رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

منهم ، وذلك ما يسعى إليه الباشا بكل ما لديه من قوة وسلطان. فالأتراك لا يحبون الأحجار الكريمة لأنها تكلفهم أموالا ، فهم جشعون بصفة غير اعتيادية حيث لا تجد إلا قلة منهم يقتنونها ، لكنهم إن استطاعوا الحصول عليها بلا ثمن بطريقة المصادرة فإنهم يحبونها حبّا جمّا ويحافظون عليها بحرص شديد.

ويحتفظ هؤلاء التجار في بيوتهم بمجوهرات أخرى يبعثون بها ثانية إلى الهند كالمرجان والزمرد اللذين يكثر الإقبال على شرائهما في مصر ، وكذلك الزعفران والتوت والكرز ، وعدة أنواع من الفاكهة كالزبيب والتمور ، والتين واللوز وغيرها.

ولكن فوق هذا كله يصدرون الخيول الجميلة فيرسلون عددا وفيرا منها إلى الهند عن طريق فارس ، ولكن معظمها يرسل بطريق هرمز (١) حيث يتلقى ملك البرتغال كل سنة مبلغا طيبا من المال بصفة رسوم تبلغ أربعين دوقة (٢) لكل رأس من الخيل ، ذلك لأن الذين يستوردون الخيول ، كما أنبئت ، يدفعون نصف الرسوم عن سلعهم الأخرى إلى دائرة الكمارك ومن ثم يبيعونها بأرباح طيبة.

وبعض هذه الخيول تصدر ، بسبب جمالها وأصالتها ، إلى سوريا والأناضول ، وإلى بلادنا في أوروبا حيث تباع أو تهدى إلى الأمراء وغيرهم من الشخصيات البارزة.

وتطعم الخيول في هذه البلدان ، الشعير والكلأ ، فيوضع هذا العلف

__________________

(١) هي جزيرة هرمزOrmutz في الخليج العربي وكانت في عهد الرحالة راوولف خاضعة للبرتغاليين الذين احتلوها سنة ١٥٢١ م ومكثوا فيها قرنا كاملا إلى أن طردهم الإنكليز بمساعدة العرب والفرس سنة ١٦٢٢ م (انظر كتابنا : الصراع على الخليج العربي طبعة ١٩٦٦).

(٢) الدوقة عملة فينيسية قديمة تعادل الواحدة منها ستة شلنات إنكليزية أو ما يعادل ثلاثمائة فلس قبل خفض قيمة الباون الإنكليزي.

٢٠١

في أكياس تعلق في عنق الحيوان ، ومثل هذا يجري أيضا بالنسبة إلى الحمير ، على نقيض ما نفعله نحن في بلادنا الأوروبية.

ونظرا لقلة الشعير والحشائش فإنهم يفرشون لهذه الخيول في بعض الأحيان ، قطعة من الأرض بالقش ، ثم يجمعونه في أكوام لتنظيفه واستعماله مرة أخرى.

حين يصل بعض التجار المسيحيين من بلادنا إلى هرمز ـ وهذا لا يقع إلا نادرا ـ فلا بد لهم من الحصول على مساعدة من الأتراك والعرب ، ولا بد من ظهورهم أمام موظفي ملك البرتغال الذين يعينهم ليقدموا لهم شكاواهم عما حدث لهم ، والضرر الذي أصابهم. وإذا ما حدث أن أخفى هؤلاء من ذلك شيئا حل العقاب بهم أنفسهم.

وإذا ما ظهر أن واحدا منهم قد غش نقوده فإن رفاقه من التجار من ذات الملة يلقى بهم في السجن ولو أنهم كانوا غير مذنبين ولا يعرفون عن عملية الغش شيئا. وإذا قتل أحد المسيحيين بينهم يقتل ثلاثة أو أربعة منهم مقابل ذلك (١) طبقا للأسلوب المتبع ويفقدون حياتهم مقابل كل مسيحي يقتل. وعلى هذا فحين يجتمع تجار من أمم مختلفة في إحدى البواخر للسفر إلى الهند عن طريق «هرمز» ـ والتي يجب أن يهبطوا إليها وإلا صودرت بضاعتهم ـ فإنهم يصعدون إلى الباخرة وكأنهم غرباء تماما ، ويحذر الواحد منهم الآخر ، ولا يتحدثون إلا قليلا ، وقد لا يتحدثون بشيء ، ولا يكشف أحدهم هويته للآخر ، وهكذا يتحمل كل واحد منهم العزلة إلى أن يقطعوا منتصف الطريق ثم يشرعون بالتعارف فيما بينهم.

ولقد علمت أيضا أن حاكم البرتغال في الهند كان يستخدم ـ لغرض

__________________

(١) قد يبدو هذا غريبا أو هو من صنع الخيال ولكن الحقيقة هي أن الأسلوب الذي سار عليه البرتغاليون في حكم المناطق التي احتلوها ، خلال القرن السادس عشر ، في الهند وفي الخليج العربي قد اتسم بالقتل الجماعي لغير المسيحيين.

٢٠٢

إظهار القوة والقدرة على الحرب ـ عددا من الأمراء الهنود الأقوياء الذين يؤلفون قوة تعدادها خمسة آلاف رجل.

كما أنه أرسل بعض «اليسوعيين» (١) إلى تلك البلاد لينشروا ديانتهم بين سكانها ولينشئوا فيها محاكم التفتيش الأسبانية (٢).

