رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف

المؤلف:


المترجم: د. سليم أحمد خالد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

كذلك فإنهم يضعونه أحيانا في أقداح صغيرة يغمسون فيه خبزهم ويأكلونه مثلما يفعلون ذلك بالنسبة إلى الدبس.

وما خلا ذلك فلدى الأهلين مرطبات حلوة أخرى يعدونها من أثمار التوت الأحمر الذي يغلونه مع قليل من الدبس الذي يجلبون كميات كبيرة منه من جبال لبنان.

ومن المرطبات الأخرى لديهم نوع خاص يسمونه «شربت» يستخلصونه من الدبس ، وهو أشبه بالمزيج المخمر عندنا.

ولديهم شراب آخر يصنعونه من نقيع الشعير والحنطة وحين يتناوله الأتراك يصبحون ذوي رقة ونشوة إذ إن فعله فيهم أشبه بفعل الجعة التي يتناولها شباننا ، فهم يغنون ويرقصون على أصوات المزامير والطبول والأبواق التي يعزف عليها موسيقيوهم كل صباح عند انتشار الحراس.

وكل هذه المرطبات تباع بوفرة في أسواقهم الكبيرة تجد السلال مليئة بالثلج والجليد طيلة أيام الصيف ولذلك تراهم يضعون قطعا من هذا الثلج في المرطبات التي يبيعونها فتغدو باردة تصطك من شربها الأسنان.

أرى فيما ذكرته الكفاية عن الخمور والأشربة وأعود إلى الطعام فأقول ، إن الخبز الذي يتناولونه هنا جيد ومغذ وأبيض اللون ، لا سيما في مدينة حلب مما لا يوجد مثيل له في كل أنحاء تركيا ، ولذلك فهم يصنعون عدة أشكال من هذا الخبز يمزجون في البعض منه صفار البيض ، بينما يمزجون في البعض الآخر عدة حبوب كالسمسم والكزبرة والزعفران وغيرها.

واللحوم التي يتناولونها رخيصة ومن نوع جيد وذلك نتيجة للأعشاب الثمينة التي تنمو في بلادهم ولا سيما في جبال «طوروس» (١)

__________________

العرب باسم البراد.

(١) جبل طوروس Tauri الذي يمتد عبر الأناضول في امتداده إلى الأراضي السورية

١٠١

التي تمتد إلى أقصى ناحية في الشرق ، إذ إنهم يجلبون من هناك قطعانا كثيرة من المواشي كالخراف والنعاج ذات الأليات السمينة التي تزن الواحدة منها عدة باونات .. ولديهم إلى جانب ذلك عدد وفير من الماعز التي يسوقونها بأعداد كبيرة كل يوم عبر المدينة ويبيعون ألبانها الدافئة في عرض الشارع.

ومن هذه الماعز نوع صغير الحجم ذو أذان طويلة يبلغ طول الأذن الواحدة زهاء قدمين وإذا ما تحركت عاقتها أذناها عن الحركة.

ولا يعوز الأهلين أي من الحيوانات الأخرى. ويذبح الجزارون هذه الحيوانات خارج المدينة في مجازر خاصة ولذلك تكثر الكلاب عند هذه المجازر ، ويجلب القوم أعدادا كبيرة من صغارها يربونها فتكون مفترسة يطلقونها أثناء الليل للصيد ، كما قيل لي ذلك ، وهي تشبه الذئاب في بلادنا.

ولا يقدم الأتراك على قتل الكلاب بل إنهم على العكس من ذلك يحملون صغارها ويطعمونها ويربونها ، ويعتقدون أنهم بهذا العمل يقدمون حسنة مقبولة لدى الله العظيم مثل غيرهم من الطوائف الأخرى التي تعيش في الهند وتعرف باسم «البانيان» (١) التي تعنى بتربية الطيور مثل القطط والكلاب على حد سواء.

وكلاب الصيد هنا شبيهة بما لدينا في بلادنا منها من ناحية الشكل والضخامة ، ولذلك يقول «بليني» إن الذئاب في مصر أصغر حجما من الذئاب التي تعيش في الأنحاء الشمالية.

ونظرا لعدم وجود منازل للمسافرين على الطرق الخارجية فإن كل

__________________

واللبنانية وهو ما عرف لدى البلدانيين العرب باسم طور عابدين.

(١) طائفة البانياBanian من الطوائف الهندوكية في الهند مفرطة في التعصب لشعائرها الدينية.

١٠٢

مسافر يحمل معه أمتعته وزاده. ولذلك نجد عددا كبيرا من مختلف المخابز في الأسواق وكل أنواع المأكولات النظيفة من أمثال لحوم الأغنام والدجاج ، وأنواع الحساء والمرق وغيرها ، يستطيع المرء أن يشتري منها ما يشاء تبعا لطاقته المالية.

والطعام الشائع جدّا هنا هو الرز وهم يطبخونه إلى أن ينضج ويغدو لينا. وهناك أنواع من الأطعمة الجاهزة تراها في قدور من النحاس لدى أصحاب هذه الحوانيت.

