رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

عليك وسلبوك ما تحمله معك. وهؤلاء سيئو الخلق كسالى لكنهم أشداء لأنهم يجوبون كل الأقطار ، ويتحملون المزيد من الأذى ، ولذلك ينبغي للمرء أن يعنى بهم عناية خاصة ولا سيما أثناء الطريق. ومع هذا فإنهم على الرغم من كل ذلك يتمتعون بامتيازات كبيرة في هذه البلدان. فهم يتظاهرون بالقدسية والعبادة ويؤدون الصلاة غالبا ، ويقنعون السذج من الناس بأن الله يتقبل صلواتهم قبل غيرهم ، وأنهم يمنحون الغير بركاتهم. على أن الناس ليسوا الآن على استعداد لتصديقهم كما كان يفعل ذلك أجدادهم من قبل. فهم لا يمكثون طويلا في مكان واحد لأن حيلهم تنكشف دائما.

١٢١
١٢٢

الفصل الثامن

الطريق الذي سلكناه بالسفينة. التوجه نهرا إلى الرقة.

مجيء نجل أمير العرب إلى سفينتنا مطالبا بالإتاوة

بعد أن أوسقنا سفينتنا والسفن الأخرى التي كانت معها ، وبعد أن غدت كل اللوازم الضرورية لذلك ، صعدنا إلى السفينة فبدأت رحلتها باسم الله في مساء اليوم الثلاثين من آب سنة ١٥٧٤ م (بعد أن مكثنا هناك سبعة عشر يوما) ونحن نعتزم أن نقطع في تلك الليلة الثلاثين فرسخا غير أن اثنتين من السفن انسابتا في واحد من فروع النهر العديدة منذ البداية ، وإذ ذاك عانى ملاحونا أتعابا شاقة في دفعهما إلى الاتجاه الصحيح وهكذا بقينا ننتظرهم وقد أتعبنا الانتظار كثيرا ، وعندئذ أمضينا الليلة في سوق مدينة تدعى (كسرة) (١) تقع على قمة ربوة وعلى بعد فرسخ من المكان الذي حللنا فيه.

وحين طلع النهار في صباح اليوم التالي صعدنا إلى السفينة فاستأنفنا السفر وكنا في البداية محظوظين ، إذ أخذت جبال طوروس (٢) التي كانت تقع على يسارنا وتمتد إلى ناحية الشرق ، تختفي عنا تدريجا ، ومن ثم

__________________

(١) كسرةCassra والذين نراه أن المقصود بها مدينة «قاصرين» التي بناها الرومان عند الفرات وقد احتلها المسلمون بقيادة أبي عبيدة ورد ذكرها في معجم البلدان لياقوت الحموي وغيره من البلدانيين العرب.

(٢) طوروس Taurus هي سلسلة الجبال التي تمتد من تركيا إلى سوريا ولبنان.

١٢٣

اتجهنا إلى ناحية اليمين كان النهر فيها يسير وسط صحارى واسعة ومناطق تمثل الأرض العربية (١) ، ثم يتفرع إلى فروع عريضة يصعب على الملاحين تعيين الاتجاه الصحيح الذي يسيرون فيه.

عندما بدأ السير في النهر لم نكن نتوقع أي خطر نتعرض له لأن السفينة التركية سبق لها أن مرت قبلنا بسلام في أحد تلك الفروع ، لكن السفينة الثانية التي كنا نسير وراءها ما لبثت أن استقرت فوق الرمال لأن ملاحيها أهملوا توجيه سيرها في المجرى الصحيح فهي لم تنغرز في المكان الذي استقرت فيه حسب بل وسدت علينا الطريق أيضا وقد أدارها الماء بعنف فوقفت معترضة ، واندفعت سفينتنا فوقها رغما عنا لأننا قريبين منها ، لأن سفينتنا كانت تجري بسرعة لم نستطع معها تغيير اتجاهها.

وقد نتج عن الاندفاع والتيار والاصطدام بالسفينة الواقعة أن تحطم الجانبان المرتفعان منها فتدفق الماء إلى داخلها وغرقت في أعماق النهر.

ومع أن سفينتنا لم تصب بأي ضرر إلا أنها لم تستطع مواصلة السير حيث ربطناها بالسفينة الغارقة بغية انتشالها من الماء وبعد جهد شاق بذلناه في إزاحة الرمال من تحت السفينة الغارقة وفسح الطريق لإخراجها سالمة ، استطعنا أن ندفع نصفها إلى الماء العميق أمام سفينتنا ، وسرعان ما دفع بها ماء النهر بشدة فارتطمت بسفينتنا وحطمت أحد مجارفها وقسما من جنبها ، ولو أن المجذاف الآخر كان قد تحطم لتكرر ذات العطب والضرر اللذين وقعا قبلا.

وحين كنا على مثل تلك الحالة ، وقد تركز تفكيرنا في الهلاك الذي ينتظرنا سوية لأن ربنا الرحيم قد أراده لنا ، وصلنا قرب الشاطىء ،

__________________

(١) يقصد المؤلف بعبارة «الأرض العربية» بادية الشام أو مبتدى أرض الجزيرة العربية من الأراضي السورية إذ كان يتصور أن الأرض التي تقع شرقي نهر الفرات هي بلاد الرافدين وآشور وفارس ليس إلا.

١٢٤

واندفعنا في المجرى القديم للنهر من دون أدنى عائق فأقلعنا قبل أن تقلع السفينة الأخرى ، ثم نزلنا إلى البر مباشرة.

نهضنا بعد استراحة قصيرة للعمل على إنقاذ السفينة الأخرى فأنزلنا حمولة سفينتنا وحملنا لها ما كانت تحمله تلك السفينة الواقعة ثم أنزلناها بسرعة إلى الماء.

