباتات التي جمعتها والتي كنت أضعها أمامي على ظهر الجواد الذي كنت أمتطيه.

واصلنا سفرتنا بعد الظهر فقطعنا مسافة لا بأس بها من الطريق حتى

__________________

(١) كابروس Caprvs هو نهر الزاب الكبير.

٢٢٦

وصلنا ليلا إلى مدينة ذات سوق واسعة هي مدينة (قره قوش) (١) فأقمنا خيامنا على مقربة منها.

وهذه المدينة يسكنها (الأرمن) (٢) الذين استطعنا في الحال أن نميزهم من تغير لغتهم وعاداتهم ، وقد استقبلونا بترحاب متزايد ، وأعدوا لنا كل ما كنا نحتاج إليه.

وبعد أن استرحنا في المدينة حتى المساء غادرناها حين حل الظلام. وكانت حلكة الليل شديدة إلى درجة أننا كنا فيها نسمع أصوات قوافل تمر بنا ، دون أن نراها ، أو نعرف كثرتها ، أو المكان الذي أقبلت منه.

وحين طلع علينا النهار وصلنا إلى نهر كبير يسميه السكان «كلك» (٣) ، إن لم أكن قد أخطأت في ذلك ، بينما يدعوه بطليموس باسم «ليكوس» (٤).

كان ذلك النهر يعترض طريقنا ، وكان عريضا يبلغ عرضه زهاء الميل (٥) ، ولم يكن من اليسير عبوره دون التعرض إلى الخطر ، وذلك أمر

__________________

(١) قره قوش Carcuschy تبعد شرقي الموصل بحوالي ثلاثة وثلاثين كيلو مترا ومعناها في اللغة التركية «الطائر الأسود» ولكن اسمها القديم هو «باخديدا» وهي الآن مركز ناحية «الحمدانية» التي حل اسمها مكان قره قوش.

(٢) الظاهر أن المؤلف قصد بكلمة (الأرمن) هنا «الأراميين» لأن الأراميين أو الكلدانيين هم الذين يؤلفون الأكثرية من السكان في مدينة قره قوش وبقية القرى المسيحية الأخرى الواقعة شرقي الموصل.

(٣) ليست كلك (التي ذكرها المؤلف باسم كلنك (Kling نهرا ، وإنما هي ناحية صغيرة على نهر الزاب الكبير وتعرف باسم «اسكي كلك».

(٤) ليكوس Lecus تسمية أخرى لنهر الزاب الكبير عند اليونان.

(٥) ليس نهر الزاب الكبير على مثل هذا العرض الذي ذكره المؤلف وقد يفيض في أوقات الفيضان على المناطق الواطئة المحيطة به فيصبح عريضا ولكن لا يبلغ عرضه ميلا قط.

٢٢٧

يعرفه الأكراد جيدا ، في ذات الوقت الذي كنا نحن نشعر فيه بالخوف من أولئك الأكراد أنفسهم ، ومع ذلك فقد وجدنا بين جماعتنا ممن سبق لهم عبور ذلك النهر وهكذا غامرنا في عبوره فاندفعنا إليه وعبرناه وخرجنا منه سالمين بفضل الله ، خلا حمار واحد جرفه تيار النهر القوي فأغرقه.

في صباح اليوم السابع من كانون الثاني ١٥٧٥ م وصلنا إلى نهر دجلة مرة أخرى لندخل مدينة «الموصل» الشهيرة التي تقع على هذا الجانب (١) من النهر فوق جسر مصنوع من الزوارق.

وفي المدينة بعض الشوارع والأبنية الجميلة الجيدة. وهي واسعة نوعا ما لكن أسوارها وخنادقها ضعيفة ، كما لا حظت ذلك من سطح النزل الذي حللنا فيه والذي يمتد إلى المدينة ذاتها.