يحب التجار التعامل مع الهنود لصدقهم في التجارة واهتمامهم بها. ولقد عرفت في بغداد عددا كبيرا من أولئك الهنود وغيرهم من الأقوام الأخرى كالعرب والأتراك والأرمن والأكراد والماذيين وغيرهم ، ولكل منهم لغته الخاصة ، غير أن الفئة الرئيسة بينهم تتألف من الفرس (٣).

حين كنت في بغداد وصلت قافلة من الفرس تتألف من ثلاثمائة رجل مع إبلهم وخيولهم وهم يقصدون مكة لزيارة قبر «محمد» (٤) الذي يعتبرونه رجلا معظما جدّا عندهم ، بالإضافة إلى رفيقيه «علي» و «عمر» اللذين كانا يسكنان تلك المدينة.

__________________

(١) اليسوعيون أو الجزويت Jesuites جماعة من المسيحيين أسسها مغامر أسباني يدعى «لوايولا» سنة ١٥٢٤ م لمناصرة الكثلكة وقد اعترف بها البابا سنة ١٥٤٠ م وراحت تنظم صفوفها عسكريّا منذ ذلك الوقت.

(٢) هي المحاكم التي أقامها الأسبان المسيحيون في أسبانيا لمحاكمة العرب والمسلمين بعد سقوط آخر مملكة إسلامية هناك. وقد قضت هذه المحاكم على مئات الألوف من المسلمين حرقا. وحتى الذين عادوا منهم إلى النصرانية لم ينجوا من جرائم هذه المحاكم البشعة التي استأصلت كل العرب والمسلمين في جزيرة أيبريا قاطبة.

(٣) لا وجود للماذيين بين الأقوام التي ذكرها الرحالة راوولف. ذلك لأن هؤلاء قد انصهروا ، مثل الآشوريين والبابليين ، بالأقوام الأخرى ففقدوا كيانهم العرقي وحتى اللغوي أيضا.

(٤) يتضح من هذا أن المؤلف لم يكن يعرف أن مثوى الرسول الأعظم محمد صلوات الله عليه هو في المدينة المنورة وليس في مكة المكرمة.

٢٠٣

ولهؤلاء الفرس لغتهم الخاصة التي تختلف تماما عن التركية والعربية. فهي مفهومة من قبل الأمم الشرقية الأخرى ، ولذلك يضطر هؤلاء إلى التفاهم مع الفرس بطريق الإشارة أو بوساطة المترجمين.

وللفرس صفاتهم المميزة لهم أيضا. فهم يحسنون ركوب الخيل ، ويرتدون سراويل طويلة فضفاضة تساعدهم على الحركة ، ويحسنون تجهيز أنفسهم بالبنادق والقسي والنبال.

وبدلا من استعمال المهماز ، يستعملون ـ كما هو شائع في هذه البلاد قطعة حديد مدببة يبلغ طولها بوصة ونصف البوصة يثبتونها في الجزء الخلفي من أحذيتهم.

ويطلق على الفرس اسم «الأتراك الحمر» وهذا ناشىء ـ كما أعتقد ـ عن وضعهم علامة حمراء في عمائمهم أشبه بأشرطة قطنية مصبوغة بلون أحمر تمييزا لهم عن الأقوام الأخرى. كذلك يمكن تمييزهم بصداريهم الصوفية الغبراء اللون ، ذات الضفائر المتدلية على الظهر حتى الركبة. وهم من الشعوب الشجاعة ، وتقاطيع وجوههم لطيفة ، وهم مؤدبون في معاملاتهم مع الغير ، شديد والمساومة ، ولذلك تراهم ـ قبل أن يعقدوا أية صفقة ـ ينفقون الوقت الطويل قبل التوصل إلى اتفاق ، وهذا ما شهدته بنفسي عدة مرات.

ومن بين السلع الأخرى التي يتاجر بها الفرس ، السجاد الفاخر من أنواع عديدة ، وغيره من المنسوجات القطنية التي يتفننون في صنعها تفننا كبيرا ويحذقونها حذقا واسعا.

أما بالنسبة إلى المصنوعات الأخرى كالذهب والفضة فإنهم لا يعرفون عنها سوى الشيء القليل فهم أقل إلماما بصياغة الذهب ، وهم يحبون المهرة من الصناع المسيحيين في شتى الصناعات ويعاملونهم بكل أدب.

٢٠٤

ولا يجيز الأتراك لنسائهم دخول المساجد ، والظهور فيها علانية مثلما يفعل الفرس ذلك (١).

ولقد نشبت بين الأمتين التركية والفارسية حروب كبيرة وخصومات شديدة ، ومع ذلك فإن أيّا منهما لا تهاجم الأخرى في أوقات السلم ، ولا تغير على حدودها ، مثلما يفعل الأتراك ذلك في «هنغاريا» (٢).

وبعد أن أجريت المفاوضات بين الأتراك والفرس ، وحققت إيرادا كبيرا للسلطان ، أصبح في مستطاع الأتراك أن يتاجروا داخل الأراضي الفارسية ، وأن يتجولوا فيها بأمان.

كذلك علمت أنه يعيش هنا وفي فارس عدد من المسيحيين من بينهم أتباع يوحنا بريسترPrester John ) والطريق الذي وصل به هؤلاء إلى فارس يتلخص في أن ملك فارس توصل قبل اثنتي عشرة سنة ، إلى اتفاق مع «يوحنا» بريستر ضد الأتراك. ولما وجد يوحنا أن من غير الملائم أن يتحالف مع ملك من غير دينه بعث برسالة إلى ملك فارس

__________________

(١) أحجم الأتراك عن السماح لنسائهم بالصلاة في المساجد بعد أن انتشرت عادة التسري بينهم على نطاق واسع.