وهناك نوع شائع جدّا بينهم يصنعونه من الحنطة والشعير ويطبخونه ، بعد جرشه بالمجرشة ، مع الحليب أو بدونه ، في وعاء سميك وهم يسمونه «بنهور» (١) ولكن «ديوسفريدس» (٢) أشار إليه في الفصل الثالث والثمانين من الجزء الثاني من كتابه باسم (كرمنون) (٣) بينما دعاه كل من «ابن سينا» و «الرازي» باسم (سويق) (٤).

ويحتفظ الأتراك بكميات مخزونة وفيرة من هذه المادة ، وعلى الأخص زمن الحرب وهم يجلبونه إلى بلادهم بطريق البر والبحر معا. ومتى احتاجوا إلى الطعام صنعوا منه بديلا عن الخبز.

ومن الأطعمة عندهم نوع يسمونه «ترشان» (٥) على ما أذكر ، وهذا

__________________

(١) بنهورBnuhourt.

(٢) ديوسقريدس Dioscoredes طبيب وعالم نبات يوناني شهير ولد في القرن الأول للميلاد في «عين زربة» بمدينة قليقلة الفلسطينية ولذلك لقبه العرب باسم «العين زربي» وضع عدة كتب في الأعشاب والعقاقير من أشهرها «مديكا متريا» عن الأعشاب ترجمه اصطفان بن باسيل تحت إشراف حنين بن إسحاق.

(٣) كرمنون Crimnon.

(٤) أورده المؤلف باسم اسنجق Sanguick وسويق Savik.

(٥) تراشان Trachan.

١٠٣

يصنعونه قويّا أشبه بالغراء حين تسحبه وهم يتركونه مدة إلى أن يجف ثم يقطعونه إلى قطع صغيرة ، ويغدو طعاما جيدا ولذيذا حين يطهى.

ويخزن الأتراك كميات كبيرة من هذا الطعام في حصونهم ، مثلما نفعل نحن ذلك بالنسبة إلى الذرة في بلادنا. فهم يتناولون هذه المادة عند الحاجة بدلا من الخبز أو أي طعام آخر.

وهذه الأطعمة التي يسميها اللاتينيون باسم «السليقة» كانت شائعة جدّا لدى القدماء الذين كانوا يتناولونها في أوقات الضرورة ، وقد أشار إليها «بليني» في الفصل الثامن من الجزء الثامن عشر من كتابه.

في هذه البلاد أصناف عديدة من الطيور منها الدجاج والبط والدراج والحجل والجهلول وغيرها. غير أن الأسماك قليلة عندهم إذ لا توجد لديهم سوى نهيرات صغيرة تكون مليئة بالسلاحف ، ولذلك فإن الأسماك جدّا نادرة في مدينة «حلب».

ولا يحب الأهلون أكل الأسماك لأنهم يتناولون بسببها كميات كبيرة من الماء ، بدلا من الخمر الذي تحرمه ديانتهم ، ولذلك فإن القليل من هذه الأسماك يتم الإتيان به إلى هنا من الأماكن الخارجية من أمثال «أنطاكية» ونهر الفرات الذي يبعد مسافة ميلين أو ثلاثة أميال من هنا.

ويعرض الأهلون للبيع كل أصناف الخضار كاللفت والجزر والفاصوليا وما شاكلها ، إلى جانب الثمار المجففة كالزبيب واللوز والبندق والفستق والجوز وغيرها.

ويتناول أهل هذه البلاد الشرقية طعامهم على الأرض. فحين يأزف وقت الطعام تفرش الأرض بقطع من الجلد تمد فوقها الأبسطة والمطارح ثم يجلسون عليهم وسيقانهم متقاطعة. وقبل أن يمدوا أيديهم لتناول الطعام يشكرون الله ثم يأكلون ويشربون بسرعة متناهية ، ويخفي كل واحد منهم ما يجول في ذهنه ، ولا يتحدثون على الطعام إلا قليلا. ويضع

١٠٤

الأغنياء ملايات من القطن والكتان حول أعناقهم تتدلى إلى تحت أو يعلقونها في أحزمتهم بدلا من المناديل.

ولا تتناول النساء الطعام مع الرجال بل يظللن قابعات في حجراتهن الخاصة بهن.

وحين ينتهي الرجال من تناول الطعام ينهضون سوية وبخفة لا يستطيع أبناء بلادنا تقليدهم فيها حتى لو مكثوا في هذه البلاد ردحا من الزمن ، ذلك لأن المفاصل تكون قد تخدرت بفعل تقاطع السيقان عند الجلوس بحيث تصعب إعادتها بيسر إلى حالتها السابقة.

وعندئذ تلف موائد الطعام بما بقي فيها من خبز وزاد وتلقى في إحدى الزوايا.