وفي الوقت ذاته ظهر من وراء الأدغال وشجيرات الطرفاء على ضفتي النهر عدد من الأعراب كان البعض منهم يمتطي ظهور الخيل بينما كان البعض الآخر راجلين وقد أقبلوا إلينا غير هيابين من حرسنا وهم يحاولون ، بعد أن غادرنا ، سلب ما نحمله من بضاعة.

لكنهم ما إن جوبهوا بالمقاومة ، وسمعوا بضع إطلاقات انطلقت من بنادقنا (ولم تكن البنادق معروفة لديهم) حتى تملكهم الخوف ، فأداروا لنا ظهورهم ، وولوا الأدبار مسرعين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وفي الأخير حاولنا أن نخرج من السفينة بعض الأمتعة الصغيرة فأصبنا في ذلك نجحا طيبا ، ثم ما لبثنا أن نشرنا قلوع السفينة ودفعنا بها باذلين في ذلك كل ما توفر لدينا من جهد وطاقة إلى أن استطعنا في النهاية تحريكها وإطافتها على سطح الماء. ومع أن ما ضاع من حمولتها كان ضئيلا في كميته إلا أن ذلك كان أكثرا قدرا بالنسبة إلى الرز والقماش والنسيج الدمشقي والصابون والسكر وجذور نبات «الزرنب» التي تستعمل لمعالجة أوجاع الظهر. كذلك حدث تلف كبير ببعض القمح والتين الذي استجداه ركاب السفينة منا.

كان بودنا لو مكثنا زمنا أطول معهم إلى أن تجف أمتعتهم وتصلح سفينتهم ليصبح في مستطاعهم السفر معنا في مزيد من الأمن عبر هذه الصحارى ، وذلك أمر أظهرنا استعدادنا التام لإنجازه.

حدث أثناء مكوثنا مع ركاب تلك السفينة ومساعدتنا إياهم أن

١٢٥

اتهمت أنا ورفيق لي ، من قبل بعض اليهود علانية بتهمة السكر مع ربان السفينة. وكان غرضهم من ذلك التدليل على أننا كنا من الأجانب وأن يحطوا من منزلتنا ويجعلونا ممقوتين ، لأنهم لم يقبلوا ـ حسب تقاليدهم ـ تناول الخمر معنا. ولقد نجح أولئك اليهود في غرضهم ذاك النجاح كله ، فما إن علم رجال الدين بهذا حتى حنقوا علينا وأخذوا قارورة الخمر وقذفوا بها في النهر ، ثم ما فتئوا أن أخرجوها من النهر وسكبوا ما فيها من خمر على الأرض. وكان من جراء ذلك أن اغتاظ الجند الذين كانوا يقفون معنا من هذا التصرف فشرعوا يوجهون إلى اليهود أقسى الكلمات تعزيرا وتوبيخا وراحوا يهددون كل مسيء بالعقاب. وفي اليوم التالي تلقى الشخص الذي تزعم تلك الحركة ، وكان عربيّا تابعا لإحدى فرق الدراويش ، عقابا شديدا لحادث تافه وقع منه مصادفة ومن دون قصد (١).

وإذ كانت أمتعتنا لما تزل مطروحة على أرض الشاطىء فقد أمضيت الليل فوق الأكياس إذ جاء دوري في الحراسة ليلتئذ. كان أحد الأفراد يحمل بيده كوز ماء فطلبت إليه أن يناولني إياه لأشرب منه شيئا. وحين مد يده بالكوز وهممت أن أتناوله منه ، وطأت مصادفة قيثارة أحد الأتراك فحطمتها. ومع أن ذلك التركي كان في مقدوره أن يثور ساخطا جراء ذلك إلا أنه ما لبث أن هدأ بعد أن علم أن لدي من الصمغ ما أستطيع أن أصلح به القيثارة. وفي الصباح جلسنا سوية فأصلحناها جهد المستطاع. وحين رآنا ذلك الدرويش منهمكين في إصلاحها أخذ منه الغضب مأخذه لأننا لم نساعد الآخرين في نشر الأمتعة المبتلة التي انتشلت من السفينة الغارقة ، ولذلك تناول القيثارة من بيننا فحطمها ورمى بها في النهر ثم عاد وهو يتظاهر بتوجيه كلماته نحونا ظنّا منه بأنه سينجح في هذا مثلما نجح

__________________

(١) في هذا القول تناقض مفضوح فالمعروف أن اليهود لا يحرمون الخمر وإنما حرمها الإسلام. ويظهر أن الذين اتهموا المؤلف ورفيقه بالسكر ليسوا من اليهود وإنما هم من رجال الدين المسلمين الذين دعاهم بالدراويش.

١٢٦

في قضية قارورة الخمر. غير أن صاحب القيثارة ما إن شاهد ذلك حتى تناول من الأرض خشبة كبيرة وراح يهوي بها على رأس ذلك الدرويش وعلى أطرافه عدة مرات حتى تدفق الدم من رأسه وأذنيه. واشتط غيظه في آخر الأمر فسحب بندقيته وحاول أن يضرب بها ذلك الدرويش وعندئذ فصلنا بينهما فتمت تسوية تلك القضية وإحلال الصلح بينهما.