(٢) كان الأتراك هم الذين نشروا الدين الإسلامي في أوروبا الشرقية ومنها هنغاريا التي افتتحوها بعد استيلائهم على بلغاريا وعاصمتها صوفيا سنة ١٣٨٩ م.

(٣) برستر جون (يوحنا) Prester John هو اللقب الذي أطلقه الأوروبيون على ملك الحبشة وكانوا يعتمدون عليه في نشر الديانة المسيحية في أفريقيا قبل أن تبدأ غزوات الاستعمار الأوروبي في القرن الرابع عشر للميلاد.

أما دخول المسيحية إلى فارس فقد حدث لأول مرة في سنة ٢٥٨ م حين أخذ شابور بن أردشير ملك فارس ، بعد انتصاره على جيش الامبراطور الروماني فاليران ، عددا من الأسرى الرومانيين وأقام لهم معسكرا في بقعة من الأرض بين سوسة وتستر عرف باسم جنديسابور حيث أعطيت الحرية لأولئك الأسرى للتبشير بالمسيحية في إيران.

٢٠٥

يرفض فيها التحالف معه إلا على شرط واحد هو أن يعتنق ملك فارس ورعاياه الدين الذي يعتنقه يوحنا. وقد وافق ملك فارس في النهاية على هذا الشرط ، وإذ ذاك بعث إليه يوحنا بواحد من بطارقته ومعه بعض القسس لأداء تلك المهمة.

وتوجد الآن في فارس أكثر من عشرين مدينة معظم سكانها يدينون بدين يوحنا وهم يحتفظون بكتبهم المقدسة ، وأهم تلك الكتب يضم بعض رسائل القديس توماس (١).

وما عدا ذلك فإن البطريق قد أوضح بأن هؤلاء لم يعودوا يؤمنون بالخرافات ، وأنهم يعتقدون بأن الطهارة ليست ضرورية لأن أعداءهم من الأتراك يتمسكون بها ، ولهذا السبب ذاته فهم لا يكرهون الحيوانات المحرمة ، ويأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، وعلى هذا الأساس أخذت الديانة المسيحية تنتشر في فارس يوما بعد آخر أكثر فأكثر ، وأخذ الفرس ، طبقا لتقاليدهم ، يتنصرون ، ويعترفون بالأب والابن وروح القدس!

ويمكن تمييز هؤلاء المسيحيين عن غيرهم في أنهم يرسمون صليبا أزرق اللون على الساق اليسرى فوق الركبة بقليل ، وهم يصنعون العشاء الرباني للكبار وللصغار معا ، لكنهم قبل أن يتناولوه يغسلون أقدامهم في قنوات من الماء تجري داخل الكنائس ومن ثم يجلسون مع رؤساء المدينة الذين يفدون عليهم وإذ ذاك يطبع كل واحد منهم على وجه الآخر قبلة الحب ، ويقرأون بضع كلمات من تعاليم المسيح ثم يتناولون العشاء.

وهم لا يسمحون بالصور في كنائسهم ، لكنهم يستعملون القيثارات

__________________

(١) القديس توماس St.Thomas أحد رسل المسيح الاثني عشر لكنه لم يؤمن بقيام المسيح إلا بعد أن رأي آثار جراحاته وغمس أصبعه فيها. والقديس توماس هو الذي أدخل المسيحية إلى الهند.

٢٠٦

والمزامير حين يعزفون الموسيقى. وهذا يحدث بصفة رئيسة في بلاط ملك سمرقند حيث يوجد أحذق الموسيقيين هناك. ويقال إن سام بن نوح هو الذي بنى هذه المدينة ولذلك سميت باسمه (١).

ومما علمته عند عودتي ، أن طهماسب (٢) ملك فارس كان له ثلاثة أولاد وبنت واحدة ، وقد قطع رأس ولده الأكبر لأنه كان يسعى إلى الظفر بتاج أبيه ، وعند وفاة طهماسب تزوجت ابنته من أحد رجال البلاط أما ولداه فباقيان على قيد الحياة ، وقد انتخب الأوسط ويدعى «إسماعيل» (٣) خلفا لوالده في الوقت الذي وصل فيه الامبراطور التركي الحالي «مراد» (٤) إلى العرش.

وكان إسماعيل هذا ، وهو شاب ، كله شجاعة وذكاء في أساليب الحرب. وحين كبرت سنه تضاعف حقده على الأتراك ، وبلغ ذلك درجة أنه قرر ، حتى في حياة والده ، أن ينتقم منهم ، وعلى هذا الأساس توجه بعدد كبير من رجاله إلى مناطق الحدود للاستيلاء على بغداد.

وحين كان يعد العدة لهذا الهجوم هرب بعض من قواته وأعلموا باشا بغداد بما كان ذلك الشاب ينويه ويخططه ، وإذ ذاك سارع الباشا إلى التسلح على عجل لمقاومته.

__________________

(١) هنا يحشر المؤلف موضوعا لا صلة له بحديثنا عن مسيحيي إيران فضلا عن إتيانه بأسطورة تشييد مدينة سمرقند التي لا تعتمد على أي سند تاريخي قط.

(٢) أطلق الرحالة على طهماسب اسم غوماك Gamach وهو تحريف ظاهر ، وطهماسب هذا هو طهماسب الأول ثاني ملوك الصفويين الذي تولى الملك بعد وفاة أبيه إسماعيل الأول في سنة ١٥٧٤ م (٩٣٠ م).