كذلك شاهدت في خارج المدينة تلّا حفر معظمه يسكنه الفقراء من الناس وقد رأيتهم عدة مرات يزحفون إليه ويخرجون منه مثلما يزحف النمل إلى تلاله ويخرج منها (٢) وفي هذا المكان كانت تقوم قبلا مدينة «نينوى» ذات القوة والبأس التي بناها «آشور» منذ عهد الملكية الأولى حتى عهد سنحاريب وأبنائه (٣).

__________________

(١) يقصد به الضفة الشرقية من نهر دجلة والتي تقوم فيها خرائب نينوى وقرية النبي يونس قبل أن يمتد العمران إليها مؤخرا.

(٢) هذا التل هو المعروف باسم «تل التوبة» والذي يقوم عنده قبر النبي يونس ومسجده في الجانب الشرقي من الموصل وهو جزء من مدينة نينوى ، وفي هذا الموضع دعا النبي يونس أهل نينوى أن يكفوا عن المعاصي ويتوبوا فسمي ذلك الموضع باسم تل التوبة.

(٣) لا يعرف على وجه التأكيد اسم الملك الذي بنى نينوى فقد دلت التحريات أنها كانت قرية في عصور ما قبل التاريخ وأن اسمها سومري الأصل وكانت من مراكز الأموريين قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة وقد قام «شمش حدد الأول» الذي حكم آشور في القرن الثاني عشر قبل الميلاد بتجديد معبد أقامه «مانشستو» أحد ملوك

٢٢٨

كان طول نينوى يبلغ مسيرة ثلاثة أيام. ولقد قرأنا أن النبي «يونس» عند ما جاءه أمر الله وراح يدعو سكان المدينة إلى التوبة استطاع أن يدخلها في يوم واحد ، ولذلك أصغى الناس بشوق إلى مواعظه فتحسنت حياتهم ، لكنهم لم يستمروا في التوبة طويلا ، وعادوا إلى مفاسدهم السابقة وإذ ذاك حل بهم الدمار والخراب مما تنبأ لهم به كل من النبي «ناحوم» (١) والنبي صفنيا (٢) وكذلك التقي الورع «طوبيا» الذي كان آنذاك في المدينة ولم يمكث فيها طويلا.

ومع ذلك تم بناء الموصل مجددا فيما بعد ، وعانت الكثير بسبب تبدل الحكومات التي استولى عليها «تيمور لنك» (٣) في النهاية بهجوم عاصف فأحرقها وحولها إلى رماد ، إلى درجة أن النباتات والأشجار نمت فوقها بعد مدة قليلة. ولذلك لا ترى في الوقت الحاضر ، أية آثار فيها مثلما هو عليه الأمر في «بابل» القديمة ، ولم يسلم منها سوى حصن يقوم على أحد التلال وبعض القرى القليلة التي كانت تعود إلى الأيام الخوالي

__________________

«أكد» وازدهرت المدينة في عهد آشور ناصر بال وابنه شلمناصر وكذلك في عهد سرجون وأسرحدون وسنحاريب. ويقول العالم الأثري الإنكليزي هنري رولنصون أن مساحة نينوى بلغت ٢١٦ ميلا مربعا وأن عدد سكانها في عهد النبي يونس بلغ مليون ومائتي ألف نسمة.

(١) النبي ناحوم Nahum واحد من الأنبياء الاثني عشر الصغار عند اليهود وسفر ناحوم يقع في ثلاثة فصول وهو مليء بالإنذارات.

(٢) النبي صفنياZephenia من أنبياء إسرائيل الاثني عشر الصغار أيضا ويقع سفره في ثلاثة فصول.

(٣) تيمور لنك ومعناه تيمور الأعرج ويعرف عند الأجانب باسم تامرلان Tamerlane من أحفاد جنكيز خان المغولي ولد سنة ١٣٣٥ م شغل منصب الوزارة في حكومة غتمش خان ثم ثار عليه وانتزع الحكم منه. زحف على إيران واستولى عليها وعلى الأفغان وأذربيجان والعراق كما استولى على الهند وآسيا الصغرى وقد عزم على افتتاح الصين لكن المنية عاجلته قبل أن يحقق ذلك.

