رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

من الأرض المزروعة وفيها من السكان العرب أكثر مما شاهدناه قبلا ، وقد نزل ربان سفينتنا إلى إحدى القرى ليشتري لنا بعض الأطعمة لسفرتنا المقبلة حيث اعتاد السكان أن يجلبوا إلينا اللحم والبطيخ لبيعه لنا.

حدث هنا في منتصف الليل أن خرج أحد الجنود الأتراك إلى شاطىء النهر للاستمتاع وحين كان منشغلا بذلك زحف أحد الأعراب إليه فألقى به في النهر وهرب قبل أن يتبينه ، وراح ذلك التركي يصرخ وسط النهر طالبا النجدة. ولقد سمعت أنا ، حين كنت أقوم بمهمة الحراسة في تلك الليلة ، صراخه فأسرعت وبندقيتي في يدي وأنا أتعقب صوته حتى وصلت إلى مكانه ، وإن كان مظلما إلا أنني استطعت أن أتبينه وأن أسحبه من الماء وآتى به إلى السفينة. ولقد سر جميع الأتراك بذلك لأنني تحركت بكل قواي لصالحهم فراحوا يزجون علي الثناء طوال الطريق إلى أن وصلنا بغداد حيث مقر الحامية التي أرسلوا لتعزيزها.

في اليوم الأول من تشرين الأول ، وقد استمرت رحلتنا ، أقبل سعاة البريد في الصباح الباكر إلى جانب النهر وكانوا ستة من العرب يمتطون الخيول ، ليستفسروا منا عما إذا كان شيخهم قد رحل من هناك ، وأين يمكنهم العثور عليه إذ إنهم كانوا يحملون إليه رسائل من السلطان ولا بد لهم أن يتعقبوه إلى أن يجدوه. وقد أنبأهم ربان السفينة (وهو الشخص الذي يتوجه كل امرىء بالسؤال إليه) بأننا قد شاهدناه في إقليم يدعى (الخابور) (١) وقد ارتحل عنه مع رجاله متوجها إلى الجزيرة العربية وفي مقدورهم أن يعثروا عليه هناك. وبعد هذه الاستفسارات غادرنا السعاة بينما واصلنا نحن مسيرتنا فشاهدنا أمامنا وعلى بعد ، مدينة على الجانب

__________________

(١) سماه المؤلف Amanchar «أمانشور» وهو تحريف واضح لأن هذا أقرب الأسماء إلى الخابور في نظرنا ، ولأن هذا الإقليم أو السهل بعبارة أصح من مواطن الأعراب المعروفة في تلك البقاع حتى اليوم.

١٦١

الأيمن من النهر تدعى (سكرية) (١) تخضع لحكم أمير العرب قال الأتراك عنها إنه لا يسكنها أحد سوى كبار اللصوص وهم لا يخضعون لأي سيد آخر سوى سيدهم.

ولقد مررنا بهذه المدينة واتجهنا مباشرة نحو «الدير» وهي مدينة أخرى ، فأصبحنا على مسافة ثلاثة فراسخ.

والعرب لا يقيسون المسافات بالفراسخ لأنهم لا يعرفون سوى القليل عنها بل قد لا يعرفونها قط ، وإنما يحسبون المسافات بأيام السفر. وسبب ذلك أن مدنهم تقع على مسافات بعيدة يضطرون إزاءها إلى الغوص في أعماق الفيافي عدة أيام قبل أن يصلوا إلى تلك المدن.

قبل أن نبلغ تلك المدينة راحت إحدى سفننا تجري بسرعة نحو جانب واحد متجهة إلى أحد فروع النهر الذي يمر بالمدينة (حيث ينقسم النهر هنا إلى عدة فروع) وسرعان ما غطست في الطين وتوقفت عن السير. وما إن رأى الربان ذلك حتى نزل من السفينة التي كان فيها حالا ، وأرسل رجاله لمساعدة رجال السفينة المتوقفة. وهنا توفر لي بعض الوقت لفحص النباتات والأشجار القائمة عند الشاطىء حيث شاهدت الكثير من الطرفاء ونوعا خاصا من الصفصاف يسميه السكان باسمه العربي القديم وهو «الغرب» وهذه الأشجار عالية وتنتشر بكثرة وأغصانها أقوى وأكثر لينا حيث تصنع منها المرابط والمشدات بالشكل الذي نفعله نحن في بلادنا.

أما شجرة الكينا فهي ذات لون أصفر شاحب وأوراقها من ذات اللون طويلة عرض الواحدة منها زهاء أصبعين. ولما كنت قد وجدت هذا الشجر جافا بلا زهر فلست أستطيع أن أقول شيئا عن أزهاره وأثماره (وقد أشار ابن سينا إلى ذلك في الفصلين ١٢٦ و ٦٨٦ من كتابه).

__________________

(١) سكرية ذكرها راوولف باسم «سكارد» Seccard وهذا الاسم يطلق على موقعين سكرية الكبيرة وسكرية الصغيرة.

١٦٢

رفض التركي الذي يقود السفينة الموسقة بالقمح ، أن يتوقف إلى أن نخرج السفينة الغاطسة من الوحل ، وواصل سفره ، ولكن سرعان ما تحطمت سفينته تلك وفقد قدرا كبيرا من القمح الذي يريد إيصاله إلى بغداد التي كان يسميها باسم (بلداك) ليبيعه هناك نظرا لقلة الغلة فيها بسبب انحباس الأمطار وعدم سقوطها طيلة سنتين ونصف السنة. ومع ذلك ، وكما قالوا ، فإن المطر إذا ما سقط مرتين أو ثلاثا في السنة كان ذلك كافيا لمسرة القوم وإسعادهم.