(٣) هو إسماعيل الثاني ثالث ملوك الصفويين الذي حكم في الفترة ما بين ١٥٧٦ ـ ١٥٧٨ م.

(٤) مراد سماه الرحالة «أمارتس» Amarathes وهو مراد الثالث الذي تولى الحكم في الفترة ما بين ١٥٧٤ ـ ١٥٩٥ م.

٢٠٧

وعند ما أقدم ابن الملك على تنفيذ مخططاته انقض عليه الباشا بعدد كبير من الرجال لا قبل له بهم ، وهكذا لم يهزم ابن ملك فارس وحسب بل وقع أسيرا وإذ ذاك هدده الباشا بأنه سيقطع رأسه إذا لم يفكر أبوه جديا في الأمر ويقدم على افتدائه بإعادة مدينة «أوريس» (١).

وهكذا لم يكن أمام الملك إلا أن يعمل ما فيه الكفاية للحفاظ على سلامة ولده ، والتعهد بعدم الإقدام على أية استفزازات أو حروب أخرى ضد الأتراك (٢).

وقبل أن أبدأ رحلتي في آذار ١٥٧٤ م وصلت إلى حلب أنباء تقول إن حوالي خمسة وعشرين ألفا من الأتراك كانوا قد قتلوا في أطراف

__________________

(١) هذه المدينة سماها الرحالة باسم أوربس Orbs ويغلب على الظن أن المقصود بها مدينة «وان» التي استعادها سليمان القانوني بعد استيلائه على بغداد سنة ١٥٣٤ م.

(٢) لم يرد ذكر لهذه الواقعة لدى المؤرخين الذين كتبوا عن تلك الفترة من تاريخ العراق من أمثال ياسين العمري صاحب كتاب «غاية المرام في تاريخ محاسن بغداد دار السلام» الذي طبع سنة ١٩٦٨ ، ولا في كتاب «بغداد دار السلام» للمؤرخ الإنكليزي ريتشارد كوك والذي ترجمه الأستاذان مصطفى جواد وفؤاد جميل ونشراه في جزأين سنة ١٩٦٧ ـ ١٩٦٨.

أما المستر ستيفن همسلي لو نغريغ صاحب كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» الذي ترجمه جعفر خياط وصدرت طبعته الرابعة في سنة ١٩٦٨ فقد قال عن هذه الأحداث التي ذكرها راوولف «وقد يشير هذا الحادث إلى بعض قلاقل الحكومة بسبب اللد أو الأكراد».

ومهما يكن الأمر فإن لهذه الحادثة شيئا من الحقيقة لأن الفرس ظلوا يتحينون الفرص للإغارة على العراق وعلى بغداد بالذات بعد أن طردهم منها السلطان العثماني سليمان الأول المعروف باسم سليمان القانوني سنة ١٥٣٤ م.

أما باشا بغداد في الوقت الذي وصل فيه راوولف إلى المدينة فهو إما أن يكون «علي باشا الدرويش» أو «الوند زادة علي باشا» الذي حكم ولاية بغداد في الفترة ما بين ١٥٧٤ و ١٥٨٦.

٢٠٨

فارس والجزيرة العربية لكنني لم أعرف المكان الذي وقعت فيه هذه المعارك ، لأن الأتراك يعمدون إلى إخفاء ما يعانونه من إصابات بحيث لا يسمع بها أحد بأية وسيلة. أما إذا كانوا هم المنتصرون فلا يظلون صامتين بل ينشرون أنباء انتصارهم على نطاق واسع.

ولنقصر الحديث على بغداد فنقول إنني وجدت فيها عددا كبيرا من المرضى والعرج ، وإنك لا تدهش أن تجد مثل ذلك العدد الكبير من العرج الذين يتجولون في الشوارع. ومع كل ذلك فلم يستطع ملك فارس أن يربح الحرب في النهاية ، أو أن يقدم على إثارة حرب جديدة ومن مسافة نائية ، لأن موارده ليست كبيرة بالدرجة التي تمكنه من تعبئة اللوازم والمؤن وتهيئتها لجنده وموظفيه ، كما أنه لا يستطيع في وقت الحرب أن يدفع لهم مرتباتهم مثلما يفعل ذلك أيام السلم ، لأن رعاياه معفوون من كل الرسوم والضرائب طبقا للامتيازات القديمة ، ولأنهم لا يتسلحون للدفاع عن أنفسهم إلا حين يدعوهم الملك للذود عن بلادهم وأملاكهم ضد هجوم يوجهه الأعداء نحوهم.

حين كنت اسأل أكثر من شخص واحد عما إذا كان من الأوفق لنا ، أنا ورفيقي ، أن نسافر بطريق النهر إلى «هرمز» أم بطريق البر عبر بلاد فارس إلى الهند ، لم نكن نفكر في شيء سوى أن نبدأ سفرتنا ونمضي قدما. وحين كنت أفكر في ذلك وصلتني فجأة رسالة استدعيت بها للعودة إلى حلب ، الأمر الذي زاد في قلقي كثيرا ولا سيما حين أعدت في ذاكرتي مرأى القفار والصحاري التي قطعتها إلى أن بلغت المدن الشرقية التي تستحق المشاهدة فعلا.