كان منظر ذلك الدرويش مخيفا جدّا بشعره الأسود الطويل المسترسل وكانت تغطي بدنه ورأسه وصدره وذراعيه ندوب كثيرة أحدثها هو بنفسه لأنها تعتبر من الأمور المفيدة في نظر تلك الطائفة وغيرها ، مما يفعله غيرهم من الأتراك الذين يحتفظون بحروقهم البدنية وذلك باستعمال جمرات متأججة حمراء أو قطع من الكتان يبلغ سمكها زهاء البوصة يلفونها بقوة فتكون مفرطحة من الأسفل ومدببة من الأعلى على شكل هرم تماما ، ثم يشعلون فيها النار ويضعونها على أجسامهم العارية ويدعونها تحترق وهم يتحملون ذلك بالصبر الطويل إلى أن تنفد وتتحول إلى رماد ، وعندئذ يلفون حروقهم تلك بقماش من القطن. ويستعمل هؤلاء الطريقة ذاتها لمعالجة الرشح من الرأس أو العين بقصد تجفيفه أو سحبه إلى مكان آخر.

ولذلك شاهدت جملة من هؤلاء يحمل الواحد منهم زهاء عشرين من تلك الحروق معظمها على أذرعهم وتبلغ سعة البعض من هذه الحروق سعة «الشلن» (١) بالإضافة إلى الندوب والجروح الأخرى. ولم أستطع أن أعرف المصدر الذي أخذوا عنه هذه الطريقة اللا إنسانية في تجريح أجسامهم وتبضيعها إلا أن يكونوا قد أخذوها في القدم عن رهبان

__________________

(١) الشلن عملة إنكليزية في حجم الدرهم العراقي وكانت قبلا موازية له في القيمة أما الآن فإن قيمته أقل بعد الخفض الذي طرأ على الباون والتعديل الذي حدث في العملة الإنكليزية.

١٢٧

(بعل) (١) الذين اعتادوا أن يجرحوا أجسامهم بالمدي والرماح حتى تسيل منها الدماء ، وذلك ما اعتدنا أن نقرأه في الإصحاح الثامن عشر ، الآية الثالثة من «سفر الملوك» (٢).

والشيء الذي أستطيع أن أقرره هنا هو أن هذه الندوب والحروق الواسعة في بدن هذا الدرويش إنما أجريت حسب تقاليد الطائفة التي ينتمي إليها (٣) إذ إن هذا الرجل لا يرتدي أية ملابس ، لا في الصيف ولا في الشتاء ، سوى قطعة يستر بها عورته. وبدلا من الملابس يرتدي أمثال هؤلاء جلود المواشي فينامون بها ويستخدمونها بمثابة فراش وغطاء ولباس لهم في وقت واحد. ويتظاهر هؤلاء في تصرفاتهم الخارجية بالصبر والفضيلة وكأنهم من الأموات بالنسبة إلى هذا العالم حيث يتمسكون بشعائر الصلاة والتذوق والمشاهدة في الوقت الذي تمتلىء فيه نفوسهم بالخداع واللؤم ولذلك يصعب وجود أحد يحبهم.

وفد علينا عدد من رجال الدين ينتمون إلى طوائف متعددة وهم يتميزون بعاداتهم وتقاليدهم المختلفة مثلما هو الأمر في بلادنا نحن الهولنديين. وكان من بين هؤلاء شاب قوي البنية ، حسن التكوين ينتمي إلى طائفة يطلقون عليها اسم «الجيلانية» (٤) ولم يكن هؤلاء من طائفة

__________________

(١) بعل Baal كبير آلهة آشور ومقره في نينوى ويعرف باسم بيلوس أيضا وكثيرا ما يخطىء المؤرخون والرحالون في شأنه فيعتبرونه إله بابل.

(٢) سفر الملوك واحد من كتب موسى الخمسة التي تؤلف التوراة ، وهو يتألف من ستة أسفار ، صموئيل الأول وصموئيل الثاني (الملك داود) وسليمان ودانيال واليشع وأخبار الأيام.

(٣) ليست هذه العادة من تقاليد طوائف الدراويش كما توهم المؤلف ذلك وإنما القصد منها هو معالجة بعض الأمراض بطريقة الكي هذه وما تزال هذه الطريقة شائعة حتى الآن لدى بدو الصحراء وحتى بعض سكان الأرياف في الأقطار العربية.

(٤) سماهم المؤلف باسم الجماليون Geomalers وواضح أن المقصود بذلك هم الجيلانيون أتباع الشيخ عبد القادر الجيلاني.

١٢٨

«الأكليروس» بل من «الشلبية» (١) أي السادة الأغنياء الذين يجدون متعة كبيرة في السفر أيام الشباب وتحت مظاهر القدسية مثل الحجاج الذين يعيشون على حساب الغير فيجوبون بلدانا وممالك عديدة بقصد المشاهدة والاطلاع ، والتعلم والإلمام بالتجارب.

كان هذا الشاب يرتدي صداريّا أزرق اللون يغطي جسمه ، ويتمنطق بحزام من الشاش ، وينتعل نعلين من جلود الشياه بالشكل الذي اعتاده أعراب الصحراء.

كذلك كان يسافر معنا رجلان آخران أيضا كان واحد منهما يضع في كل من أذنيه قرطا كبيرا سميكا سمك الأصبع يتدلى من شحمة أذنه على كتفه. وكان هذان الرجلان ينتميان إلى طائفة تعرف باسم «القلندرية» (٢). وهؤلاء يحيون حياة قاسية مضنية إذ إنهم من النساك الذين يجوبون القفار ويصلون إلى أي مكان يستطيعون الوصول إليه.

وقد اعتاد هؤلاء أن يقيموا الصلوات والأذان خمس مرات في اليوم ، مثلما يفعل ذلك المؤذنون من فوق مآذن المساجد. كان أحد هؤلاء ينفصل عنا ، حين يحين وقت الصلاة ، فيرفع صوته عاليا وكأنه لا يريد أن نسمعه نحن من على ظهر السفينة حسب بل وأن تسمعه الوحوش والحيوانات أيضا حتى إذا ما انتهى من صلاته عاد إلينا ثانية وهو ينظر إلينا نظرات ملؤها الجذل والورع.