بعد أن كافح رجالنا لأكثر من ساعة حتى أفرغوا السفن من حمولتها عادوا إلينا ثانية كيما نبدأ حركتنا في تلك الليلة إلى مدينة «الدير». غير أن بعض الصخور كانت تعترض طريق السفينة ، وكان المرور فيما بينها ينطوي على مخاطرة. ولذلك ما إن فهم بعض ملاحي السفينتين الأخريين عمق الماء حتى اقبلوا لمساعدتنا حيث استطعنا الخروج من المنطقة الخطرة بسلام.

تقع مدينة «الدير» ، وهي ليست كبيرة وتخضع لحكم السلطان ، على هذا الجانب من النهر فوق مرتفع (١). وتقوم فيها مساكن حسنة البناء. وقد وقف عدد كبير من الناس لمشاهدتنا ونحن ندخل إلى المدينة وكانت أسوارها والخنادق المحيطة بها شاخصة للعيان.

وحين وصولنا لأول مرة ظننا أن في مستطاعنا أن نتفاهم مع موظف الكمرك حول المكس المفروض على سلعنا ونتحرك ثانية ، لكننا لم نجده في المدينة فاضطررنا إلى أن نمكث فيها مدة ثلاثة أيام انتظارا لمقدمه إليها. وفي الوقت ذاته تعرفنا إلى سكان المدينة وقد وجدناهم حسني الصور أصحاء الأبدان كثيري الجشع لكنهم مع ذلك كانوا أكثر انتظاما وتأدبا من غيرهم. فقد كانوا يزوروننا من دون كلفة ، ويتحدثون إلينا

__________________

(١) يقصد المؤلف بعبارة «هذا الجانب من النهر» الضفة اليمنى منه.

١٦٣

برفق ، وهكذا وجدنا فرقا شاسعا بينهم وبين غيرهم ممن سبق لنا أن شاهدناهم قبلا.

وحين قصدنا موظف الكمرك وجدناه لم يكن أقل تأدبا من غيره ، فقدم لنا صحنا كبيرا من الزبيب وأنواعا أخرى من الحلويات محاطة بقطع من الصابون (كما هي العادة الجارية في هذه البلاد) وهذا ما اعتاده هو وعائلته أيضا ، وفي مقابل ذلك قدمنا له ولجماعته أوراقا بيضاء تقبلوها بشوق وسرّوا بها كثيرا (مثلما يسر الأطفال في بلادنا حين نقدم لهم شيئا فريدا أو مسرا لهم) وكانوا ينظرون إلى تلك الأوراق ويبتسمون.

والأرض هنا خصبة غنية بالقمح والشعير والقطن وغيره بالإضافة إلى البساتين الواسعة الحسنة ، ومزارع الخضار المنتشرة على ضفاف الأنهار والتي تضم مختلف الثمار والأشجار ومنها الرقي والخيار والبطيخ التي توجد بوفرة حيث يستطيع المرء أن يشتري أربعين بطيخة كبيرة بمبلغ (أسبر) الذي يعادل كل ثلاثة منه «معدنا» واحدا أي أكثر من قيمة (البني) عندنا. وبالإضافة إلى ذلك تكثر أشجار النخيل والليمون والبرتقال وغيرها مما لم أستطع تمييزه عن بعد.

١٦٤

الفصل الحادي عشر

مدينة «عنة» (١)

بعد أن دفعنا الرسم الكمركي إلى «الملتزم» الذي كان على قدر كبير من الأدب بالقياس إلى الموظف الذي شاهدناه في الرقة ، وتزودنا بالحاجيات ، وضعنا نصف الحمولة في سفينتنا كيما نسحبها من الفرع إلى النهر ثانية. وإذ ذاك نقلنا بقية الحمولة إليها في زوارق صغيرة ، وهكذا أقلعنا من هناك في مساء اليوم الرابع من تشرين الأول فأمضينا الليل كله غير بعيدين عن مدينة الدير.

وفي صباح اليوم التالي استأنفنا رحلتنا فسارت بنا السفينة سيرا حسنا حتى الظهر حين وصلنا إلى مكان ضحل وواسع في النهر لم يعرف رباننا كيف يخرج السفينة منه. وإذ كان مضطربا دائب التفكير ظهر على الشاطىء بعض الأعراب فأشاروا لنا إلى المجرى الذي يجب أن نسير فيه لكننا لم نثق بهم لأننا سمعنا قبلا بأنهم قد أغرقوا بعض الأحجار الكبيرة

__________________

* عنه عرفت باسم عانة وعانات Anat Ana وهانا وهانات Hanat Hana وسماها الآشوريون سوخي استقلت عن كل من بابل وآشور وأن أحد ملوك خاني غزا بابل وجلب منها بعض تماثيل الآلهة إلى عنة. ذكرت عنه في المصادر الآشورية والبابلية بنى فيها «معين» ملك المناذرة ديرا شهيرا حاصرها الامبراطور تراجان سنة ١١٥ م ولم يستطع فتحها فتخلى عنها. كانت مركز إقليم الفرات الأوسط عرف باسم (خاني).

