رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

يمارسون ذات الشعائر ، عند إقامة الصلوات. فهم جميعا يؤدون الصلاة خمس مرات كل يوم ، ثلاث منها في النهار ، تبدأ الأولى عند الظهيرة ، والثانية حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر (١) والثالثة حين تغرب الشمس.

أما صلوات الليل فاثنتان ، الأولى منهما قبل أن تشرق الشمس بساعة ونصف الساعة ، والثانية بعد الغروب حين يصفو الجو وتطلع النجوم.

ولم يكن الظلام ، ولا الخطر الذي قد يلف الموقع ، أو عدم ملاءمة الوقت ، ليمنع المسلمين من النهوض في وقت يكون فيه سواهم غارقين في النوم ، والهبوط من السفينة إلى الأرض الخلاء لإقامة الصلاة فيها برهبة وخشوع. فقد كنت أراهم غالبا وكأن الدموع تنحدر من مآقيهم.

ولا بد لي من الاعتراف هنا بأن المسلمين يتمسكون بشعائر دينهم ، ويحافظون عليها أكثر من أية أمة أخرى ، وأن هذه الشعائر تردعهم عن تناول الخمور ، وتأمرهم بالتقشف ، والعكوف على أداء الصلوات.

في الثامن عشر من الشهر وصلنا إلى «حديثة» وهي مدينة جميلة وكبيرة قديمة البناء تخضع لشيخ البادية ، ويقسمها نهر الفرات ، مثل عنه ، إلى قسمين ، يقع القسم الأكبر منها على الجهة اليمنى من النهر.

في هذه المدينة دفع ربان السفينة إلى موظف الكمارك مبلغ صايين (٢) (والصاي يبلغ حوالي ثلاثة بنسات في بلادنا) ومن ثم استأنفنا الملاحة ثانية كيما نستطيع أن نبلغ مدينة «جبّه» ليلا.

__________________

(١) هذا حسب التوقيت الأوروبي وفي أيام الشتاء عادة.

(٢) الصاي عملة تركية قديمة معروفة قبلا في العراق وهو يذكر باسم «صاغ» أيضا ويعادل زهاء عشرة فلوس بالعملة العراقية الحاضرة ولا يزال المصريون يستعملون «القرش الصاغ» حتى اليوم.

١٨١

كان ربان السفينة نشطا وحمسا أكثر من ذي قبل. وكان يحث ملاحيه على مواصلة الجدف ، ولا سيما حين يكون النهر عريضا وعميقا أشبه بالبحر ، وهكذا وصلنا ، بعد حلول الظلام بقليل إلى «جبة» وهي مدينة حسنة البناء تعود إلى الأتراك ويقسمها النهر أيضا إلى قسمين يقع أحدهما وسط النهر على أرض مرتفعة يقوم في قمتها حصن وبذلك تكون المدينة محصنة تحصينا قويّا.

أما القسم الثاني وهو أكبر من الأول فإنه يقع على الشاطىء الأيسر في أرض العراق (١) ويضم بساتين كثيرة يملكها أصحاب الدور ، وهي غنية بأشجار النخيل ، ولذلك أنفق التجار نصف النهار في هذا القسم لشراء التمر والتين واللوز لينقلوه معهم إلى الخان ، وقد فعلوا الشيء ذاته في «هيت» وهي مدينة كبيرة أخرى تقع على الضفة اليمنى من الفرات فوق أرض مرتفعة ، وقد بلغناها في العشرين من تشرين الأول وفي وقت حسن من الليل.

ويقايض التجار هذه الأثمار التي يشترونها بقوالب الصابون والسكاكين والورق وغيره ، وتلك هي السلع التي يطلبها أهل هذه المدن منهم. ولقد أعطيناهم صحائف من الورق الأبيض تقبلوها بفرح كبير وشكرونا على ذلك كثيرا.

وبعد أن أكتفى تجارنا من شراء هذه المواد ، ودفع ربان سفينتنا الرسم المطلوب ، أقلعنا ظهر يوم الحادي والعشرين من الشهر مستأنفين رحلتنا.

وفي المساء شاهدنا على الجانب الأيمن من النهر طاحونة كما

__________________

(١) خيل إلى الرحالة راوولف أن العراق يبدأ من الضفة اليسرى لنهر الفرات في حين أن حدود العراق الحقيقية كانت تتجاوز مدينة «دير الزور» التي تدخل الآن ضمن الأراضي السورية وديار بكر الداخلة اليوم في الأراضي التركية.

١٨٢

شاهدنا أخرى مثلها صباح اليوم التالي ، وجملة من الجدران والأبواب والقناطر القديمة ، عرفت منها أنه كانت تقوم في هذا المكان قبلا إحدى المدن. وقد علمت أن تينك الطاحونتين كانتا تستعملان لطحن بارود البنادق للسلطان التركي. وكان هذا البارود يرسل إليه في قوافل مع سلع أخرى عبر الأراضي التابعة لأمير العرب ، حيث ينبغي للسلطان ، مثل بقية التجار ، أن يدفع الرسم عن ذلك البارود.

وبارود المدافع هذا لا يصنع من ملح البارود (١) مثلما يجري ذلك عندنا في أوروبا وإنما يستخرج من عصير شجرة من نوع الصفصاف يسميه الفرس (فير) بينما يدعوه العرب باسم «الغرب» كما أشرت إلى ذلك قبلا. فهم يقطعون الأغصان الصغيرة من هذه الأشجار وأوراقها فيحرقونها ويحولونها إلى مسحوق يلقون به في الماء إلى أن تنفصل ذرات الملح عنه وإذ ذاك يصنعون منه بارود المدافع ، ومع ذلك فهذا البارود ليس قويّا كالذي نصنعه نحن في بلادنا. ولقد أكد ذلك المؤرخ «بليني» في الفصل العاشر من الجزء الحادي والثلاثين من كتابه إذ قال «إن الناس في الأيام السالفة كانوا يستخلصون «النيتر» (٢) من أشجار البلوط».