٢٢٩

فيها حسبما ذكر لنا السكان ذلك (١).

تقع الموصل عند تخوم أرمينيا في سهل واسع يزرع القسم الأعظم منه بالحنطة على الجانب الآخر من النهر. ذلك لأن هذا الجانب من أرض العراق رملي وقاحل يدعك تحس وكأنك تعيش في الصحراء العربية.

ومع هذا فالتجارة نشطة فيها ، إذ إن في المدينة مخازن كبيرة للسلع نتيجة وجود النهر ، حيث يتم نقل مختلف البضائع والفواكه من البلاد المجاورة بطريق النهر وبالبر إلى بغداد.

ولقد شاهدت نوعين من هذه الفواكه من جنس الجوز بأحجام كبيرة وصغيرة يسميه السكان باسم (البندق) (٢) كما شاهدت نوعا من «البطيخ» (٣) كبير الحجم بقدر قبضتي اليد كثير الانتشار هنا قيل لي عنه إنه يؤتى به من أرمينيا ، وهو صلب أسمر اللون حلو المذاق وهو كاليقطين (٤) ومع ذلك فهو حسن صالح للأكل ويحتوي على بذور صغيرة

__________________

(١) الثابت تاريخا أن نينوى قد دمرت على أيدي الماذيين والبابليين الذين تحالفوا معهم وكان ملك الماذيين هو أرباسيس ويعرف باسم كي اخسار أيضا وملك البابليين هو بلسيس أو نبوبلاسر وقد زحف الجيشان الماذي والبابلي على نينوى من كل الأطراف ودمراها تدميرا تامّا وذلك في سنة ٦١٢ ق. م. ولم تقم لمدينة نينوى أية قائمة بعد ذلك التاريخ (انظر رحلتي إلى العراق ج ١ ص ١١٧ تأليف بكنغهام ترجمة سليم طه التكريتي ط ١٩٦٨). وعلى هذا فإن تيمور لنك لم يهاجم نينوى كما قد يفهم من قول راوولف هذا ، وإنما هاجم مدينة الموصل التي تقع على الضفة اليمنى من نهر دجلة وذلك في سنة ١٣٩٣ م وزحف منها إلى بغداد فانتزعها من حكم الجلائريين في ذات السنة.

(٢) البندق ذكره المؤلف باسم بونت Bont.

(٣) البطيخ ذكره المؤلف باسم «مانا» Manna وهي ذات الكلمة التي تطلق على (المن) في اللغات الأوروبية ونظن أنه هو «الرقي».

(٤) اليقطين Calabria.

٢٣٠

حمراء لا يشاهد ، المرء حين تناوله ، وهو يحل الجسم لكن ليس بالكل المعروف عندنا من هذا الثمر. وقد اعتاد السكان أن يتناولوه بكميات كبيرة عند الصباح مثلما يفعل ذلك سكان جبل لبنان (١) بالنسبة إلى الجبنة.

ولكن هل كان هذا هو (المن الحجازي) الذي أشار العرب إليه ، أم هو النوع الذي أشار إليه «ابن سينا» في الجزء الثاني ، المقالة الثانية من الفصل الخامس والسبعين ، فذلك أمر لم أتحقق منه.

وقيل إن أكثرية سكان الموصل من النسطوريين (٢) الذين يزعمون بأنهم مسيحيون ، لكنهم في الحقيقة أسوأ من أية ملة أخرى. ذلك أنهم لا يمارسون غالبا أي عمل كان سوى ترصد الطرق والانقضاض على المسافرين وقتلهم وسلبهم ، وبسبب ذلك كانت الطرق المتجهة إلى «نصيبين» (٣) ـ التي بلغناها في مدى خمسة أيام سيرا في أرض رملية وعرة ـ محفوفة بالمخاطر مما اضطرنا إلى أن نمكث عدة أيام انتظارا لجماعة أكثر عددا نستطيع أن نسافر معها في أمان.