١٦٥

قبل شهر مضى ، وأقنعوا ملاحي إحدى السفن بأن يمروا من هناك ، ولم يكتشف الملاحون تلك الخدعة إلا بعد أن تحطمت سفينتهم إثر ارتطامها بتلك الأحجار وغرقت. وذات الشيء فعله هؤلاء الأعراب مع عدد آخر من السفن تعرضت للخطر نفسه ولم يستطع من كان فيها إنقاذ أنفسهم مما أصابهم إلا بعد عدة أيام.

على أننا حمدنا الله وشكرناه إذ خرجنا من ذلك الموضع خلال ساعة واحدة بعد أن سحبنا سفينتنا قليلا إلى الوراء ثم دفعنا بها إلى الماء العميق الغور ، مما أثار دهشة أولئك الأعراب.

أما السفن الأخرى التي كانت تسير مع سفينتنا ، فمع أنها لم تتأخر طويلا إلا أننا مع ذلك بذلنا المزيد من الجهود لإخراجها من الماء الضحل ، إذ كانت تلك السفن أقل طولا وأقعارها مجوفة وهي وإن كانت تستدير بسرعة إلا أنها لم تنزلق على سطح الماء مثل انزلاق سفينتنا ذات القعر المسطح.

وفي وقت مبكر من الغروب شاهدنا على مسافة غير بعيدة في الجانب الآخر من النهر قلعة تقوم في سهل تدعى «سيري» (١) ، ذكر الأعراب عنها أنها قد تهدمت منذ سنين عديدة ، وأن نهر الخابور (٢) ، وهو من الأنهار الكبيرة نوعا ما ، يبدأ من شمالها ثم يمر بها ويكون ماؤه نقيّا أشبه بماء الينبوع ثم يجري أسفلها بمسافة قليلة ليصب في نهر الفرات.

__________________

(١) ذكر الرحالة هذه القلعة باسم سيري Sere والمقصود بها بلدة «سيرين» التي تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات ومنها تعبر القوافل متجهة نحو نهر البليخ.

(٢) ذكره المؤلف باسم شابوChabu وهو من أهم الروافد التي تصب في نهر الفرات وينبع من الأراضي التركية.

١٦٦

كنا نعتقد أننا من هناك سوف نصل «الرحبة» (١) التي تخضع لحكم أمير العرب ، إلا أننا توقفنا في ملاحتنا وإذ ذاك هبطنا على مقربة من القلعة بعد حلول الظلام حيث استأنفنا في صباح اليوم التالي مسيرتنا إلى المدينة ، وكانت هذه كبيرة نسبيّا وتقع على مسافة نصف فرسخ عن النهر وفي أرض خصبة جدّا وقد مكثنا فيها حتى اليوم التالي لنبيع فيها بعض السلع بينما تجول اثنان من رفاقنا في داخل المدينة لدعوة التجار فيها إلى المقايضة معهم.

بعد أن أمضينا ذلك اليوم كله تحركنا في صباح اليوم التالي نحو «شارة» (٢) وهي قرية صغيرة تقع على الضفة اليمنى من النهر وعلى بعد نصف فرسخ عنه وتخضع لحكم أمير هذه المنطقة العربية ، وقد هبطنا إليها لندفع الرسم المعتاد. وكنت وأنا في السفينة أشاهد على جوانب النهر عددا كبيرا من الأشجار والنباتات التي لم أستطع أن أتبين أنواعها لبعدها عني.

ومن «شارة» سارت سفينتنا سيرا منتظما ولأيام عدة. وكان النهر في الغالب يمر وسط صحارى رملية واسعة كتلك التي مررنا بها قبلا ، وهي تمتد إلى مسافات شاسعة لا نستطيع أن ندرك نهايتها ، وكلها أراض قاحلة لا أثر للزرع أو الشجر أو النبات فيها. وهذا ما جعل تلك الصحاري تسمى بحق «بحار الرمال» والتي يتوقع المرء أن يجابه فيها بالأعاصير كما يحدث ذلك في البحار تماما ، وتثور فيها أمواج الرمال كأمواج البحار حقّا. ولهذا يعتمد السائرون في قوافل كبيرة عبر هذه الصحارى على أدلاء

__________________

(١) الرجة كتبها المؤلف باسم الرشبي Arrachby عرفت قديما باسم «رحبت» و «رحبة» أسسها مالك بن طوق التغلبي في عهد خلافة المأمون وتسمى نسبة إليه رحبة مالك بن طوق.

(٢) شارة وتعرف الآن باسم تل الشارة تقع في جنوبي مصب نهر الخابور في نهر الفرات وكانت من مواطن العموريين قديما.

١٦٧

ماهرين مثلما يعتمد على الربان في السفينة والذي يعرف كيف يوجه طريق السفينة بالحك.

ولما كانت الطريق طويلة جدّا فإنهم يتزودون بالمزيد من الأطعمة التي تكفيهم وقتا طويلا مثلما يفعل ذلك المسافرون بحرا ، إذ يوسقون الثلث من إبلهم بتلك الأطعمة واللوازم ولا سيما الماء منها لإرواء أنفسهم ودوابهم منه ، إذ لا يمكن العثور على ينابيع الماء في الصحراء إلا بالاعتماد على الصهاريج التي تعد الآن جافة لأنها تعتمد على ما يسقط فيها من مياه الأمطار.