وذلك أمر محقق فعلا لأن استعمال البارود في تلك الأيام لم يكن واسعا قبل أن تخترع المدافع مثلما هو عليه الآن.

كذلك شاهدت على ضفاف النهر الغالية كثيرا من نبات (الحنظل) (٣) لم أستطع أن أتحقق منه عن بعد ، إلا أنه لا يزال حتى الآن معروفا لدى السكان باسمه العربي القديم وهو «الحنظل».

__________________

(١) ملح البارودSalt ـ Peter يقصد به مادة نترات البوتاس التي تدخل بصفة رئيسة في صناعة البارود.

(٢) النيترNitre ,Niter هي نترات البوتاس أو آزوتات البوتاسيوم وتسمى ملح البارود أيضا.

(٣) الحنظل ذكره باسم Coloquinis ويعرف بالإنكليزية باسم Colocynth.

١٨٣

بعد أن مضينا في ملاحتنا عدة أيام وفي ماء حسن التيار وصلنا أخيرا ليلة الرابع والعشرين من تشرين الأول إلى «الفلوجة» (١) وهي قرية صغيرة تحمل هذا الاسم الذي يطلق على المنطقة كلها أيضا.

__________________

(١) الفلوجة ذكرها راوولف باسم فيلوغوFelugo وايلوغوElugo وهي من المدن القديمة في العراق يقال عنها إنها نشأت في العهد البابلي وذكر بعض المؤلفين أن أصل اسم الفلوجة هو فيلوغوسياPhilogosia وذلك من اسم فيلوغاس أحد ملوك الإرشاقيين الذي أقامها. وقد أطلق العرب على الفلوجة قبلا اسم «صهباجا» وهي اليوم من الأقضية المهمة التابعة لمحافظة «الأنبار».

١٨٤

الفصل الثالث عشر

بابل القديمة

هي عاصمة كلدة ، وموقعها (١) ، كيفية بقائها حتى اليوم

تقع مدينة الفلوجة في الموقع الذي كانت تقوم فيه قبلا مدينة (بابل) القديمة عاصمة كلدة. ويقع بناؤها على بعد ربع فرسخ. ومنها يتوجه من يريد السفر بطريق البر إلى مدينة بغداد الشهيرة التي تقع شرقا على نهر دجلة وعلى مسيرة يوم ونصف اليوم.

وفي هذا الميناء يقع المكان الذي كانت تقوم فيه مدينة بابل. ولكن في الوقت الحاضر لا يرى ولا منزل واحد هنا نستطيع أن ننقل إليه سلعنا ونمكث فيه إلى أن يحين وقت الرحيل. ولذلك اضطررنا إلى أن نفرغ بضاعتنا في مكان مكشوف وكأننا وسط الصحراء ، وأن ندفع الرسوم تحت السماء التي تعود إلى الأتراك!

وهذه البلاد جافة قاحلة لا يمكن زراعتها وهي مقفرة بدرجة رحت معها أشك كيف كانت هنا في يوم من الأيام مدينة قوية بل أشهر وأعظم مدن العالم هي بابل التي تقع في أرض شنعار المبهجة المثمرة ، لو لم أكن أعرفها بموقعها ، وبالآثار القديمة القيمة التي ما زالت قائمة وقد أصابها الدمار.

__________________

* سبقت الإشارة في الفصل السابق إلى الخطأ الذي وقع فيه راوولف حين ظن أن الفلوجة هي مدينة بابل ولذلك فإن كل ما يذكره هنا عن بابل إنما يقصد به مدينة الفلوجة ليس غير.

١٨٥

فقبل كل شيء كان هناك الجسر القديم الذي كان يمتد فوق نهر الفرات والذي سماه النبي «باروخ» باسم (سود) (١) وذلك في إصحاحه الأول ، حيث لا تزال بعض قطع الجسر وقناطره باقية حتى اليوم على مسافة قريبة شمالي المكان الذي هبطنا إليه وقد شيدت هذه القناطر من الآجر وهو من نوع قوي ومدهش. ذلك لأننا منذ أن قدمنا من مدينة «البير» إلى هناك ، لم نر على النهر حتى ولا جسرا واحدا. ولهذا أقول إنه من المدهش أن يبنى مثل هذا الجسر في مثل هذا الموقع الذي يبلغ عرض النهر فيه مسافة نصف فرسخ فضلا عن عمق النهر في هذا المكان.

وعلى مقربة من الجسر أكوام من القار البابلي لطلاء السفن به ، وهو يكون صلبا في بعض الأماكن بحيث تستطيع أن تمشي فوقه ، لكنه في أماكن أخرى جلب إليها حديثا يكون رقيقا وتظهر عليه آثار كل خطوة تخطوها عليه (٢).

وعلى مقربة من قرية الفلوجة وأمامها يقوم تل يمثل القلعة التي كانت قائمة في السهل حيث لا تزال تشاهد أنقاض تلك القلعة التي تهدمت وخلت من ساكنيها.

وخلف القرية يقوم برج بابل الذي بدأ أولاد نوح (وكان أول من سكن هذه الأصقاع بعد «الطوفان» (٣)) ببنائه صعدا إلى السماء.

__________________

(١) SUD والنبي باروخ أحد الشخصيات اليهودية كان سكرتيرا للنبي أرميا وقد وضع كتابا عن التوراة عثر على ترجمته السريانية في ميلان.

(٢) وقع الرحالة الإنكليزي الشهير جمس بكنغهام (١٧٨٦ ـ ١٨٥٥ م) في الخطأ ذاته إذ نقل عن راوولف ما ذكره هنا عن هذا القار وكأنه موجود في مدينة بابل ذاتها وليس في الفلوجة كما هو الواقع ، حيث كان يجلب إليها وإلى بقية مدن جنوبي العراق من هيت (انظر ترجمتنا لرحلة بكنغهام المعنونة «رحلتي إلى العراق» الجزء الأول حاشية الصفحة ٢٥٢ طبعة ١٩٦٨).