__________________

(١) لبنان ذكره المؤلف باسم Algan

(٢) ليس صحيحا أن أكثرية سكان الموصل هم من النساطرة فعلى العكس إن غالبية سكانها من المسلمين ولكن أكثرية المسيحيين الساكنين فيها كانوا من النساطرة في الوقت الذي زارها راوولف فيه.

(٣) نصيبين كتبها المؤلف باسم زيبين Zibin وهي من المدن القديمة جدّا تقع على نهر جغ جغ أحد روافد نهر الخابور ورد في التوراة عنها أن الذي بناها هو نمرود ملك آشور ولا يوجد سند تاريخي لهذا القول.

٢٣١
٢٣٢

الفصل السادس عشر

الطريق الذي سلكناه عبر العراق ـ طريق نصيبين ـ أورفه إلى «بير».

كيفية عبورنا نهر الفرات العظيم ووصولنا إلى مدينة حلب

بعد أن مكثنا أربعة أيام استأنفنا رحلتنا في الحادي عشر من كانون الثاني فأمضينا النهار كله في السير بمنتهى السرعة دون أن نأكل شيئا إلى أن غربت الشمس وحل المساء ، حيث خيمنا على مرتفع عند قرية صغيرة لنستريح ونريح دوابنا. وقد بقينا طيلة الليل في حراسة مستديمة ، ونحن ندور حول المخيم ثلاثة فثلاثة.

وفي اليوم الثاني استأنفنا مسيرتنا بسرعة تامة كيما نصل إلى ينبوع أو بئر ماء ، مثلما يفعل ذلك سكان هذه البلاد في مثل هذه الصحاري الشاسعة ، أكثر من اهتمامنا بالوصول إلى نزل حسن. وقد وصلنا في النهاية إلى إحدى هذه الآبار فأقمنا مخيمنا عندها لنستريح ولنمضي الليل كله هناك.

وبعد مضي وقت طويل على تناولنا طعام العشاء أقبل على مخيمنا بعض الأكراد وتحدثوا إلينا برقة ، وسألونا عما إذا كنا في حاجة إلى شيء ما يستطيعون به مساعدتنا.

لكن سرعان ما تأكد لدينا أن أولئك كانوا من الجواسيس بعث بهم رفاقهم ليعرفوا قوتنا ، ولما أيقنوا بأننا لم نفرح بمقدمهم لم يمكثوا معنا طويلا وغادرونا ، وإذ ذاك وطدنا العزم على أن نستريح بعد أن أعددنا لنا حراسة جيدة مثلما فعلنا ذلك في الليلة السابقة.

٢٣٣

وعند منتصف الليل ، وحين كنا في الإغفاءة الأولى ، لاحظ حراسنا عددا كبيرا من الأكراد يقتربون من مخيمنا. ولذلك أيقظنا حراسنا من النوم بما أطلقوه من عبارات التحذير بأصوات عالية ، وأن نكون على أتم استعداد للأمر ، ولكي يخيفوا أعداءنا ويبعدوهم عنا بهذه الوسيلة. لكن أولئك الأكراد لم يأبهوا بتلك الصيحات بل اتجهوا إلينا بكل ما لديهم من سرعة فأصبحوا قريبين منا وغدونا نرى رؤوسهم أمام مخيمنا رغم حلكة الظلام.

على أنهم ما إن وجدونا على استعداد كامل وتهيؤ لمقاومتهم ، وإذ سمعوا أصوات حملة البنادق والنبال من جماعتنا وقد استعدوا لإطلاقها عليهم ، وراحوا ينادونهم بأصوات عالية «تعالوا تعالوا أيها اللصوص!» (١) حتى توقف أولئك الأكراد قليلا ثم خافوا منا فولوا الأدبار هاربين.