وعلى هذا ، وبعد أن قلبت الأمر مليّا ، اتفقت مع رفيقي على أن يواصل هو رحلته ، بينما ينبغي علي أنا ، وبسبب الرسالة التي تلقيتها وليس لي عائق سواها ، أن أعود ثانية ، وقد زودته بكل ما يحتاج إليه من

٢٠٩

لوازم لمواصلة سفره ، حيث رحل فعلا بعد يومين مع تجار آخرين في إحدى السفن إلى البصرة.

ولم يطل الوقت حتى تلقيت نبأ مفجعا عنه ، فقد قيل إن السفينة التي استقلها من البصرة إلى «هرمز» قد تحطمت بعد أن داهمتها عاصفة شديدة على مقربة من جزيرة «البحرين» (١) في الخليج العربي الذي يكثر فيه اللؤلؤ الشرقي ، وإنه مع عدد من التجار بينهم جماعة من أبناء التجار الأغنياء في «حلب» قد ماتوا غرقا.

كان علي أن أعود إلى حلب في قافلة كبيرة. ولما كانت مثل هذه القافلة ستأخذ طريقها عبر الصحراء الرملية الواسعة في مسيرة قد تستمر زهاء أربعين يوما أو نحوها ، وحيث لا نستطيع خلالها أن نمر بأكثر من نقطتي كمارك نتزود منهما باللوازم والماء وغيره من الضروريات الأخرى ، لهذا السبب استقر رأيي على أن أسافر بطريق تمر بأماكن مفيدة وبمدن شهيرة كيما أرى وأتعلم وأطلع على أمور أخرى. وعلى هذا الأساس مكثت في النزل الكبير مدة أطول إلى أن ألتقي ببعض رفاق السفر.

وفي الوقت الذي مكثت فيه هناك تعرفت إلى أحد التجار من سكنة مدينة حلب ، كان قد رحل عدة مرات إلى الهند ، وقد أنبأني بأن «اليسوعيين» ضرعوا في إقامة محاكم التفتيش الصارمة في الهند ، ولا سيما في مدينة «غوا» (٢) التي يعتبرونها ملائمة لهم ، وأن الذين لا يخلعون

__________________

(١) البحرين ذكرها الرحالة باسم بكاري Bacchari وقد وردت هذه التسمية لدى غيره من قدامى الرحالين وهي محرفة عن «البحرين» العربية. وحتى القرن الحادي عشر الميلادي كان الاسم الشائع للبحرين هو «تيلوس» و «تيلون» و «دلمون» وهو الاسم الذي عرفت به في المدونات الآشورية والإغريقية.

(٢) «غوا» أول مدينة احتلها الغزاة البرتغاليون في الهند وفي الشرق معا حين وصلوا إليها سنة ١٤٩٩ م بقيادة فاسكو دي غاما. وبقيت غوا مستعمرة برتغالية طيلة الاحتلال الإنكليزي للهند ولم تستعدها الهند إلا في سنة ١٩٦٤.

٢١٠

قبعاتهم حين يمرون بصور العذراء التي علقت في شوارع عديدة في المدينة يلقى بهم في غياهب السجون.

وقد استنكر ذلك التاجر هذا الأمر بشدة ، كما تحدث عن المسيحية بشكل أعجبني ، ولذلك أحببته ورغبت في السفر معه لأنه كان يعاملني برقة وعناية وكأنني ولده.

وعند ما علم بأنني طبيب رغب أن يقدمني إلى الباشا وكان مريضا في وقت كان فيه طبيبه الخاص من أصدقائه الحميمين.

ولما كنت قبل هذا قد علمت بأن آخرين أقدموا على مثل هذا العمل لم يجازوا إلا بالشر ولا سيما من قبل الذين تقدموا لعلاجه ، لذلك لم أقدم على هذا الأمر لأنني كنت أخشى أن أقابل بذات الجزاء بدلا من الثواب وأفقد حريتي ، ولذلك شكرت التاجر على عطفه ورقته ، ولو لا هذا الأمر لأخذت بنصيحته على الرغم من عدم وجود صيدليات يمكن التزود منها بالأدوية.

غير أنني استطعت أن أشتري بعض المواد من أصحاب الحوانيت حيث جمعتها من أماكن متعددة ، لأنه كان يصعب علي أن أجدها لديهم متوفرة في وقت واحد. كذلك استقطرت الزيوت من الجوز ، وهو نوع جيد ومتوفر بكثرة ، ومن الفستق الذي يحتفظ به السكان ويأكلونه مثلما نأكل نحن الأنواع الصغيرة من الجوز في بلادنا.

ولقد تناولت هذا الفستق فوجدته جافّا غير مستساغ. وهذا النوع يسميه العرب باسم «بطم» أما الفرس فيسمونه تربيك.

ولقد شاهدت نوعين منه بحجم كبير وآخر صغير. والكبير منه يشبه جوزة الفستق لكنه أقل استدارة وأقصر طولا. أما النوع الصغير فهو ذو قشرة صلبة تشبه حبة الحمص الكبيرة وهذه تماثل في شكلها النبتة المعروفة باسم «قرن الغزال» أو الذرة الهندية.

٢١١

وينمو الكثير من هذه في «ايجنيا» (١) وفي فارس ، وبلاد ما بين النهرين ، وأرمينيا وغيرها. وتكون ذات عناقيد أشبه بالعنب أو التوت أو أشجار التربنتين المعروفة عندنا. فهي بأوراقها الطويلة تشبه تلك الأشجار حيث يمكن تمييزها بيسر عن شجرة الفستق ذات الأوراق المدورة ، وهي من النوع الذي قال عنه كل من «الرازي» و «ابن سينا» إنه ينمو في الهند. كذلك أشار إليها ثيوفراستوس أيضا في الفصل الخامس من الجزء الرابع من كتابه.