(٣) الطوفان Deluge هو الطوفان الكبير الذي وقع في العراق في عهد السومريين وسجله

١٨٦

فنحن لا نزال نشاهد هذا البرج الذي يبلغ قطره نصف فرسخ ، لكنه قد تهدم وغدا واطئا وسكنته الهوام ، واتخذت لها فيه جحورا. إذ إن المرء لا يستطيع أن يقترب إلى أقل من نصف ميل منه إلا خلال شهرين من أشهر الشتاء لا تخرج الهوام فيهما من جحورها (١).

ومن بين هذه الهوام نوع يسميه الفرس (ايغلو) (٢) وهو سام جدّا كما أخبروني بذلك وهو أكبر من «العظاية» أو «الضب» المعروف عندنا وله ثلاثة رؤوس (٣) وتكسو جلده بقع ذات ألوان عدة. وهذه لا تسكن البرج وحده بل القلعة أيضا وهي ليست مرتفعة كثيرا. وكانت توجد تحت القلعة بئر للماء ولذلك فلا تستطيع هذه الهوام أن تعيش فوق التل ولا تجرؤ على شرب الماء الذي ترده الماشية (٤).

وعلى مسافة فرسخين نحو المشرق من الفلوجة تقع مدينة «تراكست» (٥) القوية التي كانت تدعى قبلا باسم «أفاميا» (٦) التي أشار

__________________

گلگامش في ملحمته كما أتت التوراة والقرآن الكريم على ذكره وقد اشتهر النبي نوح عليه‌السلام بأنه أنقذ بسفينته بعض البشر والحيوانات من ذلك الطوفان.

(١) يبدو لنا أن ما ذكره راوولف هنا عن هذه الهوام في البرج قد نقله إما عن البعض من أهل العراق وغيرهم الذين تحدثوا عن تلك الهوام دون أن يروها ، وإما أنه أخذها عن التوراة التي حوت تنبؤات بعض أنبياء اليهود بالمصير السيئ لمدينة بابل لأنها استولت على فلسطين وسبت اليهود الذين كانوا فيها بعشرات الألوف إلى العراق وقد جاءت هذه التنبؤات بصفة خاصة في أسفار أشعيا وأرميا وباروخ.

(٢) ايغلوEglo والظاهر أنه نوع ضخم من الضب.

* علق المترجم ستافورست على هذا القول «كان راوولف على الدوام ساذجا يصدق بيسر ما يقصه عليه الإخباريون. ذلك لأنه لم يكتشف حيوان له أكثر من رأس واحد وإنني أؤكد هذا طبعا بكل ثقة».

** وضع المترجم ستافورست إلى جانب ذلك هذه العبارة «هذه أسطورة».

(٣) خيل إلى راوولف أن هذه المدينة التي ذكرها باسم تراكست Traxt هي مدينة (أفاميا) التي بناها سلوقس الأول قائد الإسكندر المقدوني الذي تولى الحكم بعد وفاته في

١٨٧

إليها «بليني» في الفصلين السادس والعشرين والسابع والعشرين من الجزء السادس من كتابه. وقد وردت في الإصحاح الثاني من «سفر الخليقة» إشارة إلى أن الفرات ودجلة هما من أنهار الفردوس العظيمة ، وإنما يلتقيان على مسافة غير بعيدة فيؤلفان نهرا واحدا (١).

ومدينة «تراكست» محاطة بخنادق ويمكن الدفاع عنها جيدا وذلك لوجود قلعتين قويتين تقع كل واحدة منهما على طرف من أطراف المدينة وهي تعتبر مدخل مملكة فارس. وهناك كثير من المدن الأخرى تتبع مملكة فارس ولا تبعد عنها كثيرا من أمثال «أرثوسيا» (٢) و «الأجمة» (٣) اللتين تقعان في الطريق إلى ماذي وكذلك مدينة «جوخى» (٤) التي تقع

__________________

العراق وسوريا وأقام السلالة السلوقية والذي نراه أن المقصود بمدينة تراكست ليس أفاميا بل مدينة (كرخ) Kharax أو خاركس التي كانت تقع في المكان الذي تقوم فيه مدينة «المحمرة» في الأحواز وكانت الكرخ عاصمة مملكة عربية قامت قبل ميلاد المسيح بعدة قرون واشتهرت بالتجارة والملاحة (انظر كتابنا «الصراع على الخليج العربي» طبعة ١٩٦٦ م).

(٤) أفاميا بناها سلوقس الأول على مقربة من مدينة «القرنة» الحالية وهناك مدينة أخرى بنفس الاسم بناها سلوقس أيضا في الأراضي السورية في أعالي الفرات.

(١) لا يوجد مكان يلتقي فيه الفرات بدجلة إلا في مدينة القرنة وكان الفرات يتصل بنهر دجلة في جنوبي بغداد عن طريق نهر «الملك» الذي كان يتفرع من الفرات ويصب فرع منه في دجلة عند مدينة سلوقية عاصمة المملكة السلوقية التي تقع جنوبي «الدورة» وتعرف آثارها باسم «تل عمر».

(٢) يخبط المؤلف هنا خبط عشواء فيما يتعلق بأسماء المدن والمواقع التي ذكرها. فقد ذكر اسم مدينة (أورثوكس) Orthox والغالب إنما هي مدينة (أرثوسيا) التي تقع على نهر العاصي في سوريا. وكان راوولف يتصور أن البلاد الواقعة شرقي نهر الفرات تدخل في حدود مملكة فارس.

(٣) أوردها باسم مدينة لا يجن Iaigen وهي على الأرجح مدينة «الأجمة» وهو موقع محصن يقع جنوبي «عاقول» أحد فروع نهر البليخ وعلى بعد كيلومترين عن البليخ.