أما زميله الآخر فكان درويشا من طائفة متزمتة في تعاليمها فهو يؤدي صلاته بكل خشوع وحمية ولا سيما بعد أن تغرب الشمس حيث يفد عليه الآخرون فيقفون سوية في شكل دائرة ثم يبدأون «صلاتهم» ـ كما

__________________

(١) الشلبي و «الجلبي» ـ بالجيم الفارسية ـ كلمة تركية تطلق على التاجر والغني وما تزال هذه الكلمة مستعملة في العراق وسوريا حتى اليوم.

(٢) القلندرية يقصد بها طائفة الدراويش وهي كلمة تركية الأصل كما أعتقد.

١٢٩

كنت أسمعهم ـ في صوت واطىء أول الأمر ثم يرتفع درجة بعد أخرى حيث ترتفع أصواتهم بعبارة «لا إله إلا الله» عالية تسمع من بعيد وهم لا ينطقون بعبارة أخرى غيرها ويكررونها وهم يديرون رؤوسهم من ناحية إلى أخرى وكأنهم ينظرون إلى بعضهم البعض ليدللوا على مقدار حبهم بعضهم بعضا ، ومن ثم يسرعون في القراءة فلا تسمع منهم في النهاية سوى كلمة «الله» (١) إلى أن يصيبهم الدوار ويتصبب العرق من أبدانهم.

أما الإمام فإنه يبدأ يضرب صدره بقبضة يده وتنطلق منه نغمة غريبة ويظل يردد كلماته تلك إلى أن يغمى عليه ويسقط على الأرض شبه ميت وإذ ذاك يلقي أصحابه عليه غطاء يدثرونه به ويدعونه راقدا وينصرفون إلى حال سبيلهم (٢).

وبعد أن يظل الإمام على تلك الحالة وقتا لا بأس به وقد فتن بصلاته أو برؤيته الرؤيا ، يعود إلى نفسه فينهض ويجلس أمام القوم مرة أخرى.

وهؤلاء المشايخ وإن كانوا يمارسون شعائرهم هذه بطريقة تفوق ، في نظرهم ، ما نص عليه الشرع ليحملوا الناس على الإيمان بهم تبعا لصبرهم وقسوة عيشهم وغيبوبتهم ، فإنهم قد يمارسون تحت ستار الطاعة السرقة والأعمال القذرة كما هو مألوف عنهم. ورغم ما يتظاهرون به من البساطة وعدم إلحاق الأذى بالغير ، فإن ما عرف من بدعهم وخبثهم قد

__________________

(١) كتب المؤلف كلمة «الله» مضمومة بالحروف اللاتينية.

(٢) إن ما أتى المؤلف على وصفه هنا ليس صلاة ولا علاقة له بها مطلقا وإنما هو ما يعرف بالأوراد أو الذكر التي يعقدها أصحاب الطرق الصوفية بعد أداء صلاة العشاء في أمسيات أيام الاثنين والخميس من كل أسبوع عادة. كما أن إشارة المؤلف إلى صوت المؤذن المرتفع فيها نوع من التهجم البذيء لم يتجرد الأوروبيون منه حتى الآن.

١٣٠

أفقدهم الاحترام ، ولم يعودوا يحصلون على المزيد من الهبات كما كان يحدث ذلك قبلا. أما طريقتهم الغريبة في أداء الصلاة فإن أبناء دينهم يقولون عنها إن مثل هذا العابد إذا ما غير صوته الذي وهبه الله إياه إلى صوت غير طبيعي فإنه يكون بهذا قد تحول من إنسان إلى وحش!

وفي اليوم التالي سارت ملاحتنا سيرا حسنا فوصلنا عند الظهر إلى قلعة حصينة تدعى «قلعة النجم» (١) تقع على الضفة اليمنى من النهر فوق ربوة ضمن أراضي أمير العرب الذي خاض غمار حروب طويلة مع السلطان التركي ، وهذا ما استطعت أن أفهمه ولو أنني لا أعرف لغة القوم جيدا. ولم يستطع السلطان أن يلحق الضرر بالأمير العربي لأنه لم يستطع أن يتعقبه في الصحراء وذلك بسبب نقص الماء والزاد. ولقد بادر أكبر أنجال الأمير (٢) فتحصن في هذه القلعة ظنا منه بأنه سيكون بمنجاة من أي هجوم خارجي عليه ، وبذلك ارتكب خطأ فظيعا. لأن السلطان ما إن علم بوجوده هناك حتى عقد النية على احتلال القلعة رغم كل المصاعب التي تقف في وجهه. ولهذا الغرض استنفر كل قواته سنة ١٥٧٠ م وهاجم القلعة من ثلاثة أماكن في وقت واحد واستطال هجومه هذا أياما ثم استطاع بهجمة خاطفة أن يحتل القلعة ويقبض على ابن الأمير وأن يأخذه معه أسيرا إلى اسطنبول. وقد قيل عنه إنه قطع رأسه في السنة التالية.

وهذه القلعة محاطة بأسوار قوية ، وفي داخلها برج عال ضخم ، وهي لا تزال في نظري قوية وإن كانت قد تحولت إلى خرائب وبقيت الثغرات التي فتحت فيها على حالها دون ترميم.

__________________

(١) ذكر راوولف هذه القلعة باسم (غلانتزا (Galantza والصحيح أنها «قلعة النجم» التي تقوم على جبل يطل على نهر الفرات وكان عندها جسر يعبر به الفرات إلى «حران» وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان.

(٢) ما أورده المؤلف هنا عن «أمير العرب» أو «الأمير العربي» إنما يقصد به شيخ إحدى القبائل العربية ليس إلا.