١٠٥
١٠٦

الفصل السابع

مغادرة حلب إلى مدينة (بير) الشهيرة

وسفري من هناك في نهر الفرات إلى بابل القديمة

بعد أن مكثت فترة لا بأس بها في «حلب» اطلعت عليها وعرفت التجارة والبضائع التي يتعاطى بها السكان هناك مع غيرهم من أفراد الأمم الأخرى كالإغريق ، والأرمن ، والكرج ، والعرب ، والفرس ، والهنود ، والتي يجلبونها ويصدرونها في قوافلهم يوميّا ، وبعد أن أحسنت الاطلاع على طرقهم وعاداتهم وفهمتها جيدا ، وجمعت رزمة من نباتات أجنبية غير معروفة قبلا ، استقر بي الرأي على المضي في السفر إلى بلاد الرافدين ، وآشور وبابل وغيرها (١) من الأقطار القديمة الخصبة حيثما وجدت ، والتي كانت تقطنها الشعوب القديمة والملوك الأشداء. أما تلك البلدان التي تقع بعيدا جدّا ، والتي يمر الطريق إليها عبر صحارى وقفار شاسعة فإن محاولة السفر إليها وتحقيق ذلك ، تكون أكثر مشقة وأشد خطرا. وعلى هذا فقد رحت أتطلع في الدرجة الأولى إلى رفيق سفر أثق به ليكون مساعدا لي. وإذ ذاك صادفت في الحال أحد الهولنديين ممن أمضوا فترة طويلة في حلب ، فاستجاب إلى طلبي (لأنه كان هو الآخر يرغب في هذه

__________________

(١) ذكر الرحالة «بلاد الرافدين» أو ما بين النهرين «ميسوبو تاميا» وأضاف إليها بلاد بابل وآشور ، علما بأن ميسوبو تاميا تشمل العراق بأكمله بما في ذلك بابل وآشور ، بالإضافة إلى أعالي دجلة وأعالي الفرات التي تقع ضمن الحدود التركية والسورية.

١٠٧

الرحلة بذات الإحساس الذي كنت أحس به) وأن يصحبني في ذلك. وهكذا اتفقنا على التو ، وحددنا الطريق المفضل الذي ينبغي لنا أن نسافر فيه.

ولما كنا أغرابا فليس من المستبعد أن يعتبرنا القوم (وهم كثيرو الشك) من المتشردين أو الجواسيس. وإذ ذاك سينتهزون الفرصة رأسا (مثلما اعتاد الأتراك أن يفعلوا ذلك) فيفرضون علينا إتاوات أو ضرائب فادحة وبالشكل الذي يتعرض له المسيحيون الذين يتعاملون مع هذه الأنحاء ، من خسائر وأضرار جسيمة.

وحين أخذنا ذلك بنظر الاعتبار وجدنا أن التجارة هنا واسعة جدّا فهي لا تنقل من هنا إلى أرمينيا ومصر واسطنبول حسب (حيث تنقلها القوافل من هناك عبر الأناضول في مدة شهر تقريبا) وإنما ترسل بنطاق واسع إلى فارس والهند. وعلى هذا رأينا أن من الأفضل لنا أن ندعي بأننا من التجار ، كيما نستطيع أن نسافر بأمان مع التجار الآخرين ، وأن نشتري بعض السلع التي تباع في تلك الأقطار ونحملها معنا إلى مسافات بعيدة.

وحين شرعنا ننفذ هذه الخطة عانى صديقي الذي أشرت إليه وهو «هانز اولرخ رافت» من مدينة «اولم» مشاق كثيرة في تزويدي ـ طبقا لرغبتي وطلبي ـ بطائفة من السلع التي تباع في تلك البلدان على حساب نصيري المستر «ملشيور مانليش» وإذ ذاك حزمتها لأذهب بها إلى مدينة «بغداد» (١) التي تقع على نهر دجلة والتي ترسل منها أصناف التجارة إلى فارس والهند.

ولما كان يندر وجود أي من التجار الذين يودون السفر من حلب إلى تلك الأقطار ، كما يندر وجود أي نوع من ملابسنا هناك ، فقد ارتدينا الملابس التركية (كيلا يظن بأننا من الغرباء) ، وقد بدأنا أول الأمر بارتداء

__________________

(١) كتبها المؤلف باسم بغدت Bagdet.

١٠٨

قباء طويل أزرق اللون مزرر من الأسفل ومفتوح عند الرقبة ، وهو لا يشبه النوع الذي يستعمله الأرمن ، وسراويل مصنوعة من القطن تنحدر إلى حد الكعبين ثم تلف وتربط حول أجسامنا ، وفوق ذلك قمصان من دون بنائق. واعتمرنا بعمائم بيضاء ذات شريط أسود من النوع الذي يستعمله المسيحيون عادة ، ثم انتعلنا أحذية صفراء صقيلة مدعمة بمسامير من الأمام وبهماز حصان من الخلف. وما خلا ذلك لبسنا نوعا من صدرية سوداء مصنوعة من نسيج خشن يسمونها في لغتهم باسم (مسكا) (١) وهي شائعة الاستعمال لدى المسلمين وهي تصنع من شعر الماعز أو الحمير عادة (٢) وتكون ضيقة نوعا ما وبلا أردان وقصيرة لا تصل إلى أسفل من حد الركبة. والأنسجة التي تصنع منها لا تكون متشابهة ولعل أحسن صنف منها (وهو مخطط بخطوط بيضاء وسوداء) يستعمل بمثابة رداء ، في حين يستعمل النوع الخشن منه في صنع الخيام والأكياس التي تنقل بها المؤن عبر الصحراء كما ينقل فيها علف إبلهم وبغالهم حيث يعلقونها في أعناقها.