(٤) ذكرها باسم مدينةGoa ولعل المقصود بها مدينة «جوخى» أو كوخى وكوشى التي

١٨٨

على الجانب الآخر من دجلة بمسافة فرسخ ونصف ، ومدينة «اكست» (١) على بعد فرسخين في الطريق الذاهب إلى فارس.

أمضينا اليوم التالي ، وهو الخامس والعشرون من شهر تشرين الأول ، في شراء بعض الإبل والحمير لننقل عليها بضاعتنا. وبعد أن أنهينا استعدادنا ، رحلنا في صباح اليوم التالي مع القافلة برمتها متوجهين إلى بغداد.

كان الطريق في البداية وعر جدّا ، مليء بالأحجار والأنقاض المتساقطة فيه ، ولكن بعد أن اجتزنا مدينة «دانيال» (٢) وقلعتها ، أخذنا نجتاز صحراء قاحلة لم نر فيها سوى الأشواك ، ولم نشاهد هناك بشرا ولا حيوانات ولا كهوفا أو خياما ، ولذلك كان يصعب كثيرا على الرجل الذي لا يعرف معالم الطريق أن يستدل به ويسير فيه. وهذا ما لاحظته كثيرا بالنسبة إلى دليلنا الذي كانت الحيرة تنتابه عدة مرات (بسبب عدم وجود إشارات تدل على الطريق أو عدم العثور على بشر أو حيوان فيه) في تعيين السبيل الذي ينبغي له أن يسلكه. ولذلك كان في بعض الأحيان يسلك أحد الطرق ثم لا يلبث أن يتركه ليأخذ آخر غيره والقافلة تسير في إثره.

وكنا ، ونحن نسير في هذا السهل ، نشاهد الكثير من الأبنية القديمة الكبيرة العالية المنتظمة والحصون الشاخصة وسط الرمال ، وهي جميلة الشكل متقاربة إحداها من الأخرى على غرار ما نعثر عليه في الأودية ،

__________________

تقع ما بين سلوقية وطيسفون على نهر دجلة.

(١) اكست هي مدينة طيسفون أو سلمان باك الحالية جنوبي بغداد.

(٢) مدينة دانيال أراد بها أطلال دوركوركاليزو المعروفة باسم «عقرقوف» والتي شيدها كوركاليزو أحد الملوك الكشيين في حدود سنة ١٤٨٠ قبل الميلاد وأنشأ فيها «زقورة» ما تزال بقاياها شاخصة حتى اليوم.

١٨٩

وقد انتشرت هنا وهناك ، وحل الخراب في كثير منها فتركها أنقاضا ، وكانت ترى على البعض منها رسوم جميلة تستحق المشاهدة والتمعن.

كانت هذه الأبنية تقف مهدمة مخربة لم يبق منها سوى أبراج «دانيال» التي شيدت كلها من الحجر الأسود وهي لا تزال مأهولة حتى اليوم.

وهذه الأبراج في بنائها وارتفاعها تشبه أبراج كنيسة «الصليب المقدس» أو كنيسة «القديس موريس» في اوغسبرغ فأنت لو صعدت فوق هذه الأبراج لشاهدت برج بابل القديم ، وتل القلعة مع بقية الأبنية بوضوح واطلعت على وضع المدينة القديمة اطلاعا تامّا.

بعد أن أمضينا اثنتي عشرة ساعة في هذه الأرض الموحشة الصلبة والتي كلت إبلنا وحميرنا في قطعها من وطأة الأثقال التي كانت تحملها ، توقفنا عن السير عند أحد المرتفعات للاستراحة فبقينا على هذه الشاكلة إلى أن انتصف الليل وعندئذ استأنفنا مسيرتنا كيما نصل بغداد قبل أن تشرق الشمس.

وفي الوقت الذي أنخنا فيه ركائبنا هناك ، رحت أمعن النظر في المرتفع الذي نزلنا عنده فلا حظت وجود مرتفعين أحدهما خلف الآخر يفصل بينهما خندق ، وهما يمتدان سوية أشبه بجدارين متوازيين لمسافة طويلة إلى أن ينتهيا عند مواضع تشبه الأبواب مما حملني على الاعتقاد بأنهما كانا جدران مدينة قديمة قال المؤرخ «بليني» عنها إن ارتفاع جدرانها يبلغ مائتي قدم ، وإن عرض الواحد من تلك الجدران خمسون قدما ، وإن الفتحات الموجودة فيها كانت تؤلف قبلا أبواب تلك المدينة التي بلغ مجموعها مائة باب من الحديد ، وذلك قول صائب لأنني شاهدت بنفسي الجدران القديمة التي غطتها الأتربة وقد بدت ظاهرة للعيان بكل وضوح ، وهكذا وجدنا أنفسنا عند جدران مدينة ملكية شهيرة فيما مضى وقد تهدمت أبنيتها الفخمة المجيدة وغطتها الرمال ، ولذلك

١٩٠

فإن من يجوسها يأخذه العجب والدهشة إذ يروح يتذكر المجد الذي أصابته والملوك العظام الذين حلوا فيها من أمثال نمرود وبيلوس (١) ومن بعدهما الملك مردوخ (٢) وخلفه «بيلانصر» (٣) وهو من ذريته الذي جاء في النهاية ، وكيف تحولت قصورها وبساتينها إلى خرائب وقفار إلى درجة أنه حتى الرعاة كانوا يخشون أن ينصبوا خيامهم هناك والسكن فيها.