وبعد فترة ، ولم نعد نخشى هجومهم علينا ، أقبلوا نحونا مرة أخرى في أعداد أكبر من المرة السابقة. فقد كانوا يسوقون أمامهم بعيرا في المقدمة وخيلا ، استطعنا أن نميزها في الظلام وهي ترفع رؤوسها نحو السماء ، وكان غرضهم من هذا أن يحملونا على الاعتقاد بأنهم من المسافرين أو كيلا نعرف مقدار عددهم. على أن غارتهم الأولى علينا ما زالت حية في الأذهان ولهذا لم ننخدع بهم بل أعدنا استعدادنا ثانية للمجابهة ، فكنت أنا أقف في الميسرة وفي الصف الأول منها وقد سحبت بندقيتي وتدرعت بعدد من صفاح الورق التي جلبتها معي لأحفظ بها النباتات التي أجمعها ، ثم رحت أنتظر هجومهم في كل لحظة. لكنهم توقفوا عن السير مرة أخرى ، وخشوا منا كما خشينا نحن منهم ولم يطلقوا صوتا واحدا ، أو يتحركوا بأية حركة تجاهنا ، وعندئذ عمد أحد

__________________

(١) ثبت راوولف هذه العبارة باللغة العربية على الشكل التالي «تعالوا تعالوا أيها الحرامية» وقد أبقاها مترجم الرحلة إلى الإنكليزية على حالها كما دونها المؤلف.

٢٣٤

رجالنا إلى استفزازهم فوجه إطلاقة نحو البعير وأصابه معلنا بذلك لبقية الرجال بأن يستعدوا لإطلاق النار وحينئذ لم يمكث الأكراد إلا قليلا وولوا الأدبار ثانية ، وهكذا بقينا يقظين طيلة الليل وفي حراسة جيدة حيث استأنفنا مسيرتنا في صبيحة اليوم التالي فبلغنا قفرا قاحلا واسعا لا إنسان فيه ولا حيوان ، ومضينا في رحلتنا حتى الظهر حين أقمنا خيامنا في مكان واسع محاط بجدران وخنادق أشبه بالحصن ، مما يكثر وجوده في مثل تلك الأنحاء الخطرة.

وما إن أقمنا هناك حتى أقبل علينا اثنان من الأكراد زعما بأنهما قد أرسلا إلينا لتسلم الإتاوة المفروضة على القافلة لأن المكان يعود إليهما ، غير أن تجارنا سرعان ما تأكد لديهم كذب مزاعم ذينك الكرديين ، فامتنعوا عن إعطائهما أي شيء مما أثار سخطهما فعمدا إلى امتشاق حساميهما وإشهارهما بوجوهنا. وإذ ذاك لم يقف رفاقنا مكتوفي الأيدي بل أسرعوا في امتشاق سيوفهم وهجموا عليهما وطردوهما من المخيم.

بعد أن انتهت هذه الضجة تناولنا طعام الغداء ثم استرحنا وأطعمنا دوابنا ومن بعدها عاودنا السير مرة أخرى حيث بدت أمامنا بعض الجبال التي أخذنا نقترب منها عند حلول الظلام ، وقد شاهدنا أحدها وهو أكثر ارتفاعا من البقية يقوم فوق أحد السهول مما حملنا على الاعتقاد بوجود جبال أخرى تقع خلف هذه الجبال في شكل كمين ، وقد تحقق لنا ذلك فعلا لأننا ما كدنا نجتاز أحد تلك الجبال حتى ظهر لنا من ورائها عدد كبير من الجنود يبلغ فوجين كانوا يمتطون ظهور الخيل ويسيرون كل ثلاثة في صف واحد ، وقد أصبحوا في النهاية على مرمى سهم منا ، وكان معظمهم يحملون الرماح.

وإذ بدا لنا ، وكأن أولئك الجند يحاولون الهجوم علينا ، جمعنا فلول قافلتنا وتهيأنا لصدهم ، وقد ربطنا دوابنا بعضها بالبعض الآخر ، وعقلناها

٢٣٥

من أرجلها كيلا تتحرك ، ووقف خلفها المكاريون وهم يحملون سهامهم بينما وقف خلفهم بقية الرجال الذين لم يتزودوا بالأسلحة والخيل جيدا ، وذلك استعدادا لإطلاق النار على العدو عند الحاجة إذا ما حاول الهجوم علينا وتوجيه إطلاقات بنادقنا إلى خيله.