ولقد أمر السلطان التركي ببناء ثلاثين ألف صهريج من هذه الصهاريج في الصحراء وعرفت ذلك أثناء وجودي في حلب. كذلك أمر السلطان بأن تزود هذه الصهاريج بالماء ذلك لأن الجيوش التركية ، حين تنتقل من مكان إلى آخر في الأيام التي يكون الأتراك خلالها في حرب مع ملوك فارس أو أمراء الجزيرة العربية ، لن يعوزها الماء. وحتى إذا ما وجدت أحد الصهاريج خاليا من الماء فقد تعثر على الماء في صهاريج أخرى غيره.

في اليوم التاسع من شهر تشرين الأول شاهدنا بعض الأبراج القديمة تقوم على ضفة عالية من النهر عند نقطة تدعى (أنسبي) (١) يقول البعض عنها إنها كانت مدينة شهيرة يوما ما.

في هذا الموضع يستدير النهر استدارة واسعة لا تخرج السفن منها إلا بعد انقضاء نصف يوم. ولقد شاهدنا أمامنا وعلى الضفة الأخرى من

__________________

(١) الذي أعتقده هو وقوع خطأ في طبع هذا الاسم إذ أبدل الحرف F ف في الكلمةEnfy بالحرف س فكتب S أنسي Ensy.

«أنفي» وتعرف باسم «أخني» أسسها المقدونيون على نهر البليخ وهي قريبة من الموضع الذي يعرف اليوم باسم تلول الشبات.

١٦٨

النهر عددا من الأعراب يمتطون الخيول. ولما كنا نخشى وقوع أي اعتداء على أموالنا ، فقد رحنا نزيد في حدرنا ونشدد حراستنا كما حدث لنا ذلك في الليلة المنصرمة.

فقد عهد إلي بالحراسة في تلك الليلة وإذ ذاك صعدت إلى الجزء الأخير من السفينة كيما أستطيع أن أرقب اللصوص من هناك حالما يقبل أحدهم نحو السفينة ، ثم وضعت بندقيتي إلى جنبي (وهذا ما اعتدناه في كل وقت) وبعد أن استلقيت لففت جسمي بالمعطف الواقي من الجليد ذي الأردان الطويلة لأتقي بذلك سقوط الندى والصقيع الذي يكثر سقوطهما هنا. وبعد حراسة طويلة غلبني النعاس فنمت وإذ ذاك أقبل أحد اللصوص في الماء إلى الموقع الذي كنت مستلقيا فيه في السفينة في صمت فأمسك بأحد أردان المعطف ، وكانت متدليا إلى أسفل ، على أمل أن يسحبه برفق وهو لا يدري بأنني كنت ملتفا به ، وإذ أحسست أن شخصا ما كان يتحرك وأنه يريد سرقة معطفي نهضت فشاهدت رأس اللص وإذ ذاك أمسكت ببندقيتي لأوجه رصاصة إليه ، لكنه ما إن رآني حتى هرب سابحا في النهر. واستيقظ أفراد الجماعة الذين رقدوا بجانبي وحين استفسروا عن الخبر وأنبأتهم بما رأيته فرحوا لذلك وراحوا يزجون إلي الشكر على حذري ودقة حراستي.

وفي الوقت الذي كنا نخشى فيه سطو الأعراب علينا ليلا ، تراهم يقبلون في النهار علينا مع زوجاتهم للتعامل تجاريّا معنا ، إذ يسارع ربان سفينتنا في النزول إلى اليابسة ليسهل على التجار مهمتهم ، وهم الذين يحملون كل أنواع السلع معهم من قوالب الصابون إلى خرز الكرستال والعقيق الأصفر ، والأساور الزجاجية من مختلف الألوان التي تلبسها النسوة في أيديهن وأقدامهن ، وأنواع أخرى من اللعب المصنوعة من الزجاج ذي الألوان الحمراء والصفراء والخضراء والرمادية وكذلك علب البرنز والرصاص ، والأحذية الطويلة التي تشد بسيور من الجلد وغير

١٦٩

ذلك مما يقايضونه مع العرب بجلود الماشية والجبنة واللبن المجفف وأشياء أخرى ، وبالنقود أحيانا.

ولا تختلف سحنات هؤلاء الأعراب عن سحنات الغجر كثيرا إلا في جمال سمرة وجوههم. وهم سريعو الخفة في أعمالهم. لكنهم لا يعنون بالعمل كثيرا وإنما ينفقون جل أوقاتهم في الكسل ، أو يختصمون مع بعضهم البعض بأصوات عالية وضجة صاخبة لكن يندر أن يهاجم أحدهم الآخر. وهم يحلقون شعور رؤوسهم فلا يبقون منها سوى القمة ، ويتركون ـ مثل الأتراك ـ ضفيرة طويلة تتدلى على ظهورهم.

أما ألبستهم فتتألف من صداريات مصنوعة من نسيج الصوف ليست لها أردان وتكون طويلة حتى تصل إلى الركبة ، مثل الصدارية التي كنت أنا أرتديها في رحلتي. وهذه الصداريات مخططة بخطوط سوداء وبيضاء. وهم يلبسون تحتها قمصانا طويلة تصل إلى الكعب وتكون مفتوحة عند الرقبة وهي رمادية اللون غالبا ذات أردان واسعة يدعونها تتحرك عند ما يسيرون أو حين يحملون أسلحتهم للتظاهر بها ، وهم يتمنطقون فوق ثيابهم هذه بأحزمة عريضة من الجلد تكون مرتفعة. وأنت تكاد لا ترى هذه الأحزمة بل ترى الخناجر المعقوفة التي علقت بها بالشكل الذي نحمل به نحن الأوروبيون سيوفنا. أما رماة النبال فإنهم يضعون أحيانا بعض أسلحتهم خارج ثيابهم ويتركون صدورهم عارية في ذات الوقت كيما يستطيعوا أن يقاتلوا بطلاقة ومن دون أية عوائق.