إنه لمثل مرعب ومخيف لكل الطغاة والمتجبرين هذا المثل الذي تقدمه بابل لهم كيما يتحققوا بأنهم إذا لم ينصلحوا ويتخلوا عن طغيانهم ويتوقفوا عن قتل الأبرياء بالحروب والسجون وبالأوبئة القاسية اللا إنسانية ، فإن الله الجبار سوف يقضي عليهم ويعاقبهم بغضب منه ، لأن الله غيور ولا يحتمل غرور الطغاة طويلا ، ولا يترك المسيئين من دون عقاب ، فلا بد أن يحقق فيهم نبوءاته مثلما فعل ذلك بأهل بابل المتجبرين حيث أنذرهم كل من أشعيا (في إصحاحه الثالث عشر) وأرميا (في إصحاحه الحادي والخمسين) (٤).

__________________

(١) لم يكن بيلوس اسما لملك من الملوك كما ظن راوولف ذلك وإنما هو اسم (بعل) إله آشور بل كبير آلهتها وكان مقره في مدينة نينوى وقد نقل اليونانيون عن هيرودوت هذا الاسم الذي يقصد به الإله مردوخ كبير آلهة بابل.

(٢) Meradach لم يكن ملكا كما ذكر راوولف ذلك وإنما كان كبير آلهة بابل وقد أقيم له أعظم معبد في بابل هو معبد «ايساكلا» أي البيت الرفيع ، وفيه تماثيل من الذهب الخالص للإله مردوخ نفسه.

(٣) بيلانصرBelathsar هو بلشاصر أحد ملوك البابليين وقد قتل بيد الفرس الذين هاجموا بابل بقيادة الملك دارا الأول ملك الفرس الإخمينيين بعد أن حاصروها عدة أشهر واستولوا عليها بخديعة دبرها أحد عملائهم من الداخل.

(٤) وردت إنذارات وتنبؤات عن المصير السيئ لبابل في كثير من أسفار اليهود الذين سحقت بابل مملكتهم وأخذت الألوف منهم أسرى إلى العراق فقد قال أشعيا ، وكتابه من أسفار اليهود الأربعة الكبار ويقع في ستة وستين فصلا ، «إن بابل فخر الممالك وجمال الفخامة الكلدانية ستصبح مثلما صنع الرب بسدوم وعامورة إن

١٩١

وإذ مررت بهذه الآثار وجدت العاقول قد نبت في الرمال المحيطة بها كما وجدت أنواعا كثيرة وغريبة من نبات الحنظل.

وحين حل المساء وأرخى الليل سدوله كان المكاريون الذين يسوقون دوابنا قد أتموا استعداداتهم لمواصلة الرحلة ، فأعد كل شيء بانتظام واستعد كل فرد من أفراد القافلة للسفر في غضون ربع ساعة.

وعلى الطريق شاهدت آثارا أخرى ولكن حلول الظلام لم يمكنني من رؤيتها جيدا. وهكذا واصلنا مسيرتنا في الظلام كيما نستطيع أن نبلغ بغداد قبل أن يطلع النهار بساعتين.

في صباح اليوم التالي ، وهو السابع والعشرون من تشرين الأول ، نزلنا أنا وواحد من جماعتنا في منزل أحد التجار المشهورين الذين ينتسبون إلى حلب وكان قد عاد مؤخرا من الهند.

ولقد استقبلنا ذلك التاجر استقبالا حسنا ورقيقا فمكثنا في بيته أربعة أيام حين حصلنا على حانوت في الحوش الواسع العائد للباشا التركي والذي يقع في المدينة الأخرى القائمة على الضفة الثانية من نهر دجلة حيث انتقلنا إليه (١).

__________________

أحدا لن يسكنها ولن يعيش فيها أحد من جيل إلى جيل .. وأن أوانها يوشك أن يحل وأيامها لن تطول : الإصحاح الثامن الآية ١٦ انظر حاشية من ٢٤٤ من الجزء الأول من كتابنا رحلة بكنغهام ط ١٩٦٨».

أما أرميا فصاحب سفر من الأسفار الأربعة الكبرى أيضا ويقع في ٥٢ فصلا عدا المراثي وعددها خمسة فصول.

(١) يقصد راوولف بالمدينة الثانية جانب الرصافة من بغداد وقد عد كل جانب منها بمثابة مدينة منفصلة إحداهما عن الأخرى.

١٩٢

الفصل الرابع عشر

مدينة بغداد

تدعى بالداهك (١) موقعها ، نباتاتها الغريبة ، مواصلاتها القديمة

تقع مدينة بغداد العائدة إلى الامبراطور التركي عند الطرق النائي جدّا من مملكته على ضفاف نهر دجلة سريع الجريان في سهل واسع ، وهي أشبه بمدينة «بازل» على نهر «الراين» ، لكنها ليست جيدة البناء ، لأن شوارعها ضيقة ، وكثيرا من منازلها زري البناء ، يقتصر البعض منها على الطابق الأول حسب ، بينما تحولت منازل أخرى غيرها إلى خراب.

ومثل هذا ينطبق أيضا على المساجد التي كانت لقدمها تبدو سوداء (٢) ، وقد تهدمت بحيث يصعب عليك أن ترى واحدا منها سالما ، في حين لا يزال هناك عدد من الكتابات العربية القديمة أو الكلدانية محفورة على الجدران (٣). وكذلك توجد في المدينة آثار كثيرة واضحة

__________________

* أطلق راوولف على بغداد اسم بغدت Bagdet أما اسم بالداك Baldac الذي أورده في عنوان هذا الفصل من الرحلة ، فإن أول من أطلقه على بغداد هو الرحالة البندقي ماركوبولو وعنه أخذه كثير من الكتاب الغربيين.

(١) أطلق راوولف على المساجد اسم الكنائس وذلك خطأ كبير لأنه لم يسمح للطوائف المسيحية ببناء الكنائس في بغداد إلا في عهد الاحتلال الصفوي لها على يد الشاه عباس سنة ١٥٢٠ م.

(٢) الظاهر أن هذه الكتابات على المساجد وغيرها كانت بالخط الكوفي ولذلك ظن الرحالة أنها كلدانية.