ولقد أشار «سرابيو» في الفصل الخامس والعشرين من كتابه إلى ثمر آخر دعاه باسم «العنصل» (٢) وقد شاهدته أنا وهو بقدر جوزة الفستق لين القشر ، ولم أعثر عليه لدى أصحاب الحوانيت في هذه الأنحاء لكنني وجدته مؤخرا في دير «المارونيين» (٣) في القدس لدى واحد من طائفتهم قال لي عنه إنه ينمو هناك.

ظللت انتظر كل يوم جماعة أرحل معها إلى حلب بالطريق الذي يمر بعدة مدن وليس بطريق يصلها رأسا عبر الفيافي الرملية.

وأعود إلى ما حدثني به ذلك الفارسي فأقول إنه قد أنبأني بأن ملك

__________________

(١) ذكرها راوولف باسم إيجمياEgemia ولعل المقصود بها ايجنيا أو ايجين في ولاية ارزنكان التركية على الجانب الغربي من الفرات.

(٢) العنصل أورده المؤلف باسم سل Scel نبات بري يعرف باسم بصل الفأر.

(٣) المارونيون طائفة نصرانية تنتسب إلى «مار مارون» الذي توفي في حدود سنة ٤١٠ م وهم يحتفلون بعيده في التاسع من شباط كل عام. وقد انتقم خصومه من تلاميذه الرهبان في دير سمي باسمه وقتلوهم لأنهم ظلوا متمسكين بالقرارات التي أصدرها مجمع خلقدونية ومنهم المارونيون الموجودون الآن في سوريا ولبنان.

٢١٢

فارس كان يحتفظ بعدد من الخيول من النوع المعروف باسم «وحيد القرن» في سمرقند وكذلك في جزيرتي (أيك) (١) و (تيلوس) اللتين تبعدان عن سمرقند مسيرة تسعة أيام إلى الشرق وعلى مقربة من (الشبام) (٢) وعدد من الزرافات بعث بها إليه «ملك الحبشة» من إفريقيا وهي من نوع ضخم مرتفع ذو رأس أحمر ومنقار ملتح ورقبة يعلوها الريش وجسم كثيف وأجنحة سود تشبه أجنحة النسر ، وذنب طويل مثل ذنب الأسد وأقدام مثل أقدام (التنين) (٣) وهي تحب أكل اللحوم حين تكون صغيرة. وكان الملك يأخذ هذه الزرافات معه حين يخرج إلى الصيد والنزهة ولكن حين كبرت وغدت قوية شرع يربطها بسلاسل قوية من أعناقها.

والذي أعتقده أن هذا النوع من الزرافات قديم (٤) وقد كان في

__________________

(١) جزيرة أيك Aic يقصد بها جزيرة إيكاري وأيكاروس في الخليج العربي عند شاطىء الكويت وتعرف اليوم باسم «فيلكه» و «فيلجه» وقد عثر فيها مؤخرا على آثار يونانية مهمة.

(٢) شبام Spaam وهو اسم لعدة أماكن في جزيرة العرب منها شبام الحصن في حضرموت ، وهي المقصودة هنا ، وشبام الخرز في اليمن. ويلاحظ القارىء هنا أن راوولف قد نقل أسماء هذه المواقع عن السماع دون أن يعرف أماكنها وأبعادها حتى ولو بشكل تقريبي.

(٣) التنين Dragon حيوان خرافي يرد ذكره في القصص الخرافية وهو يصور على شكل أفعى هائلة مجنحة ذات مخالب فتاكة وينفث النار من فمه.

* علق «ستافورست» مترجم الرحلة إلى الإنكليزية على ذلك بقوله «بل قديم جدّا وليس في العالم من المخلوقات ما يشبه وحيد القرن أو الزرافة لأنني أستطيع أن أتحقق جهد الإمكان ، بخلاف ما أوضحه الدكتور براون ، من وجود حيوانات من أمثال (الغول) الذي يشبه وحيد القرن ولذلك لم أدهش أن أجد رجلا مثل راوولف يصدق مثل هذه الأقوال الكاذبة». سماه المترجم الإنكليزي نيكولاس ستافورست باسم Common Bisture ويقصد به التنين أو الغول.

٢١٣

مستطاع ذلك الفارسي أن يتحدث إلى عن الأشجار والفواكه التي كانت تنمو هناك ولا سيما تلك التي أشار ثيوفراستوس إليها ونقلها عنه «بليني».

وما خلا ذلك أعطاني ذلك الرجل معلومات عن شجرة (الفلّة) (١) التي تنمو في أماكن عديدة من فارس وقد أشار إليها كل من ثيوفراستوس وبليني وتتناولها النساء في البلدان الشرقية ، وعن شجرة «الموز» التي تنمو في الجزيرة العربية وتحمل ثمرا حلوا طيب المذاق يسمونه (واك) (٢) وهو مدور الشكل أحمر اللون بحجم البطيخ الهندي. ترى هل كان هذا هو ثمر (المانغا) (٣) الذي أشار إليه كلوفيوس في تاريخه عن النباتات الهندية ، والذي كان ينقل ـ بسبب جودته ـ إلى فارس بحرا؟ فقد تركت ذلك لألم به فيما بعد.