بعد مضي ساعة على ذلك بعثنا باثنين من جماعتنا إلى الجند كما أرسلوا هم بدورهم اثنين من جانبهم للتفاوض ومع أنني لم أعرف نوع الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين مندوبينا ومبعوثيهم ، إلا أن أولئك ما إن تحادثوا كثيرا حتى غادرونا في الحال وسرنا نحن في طريقنا ، وإذ ذاك شرعنا في تنظيم قافلتنا ، التي كانت تضم أناسا كثيرين وعددا كبيرا من الإبل والدواب الموسقة بالحمولة ، بشكل أحسن من ذي قبل ، حيث قطعنا في ذلك اليوم مسافة جيدة ووصلنا في النهاية إلى قرية صغيرة خيمنا عندها وأمضينا الليل كله هناك.

لم نجد في هذا المكان شيئا من الحطب وكنا نعاني نقصا في الخبز أكثر من بقية المواد الغذائية الأخرى. وقد زاد سرورنا حين حصلنا على الخبز ، وفي الوقت ذاته أقبل سكان القرية نحونا ليجمعوا روث الدواب كما اعتادوا أن يفعلوا ذلك في أماكن عديدة ، ولا سيما في الصحراء ، لإشعاله بدلا من الحطب الذي يأتي استعماله في الدرجة الثانية بعد روث الحيوانات.

ويحفر هؤلاء السكان داخل خيامهم أو بيوتهم حفرات يبلغ عمق الواحدة منها قدما ونصف قدم يضعون فيها أوعيتهم الفخارية التي يحفظون في القسم العلوي منها ما لديهم من لحوم ثم يملأون ثلاثة أرباع حيز الحفرة بالحصى ويتركون الربع الأخير فارغا يضعون فيه الروث والقش فيشعلون فيه النار ومن ثم يضعون الوعاء على النار ليطهوا اللحم بسرعة أكثر مما نفعله نحن عادة.

إن سكان هذه القرى فقراء ، ومعظمهم يعاني النقص الشديد في الغذاء ، وهم يفعلون نفس ما فعله اليهود عند حصار «القدس» حين

٢٣٦

اضطرتهم الحاجة إلى أن يطهوا طعامهم ببراز الإنسان والحيوان معا ، كما ورد ذلك في الإصحاح الرابع من «سفر حزقيال».

لقد أمضينا هذه الليلة والليالي الأخرى التي أعقبتها في الحراسة أكثر من النوم ، ورحنا نتمعن بتأمل فيما تحفل به السماء من فوقنا والتي يشاهدها الكثيرون من أبناء الأمم عادة ، ولا سيما العرب الذين يبيتون دوما في العراء دون سقف يحميهم ، وبهذا أصبحوا يعرفون من مشاهدة النجوم ساعات الليل والوقت الذي ينبغي لهم أن يستيقظوا فيه. فهم لا يهتمون كثيرا بأسرة النوم بل يستعملون بدلا عنها العباءات والأبسطة التي يلفون أنفسهم بها فيستدفئوا بها ولهذا لا يمكن للمطر أو الجليد أو الندى أن يصيبهم بأي أذى.

غادرنا موقعنا صباح اليوم التالي بعد طلوع الشمس فأمضينا النهار كله في السير دون أدنى عائق ، فاجتزنا جبالا عديدة ، كما مررنا في اليوم الثاني بصحراء رملية عميقة الغور أعاقت سيرنا كثيرا.

وحين بدأ الظلام يرخي سدوله كانت دوابنا قد كلت وأوشكت أن تسقط من وطأة الأثقال التي كانت تحملها وسببت لنا المتاعب ، ورغم ذلك ، ولأن مدينة نصيبين لم تعد تبعد عنا سوى أربعة أميال ، فقد تخلينا عن الطريق الوعر الذي كنا نسير فيه إلى طريق آخر يمر عبر المروج والينابيع التي كانت تنساب إلى أماكن بعيدة ، ولذلك أسرعنا في السير حتى وصلنا نصيبين في وقت متأخر من الليل.