١٩٣

لكنني لم أستطع ليس قراءتها فحسب ، بل لم أجد من يستطيع أن يترجمها لي.

هنالك بنايات تستحق المشاهدة من أمثال مقر الباشا التركي ، وسوق البضائع الذي يقع خلف النهر في المدينة الأخرى (١) ، والحمامات التي لا يمكن مقارنتها بحمامات حلب وطرابلس ، لأن أراضيها وجدرانها مطلية بالقار الأمر الذي جعلها تبدو سوداء معتمة حتى في وضح النهار ، لأنها لا تصيب سوى الشيء القليل من النور.

هنالك مدينتان إحداهما تقع في هذا الجانب (٢) وهي مفتوحة تماما بحيث يستطيع المرء أن يدخل إليها ويخرج منها ليلا من دون أية مضايقة ، غير أن هذه المدينة تعتبر في الواقع قرية كبيرة أكثر منها مدينة.

أما المدينة الأخرى فتقع على الطريق الذي يمر إلى فارس عند تخوم مملكة آشور (٣) وهي محصنة تحصينا جيدا بالأسوار والخنادق ولا سيما على امتداد نهر دجلة حيث تقوم بعض الأبراج ، ومنها برجان يقومان عند الأبواب التي تؤدي إلى جهة النهر ، لحمايتها. وبين هذين البرجين تقع أسوار المدينة القديمة العالية. وفي أعالي هذه الأبراج حفرت كتابات مسطحة بحروف ذهبية يبلغ طول الحرف الواحد منها قدما. ولقد حاولت جاهدا معرفة معاني هذه الكتابات لكني لم أظفر بذلك لعجزي عن فهمها ، ولانعدام المترجمين مما اضطرني إلى التخلي عنها.

__________________

(١) يقصد بالمدينة الأخرى جانب الرصافة وهو القسم الشرقي من بغداد.

(٢) يقصد به جانب الكرخ الذي هبط إليه الرحالة قادما من الفلوجة إلى بغداد.

(٣) كثيرا ما يعمد قدامى المؤرخين من الأوروبيين إلى ذكر مملكة آشور عند الحديث عن العراق على اعتبار أن بابل وآشور معروفتان بتاريخهما القديم الزاهر وعلى أساس أن حدود مملكة آشور كانت تصل إلى الموقع الذي وجدت بغداد فيه حيث تبدأ عندها أو إلى الجنوب منها قليلا ، حدود مملكة بابل.

١٩٤

وعلى مقربة من هذه الأبراج يقوم جسر مصنوع من الزوارق يمتد فوق دجلة ليصل إلى المدينة الأخرى.

والنهر في ذلك الموقع عريض يشبه نهر الراين عند مدينة ستراسبورغ (١) وبسبب سرعة جريانه يبدو لون النهر داكنا يبعث منظره الكآبة في النفس وقد يجعل المرء يحس بالدوار.

وعلى مسافة غير بعيدة في أسفل المدينة ، يلتقي هذا النهر بنهر الفرات ولذلك يجريان مختلطين في الخليج ابتداء من مدينة البصرة التي لم تكن تبعد أكثر من مسيرة ستة أيام من هناك (٢) إلى جهة الشرق.

وهاتان المدينتان اللتان تقعان على نهر دجلة كانتا قد شيدتا قبل سنين عديدة من أنقاض مدينة بابل المتهدمة (٣) ذلك لأن واحدة منها ، وهي التي تقوم على الجانب الآخر من النهر ، قد عرف عنها أنها مدينة سلوقية البابلية (٤).

كما يمتد على هذا الجانب من النهر واد فسيح يعتقد بأن مدينة

__________________

(١) ستراسبورغ من أكبر مدن الألزاس تقع على ملتقى نهر إيل بالراين اشتهرت بجامعاتها التي أنشئت سنة ١٥٣٨ وبظهور غوتنبرغ مخترع الطباعة فيها.

(٢) لم يكن راوولف يعرف موقع البصرة ولذلك تصور أنها تقع إلى الشرق من اختلاط دجلة بالفرات وقد سماها «بلصرا» وعرفت باسم باصورة.

(٣) لم يثبت تاريخيّا أن مدينة بغداد قد شيدت بأنقاض مدينة بابل لكن الشيء المؤكد أن كثيرا من آجر بابل المكتوب استعمل في بناء كثير من الأبنية في بغداد ومنها البناء الذي عثر عليه مؤخرا على ضفة دجلة في منطقة خضر الياس بالكرخ وبالموقع الذي يجري العمل فيه لبناء الجسر الجديد الآن.

(٤) سلوقية أخطأ الرحالة في تحديد موقعها فهي في الواقع على الضفة اليمنى من نهر دجلة جنوبي بغداد في الموقع المعروف باسم (تل عمر) أنشأها سلوقس قائد الإسكندر الكبير وسماها باسمه وعرفت بالبابلية تمييزا لها عن مدينة بذات الاسم بناها سلوقس على مقربة من الإسكندرونة في سوريا.

١٩٥

طيسفون تقع فيه. وقد أكد «سترابو» (١) ذلك في الجزء الخامس عشر من كتابه عند ما أشار إليها بقوله «إن بابل كانت عاصمة آشور قبلا (٢) وبعد خرابها قامت مدينة سلوقية على نهر دجلة حيث تقوم على مقربة منها قرية كبيرة كان ملك الفرثيين قد اتخذها مقرّا شتويّا له» (٣).

كذلك أشار بليني (٤) في الفصلين السادس عشر والسابع عشر من الجزء السادس من مؤلفه إلى أن مدينتي سلوقية البابلية وطيسفون قد شيدتا خارج خرائب مدينة قديمة ، وأن نهر دجلة يمر بينهما.

وتقوم في سلوقية (٥) وفي مكان واسع منها ، قلعة ليست محصنة لا بالأسوار ولا بالخنادق ، كما أنها ليست كاملة البناء من الداخل ، ترى أمامها بعض قطع من المدافع الكبيرة ملقاة في الطريق وقد علاها الصدأ (٦).