والذين لا يستطيعون منهم شراء الأحذية يستعملون بدلا عنها أعناقا من جلود يلفونها فوق أقدامهم بخيوط من الشعر. ولا يلبس الرجال السراويل بينما ترتدي النسوة سراويل طويلة تمتد حتى الكعب.

ووجوه النساء ليست مغطاة بالحجاب مثلما عليه نساء الأتراك. وهن يعصبن رؤوسهن بعصائب تميل ألوانها إلى السمرة أكثر من البياض يتركنها معلقة إلى وراء في شكل عقدة كبيرة.

١٧٠

وحين يرغبن في التجمل يحملن مقتنياتهن الثمينة (من خرز العنبر أو المرمر أو الزجاج المختلفة الألوان) في قلائد يعلقنها تحت صدوغهن حتى إذا ما انثنين أو تحركن راحت تلك القلائد تضرب وجوههن بل قد تعيقهن أحيانا عن أداء أعمالهن.

أما اللواتي ينتمين إلى طبقة أعلى ، أو يحاولن أن يصبحن غنيات وجميلات في ملبسهن فتراهن يلبسن الأقراط الفضية والذهبية في أنوفهن (مثلما يفعل ذلك البعض عندنا في بلادنا الأوروبية حين يلبسون قرطا في إحدى الأذنين) بالإضافة إلى العقيق الأحمر والفيروزج ، والياقوت الأحمر ، واللؤلؤ وغيرها. كذلك تلبس النساء أساور في أقدامهن وأيديهن وبكميات كثيرة أحيانا حتى إذا ما تحركن أو خطون راحت تلك الأساور تعلو وتهبط في أيديهن وأرجلهن محدثة أصواتا مسموعة ، وتلك من الأسباب التي دعتني أسهب في التحدث عن سكان هذه البلاد والصحارى بالصفة التي وجدتهم عليها.

بعد أن اجتزنا صحراء واسعة أخذنا نقترب من مدينة (عنه) وقد هبط رباننا إلى اليابسة ليلا وفي مكان جميل يبعد زهاء فرسخ ونصف الفرسخ عن المدينة ، حيث أمضينا الليلة في ذلك المكان ، لأنه كان من الخطر علينا جدّا أن نواصل الملاحة في النهر بسبب سرعة تياره ووجود بعض الصخور فيه.

تشتهر هذه المدينة بجمالها وذلك لكثرة الأشجار المثمرة فيها من أمثال الزيتون والليمون والبرتقال والرمان والليمون الحامض وكذلك أشجار النخيل التي لم أر لها شبيها بما شاهدته من أمثالها في سفراتي. فقد كانت هذه النخيل سميكة وصلبة للغاية. وحين ذهبت مع بعض من رفاقنا إلى المدينة وجدنا كميات كبيرة من الفواكه لم تعجبهم إطلاقا وقد رأينا بينها نوعين من هذه الفواكه التي اعتادوا جلبها إلى بلادنا ، أحدهما

١٧١

أحمر اللون والآخر أصفره أطلق عليهما «سيرابيو» اسم «هيرون» (١) وذلك في الفصل التاسع والستين من كتابه ، ومع أنهما أقل حجما مما هو معروف لدينا إلا أنهما من نوع جيد وذي طعم لذيذ.

في صباح اليوم التالي تركنا أمر السفينة إلى ربانها وتوجهنا نحو المدينة وقد شاهدنا ونحن في الطريق إليها أشجارا مثمرة وفيرة إلى درجة أننا لم نصدق ما شاهدناه بعد أن أقبلنا من تلك البراري القاحلة التي كانت تمتد من «الدير» القريبة من حلب إلى مثل هذه الأرض المزروعة.

فقد بانت لنا أمام المدينة حقول من القطن الطري والكثيف مما قد لا يجد المرء أمثاله في مكان آخر ، إضافة إلى حقول القمح الزاهية التي علت سنابلها ونضجت وحان وقت حصادها ، فضلا عن الأشجار القائمة حواليها والمثقلة بالثمار ، مما جعل تجوالنا فيها مبهجا.

ولم أر في الطريق من النباتات الغربية سوى ما شاهدته في حقول القمح من نبات (الماش) العربي الذي أشرت قبلا والذي يظن عنه أنه هو نبات (كوركوروم) (٢) الذي ذكره «بليني». كذلك رأيت نبتة أخرى تشبه السمسم إلا أن ساقها أطول وأمتن ، وأوراقها أخشن وأكثر عددا ، شبيهة بأوراق الصفصاف في الطول واللون ، وهي تحمل أزهارا صفراء اللون ذات عروق حمراء أو بنية اللون تنتهي بعقد طول الواحدة منها بقدر الأصبع وبمقدار سمكه ومدببة عند الرأس ، ولها خمسة أصناف تحوي البذور التي تشبه نوعا من الخباز الذي يسمى «أبوتيلون» (٣).