وقد ذكرني هذا الملبس بالألبسة البسيطة التي اعتاد سكان هذه الأقطار أن يرتدوها (ولا سيما الإسرائيليون حين يبكون موتاهم ، أو حين يندمون على اقترافهم بعض الآثام ، أو الابتعاد عنها ، وعند ما يصلون لله ليغفر لهم خطاياهم المتراكمة) ، كما قرأنا ذلك في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر «الخليقة» حين راح «يعقوب» يندب وفاة ولده «يوسف» ، وكما هو الأمر أيضا في كتاب النبي «يونس» عن سكان (نينوى) الذين آمنوا بكلمات النبي التي أنذرتهم بالفناء في مدة أربعين

__________________

(١) Meska لعلها تشبه الكبنة التي تصنع من اللباد عادة ويكثر استعمالها بين القرويين في كردستان وبقية الأنحاء الشمالية من العراق.

(٢) المعروف أن شعر الحمير يكون قصيرا عادة لا سبيل إلى قصه وغزله ، ولعله أراد بذلك الخيول لا غيرها.

١٠٩

يوما. وأن يقلعوا عن ذنوبهم ، وأن يرتدوا المسموح ، ويصلوا لله ليعفوا عنهم.

ومثل هذا قرأنا أيضا في كتاب الملك والنبي «داود» بعد أن أحصى عدد أفراد شعبه. فقد وردت فقرة في الفصل العاشر من إنجيل «لوقا» وفي أماكن أخرى ، أنهم كانوا يلبسون المسوح ويفترشون الرماد.

بعد أن أعددنا أنفسنا على هذه الشاكلة للسفر ، وتزودنا بكل الأشياء الضرورية من سلع وملابس ومؤن من الخبز والشراب ، مكثنا ننتظر بعض الرفاق الذين قد يسافرون معنا ، بقينا ـ مع ذلك ـ مترددين فيما إذا كان من الملائم أكثر لنا أن نسافر برا مع القوافل التي كانت تنطلق من هنا ومن دمشق بكثرة إلى بغداد عبر رمال وصحاري واسعة في مدى خمسين يوما ، وقد تزيد أو تقصر ، تبعا للأحوال الجوية ، أو أن نسافر بطريق النهر في دجلة أو الفرات حين تحين فرصة السفر مع الآخرين.

لكن الشيء الذي حدث هو أن التقينا ببعض التجار من الأرمن الذين كانوا يسكنون في «حلب» والذين تزودوا بالسلع أيضا واعتزموا السفر إلى ذات الأقطار التي نقصدها ، وإذ ذاك اغتنمنا هذه الفرصة لأن هؤلاء كانوا من ناحية يعرفون اللغتين التركية والعربية وهما اللغتان السائدتان بصفة رئيسة في سوريا ، ومن ناحية ثانية لأن البعض منهم سبق له أن سافر أربع مرات إلى الهند ، وهكذا ضممنا بضائعنا إلى بضائعهم وأوسقنا بها عددا كبيرا من الإبل على أن تسلم إلينا في مدينة «بير» لنمخر من هناك نهر الفرات.

ولما كنا سوف نجتاز الممالك التركية فقد حصلنا على جواز مرور من الباشا والقاضي ، وهكذا بدأنا سفرتنا إلى «بير» التي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن حلب ، في اليوم الثالث عشر من شهر آب ١٥٧٤ م.

١١٠

كنا في الطريق غرباء أحدنا إلى الآخر. وكان من الصعب ، ونحن نرتدي الملابس الشائعة ، أن يميز الواحد منا الآخر في هذا الجمع من القوم.

وبعد أن سلكنا طريق وعرا في اليوم الأول من رحلتنا ، واجتزنا صحارى وأماكن عديدة خالية من السكان ، وصلنا عند المساء إلى قرية صغيرة توقفنا عندها ونصبنا خيامنا هناك وقد وضعنا أمتعتنا على شكل دائرة من حولنا ، ولم نضع معها دوابنا (كما جرت العادة ذلك عند وجود قافلة كبيرة) كيما نرد عنا هجمات الأعراب ليلا.

وبعد منتصف الليل بقليل سمعنا أصوات قافلة كبيرة مؤلفة من إبل وحمير ، تمر بنا وعلى مقربة جدّا منا ، ولذلك استيقظنا من النوم حين مرت بنا ، ورحنا نتعقبها في سيرنا.

وحين بان ضوء النهار شاهدنا حقولا محروثة أكثر عددا مما رأيناه في اليوم السابق ، كما شاهدنا هنا وهناك في كثير من الأماكن البهيجة خيام الأعراب وقد تلاصقت إلى بعضها البعض وبدت وكأنها معسكر ، وامتدت في شكل شوارع منتظمة.

وبعد أن واصلنا السير في مشقة ذلك الصباح وبان الكلل على دوابنا الموسقة بالأحمال من شدة الحر ، عمدنا إلى الاستراحة قليلا خلف معبد صغير لنريح أنفسنا ونطعم دوابنا.