١٣١

هبطنا أثناء الليل إلى جزيرة صغيرة في النهر غير مأهولة دون أن يعترضنا معترض ، وقد كنا فيها آمنين شر الأعراب ، لكننا ما إن تناولنا طعام العشاء وذهبنا لنرتاح حتى أقبل بعض الأعراب عند منتصف الليل نحونا زاحفين على بطونهم وهم يقصدون بضاعتنا أكثر مما كانوا يريدون زيارتنا ، ولما لم يغامروا بالتوجه إلى سفننا قبل أن ينكشف أمرهم لدى حراسنا فقد استقروا عند الشاطىء ، ولو لم ينكشف أمرهم لاستطاعوا سرقة بعض الأشياء الثمينة وإن كان من الميسور استعادتها منهم وذلك لعدم تمكنهم من نقله عبر النهر.

في اليوم الخامس من أيلول ظهر بعض الأعراب في الصباح الباكر على الشاطىء ، وانتشر عدد كبير منهم إلى مسافات بعيدة ، كما أخذنا نشاهد بعض الأفواج كان الواحد منها يضم ما بين أربعين وخمسين فارسا ، وقد استنتجنا من ذلك أن مضرب أميرهم غير بعيد عنا. وقد تأكد ذلك لنا حقّا. فحين نزلنا على البر عند الظهر أقبل أصغر أنجال الأمير ممتطيا صهوة جواد أدهم عال يحيط به رجاله وهم يبلغون المائة عدا ، ومعظمهم يحملون السهام والرماح المصنوعة من القصب.

كان نجل الأمير شابّا يافعا في حدود الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره ، أسمر اللون يعتم بعمامة بيضاء من نسيج القطن تتدلى إحدى نهايتيها إلى الوراء بحوالي ذراع طبقا لعادتهم في الملبس. وكان يرتدي عباءة (١) طويلة مصنوعة من جلود المواشي مغطاة بالقماش

__________________

(١) هذه العباءة التي ذكرها المؤلف هي المعروفة عندنا في العراق باسم «الفروة» ، وتصنع من جلود الأغنام ، وتغلف أحيانا بقماش بني أو أزرق اللون وتطرز حوافيها وأردانها بالأشرطة. وبعض هذه الفروات تكون قصيرة إلى ما فوق الركبة وبعضها الآخر يكون طويلا حتى القدمين وهذا النوع الأخير هو الشائع في إيران وفي المناطق الكردية من العراق.

١٣٢

وتمتد إلى ركبتيه ، ومثل هذا كان يرتديه أفراد حاشيته بحيث كان يصعب ، بهذا اللباس الشائع لديهم ، تمييز أحدهم عن الآخر لو لم تكن حوافي تلك العباءات مطرزة بأشرطة ذهبية كما اعتدنا في بلادنا أن نطرز حوافي صداريات الأطفال عند الرقبة والأردان ، ولم تكن أردانها طويلة وكانت بعض النقوش ظاهرة فيها.

ولما كانت الإتاوة تعود إلى أمير المنطقة العربية التي يجري نهر الفرات فيها ، فقد أقبل نجله هذا للمطالبة بتلك الإتاوة وتسلمها. وهكذا وجدناه ينزل بجواده إلى النهر ويخوض فيه متجها نحو السفينة التركية أولا ليرى ما تحمله من سلع ولما لم يجد فيها سوى القمح لم يمكث عندها طويلا وعاد إلى سفننا ، وكان خدمه الذين يأتمرون بأوامره قد سارعوا في مساعدته على الصعود إلى السفينة وأجلسوه على حزمة فيها ثم شرعوا يتجولون بين التجار يفتشون سلعهم فيفتحون هذا الكيس وتلك الرزمة ويأخذون من بعضها قليلا أو كثيرا حسبما يشاؤون ولذلك كانوا يتأخرون بعض الوقت قبل أن ينتقلوا من تاجر إلى آخر.

وفي الوقت ذاته جاء القوم بطفل نجل الأمير هذا ، ولم يكن ليتجاوز السنتين ، إلى ظهر السفينة وكان أحدهم يحمله أمامه على ظهر جواد ويسير به خلف أبيه. ولم يكن الطفل ليرتدي شيئا سوى قميص مصنوع من القطن وفي عنقه أطواق وفي رسغيه وقدميه أساور من الذهب العربي الخالص!.

وأخيرا أقبل خدم الأمير إلينا ، أنا ورفيقي ، وقد كنا في مؤخرة السفينة. وقبل أن نطلعهم على شيء من سلعنا شاهدوا بندقيتي وكانت مكسوة بعظم العاج فأخذوها مني في الحال إلى سيدهم ليرونه إياها ، وهم في منتهى الدهشة والعجب إذ إنهم لم يشاهدوا مثلها في حياتهم قط.

١٣٣

حمل نجل الأمير البندقية بين يديه ، وسر برؤيتها سرورا بالغا ، وراح يردد قائلا إنها من صنع بلاد الأجانب ، إنها من صنع (الفرنك) (١) ، وذلك هو الاسم الذي يطلقونه على أبناء البلاد الأجنبية كالفرنسيين والألمان والإيطاليين وغيرهم إذ لا يعرفون أية فروق أو مميزات بين بلادنا. وإذ ذاك تقدمت أنا ورفيقي إلى الأمير فأفهمناه أننا قد أقبلنا مؤخرا من تلك البلاد في طريقنا إلى الهند.