ولقد استفسرت كثيرا عن هذه النبتة فلم أجد لها اسما آخر غير

__________________

(١) Hayron لعل المقصود به ثمر شجر التون المعروف في بلادنا «النبق».

(٢) كوركوروم Corchorum نبات متسلق ذو أزهار صفراء اللون.

(٣) أبوتيلون Abutilon نبتة من فصيلة الخبازيات.

١٧٢

الاسم الذي يطلق عليها وهو اللوبياء الهندية (١) ، ولكن طبقا لمعلوماتي أعتبر هذه النبتة هي «الفل» (٢) التي أشار إليها «ثيوفراستس» في أماكن عديدة من كتابه.

يقسم نهر الفرات مدينة (عنه) إلى قسمين ، بل بالأحرى إلى مدينتين ، إحداهما ليست كبيرة لكنها محصنة تحصينا جيدا بأسوار قوية لا يمكن الدخول إليها إلا بواسطة الزوارق وهي تخضع للأتراك.

أما القسم الثاني فيقع على الضفة اليمنى من النهر ويخضع لأمير الجزيرة العربية (٣) وهو واسع لكنه غير محصن جيدا بالأسوار والخنادق ، ولذلك فإن في مستطاع المرء أن يدخل إليه ويخرج منه ليلا مثله في ذلك مثل بقية المدن الأخرى التي تتبع نفوذ الأمير العربي.

ويدعى هذا القسم من المدينة والإقليم الذي يقع فيه (بالقائم) (٤) ويبعد مسيرة خمسة عشر يوما عن حلب. وهناك طريق جيدة تمتد إلى النهر ولذلك فقد أمضينا ساعة فيه قبل أن نصل إلى منزل ربان سفينتنا والذي يقع على مقربة من المرسى الذي رست عنده.

__________________

(١) لوبي انديجي Lubie Endigi هي نفس اللوبيا المعروفة في بلادنا.

(٢) تريونم Trionum نبات الفل وهو من النباتات العطرية.

(٣) الخطأ الذي وقع فيه الرحالة راوولف بالنسبة للنفوذ الذي كانت تخضع له البلاد التي طاف فيها هو أنه اعتبر نهر الفرات حدا فاصلا بين مملكة السلطان العثماني وممالك أمراء الجزيرة العربية. فقد ظن أن كل الأراضي التي تقع على الضفة اليمنى من النهر تعود إلى أمراء عرب الجزيرة على أساس اتصال تلك الأراضي بأراضي الجزيرة العربية فعلا ، أما التي تقع على الضفة اليسرى من النهر فقد اعتبرها خاضعة لنفوذ الأتراك.

(٤) القائم ذكره المؤلف غاميل Gamel وهو من المواقع القديمة عرفت باسم دير القائم لدى البلدانيين العرب يعود زمنه إلى القرن الثاني للميلاد وفيه برج يشبه ما هو موجود في الحضر وتدمر. والقائم الآن ناحية تابعة لقضاء عنه ويبعد عنها بمسافة ٧٥ كيلو مترا ، وهو ليس قريبا من عنه كما أورد الرحالة ذلك هنا.

١٧٣

وجدران هذا المنزل مشيدة بالآجر والحجر تشييدا جيدا وهو واسع ولا يرى المرء أحدا على الجانب الآخر منه إذ تقوم فيه حديقة واسعة تضم أشجار النخيل والليمون والبرتقال والرمان وهي مثقلة بالثمار وعلى الطرف الآخر من النهر لم أشاهد شيئا سوى أكواخ تشبه الأكواخ الصينية قائمة فوق التلال.

وقد لا حظت ونحن في طريقنا إلى عنه أن بعضا من جماعتنا (وكنت أجنبيّا بالنسبة إليهم) قد تخلوا عني ، وشرعوا يقنعون ربان سفينتنا ، وهو من أبناء هذه المدينة ، بأن لا يأذن لي بمشاهدة معالم المدينة ، وأن يتهمني أمام حاكمها بالتجسس زاعما بأنني كنت أشاهد كل المدن والأماكن بدقة ، وأنني كنت أفكر في خيانتهم حالما تحين لي الفرصة ، وأنهم سيخيفونني بهذه الوسيلة ويحصلون بذلك على رشوة طيبة مني في النهاية. وفعلا ذهب البعض منهم إلى نائب الباشا وطلبوا إليه أن يرسل أحد خدمه معهم ، وكان هذا الخادم قد التقى بي في أحد الشوارع الطويلة وهو يحمل في يديه أغلالا وأصفادا من الحديد كانت تتدلى من يديه إلى الأرض فاقتادني معه وإذ ذاك أحسست بنواياهم السيئة تجاهي وبما كانوا يعتزمون تنفيذه ضدي. وذهبت مع خادم الحاكم لأرى ما سيفعلونه معي ، حتى إذا وصلوا إلى المرسى أمروني أن أصعد إلى السفينة ، وأن أمكث فيها وأتلقى الأوامر منهم. وأخيرا اتفقوا فيما بينهم وأخبروني على لسان واحد منهم ، كان يمتطي جوادا ويرتدي صداريّا من الفراء بأنني إذا كنت أريد حريتي فعلي أن أدفع إلى نائب الباشا مبلغ خمسمائة دوقة. وحين قلبت الأمر على وجوهه ووجدت نفسي بأنني قد غدوت وحيدا ، وأن هذه الطلبات ليست معقولة ، ورأيت نفسي في مثل هذا الحرج والخطر ، فكرت أن هناك حاكما آخر في القسم الثاني من عنه الذي يقع على الضفة الثانية من النهر ، وأن هذا الحاكم تركي وأستطيع أن أرفع شكواي إليه ضد مطاليبهم الجائرة هذه ، ولا سيما بعد أن فقدت كل

١٧٤

أمل في الحصول على عون منهم. ولذلك تزودت بجواز سفري ، وأعددت ملابسي كيما أستطيع السباحة في النهر والخلاص من أيديهم إذا ما حاولوا مهاجمتي وإلقاء القبض عليّ.