وهذه المدينة جميلة الموقع وهي تخضع لحكم السلطان التركي لكنها ليست كبيرة ، وتقوم فوق مرتفع ، وتحيط بها الأسوار والخنادق المحصنة إحاطة جيدة.

والمدينة ملأى بالينابيع والقنوات ولا سيما في المضرب الذي أقمنا فيه خمسة أيام انتظارا لوصول جماعة أخرى من المسافرين.

٢٣٧

ويسكن نصيبين عدد كبير من الأرمن لأنها تقع في أطراف أرمينيا الواسعة ولذلك فلم نعد نشعر هنا بالخوف الذي كنا نشعر به ونحن نجتاز بلاد الأكراد!

خلال إقامتي هناك طلب إلى التاجر الأرمني الذي أشرت إليه قبلا ، ومعه أحد السادة الأتراك ، ممن كان يعطف عليّ طيلة الطريق ، ـ بعد أن سمعا من اليهود الذين معنا بأنني طبيب ـ أن أذهب معهما إلى «ديار بكر» ـ وهي مدينة تبعد مسيرة أربعة أيام وتقع على الجانب الآخر من دجلة ـ كيما أعالج بعض أقاربهما المرضى هناك وأنهما سيقدمانني إلى الباشا الصغير ابن محمد باشا ، والذي يشكو هو الآخر بعض المرض في الوقت ذاته ، مما سيعود علي بفائدة كبيرة.

ولقد تقبلت ذلك الطلب من صميم قلبي لأنه ما من شيء يسرني أكثر من أن أقدم الخدمة لذلك الأرمني بسبب عطفه ورقته.

ولما كنت قد طلبت بأن أعود إلى حلب وأن عليّ أن أحافظ على كلمتي في ذلك ، ولي فيه مصلحة مهمة ، فقد رفضت طلبهما واعتذرت عن تلبيته بكل رقة.

والباشا ـ ما خلا الباشا الوزير (١) ـ هو من بين الذين يؤلفون حاشية السلطان التركي على الدوام ، بينما يكون السلطان هو أعلى رئيس في تركيا ، وهو يحكم أقاليم أكثر سعة وثمرا من تلك التي يحكمها باشا بغداد من أمثال آشور والعراق وأجزاء واسعة من أرمينيا ومنطقة الأكراد وغيرها مما يتاخم حدود ملك فارس.

__________________

(١) الباشا الوزير يقصد به هنا رئيس الوزراء أو ما عرف لدى الأتراك باسم «الصدر الأعظم».

٢٣٨

بعد أن استرحنا وانتعشنا ، وانضمت إلينا جماعات أخرى من المسافرين شرعنا ليلة العشرين من شهر كانون الثاني بمسيرتنا فمررنا بعدد من القرى والحقول المحروثة ، وتحدثنا إلى السكان فيها بما تعلمناه من الأرمنية والتركية والعربية ، تلك اللغات التي يشيع استعمالها في تلك البلاد.

استمر سيرنا حثيثا حتى وصلنا في اليوم الحادي والعشرين إلى مدينة (حران) (١) لنمضي يوم السبت فيها. وفي هذه المدينة وافت الأنباء بوفاة السلطان التركي (سليمان) (٢).

نهضنا في وقت مبكر من صباح اليوم الثالث والعشرين من الشهر واتخذنا سبيلا آخر نحو (أورفه) وهي مدينة أخرى قطعنا في الوصول إليها خمسة أيام. وكلما اقتربنا من جبل «طور» (٣) (الذي يفصل أرمينيا عن بلاد الرافدين من ناحية الجنوب) ازداد الطريق وعورة لكن وعورته تعاظمت في اليوم التالي ، وهكذا كلما توغلنا في الجبال وجدنا الطرق فيها ملأى بالأحجار التي أعاقت سيرنا كثيرا وقد كلل البعض من هذه الجبال بالثلوج نوعا ما (وذلك أمر لم أشاهده في هذه البلاد سوى مرتين).