__________________

(١) سترابو مؤرخ وجغرافي يوناني معروف ولد سنة ٦٣ ق. م. وتوفي سنة ٢١ م درس في آسيا الصغرى واليونان وروما ومصر. وضمن مشاهداته عن بلدان آسيا وإفريقيا في كتاب يقع في سبعة عشر مجلدا.

(٢) واضح أن قول سترابو هذا ينطوي على خطأ فاضح لأن نينوى وليست بابل هي عاصمة آشور.

(٣) هذه القرية هي التي عرفت باسم «بهر سير» وتقع بجوار سلوقية أنشأها أحد ملوك الفرثيين من السلالة التي حكمت إيران وجزءا من العراق في الفترة ما بين ٢٤٧ ق. م وسنة ٢٢٦ م.

(٤) بليني «بلينوس» وهو المعروف بالصغير (٢٣ ـ ٧٩ م) مؤرخ وسياسي ومحارب روماني شهير وعالم بالنبات اشترك في عدة حملات عسكرية في أوروبا. مات مع من ماتوا في مدينة بومبي التي دفنها بركان فيزوف في شهر آب سنة ٧٩ م اشتهر بكتابه عن التاريخ الطبيعي الذي يقع في اثنين وعشرين جزءا.

(٥) ما يزال راوولف يتصور أن الجانب الشرقي من بغداد هو مدينة سلوقية.

(٦) هذه القلعة هي أحد الأبراج القديمة في سور بغداد وكانت تقع في الزاوية القريبة من الرصافة وفي الموقع الذي تقوم فيه وزارة الدفاع حاليّا وعرفت لدى الأتراك باسم

١٩٦

وفي هذه القلعة يسكن الباشا التركي (١) والذي ما إن علم بمقدم اثنين من الغرباء إلى منطقته حتى بعث يطلب حضورنا إليه ، فأحضرنا رجاله أمامه ، وكان معنا أحد الأرمن ممن عرفناه قبلا في مدينة حلب ، كي يساعدنا في هذه المقابلة ويكون بمثابة ترجمان لنا ويعطي الباشا معلومات طيبة ووافية عنا.

حين دخلنا غرفة الباشا ، وهي اعتيادية جدّا وإن كانت قد فرشت بالسجاد الفاخر ، وزينت ببعض الزخارف ، أدينا له الإجلال والاحترام ، ووجدناه يجلس ملتفا بعباءته الطويلة الصفراء الثمينة. وعن طريق أحد أتباعه ، الذي كان يتحدث بالفرنسية وإن لم يكن يفهمها جيدا ، سألنا عن الأماكن التي أقبلنا منها ، والبضاعة التي جلبناها معنا ، والجهة التي نقصدها. وبعد أن أجبناه عن كل سؤال طرحه علينا لم يقنع بأجوبتنا ، وأمرنا بأن ننسحب إلى وراء ، وأن نمكث إلى أن نسمع قراره بشأننا.

لقد فهمنا ما كان يقصده من وراء ذلك تماما. فهو يريد أن يحصل منّا على شيء من الهدايا ، لكننا تظاهرنا بأننا لم نفهم قصده ، وإنما أريناه جوازات سفرنا موقعة من لدن باشا مدينة حلب وقاضيها. ولقد تناولها منّا وراح يقرؤها ويمعن النظر جليّا في ختمي الباشا والقاضي اللذين اعتادا أن يغمسا الختم بالحبر فأصبح الجواز ملطخا بالسواد نتيجة ذلك.

وحين وجد الختمين صحيحين ولم يبق لديه ما يقوله ، سمح لنا بالانصراف ، وإذ ذاك قدمنا له الاحترام ثانية فخطونا خطوات إلى وراء وغادرنا مسكنه ، ذلك لأنك لو أدرت ظهرك لأي شخص تقابله ، حتى وإن كان ضعيفا ، لعد ذلك إهانة كبيرة له ، وقلة أدب وغلطة منك.

__________________

«ايج قلعة» أي القلعة الداخلية.

(١) هذا الباشا هو علي الدرويش من ولاة الأتراك المشهورين حكم في البصرة ثم نقل منها إلى بغداد.

١٩٧

ويحتفظ هذا الباشا بحامية كبيرة في بغداد لأنها تقع عند تخوم «سوسيانة» (١) وماذي (٢) وغيرها من الولايات التي تعود إلى ملك فارس ، في حين لا يمتد نفوذ «السيد الأعظم» (٣) إلى الشرق من هذه الولايات ، إذ إن أكبر ممالكه تتألف من الصحراء العربية المقفرة التي لا يسيطر الأتراك إلا على جزء منها ، بينما يخضع الجزء الأكبر لنفوذ أحد الأمراء العرب.

بعد أن أذن لنا الباشا بالانصراف عدنا إلى النزول ثانية ، فابتعنا ـ حين مررنا بأحد الأسواق ـ بعض الأطعمة لتناولها ولكي نعد وجبة العشاء ، ذلك لأنه لا توجد في هذه البلاد فنادق يستطيع المرء أن يأوي إليها ، وأن يجد فيها الطعام مهيئا للزبائن الذين يفدون مصادفة ، بل إن على المرء أن يذهب إلى حانوت الطباخ الذي يتوفر عدد من أمثاله في الأسواق.

وما عدا ذلك فكل امرىء يطبخ لنفسه ما يريده من طعام دون أن تكون هنالك أبواب أمام غرفته ، وإنما توجد مدخنة لهذا الغرض. ولذلك حين يأزف وقت إعداد الطعام في المساء والصباح ، تشاهد في أروقة المكان عدة نيران تم إيقادها فيه.