وأخيرا ، وحين كانوا ينتظرون جوابي والنقود التي طلبوها مني أنبأتهم بما صممت على تنفيذه وذلك بكل بساطة ووضوح ، فانتابهم جراء ذلك خوف أشد من الخوف الذي أثاروه في نفسي قبلا وعندئذ أيسوا من الحصول على بغيتهم الظالمة ولم يحصلوا من الخمسمائة دوقة التي طلبوها سوى دوقة واحدة دفعوها إلى خادم الحاكم تخفيفا له عن المتاعب التي تحملها في سبيل ذلك.

١٧٥
١٧٦

الفصل الثاني عشر

الطريق الذي سلكناه من عنه إلى بابل القديمة (١) عبر المدن القديمة

المسماة حديثة (٢) وجبة (٣) وهيت (٤)

بعد أن انتهت الكارثة التي كادت تقع على رأسي ، وبقوة من الله العظيم منحني إياها وأسر بها إلي لأفعل ما فعلت ، غادرنا (عنه) في الرابع

__________________

* كان راوولف واحدا من الرحالين الأوروبيين الذين ظنوا خطأ أن مدينة الفلوجة الحالية هي موقع بابل القديمة. وسبب هذا الخطأ كما نعتقد هو أن راوولف وأضرابه لم يطالعوا بعض الكتب التي وضعها البلدانيون الإغريق والعرب الذين حددوا موقع بابل تحديدا صحيحا. ولما كانت الفلوجة ، وهي من المدن القديمة التي نشأت في العهد السومري ، تحتفظ في عهد راوولف وما بعده بآثارها القديمة مثل بابل ، وتقع على نهر الفرات كما تقع بابل هي الأخرى ، فقد خيل إليه أن الفلوجة هي بابل ذاتها (انظر كتابنا «رحلتي إلى العراق» الذي ترجمنا به رحلة بكنغهام إلى العراق سنة ١٨١٦ الجزء الأول ص ٢٧٠).

** الحديثة مركز ناحية تابعة لقضاء عنه وهي قسمان في جزيرة وسط نهر الفرات فيها بقايا قلعة أثرية قديمة ذكرها ايزودور الخاركسي باسم «الابس». وقد استوطنت الحديثة قبل الفتح الإسلامي وقد تحدث عنها ابن خرداذبة وياقوت الحموي وغيرهما.

*** جبة ذكرها المؤلف باسم جبوJuppo وهي قرية صغيرة على الفرات ذكرت في المصادر السومرية باسم «دل» والأكدية باسم «انتو».

**** هيت كتبها المؤلف باسم ايديت Idit وهي من المدن القديمة في العراق ذكرت في المصادر السومرية باسم «دل» والأكدية باسم «أنتو» وفي اليونانية «اد» و «ايوبوليس» اشتهرت بوجود منابع القير فيها وتضم الآن بقايا أثرية مهدمة

١٧٧

عشر من تشرين الأول. كان يمتد أمامنا ريف مخضوضر مثمر تناثرت فوقه بعض الدور الجميلة هنا وهناك بشكل متقارب ، فما نكاد نمر أمام واحد من هذه الدور حتى نشاهد الثاني ببساتينه وحدائقه التي تحيط بها أشجار النخيل الجميلة وأشجار أخرى غيرها مما لم أستطع تمييزه منها لأنها كانت تمتد إلى مسافات بعيدة ، وعلى هذا المنوال لمسنا تغييرا كبيرا. فالفيافي المقفرة التي كانت تضم مساحات شاسعة حتى النهر تكاد لا ترى شجرة واحدة فيها طيلة مسيرة يوم واحد ، هذه الفيافي قد تحولت في نهاية مدينة عنه إلى أرض خصبة ، فغدت الرحلة خلالها مفرحة جدّا سيما وأننا لم نعد نخشى من خطر الأعراب علينا. على أن ربان السفينة كانت تبدو عليه علائم الاضطراب الشديد لأن النهر كان عند الضفاف مغلقا عادة بصخور كبيرة تجعله يرتفع عاليا وذلك بسبب وجود عدد كبير من مكائن أو دواليب الماء الضخمة المرتفعة (١) حيث تطرح تلك الصخور في النهر كيما تحصر الماء فيندفع بقوة إلى تلك الدواليب ويحركونها.

__________________

وقائمة. وذكرها بطليموس في جغرافيته باسم «ادكارا» كما ذكرها اميانوس باسم «دياكيارا» وبلغ من أهمية هيت في العصور القديمة بسبب وجود القير فيها ، أن الملك سرجون الأكدي توجه إليها بنفسه لتقديم القرابين إلى الإله «داغان» الذي أقيم معبده هناك.