وفي الوقت ذاته انحدرت إلينا بعض النساء الفقيرات من ربوة ، ليجمعن روث الإبل بغية استعماله وقودا بدلا من الحطب الذي كن في أمس الحاجة إليه.

وحين ولت شدة الحر ، وكنا قد مكثنا هناك مدة ساعتين ، واصلنا السير ثانية فبلغنا ، قبل حلول الظلام قرية صغيرة تقع في أحد الأودية أقام الأعراب على أرض مرتفعة قريبة منه ، مخيما كبيرا لهم. وقد صعدنا إلى

١١١

ذلك المرتفع ونصبنا خيامنا في أرض مستوية قريبة من مخيم الأعراب ، وبقينا في حراسة ومراقبة دقيقة ، وسرعان ما أقبلوا علينا وتحدثوا إلينا برقة ، كما جلبت نساؤهم لنا الماء واللبن الجيد.

ولما كنا قد رأينا القوم عراة جياعا وهيئاتهم أشبه بهيئات الغجر ، فقد أبينا أن نضع ثقتنا فيهم ، وظللنا نراقبهم مراقبة جيدة طول الليل.

لقد كان هؤلاء من الأقوام الرحل ، أي أنهم اعتادوا حياة البطالة والكسل منذ الصغر. وهم يحتملون الجوع والحر والبرد أكثر من أن يحصلوا على شيء ما من أعمالهم اليدوية ، أو يزرعوا الحقول ، أو ينشئوا البساتين لإدامة حياتهم ، وإن كانوا قد يفعلون ذلك في بعض الأماكن الخصبة التي تقع تحت تصرفهم ، ولذلك فأنت تجد هنا عددا كبيرا منهم يعيش في أطراف هذه الصحارى الرملية التي لا يعيش فيها إنسان ، لكنهم يعيشون في خيامهم أشبه بمعيشة الحيوانات في الكهوف أو يتنقلون بكل حرية ، مثل الغجر ، من مكان إلى آخر إلى أن يستقروا في أحد هذه الأماكن فيستمرئوا العيش فيه مع مواشيهم لفترة طويلة ، حتى إذا أتوا على كل ما هو موجود من طعام دفعتهم الحاجة إلى الارتحال من هنا بحثا عن مكان آخر (١).

وفي الخامس عشر من الشهر وقبل أن يطلع ضوء النهار ، نهضنا في صباح بارد ونحن نعتزم أن نبلغ مدينة «بير» عند المساء. غير أن دوابنا كانت جد متعبة بسبب شدة الحر وثقل الأحمال التي كانت تحملها إلى

__________________

(١) كان الأعراب أو البدو وما زالوا حتى الآن يتنقلون في الأراضي التي يكثر الكلأ فيها أيام الربيع ومن ثم يغادرونها إلى مواقع أخرى أيام الصيف ، حيث تقتصر مهنتهم على رعي الأغنام والإبل.

ولكن يبدو من الوصف الذي ذكره المؤلف أن القوم الذين شاهدهم في هذه المنطقة هم من جماعات الغجر (الكاولية) على أكثر احتمال.

١١٢

درجة أنها كانت تسقط من شدة الإعياء عدة مرات ، في الوقت الذي كنا نبحث فيه عن مكان ملائم نمضي الليل فيه ، إلى أن اهتدينا أخيرا إلى قرية نصبنا خيامنا على مقربة منها حيث تناولنا بعض الخبز واليقطين وأخلدنا بعدها إلى الراحة.

وقبل أن يطلع النهار بساعتين استأنفنا مسيرتنا مرة أخرى فوصلنا في الصباح الباكر إلى نهر كبير يدعى «الفرات» عبرناه بما كان معنا من سلع ومتاع ، ثم ضربنا خيامنا أمام المدينة ، وعلى مقربة من النهر في الجانب الآخر منه ، وذلك انتظارا لسفينة قادمة من أرمينية في طريقها من هناك إلى «بابل» التي تدعى الآن «فلوجة» (١).

لم أر هنا أية نباتات تستحق الاهتمام سوى الخلنجان الذي يسمى عندنا في هولندا باسم «السذاب» (٢) وهو ينمو بكثرة في الوديان الجافة. كما شاهدنا على مقربة من الطريق أول نوع من شجرة نسميها نحن «سم الكلب» (٣) وهي بأوراقها وعذوقها تشبه شجرة «الخالندين» (٤) شبها كبيرا. كما شاهدنا مساحات شاسعة من الأراضي مزروعة بنوع من القمح التركي ندعوه «جلجلان» (٥) بالإضافة إلى مساحات أخرى زرعت بالقطن

__________________

(١) وقع راوولف وغيره من الرحالين القدامى في خطأ فاحش بالنسبة إلى تحديد موقع مدينة بابل وغيرها من المدن العراقية القديمة ، ولا سيما بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يفدون إلى العراق من سوريا. فقد خيل إلى راوولف أن مدينة الفلوجة هي مدينة بابل نظرا لوقوعها على نهر الفرات وطراز بنائها القديم. ولقد تورط الرحالة الإنكليزي جمس بكنغهام (١٧٨٦ ـ ١٨٥٥ م) فوقع في ذات الخطأ اعتمادا على راوولف.