وحدث أن كبا أحد خيول اليهود فتدحرج فوق الطريق ، وحين سمع اليهودي تلك الجلبة التفت إلى الوراء فوجدني واقفا بجانب الحصان وإذ ذاك تعاظم سخطه علي ، إذ ظن بأنني أنا الذي أسقطته ، فحرك قوسه

__________________

(١) ذكر المؤلف مدينة حران باسم هوشان Hochan وهي تقع على بعد أربعين كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة «أورفه» وتقوم على نهر البليخ.

(٢) لم يكن السلطان المتوفى يدعى سليمان بل هو السلطان سليم الثاني الذي ولد سنة ١٥٢٢ م وتولى الحكم سنة ١٥٦٦ م وتوفي سنة ١٥٧٤ م.

(٣) جبل طورTauri يراد به «طور عبدين» الذي يمتد من ماردين في الغرب إلى جزيرة ابن عمر في الشرق مارا بنصيبين وقد افتتحه العرب ما بين ١٨ ـ ١٩ ه‍ (٦٣٩ ـ ٦٤٠ م) وكان من المراكز الأولى للمسيحية في الشرق.

٢٣٩

وسهامه نحوي. وحين وجدته مهتاجا وتذكرت كيف أضعت شرابي في السفينة حين سارت بنا في اليم ، لم أتأخر هذه المرة بل سارعت إليه وأمسكت بإحدى ساقيه فأسقطته من فوق حصانه قبل أن يطلق سهمه نحوي ، وهكذا أخذ أحدنا يلكم الآخر طويلا إلى أن جعلته يترنح في النهاية. وإذ رأى المسافران الآخران معنا أننا قد أفسدنا التمتع بمرأى الثلوج ، وأنني قد تغلبت عليه ووجهت إليه لكمات عديدة ، بادرا في الحال إلى الفصل بيننا وإعادة الصلح.

وحين وجدت أنهما لم يحملاني تبعة ما حدث ، وأن علينا أن نسافر سوية ، قررا أن يظهرا صداقتهما لذلك اليهودي ثانية. وعلى هذه الشاكلة مضينا في رحلتنا فوصلنا أثناء الليل إلى قرية تقع في واد ضيق يمتد عند سفح مرتفع عال عثرنا على إصطبل كبير بالقرب منه فتوجهنا إليه وكان هذا الإصطبل منحوتا في الجبل. وهكذا أمضينا الليلة فيه ولم نستطع أن نرى شيئا منه سوى مدخله. ذلك لأن المألوف في هذه المناطق الجبلية أن تنحت مثل هذه الإصطبلات في الجبال ، وأن تبيت القوافل فيها بأمان ، وتستطيع أن تقي نفسها من البرد أيام الشتاء.

كان هذا الإصطبل (الذي يبلغ طوله خمسا وعشرين خطوة وعرضه عشرين خطوة وعلى ارتفاع متساو من كل الجهات) قد تمّ نحته في إحدى الصخور.

وعند منتصف الليل تقريبا ، وحين كنا في أول إغفاءة ، طرق علينا أحد سعاة بريد السلطان باب الإصطبل. وكان هذا الساعي قد وصل إلى هنا من بغداد في مدى ستة أيام ، وقد جاء إلى الإصطبل يبحث عن بعض الخيول غير المتعبة (لأن خيله قد تعبت ولم يستطع الحصول على غيرها أثناء الطريق على خلاف ما يحصل في بلادنا الأوروبية التي ينتظم فيها أمر البريد) وقد دخل الساعي الإصطبل فأخذ من المكاري ثلاثة خيول ، كما أخذ حصانين من اليهودي (الذي سبق أن تنازعت معه). ذلك أن هؤلاء

٢٤٠