أما الموز الذي قيل عنه إنه معروف في سوريا أيضا ، فهو شجر يحمل ثمرا صغير الحجم مقوسا ورقيقا أصفر اللون يشبه البطيخ في شكله وهو حلو المذاق شهي الطعم ، لكنه مضر بالصحة ولهذا السبب منع الإسكندر الكبير جنوده من تناوله!

كذلك ذكر لي ذلك الفارسي وجود ثمر سام في فارس يعرف لديهم باسم (سيفا) (٤) لا يهتمون به كثيرا ، إضافة إلى الخوخ الذي يسمونه (هت) (٥) ومع أن هذا الثمر غير سام إلا أنهم لا يحبونه لأنهم يعتقدون أن

__________________

(١) الفلةPalla.

(٢) واك Wac.

(٣) ثمر المانغا المعروف والذي يصنع منه المخلل المعروف عندنا باسم العنبة.

(٤) سيفاSepha.

(٥) هت Het.

٢١٤

«نمرود» ـ وهو ساحر كبير (١) ـ قد سمم ذلك الثمر بسحره ولذلك فهم لم يقبلوا على تناوله منذ ذلك الوقت.

أرى أن فيما ذكرته الكفاية إلى أن تتوفر لي فرصة السفر إلى تلك البلاد وعندئذ سأقوم بالتحريات التي أستطيع بها أن أتحقق من ذلك.

__________________

(١) هذه إحدى الأساطير التي كانت شائعة عن «نمرود» أحد آلهة آشور والذي سميت باسمه مدينة «كالخو» أو نمرود التي بناها شلمناصر الأول ملك آشور (١٢٨٠ ـ ١٢٦٠ ق. م) وتقع على بعد ٣٥ كيلومترا جنوبي شرقي الموصل وقد أجريت أول الحفريات الأثرية فيها سنة ١٨٤٥ ـ ١٨٥١ م.

٢١٥
٢١٦

الفصل الخامس عشر

الطريق التي عدت بها من بغداد عبر أور في أطراف فارس

وإقليم الكرد (١) إلى كركوك (٢) وأربيل (٣)

حين اعترضت رحلتي جملة أسباب قاهرة اضطرتني إلى العودة ، تفحصت أمتعتي وإذ ذاك نصحني صديقي المسيحي الذي أشرت إليه قبلا ، بأن من الملائم لي أن أسافر مع ثلاثة من اليهود جاء أحدهم معي في نهر الفرات ، في حين وفد الآخران من هرمز ، فقرر الثلاثة أن يسافروا إلى حلب. وقد قبلت بذلك لأنني لم أجد غيرهم يقصدون تلك الجهة.

بدأنا مسيرتنا في اليوم السادس عشر من شهر كانون الأول متجهين نحو كركوك التي تبعد مسيرة ستة أيام ، وتقع في حدود «ماذي». وقد بدأنا السفر من الطرف الثاني لنهر دجلة الذي يسمونه «حدقول» (٤).

مررنا في طريقنا أول الأمر بحقول مزروعة ، كما امتدت أمامنا بعض القرى على ضفاف نهر دجلة. ولست أذكر أني شاهدت بلادا كهذه

__________________

* الأكراد (كرتر (Curters.

** كركوك «كرخوخ» Curchuch.

*** أربيل «كابريل» Capril.

(١) حدقول Hidekol وحداقل هي التسمية القديمة والعبرانية لنهر دجلة وقد وردت في التوراة. أما في العصور الآشورية والبابلية فكان دجلة يدعى «تغلات» و «دغلاتا» ثم حرف الاسم لدى اليونانيين والفرس باسم «اتغرا» و «تايغرس».

٢١٧

البلاد يكثر فيها القمح والفواكه والعسل وغيره. وتقارن هذه الأرض التي كانت تعود إلى ملك آشور بأراضي فلسطين غير أننا كلما توغلنا بعيدا في مسيرتنا تعاظمت الأرض الخلاء ولذلك كنا نضطر إلى أن نقضي الليل في الحقول.

في صباح اليوم التالي بان لنا طريق تنتشر عليه قرى قليلة تعود إلى ملك فارس (١) وكنا نسير في صحاري قال لي رفاقي المسافرون معي عنها إنها تمتد إلى داخل فارس وماذي. ولقد ضللنا الطريق حتى وصلنا عند المساء إلى مستنقع أعاقنا عن السير. وقد أجبرنا على البقاء في هذا الموقع بسبب حلول يوم السبت وعدم موافقة اليهود الذين كانوا معي على متابعة السفر تنفيذا لشعائرهم. وهكذا أمضينا الليل واليوم الذي تلاه تحت وابل من المطر.

ورحت في أثناء مكوثي في ذلك المكان أبحث عن النباتات فيه لكنني لم أعثر على شيء منها لأنها في ذلك الوقت كانت قد بدأت تبرز من باطن الأرض. على أنني عثرت على أنواع من الخلنجان البري ذي جذور كبيرة ومدورة يسميه السكان «السرو» (٢) ويطلق عليه اليونانيون واللاتينيون اسم «سيبروس» (٣).

وفي التاسع عشر من الشهر وبعد مصاعب برزت لنا بسبب الأوحال التي كانت تغطي الطريق ، أخذ طريقنا يمتد وسط أراض مزروعة جعلتني أتذكر «تراجان» (٤) الامبراطور الروماني وجيشه الذي صمد به أمام الفرس

__________________

(١) مرت الإشارة قبلا إلى أن راوولف كان يعتقد بأن الأراضي الواقعة شرقي بغداد مباشرة تخضع لنفوذ ملك فارس ولذلك ذكر أن هذه القرى عائدة إليه وهو خطأ واضح.