(٢) الخلنجان Galega والسذاب Goat Rue من النباتات الطبية.

(٣) سم الكلب أو قاتل الكلب Apocynom.

(٤) الخالندين Chelandine نبات طبي.

(٥) ليس الجلجلان Sesamo من أنواع القمح ، كما ذكر ذلك الرحالة خطأ ، إنما هو بذر الكتان.

١١٣

وبأشجار «الأيسولا» (١) المليئة بالحليب وهذه تغطي مساحات واسعة من الأراضي الخالية التي يمكن زرعها بالقمح.

ولقد وجدنا هنا نبة «السقمونيا» (٢) التي يؤتى بها إلى حلب ، والتي يمكن مزجها مع حبات الأيسولا. وعلى مقربة من المدينة كانت أشجار الأكاسيا (٣) تنمو بكميات وفيرة ، وهم يسمونه هنا باسم «الشوك» والشاموك وثماره أكبر حجما وأكثر وفرة مما رأيت من أمثاله في أي مكان آخر.

تقع مدينة «بير» على الجانب الآخر من نهر الفرات الكبير ضمن أراضي ما بين الرافدين (٤) وعلى مقربة من جبال طوروس مثلما تقع طرابلس قرب جبل لبنان ، أو تقع مدينتنا «لوزان» (٥) على مقربة من جبال الألب.

والمدينة ليست كبيرة ولا محصنة ، ولكن يمكن الدفاع عنها جيدا بالقلعة التي تستقر على صخرة عالية تقع على حافة النهر ولا يمكن الاستيلاء عليها بيسر.

ويحيط بالمدينة ريف جميل جدّا ، فائق الخصب (ذلك لأن هذا الجانب من النهر يتألف بصفة رئيسة من أرض سهلية) وكان القوم قد

__________________

(١) الأيسولاEsula نبات بري يحمل بذورا سمراء اللون بحجم حبة العدس فيها مادة حليبية تعرف عندنا في العراق باسم «الزريقة» ـ بتشديد الراء ـ يجمعها الأعراب ويحمصونها ثم يأكلونها.

(٢) السقمونياScammony هي شجرة اللبلاب التي يستخرج الصمغ من جذورها.

(٣) الأكاسياAccasia نوع من الأشجار العطرة وتعرف لدى العرب باسم السنط.

(٤) يقصد الرحالة بالجانب الآخر من نهر الفرات ضفته الشرقية فكأنه يعتبر نهر الفرات حدا فاصلا بين سوريا والعراق.

(٥) لوزان من المدن الشهيرة في سويسرا تقع على بحيرة جنيف وفيها العديد من المصانع الشهيرة والمعاهد العلمية الفخمة.

١١٤

أتموا دراسة القمح حين وصولنا إلى هناك ، وأخذوا يضعونه في عربات تجرها الثيران. وقد تناثرت هنا وهناك قرى حسنة المنظر ، لكن المنطقة التي تأتي بعد النهر كانت مرتفعة وهي من نوع الأراضي التي تمتد مسافات طويلة إلى الشرق ، وتفصل أرمينية عن بلاد ما بين النهرين. ولم نر في بقعة مرتفعة جرداء سوى بعض الشجيرات والأدغال ، وعددا كبير من الحيوانات ، ولا سيما الخراف والماعز ، وهذه يؤتى بها كل يوم لتنقل من هناك عبر نهر الفرات ثم يدفع بها إلى حلب والأماكن القريبة الأخرى.

ويبلغ عرض النهر في المكان الذي يجري فيه عند المدينة حوالي ميل ، وهو عميق الغور وليس من اليسير إقامة جسر فوقه. ومع ذلك ، ولأنه لا يجري سريعا في ذلك المكان ، فلا يوجد أي خطر من الملاحة فيه إلا عندما يصبح عريضا جدّا (كما يحدث ذلك أيام الفيضان حين يجري وسط الصحاري الكبرى) ، أو حين يتفرع إلى فروع عديدة ، ففي مثل هذه الأحوال لا يعرف الملاحون الماء الأفضل الذي ينبغي لهم أن يسيروا فيه ، في الوقت الذي يخيل فيه إلى التجار أن في مقدورهم أن يصلوا بتجارتهم إلى «بغداد» (١) بأسرع وقت وبأقل أذى. فهؤلاء التجار يحملون تجارتهم برا إلى «أورفه» (٢) وإلى مدينة «قره آمد» الشهيرة التي تقع على مسيرة ستة أيام إلى الشرق عند حدود آشور وماذي (٣).

__________________

(١) أطلق راوولف على بغداد اسم بغدت Bagdet وهو اسم يذكره قدامى الرحالين والمؤرخين من الأوروبيين كما سماها بعضهم باسم بلداك وبلداشي Baldachi ومن هؤلاء الرحالة البندقي الشهير ماركوبولو.

(٢) أورفه هي مدينة «أرهوي» القديمة وعرفت لدى اليونان باسم اذسا. وقد سماها العرب باسم (الرها) وتقع الآن داخل الأراضي التركية والنسبة إليها (أورفه لي).

(٣) قره آمدCarahamit هي مدينة ديار بكر واسمها القديم (آمد) وقد استوطنتها قبائل بكر العربية وأقامت منازلها فيها منذ القرن الخامس للميلاد.