وبعد أن ألمّ الأمير بذلك أخذ يتحدث إلينا برقة ، وأمر حاجبه بأن يتركونا ولا يفتشوا أمتعتنا ، وأخذ يطرح علينا أسئلة عن أمور شتى ثم التفت إلى رفيقي فانبأه بأنه يظن أن قد رآه قبلا ، وكان ذلك حقا إذ كان رفيقي يعيش في حلب ويتعاطى صياغة الذهب فيها زمنا طويلا ، وكان هو وغيره يوفدون من لدن قنصل «فينيسيا» (٢) في حلب إلى الأمير. الذي لم يكن مكانه ليبعد كثيرا عن تلك المدينة ، حاملين إليه هدايا من ذلك القنصل كان من بينها ثياب غالية الثمن. وحين كان هؤلاء يفدون على الأمير يقابلون من لدنه بترحاب عظيم وكرم بالغ ، ويريهم مشاهد من مختلف الألعاب. وقد يشاهدون لديه عددا كبيرا من الجند الأقوياء الشجعان ، ومن ثم يعودون منه مثقلين بكرمه ، ويعدهم بتوفير الأمن واللطف لهم ولرؤسائهم. فإذا ما حدث واستعانوا به على الأتراك أقبل على مساعدتهم مخلصا ، دون أن يخالجه الشك باتفاقهم معهم ، إذ إنهم يقطعون مسافات شاسعة داخل أراضيه إلى أن يصلوا أراضي الأتراك بما فيها اسطنبول وغيرها.

غادرنا الأمير الصغير عائدا إلى مضربه الذي يقوم على تل عال

__________________

(١) الفرنك والفرنجة هو الاسم العام الذي أطلقه العرب على جميع الأوروبيين بلا تمييز ولكن الاسم في الواقع يخص الفرنسيين وحدهم.

(٢) فينيسياVenice هي المعروفة بالبندقية وكانت من الممالك التجارية القوية في أوروبا في ذلك العهد وهي أسبق من غيرها في إقامة العلاقات مع البلاد العربية.

١٣٤

وسط سهل لا يبعد سوى ميلين عنا ، وأخذ معه بعض رفاقنا ليحدث أباه بما خبره من أحوالنا.

كنت شديد الرغبة في أن أحظى بمقابلة أبيه وأن أحمل بندقيتي معي ، وإن كان علينا أن نسافر عبر صحارى واسعة ، فلربما سر بذلك ، لكنني لم أجرأ أن أفعل ذلك أمام الجند الأتراك ، واليهود والمتسولين لأنني خشيت أن يغدروا بي ويتهموني أمام الباشا والقاضي اللذين يستطيعان إنزال العقاب بي رغم براءتي ، كما اعتادا أن يفعلا ذلك إزاء الأجانب بل حتى نجاه أبناء جلدتهم. وما خلا ذلك فقد تذكرت بأن أمير العرب حين كان معسكرا على مقربة من حلب كان بعض رجاله يفدون على المدينة كل يوم لشراء الأغذية والملابس وغيرها وعلى أثر ذلك صدرت الأوامر في حلب تحظر بيع أية أسلحة لهم ينقلونها معهم إلى الصحراء.

وبعد أن انتظرنا أصدقاءنا بعض الوقت عادوا إلينا. وقد منعنا من الذهاب إلى أي مكان في ذلك اليوم لأن الوقت غدا متأخرا ، وعلى هذا مكثنا في مواضعنا طيلة الليل.

ولقد قال لنا رفاقنا إن الأمير لم يصدق قولهم حين أنبأوه بأننا قد وفدنا من حلب بل ظن أننا جئنا من «صفد» ، وهي مدينة على بعد مسيرة يوم واحد من «صيدا» (١) التي كان السلطان التركي قد سلبها منه قبل مدة قصيرة ، وهذا قد يعطيه الحجة في حجزنا نحن وأمتعتنا ، ولذلك راح يصر على رأيه في هذا ، وقال إنه قد يبعث ببعض رجاله إلى حلب مع أحدنا للتأكد من حقيقة أمرنا إلى أن نثبت له ، بما نحمله من رسائل ، حقيقة المكان الذي جئنا منه ، وإذ ذاك سيسمح لنا بمواصلة السفر.

__________________

(١) صفدSaphet من الموانىء المعروفة في فلسطين على مقربة من حدود لبنان أما صيداSidon فهي من الموانىء الجنوبية في لبنان وهي من المدن القديمة جدّا.

١٣٥

على أن الشيء الذي فهمته فيما بعد ، هو أن الأمير لم يفعل ذلك إلا لكي يضغط علينا بقصد الحصول على الهدايا ، وهو يتلقاها فعلا ، حيث اضطر رفاقنا إلى أن يقدموا له بعض المدي المطعمة بالفضة التي جلبوها من دمشق وكذلك بعض الأقمشة الحريرية الدمشقية (١).

تحركنا في السادس من أيلول مبكرين فمررنا بين بواد مقفرة تكثر فيها الخنازير البرية التي كانت تتجمع على شكل قطعان أحيانا. وكانت هذه البوادي تمتد إلى مسافات شاسعة ولهذا لم نشاهد طيلة النهار سوى الأشجار إلى أن حل المساء ووصلنا إلى «القلعة» (٢) وهذه عبارة عن حصن وقرية تقع على الجانب الأيمن من النهر ، ولا تبعد عن حلب أكثر من مسيرة يومين ، وتقوم في سهل تستطيع من رؤيته أن نعرف المجرى المتعرج الذي كان يسير فيه النهر قبلا. وهذه القلعة ملك لأحد الباشوات ويدعى «جون رولانا» (٣) وهو يمتلك بالإضافة إلى ذلك ، دارا جميلة في حلب. وينعم هذا الباشا بإيرادات وفيرة وله ستون ولدا منهم ستة أو سبعة أولاد يحمل كل واحد منهم رتبة لواء ، في حين يعيش الباقون منهم في بلاط السلطان التركي.