(١) هذه الدواليب هي المعروفة بالنواعير ، جمع ناعورة ، وهي من الآلات التي يرفع بها الماء من النهر لغرض الزراعة وكانت منتشرة على ضفاف نهر الفرات بقدر أكثر مما هي عليه في دجلة ولكن عددها تناقص في السنين الأخيرة نتيجة استخدام المضخات البخارية بدلا منها ومع ذلك ما تزال مناطق عنه في العراق وحماة في سوريا تحتفظ بعدد من هذه النواعير. وتتألف الناعورة من عجلة حديدية مرتفعة تقام فوق خندق ماء عند ضفة النهر وتربط بها أوعية حديدية تحمل الماء فحين يمر تيار النهر في الخندق يحرك العجلة فتدور وإذ ذاك تمتلىء الأوعية بالماء حتى إذا ارتفعت إلى أعلى انسكب ما فيها من الماء في ساقية تروى بها المزارع والحقول.

١٧٨

وغالبا ما يحدث أن تقوم اثنتان من هذه المكائن في موضعين متقاربين فتشغلان بذلك مساحة واسعة من النهر بحيث كان يصعب علينا المرور بسفينتنا خلالها إلا بحذر شديد من جانب الربان لنستطيع المرور دون التعرض إلى خطر الاصطدام.

والسبب في وجود هذا العدد الكبير من هذه المكائن هناك أن النهر لا يفيض (كما هو شأن نهر النيل) فيغمر الأراضي ، ولأن المطر لا يسقط فيها بكميات تكفي لإنبات البذور وزراعة البساتين ، ولذلك يقدم أهل هذه البلاد على إنشاء هذه المكائن والدواليب المائية حيث تقام كل ثلاثة أو أربعة منها مجتمعة ، الواحدة منها خلف الأخرى في عرض النهر فتدور ليل نهار ، وبذلك ترفع الماء من النهر وتفرغه في قنوات خاصة أعدت لهذا الغرض وبقصد إرواء كل الأراضي.

ولكن إذا لم تكن الأرض ملائمة ، وكان الشاطىء مرتفعا كثيرا يحول دون نصب هذه المكائن ، فإن القوم يعتاضون عنها بآلات أخرى يديرها زوج من الثيران لرفع الماء من النهر في أوعية جلدية كبيرة تكون مفرطحة في القسم العلوي ، وضيقة عند القعر.

وتمتاز هذه الأراضي بكثرة ثمارها. ذلك لأننا سرعان ما وجدنا كميات كبيرة من الفواكه اللذيذة التي ابتعناها بقليل من النقود ، وكان من بينها البطيخ الشهي الطعم جدّا.

وحين تقدمنا في مسيرتنا شاهدنا الأراضي القائمة على ضفتي النهر وقد زرعت كلها بالذرة التي يكثر السكان من زراعتها بكميات أوسع من الحنطة أو الشعير إذ إن الرمال العميقة الغور تحول دون زراعة الحنطة فيها بشكل جيد. وقد وجدنا هذه الذرة قد حان حصادها بل إنها حصدت فعلا في أماكن أخرى قبل هذا الوقت. وتشتهر الذرة بسوقها العالية التي يبلغ ارتفاع الواحدة منها ما بين ستة وثمانية أذرع ، وأوراقها أشبه بأوراق القمح الهندي أو قصب السكر. وقد تناولته لأول مرة ووجدت السكان

١٧٩

المحليين يعلكونه مثلما يعلكون قصب السكر لأنه يحوي عصارة حلوة لطيفة ولا سيما في القسم الأعلى من القصبة بينما تستقر العصارة في قصبة السكر في القسم الأسفل منها ، وهم يسحبون هذه العصارة منها. وشاهدت رؤوس هذه الذرة البيضاء اللون ووجدتها كبيرة على خلاف الذرة الإيطالية. وهذه الرؤوس مكونة من حبوب بيضاء تلتصق كل حبة منها بين ورقتين وتكون في بعض الأحيان مضغوطة من الجوانب.

ويصنع من هذه الذرة خبز وكعك لذيذ الطعم ، والبعض منه رقيق أشبه بالورق لا يزيد عرض القرص الواحد عن أربع بوصات وطوله ست بوصات وسمكه بوصتان وهو يبدو رمادي اللون.

والسكان المحليون لا يزالون يسمون هذه الذرة باسمها العربي القديم «الذرة» التي أشار إليها (الرازي) لأنه قرأ عنها كثيرا في مؤلفات المؤرخين.

سارت رحلتنا سيرا حسنا جدّا وأخذ التجار معنا يمضون أوقاتهم في اللهو. فالبعض منهم كان يلعب لعبة تسمى (الثمانية عشر) وآخرون كانوا يلعبون الشطرنج التي يلعبها الأعيان ، وغيرهم كانوا يمضون الوقت في القراءة والإنشاد. وكان من بينهم تاجر من البصرة اعتاد أن يرتل «القرآن» عدة مرات وبصوت عال ولطيف جدّا. ولقد كنت أشعر بمسرة كبيرة وأنا أنصت إليه ، ومع ذلك فلم ينغمر اللاعبون في لهوهم إلى الحد الذي يجعلهم ينسون أداء الصلاة ولا سيما حين يدعوهم المؤذن ، بصوته العالي ، إلى أدائها سواء في السفينة أو خارجها في الصحراء حين يحين وقت الصلاة.

ولقد وجدت بين بعض المسلمين غيرة على الدين ، والتزاما به أكثر مما هو موجود لدى البعض الآخر منهم. وإن كان المسلمون عامة

١٨٠