١١٥

وتقع بغداد على نهر دجلة السريع الجريان وهي تعد مستودعا كبيرا للسلع التي ترسل منها إلى «هرمز» (١) والهند. ومياه نهر الفرات عكر دوما ولذلك تكون في الغالب غير ملائمة للشرب ، إلا بعد أن يظل الماء ساكنا مدة ساعتين أو ثلاث ، ويترسب الرمل والوحل منه في القعر فيكون سمك هذا الراسب زهاء البوصة أحيانا. وعلى هذا نجد السكان في الدور التي لا آبار فيها في المدن والقرى الممتدة على ضفاف النهر ، يستعملون أوعية كبيرة يملأونها بماء من النهر ثم يدعونها ساكنة إلى أن يروق ماؤها. أما إذا أرادوا أحيانا شرب الماء قبل أن يروق فإنهم يشربونه بمناديلهم.

جلب لنا الأهلون ، خلال مكوثنا في المدينة ، عدة أنواع من السمك اصطادوه من النهر بقصد البيع. وكان من بينها نوع يعرف باسم «الجري» وهو في شكله وحجمه يشبه النوع المعروف باسم «الشبوط» لكن بطنه أكبر وأوسع وأقل سمكا وكانت الواحدة من هذه الأسماك تزن أحيانا ثلاثة أرطال ، أو ما يعادل سبعة عشر أو ثمانية عشر باوندا.

وهذه الأسماك لذيذة الطعم جدّا وزهيدة الثمن إلى درجة أننا استطعنا أن نشتري واحدة منها بمبلغ «معدني» (٢) واحد وهو يعادل في عملتنا ثلاثة بني (٣).

وحين أراد ملاحو قاربنا اصطياد السمك شرعوا يرمون في النهر

__________________

(١) هرمزOrmutz جزيرة ومضيق هرمز في الخليج العربي وكانت كل السفن التي تمخر الخليج تمر بهرمز وتتزود منها بالوقود والمؤن (انظر : سليم طه التكريتي «الصراع على الخليج العربي» ط. ١٩٦٦).

(٢) «المعدني» نقد كان شائع الاستعمال في الامبراطورية العثمانية في تلك العهود وقد كتبه راوولف باسم (معيدن (Medin.

(٣) يقصد بكلمة عملتنا العملة الهولندية لكن المترجم الانكليزي حولها رأسا إلى العملة الإنكليزية (بني).

١١٦

بحبات ممزوجة بمادة (الكوكولوس) (١) وهو ثمر يسمونه (دم السمك) فبعد أن يطفو السمك على سطح الماء تماما يقفز الملاحون من القارب ويمسكون بأعداد منه.

كذلك شاهدت نوعا مميزا من النسور أليفا إلى درجة أنه لا يحتشد فوق البيوت حسب بل ويقبع في الشارع أيضا أمام الناس من دون خوف ، وهو رمادي اللون بالنسبة إلى الأنواع الموجودة عندنا. وهناك نوع آخر من هذه الطيور أكبر حجما وأخف لونا من الأخرى ذات طرر سوداء في أواخر أجنحتها تشبه اللقالق المعروفة في بلادنا ، وهذه تأكل اللحوم والجيف وتكون في بعض الأحيان أشد شراسة.

والثابت أن هذه الطيور من النوع الذي أطلق عليه الرازي (٢) اسم دجاج الوادي (٣) ودعاه «ابن سينا» باسم «الرخم» (٤).

أثناء مكوثنا بعث السلطان بأحد الباشوات ومعه بضع مئات من الفرسان المسلحين تسليحا جيدا لشن الحرب ضد الدروز (٥) ليستطيع

__________________

(١) الكوكولوس Cocculos هو المادة المعروفة عندنا في العراق باسم «الزهر» وهو ثمر مثل حبة الفلفل أسمر اللون لشجيرة برية يحتوي على مادة سامة يستعملها صياد والسمك وذلك بأن تسحق وتخلط بالعجين أو غيرها ثم يقذف بها في عرض النهر.

فإذا ما تناولتها السمكة تسممت بها فطفت على سطح الماء.

(٢) أبو بكر محمد بن زكريا الرازي وقد عرف لدى الغربيين باسم Rhazis من أعاظم الأطباء المسلمين وقد طبعت معظم مؤلفاته ولا سيما كتابه (الحاوي) وترجمت إلى اللغات الأوروبية وظلت تدرس ، مع مؤلفات ابن سينا ، في الجامعات الأوروبية حتى القرن الثامن عشر.

(٣) يعرف باسم الغرغر أو الدجاج الأسود.

(٤) الرخم من الطيور الكبيرة الحجم وتوجد بكثرة في العراق.

(٥) الدروز دعاهم المؤلف باسم Truscis وأورد عنهم فصلا خاصّا في رحلته هذه وتحدث عن ثوراتهم ضد السلطنة العثمانية وعن أحوالهم وعاداتهم.

١١٧

بذلك حماية حدود سوريا وبلاد الرافدين وأرمينيا وغيرها من الهجمات التي يشنها هؤلاء ، ولنشر الأمن في تلك الربوع.