__________________

(١) هذه الهدايا وغيرها هي الإتاوة التي كان المتنفذون من السكان على طرق القوافل يأخذونها من أصحاب تلك القوافل وهي تعرف عندنا باسم «الخاوة» وقد ظلت سارية المفعول حتى أواخر العشرينات.

(٢) يغلب على ظننا أن هذه القلعة هي مدينة «بالس» القديمة التي وردت بهذا الاسم في مؤلفات البلدانيين العرب ، وقد فتحها المسلمون من دون قتال بقيادة أبي عبيدة وقد ازدهرت المدينة في العهد الإسلامي ثم ضعف شأنها بعد عهد سيف الدولة الحمداني واستولى الصليبيون عليها سنة ١١١١ م وكانت تابعة لحكم (تنكرد) صاحب أنطاكية.

(٣) جون رولاناJohn Rolanat لعله من بقايا الأمراء الصليبيين الذين آثروا البقاء في سوريا بعد طرد الصليبيين من فلسطين وسوريا ولبنان.

١٣٦

ولقد أمضينا الليل كله ، على الجانب الآخر من النهر فيما وراء هذه القلعة في أرض خلاء تمتد إلى مسافات بعيدة ، ولم نشاهد طيلة اليوم التالي سوى بضعة أكواخ للأعراب متناثرة هنا وهناك ، كان كل واحد منها يستند على أربعة أعمدة ويغطى بأوراق الشجر ، وفي داخل هذه الأكواخ كان يعيش عدد كبير من الأطفال كنت أعجب غالبا من كثرتهم ، وكانوا وهم في باكر طفولتهم يهرعون إلى النهر ويتعلمون السباحة فيه بصفة جيدة إلى درجة أنهم كانوا يسبحون في عرض النهر دون خوف.

وحين مضينا في سبيلنا راح العرب يجيبوننا ، ولو لم يحل البعد بيننا وبينهم على الأسئلة ولا سيما عن المكان الذي يقيم أميرهم فيه إذ إنهم يولونه قدرا كبيرا من الاحترام ، رغم تنقلهم وتجوالهم ، فهم يظهرون له الطاعة الجماعية بشكل لا تظهره أية أمة أخرى لرؤسائها ، ومن هذا نستطيع أن تتأكد بأن أيّا من الأجانب كان يجتاز هذه الأراضي ويحاول أن يرى أميرهم كان يسمح له بذلك شريطة أن يرتدي مثل ملابسهم وأن يصحب أحد المسلمين معه ليدله على الطريق وليكون ترجمانا له ، وإذ ذاك يبدون استعدادهم لإرشاده إلى الطريق الذي يسلكه للوصول إلى الأمير ، ويدعونه يمر دونما مضايقة أو تفتيش حين يرون أحد أبناء جلدتهم بصحبته. وهذا هو السبب الذي يدع الكثيرين من العبيد في أطراف الجزيرة العربية يسارعون إلى الهرب دون كبير عناء أو خطر.

وكانت نساء الأعراب تقبل علينا عادة وهن يحملن اللبن في صحون واسعة يعرضنه للبيع. ولذلك كثيرا ما كنا ننزل إلى البر فنأخذه منهن ونقدم لهن البسكويت لقاء ذلك بسبب حاجتهن القصوى إلى القمح كما أن مثل هذه المقايضة تسرنا نحن بدورنا.

ولقد اعتدنا أن نأكل هذا البسكويت باللبن وقت الغداء أو العشاء. وحين يكون اللبن أحيانا كثيفا أو تكون كميته قليلة لا تكفينا ، نعمد إلى إضافة كمية من الماء إليه.

١٣٧

وقد تضع الأعرابيات هذا اللبن أحيانا في أكياس من الكتان فلا يتسرب منها حيث اعتدنا أن نعلقه في السفينة مدة يومين أو ثلاثة إلى أن يتكثف ويتحول إلى خثارة وعندئذ نستعمله مع البسكويت والبصل أوقات الفطور وأوقات العشاء.

وكنت أغتنم الفرصة حين نزولنا إلى اليابسة فأروح أفتش عن النباتات الغريبة في المكان. ولقد عثرت على أنواع خاصة من نبتة «الأزهار المحززة» (١) وهي تشبه النوع المعروف منه في بلادنا لكن ليس لها ذات ميزاته ، ونوعا من شجر العجرم (٢) من فصيلة ذكرها المؤرخ «كلوفيوس» وهو ذو أوراق سميكة تشبه شجرة «الودنة» (٣) فضلا عن السذاب ونوعا غريبا من الصفصاف يسميه السكان باسمه القديم هو «الغرب» ، بالإضافة إلى الطرفاء وهي من أنواع كبيرة وعالية تشبه أشجار التوت والنخيل مما يمكن مشاهدتها من بعيد بسبب ضخامتها وارتفاعها وهي تشبه الطرفاء في بلادنا لكنها أكثر ضخامة وارتفاعا ، وأوراقها طرية ذات رؤوس وردية الألوان.

والمسلمون في الغالب يطعمون مواشيهم من الأدغال التي تنمو على ضفاف النهر ذلك لأنه لا يوجد في الفيافي والصحارى ، حين تكون الأرض رملية هشة وقاحلة ، سوى القليل من الأعشاب أو الزرع ، مما يجعل الخبز نادرا بين سكانها فلا يرون منه شيئا لمدة طويلة حيث يضطرون إلى تناول أطعمة أخرى كالسمك والجبنة واللبن والودك دون أن يستعملوا الخبز معها. فهؤلاء الفقراء لا يصيبون سوى وجبة بسيطة من الغذاء ومع ذلك فهم أقوياء وفي صحة جيدة ويقضون أعمارا جيدة.