(٢) ذكر راوولف كلمة السرو باسم «سوردت» Sordt.

(٣) سيبروس Cyperus هو الاسم اللاتيني والعلمي لشجرة السرو.

(٤) تراجان Trajan من أعاظم أباطرة الرومان طموحا قاد حملة واسعة لاحتلال العراق

٢١٨

في أعداد كبيرة في نهر دجلة ، وعلى مقربة من طيسفون. ولقد ضل (تراحان) ـ بسبب أحد الأسرى من الفرس ـ في الصحراء فتمزق جيشه وأبيد في قتال عنيف على أيدي الفرس ، وقد جرح الامبراطور نفسه في ذلك القتال جرحا بليغا ومميتا.

ويذكر المؤرخان «نقفور» (١) وأوسابيوس (٢) أن «تراجان» أخذ حفنة من الدم وقذف بها في الهواء وهو يقول : (وأنت أيها الجليلي ـ وهو الاسم الذي كان يسمى به المسيح وقد آمن به أول مرة ثم ما لبث أن أنكره واستخف به ـ قد هزمتني وحطمتني!).

بعد أن عانينا البؤس عدة أيام وصلنا في العشرين من الشهر إلى قرية تقع على مرتفع في أرض مزروعة مثمرة في حدود فارس ومعظم سكانها من الفرس كما خيل إلينا ذلك من لغتهم التي كانوا يتخاطبون بها.

__________________

استطاع بها أن يحتل الجزء الشمالي الغربي منه وقد حاصر مدينة «الحضر» مدة طويلة فلم يستطع الاستيلاء عليها فارتد عنها خاسرا أصيب بجروح في حملته تلك ومات بعد سنة. وكان تراجان قد سار من الأردن إلى العراق فانحدر إلى المدائن ثم وصل إلى كرخ ميسان «المحمرة».

(١) نقفورس Nicephorus مؤرخ بيزنطي (٧٥٨ ـ ٨٢٩ م) صار بطريركا لأسطنبول سنة ٨٠٦ ثم أقيل منه ونفي ومات في المنفى. اشتهر بوضع كتابين عن المعرفة وكتابين في التاريخ يبدأ أولهما بالحديث عن العالم منذ آدم حتى وفاة المؤلف والكتاب الثاني يتناول الأحداث في الفترة ٦٠٢ ـ ٧٩٩ م.

(٢) أوسابيوس Eusebitus ويعرف بالقيصري عاش في الفترة ما بين ٢٦٠ ـ ٣٤٠ م وضع تاريخه باليونانية باسم (Cronicon) ضمنه إلى جانب التاريخ العام جداول بما حدث في أيامه وقد ضاع الأصل من كتابه وبقيت ترجمته باللاتينية والأرمنية وأجزاء منه بالسريانية.

٢١٩

ومع أننا كنا الآن نسير في مناطق خطرة إلا أننا ، والحمد لله لم نصادف أي خطر ، ولذلك لم نتوقف عن المسير إلى أن بلغنا ليلة الحادي والعشرين من كانون الأول قرية (شلب) (١) فأمضينا الليلة فيها ومن هناك واصلنا سيرنا في أودية خصبة لكننا لم نجد فيها نباتا لأنها كانت قد حرثت مؤخرا فلم يظهر الزرع فيها بعد. ولقد مررنا في طريقنا هذا بجملة من القرى وبذلك تهيأت لنا فرص حسنة للتزود بما نحتاج إليه من هذه القرى.

في ليلة الثالث والعشرين من الشهر وصلنا إلى إحدى القرى التي استطعنا أن نشتري منها مائة بيضة بمبلغ «بنسين» (٢).

وفي صباح اليوم التالي نهضنا مبكرين فشاهدنا أمامنا جبال (طور) (٣) كساها الثلج وهي تمتد إلى الشرق من الشمال حتى الجنوب مسافات شاسعة. ثم واصلنا مسيرتنا حتى وصلنا ، في وقت قصير ومبكر ، مدينة «طاووق» (٤) قبل أن يحل يوم السبت. وهذه المدينة ليست محصنة

__________________

(١) سماها راوولف باسم (شلب) Schilb وتقديرنا لموقع هذه القرية أنها لا بد أن تكون «هبهب» وربما كان الاسم القديم لهذه البلدة مقاربا للاسم الذي أعطاه راوولف لها هنا وإن كانت هبهب لم تذكر في كتب البلدانيين العرب مما يدل على حداثة تاريخها.

(٢) البنسان حسب السعر القديم يعادلان تسعة فلوس بالعملة العراقية الحالية وهذا يعني أن كل عشر بيضات كانت تباع بأقل من الفلس الواحد ولا يستغرب القارىء هذا القول ويعده ضربا من الخيال ذلك لأن أهل القرى قبلا لا يجدون أحدا يشتري البيض أو الدجاج منهم ولذلك فهذه المنتجات لا قيمة لها عندهم وهي رخيصة بالشكل الذي ذكره راوولف هنا.

(٣) أخطأ المؤلف في تسمية هذه الجبال باسم «طور» فهي في الحقيقة جبال «قره داغ» التي تمتد من جدول «داقوق صو» حتى نهر ديالى.

(٤) طاووق من الأقضية التابعة للواء كركوك وقد عرفت في المصادر العربية باسم داقوق و «دقوقا» وهي تقع جنوبي كركوك بثمانية وأربعين كيلو مترا وعلى مقربة منها مزار

٢٢٠