وحين شرعنا نتناول الطعام اضطررنا بسبب عدم وجود موائد أو كراسي أو مقاعد ، إلى الجلوس على الأرض التي ننام عليها ليلا ، ولذلك لم تعد عباءاتنا نافعة لنا ، لأننا كنا نستعملها بدلا من الفراش ولا سيما في أيام الشتاء لكي نستدفىء بها. ومع ذلك فلم يكن الشتاء شديد البرد في هذه البلاد وقد نستنتج من هذا أن الأزهار المعروفة في بلادنا من أمثال

__________________

(١) سوسيانة هو إقليم الأحواز أو ما سمي بعربستان والذي سلخ عن العراق في أوائل القرن الحالي.

(٢) ماذي هي ميديا القديمة التي تقع في الشمال من إيران.

(٣) كان هذا السلطان هو مراد الثالث الذي حكم في الفترة ١٥٩٤ ـ ١٥٧٧ م.

١٩٨

«النرجس» و «البصل البري» و «البنفسج» وغيرها تكون مزدهرة تماما في شهر كانون الأول ، كما أن إقبال الزراع على حراثة الأرض في مثل هذا الوقت جعلني أحكم بأن شتاءهم يشبه ربيعنا.

لمست أثناء وجودنا في بغداد وتجوالنا فيها أن الفاقة لا زالت جد ظاهرة فيها ، وأنها قد تتعاظم وتزداد إذا لم تسارع المدن القائمة على دجلة والفرات ـ ولا سيما مدينة الموصل التي كانت تعرف قبلا باسم نينوى ـ إلى إرسال كميات كبيرة من المؤن مثلما تفعل ذلك ديار بكر وغيرها التي ترد منها المؤن مصادفة ، ذلك لأن معظم أراضيها تقع ما بين النهرين ، ولهذا السبب لا تحصل على شيء من تلك التجهيزات ، ولأن ما ينمو فيها لا يكفي لسد حاجتها ، ومن هنا تتجلى أهمية هذين النهرين بالنسبة إلى بغداد ، لأنهما لا يزودناها بالمؤن كالقمح والشعير والشراب والفاكهة وغيرها حسب ، بل يجلبان لها الكثير من السلع التي تحملها إليها سفن كثيرة ترد كل يوم. ولذلك نرى في هذه المدينة مستودعات كبيرة للسلع ، نتيجة لموقعها الملائم ، يتم جلبها بطريق البر والبحر من أنحاء الدنيا العديدة ، ولا سيما الأناضول وسوريا وأرمينيا واسطنبول وحلب ودمشق وغيرها كيما يتم نقل هذه السلع ثانية إلى الهند وفارس وغيرهما.

وقد حدث في اليوم الثاني من تشرين الثاني سنة ١٥٧٤ م حين كنت في بغداد ، أن وصلت إليها خمس وعشرون سفينة موسقة بالأفاوية والعقاقير من الهند ، بطريق «هرمز» والبصرة التي تعود إلى سلطان الأتراك وتقع عند الحدود ، وهي أبعد نقطة يمتد إليها نفوذ السلطان في الجنوب الشرقي وعلى بعد مسيرة ستة أيام من هنا. ومن البصرة تنقل السلع في سفن صغيرة تجلبها إلى بغداد حيث تستغرق السفرة حوالي أربعين يوما.

وهذا الطريق البحري والبري يعود إلى ملكي العربية وفارس ولكل منهما مدنه وحصونه على حدود بلاده ويستطيعان سد هذا الطريق. ورغم ذلك فإنهما يتراسلان بانتظام ويستخدمان الحمام الزاجل ولا سيما في

١٩٩

البصرة حين تتطلب الضرورة إرسال هذا الحمام برسائل إلى بغداد.

وحين تصل السفن الموسقة بالسلع إلى بغداد يهيئ التجار ، وعلى الأخص تجار الأفاوية الذين ينقلونها عبر الصحراء إلى تركيا ، أماكن خاصة لهم في البساتين على مقربة من مدينة طيسفون (١) حيث يقيم كل واحد منهم في خيمته ليضع الأفاوية في أكياس حفاظا عليها إلى أن يتحركوا كلهم سوية في شكل قافلة ، ولذلك يخيل لمن يراهم من بعيد أنهم جنود ، وليسوا تجارا ، وأن ما يشاهده سلاحا وليس بضاعة تعود للتجار.

ولقد توهمتهم أنا على هذه الشاكلة قبل أن أقترب منهم وأتبينهم جيدا.

وبعض أولئك التجار الذين جاؤوا مع تلك السفن قد أقبلوا على النزل الذي كنا ننزل فيه مباشرة ، وكان من بينهم تاجر مجوهرات جلب معه عدة أحجار كريمة مثل الماس والعقيق الأبيض والذي يصنعون منه مقابض ثمينة للخناجر ، وكذلك الياقوت الأحمر ، والعقيق الأصفر وغيرها. وقد حصل على النوعين الأولين من بمباي (٢) أما البقية فقد جلبها من جزيرة سيلان (٣) حيث أرانا عدة أنواع جميلة منها.

ويحمل التجار هذه المجوهرات معهم في قوافل كبيرة ويحتفظون بها بشكل خاص لا يمكن العثور عليها من قبل دوائر الكمرك كيلا تصادر

__________________

(١) طيسفون Ctesiphon هو الاسم الذي أطلقه اليونانيون على «المدائن» التي أنشئت في العراق في القرن الرابع للميلاد وفيها إيوان كسرى الشهير الذي لا زالت أطلاله قائمة وتعرف طيسفون الآن باسم «سلمان باك» نسبة إلى سلمان الفارسي حلاق الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي دفن فيها.

(٢) سماها الرحالة باسم كومباي Comby وهو خطأ فاضح إما عند النقل أو السماع.

(٣) ذكرها الرحالة باسم تسليون Zlyon وهو الاسم المستعمل لدى الألمان عادة وقد أطلق العرب على سيلان اسم «سرنديب».

٢٠٠