__________________

(١) Schoenantum تكون أوراقها محززة وهي من الفصيلة الباذنجانية.

(٢) Rhanus شجرة شوكية من نوع العفص أو العجرم.

(٣) Housleeke نبات الودنة شجيرة ذات سوق سميكة وأزهار وردية اللون.

١٣٨

وفي المساء وقبل أن يسدل الظلام سدوله ، شاهدت على الجانب الآخر من أرض الرافدين حصنا يقوم على تل مرتفع يدعونه «تبيل» (١) يعود إلى أحد الأمراء العرب ، وهو حصين وواسع جدّا تقوم على أسواره عدة أبراج ، شبيه بقلعة حلب ، كما لا حظت ذلك عن بعد.

مكثنا الليل في جزيرة قريبة من الشاطىء الأيمن ، وكدنا أن نتعرض للسرقة لو لم يكن لدينا حراس. وكنا نراقب اللصوص ، ونطلق بعض العيارات النارية التي لم نقصد بها إصابتهم بل إخافتهم حسب ، ذلك لأننا لو قتلنا أو جرحنا أحدا منهم لارتفع صراخهم ، ولربما تجمعوا بالألوف انتقاما منا لرفيقهم وإذ ذاك ينهالون علينا وينهبون كل ما لدينا من متاع وهم متشوقون لمثل ذلك جد التشوق.

ولقد حدث الشيء ذاته في اليوم التالي حين نزلنا جزيرة غير مأهولة وسط النهر فلم نطلق عياراتنا النارية في تلك الليلة كيلا ندعهم يتحسسون مواقعنا وينقضون علينا ، ومع ذلك فحين قررنا أن نظل ساكنين وأن نستريح في هدوء تام ، ألموا بمواقعنا فأقبلوا في جماعات أكثر من ذي قبل ، واقتربوا بحيث كنا نسمعهم وكانوا يتحدثون إلينا ، وإذ وجدناهم جادين في مهاجمتنا ، نهضنا من أماكننا وتهيأنا للأمر وهتفنا بهم بأصوات عالية ننذرهم من مغبة أي اعتداء ينوون توجيهه ضدنا وإلا فسنجابههم بمقاومة أشد مما يتوقعونه ، وحين وجدنا أن تحذيرنا ذاك لم يكن مجديا اضطررنا إلى أن نسحب بنادقنا ، وكنا نحتفظ بثلاث منها ، فأطلقنا الرصاص الذي أخافهم ، لأنهم لم يعتادوه ، فولوا الأدبار هاربين وتركونا مطمئنين (٢).

__________________

(١) المعتقد أن هذا الحصن الذي أطلق عليه راوولف اسم (تابر (Taber هو الحصن الذي تقوم عنده الآن قرية «تبيل» شرقي الفرات على مقربة من مدينة «الرقة».

(٢) يصف المؤلف بعد هذا في جملة سطور ، العرب بالكسل وبشدة العوز وقد فاته أن الأعراب الذين شاهدهم في طريق رحلته جلهم من البدو المتنقلين والذين لم يألفوا

١٣٩

وما خلا هؤلاء كنا نشاهد كل يوم ، ونحن سائرين في النهر ، أعدادا كبيرة منهم منتشرين فيه ، والبعض منهم يستخدم جلودا منفوخة بالهواء ليقطع بها النهر ولا سيما حين يكون واسعا في بعض الأماكن ولا يمكن إقامة جسر فوقه حيث لم نر أي جسر إطلاقا. وتراهم يخلعون قمصانهم وهم لا يرتدون شيئا آخر سواها ثم يكورونها ويربطونها بأحزمتهم الجلدية فوق رؤوسهم ويخفون فيها خناجرهم الجميلة العريضة المنحنية التي تشبه المنجل يعلقونها في صدوغهم.

مرّت الليلة التاسعة من رحلتنا في مرح وقد أصبحنا على مقربة تامة من مدينة «الرقة» التي تعود إلى السلطان التركي (١). غير أن فرحتنا لم تدم طويلا. فقبل أن نتناول الطعام وبعض الفواكه من أمثال الزبيب والتين والبطيخ لنبرد به غلتنا إزاء وهج الحر الشديد ، تعرضنا مرة أخرى لخطر أكبر من الخطر الذي أصابنا قبلا ، ذلك أن سفينتنا ، وهي الكبرى ، ما لبثت أن شلهت فرست على الرمل ، ولم نستطع إعادتها إلى الماء ، وتسييرها في الاتجاه الصحيح فيه دون مساعدة الآخرين ، وإذ ذاك اضطررنا إلى الاستعانة بالأعراب ولما كان هؤلاء يحملون خناجرهم

__________________

حياة الاستقرار وممارسة الزراعة وغيرها. ولذلك فإن وصفه للعرب بالكسل والفاقة ، ينطوي على غلط مشين ، لأنه لو توفرت لديهم وسائل الاستقرار في ذلك الوقت لما ألفوا حياة التنقل والتجوال.

(١) الرقة وتسمى نقفور ونسفوريم يذكر العرب عنها أنها كانت حاضرة ديار مضر في بلاد الجزيرة اسمها القديم كالينيكوس Kallinikos.

ذكر المؤرخ «أبيان» أن الذي بنى هذه المدينة هو سلوقس خليفة الإسكندر الكبير في العراق وسوريا وقد أخذت اسمها هذا من سلوقس الثاني كالنكوس الذي شيدها سنة ٢٤٢ ق. م. نزل العرب المسلمون الرقة سنة ١٨ ه‍ (٦٣٩ م) بقيادة «عياض بن غنيم» وقد سلم بطريق المدينة مفاتيحها إلى المسلمين ففتحوها صلحا.

١٤٠