وكان الدروز يسكنون جبال لبنان ، وقد تزايد عددهم فأصبح في مقدورهم أن يقذفوا بستين ألف نفر إلى ميدان القتال ، (ومعظمهم من حملة البنادق المجربين). فإذا ما وقع حادث استطاعوا أن يأتوا بأولئك الجند دفعة واحدة في وقت قصير.

ولقد رأى السيد الأعظم (١) أن عددهم يتزايد يوما بعد آخر ولذلك خشي من أن يصبحوا في وقت من الأوقات جدّا أقوياء بالنسبة إليه ، ولكي يحول دون ذلك (كما سارت الأحاديث بها فيما بعد) ويخضعهم لإمرته ، فقد اتصل ببعض الباشوات والألوية (٢) ، بصفة رئيسة بباشا دمشق ، وطلب إليهم أن يجهزوا جيشا كبيرا ويطبقوا به عليهم. أما كيف استطاع السيد أن يضربهم وكيف انقض عليهم فذلك ما سأسرده بالتفصيل بعد عودتي لأنني لم أسمع في هذا الوقت وفي أسفاري الشيء الكثير عن هذا الحادث (٣).

كان الجند الذين جاؤوا مع الباشا ، ولكيلا يظلوا خاملين ، يتمرنون على إطلاق السهام ، أو المبارزة بالسيوف أو النبابيت. وكان أبناء البلاد ، في بعض الأحيان ، يشتركون معهم في ألعابهم تلك ولكن ليس بأنواع كثيرة من الأسلحة التي يستعملها المتبارون في بلادنا ، أي الخناجر والسيوف والرماح ، لأن هذه الأسلحة ليست على تلك الشاكلة في هذه البلاد. فهم يستعملون بدلا منها ، النبابيت أو الهراوات ، إذ يقترب

__________________

(١) السيد الأعظم لقب أطلقه الأوروبيون على السلطان العثماني.

(٢) جمع لواء أي الراية أو العلم. ويعرف في التركية باسم «سنجق» ويرمز به إلى إحدى وحدات الجيش.

(٣) لم يتحدث راوولف في رحلته عن هذا الحادث كما وعد بذلك قبلا.

١١٨

الواحد من الآخر ثلاث مرات ولكن من دون مباهاة وتفاخر كما يفعل ذلك المتبارون عندنا قبل أن يبدأوا المبارزة ، إذ إن ملابسهم الطويلة تعوقهم عن ذلك. وتراهم يحملون في اليد اليسرى ترسا يبلغ قطره حوالي قدم واحد يكون مغلفا بالجلد ومخيطا بخيوط الشعر وفي اليد اليمنى يحملون الهراوات وإذ ذاك يوجه الواحد منهم ضرباته في أول جولة ، كما يفعل ذلك الصبيان في بلادنا. أما في الجولتين الثانية والثالثة فهم يتقارعون بالهراوات وعلى الأخص في الجولة الثالثة التي تعد الجولة الأخيرة ، إذ يرمون تروسهم بمهارة وقد يضرب الواحد منهم سيقان الآخر أحيانا ولكن دون أن يؤذيه. فإذا ما وقع تراجعوا إلى الوراء وانصرفوا. فهذا النوع من المبارزة كثير الشيوع في هذه البلاد (١).

بعد أن مكثنا فترة طويلة وصلت عدة سفن قادمة من أعالي نهر الفرات وكانت من بينها السفينة التي مكثنا طيلة هذه المدة في انتظار وصولها إلينا.

بدأ ربان سفينتنا يوسقها بالحمولة ويعد العدة كيما نبرح ذلك المكان. وفعلت ذلك نفسه سفينتان أخريان كانتا تستعدان للإقلاع سوية معنا ، وكانت أحدهما تعود إلى الأتراك وهي موسقة بالقمح وحده تنقله إلى بغداد لندرته هناك بسبب شدة الحر وانحباس المطر.

ولقد ابتعنا عدة أنواع من الفاكهة من أمثال الزبيب والعنب والثوم والبصل وغيره ، كما حملنا معنا شيئا من الذرة لأنها نافعة في الأسفار إذ تصلح لمزجها مع دقيق الرز وصنع السجق منها أو لعمل الخبز ، كذلك

__________________

(١) هذه اللعبة التي وصفها راوولف بالمبارزة هي المعروفة عندنا في العراق باسم لعبة الساس أو لعبة السيف و «الدرگة» بالكاف المعجمة ، وتمارس في أيام الأعياد وحفلات الأعراس.

١١٩

حملنا معنا شيئا من العسل والمواد الأخرى التي نستفيد منها في السفينة. ذلك لأنه كان علينا أن نقطع بواسطة النهر طريقا طويلة عبر الصحارى والأماكن العديدة غير المأهولة مما لا يمكن الحصول فيها على الطعام ، إذ لا توجد فنادق على امتداد هذا النهر كما هو الأمر بالنسبة لنهري «الراين» و «الدانوب» اللذين تكثر فيهما مثل هذه الأماكن التي يتوفر فيها الطعام للمسافرين.

ولما كان ينبغي لنا أن نزود أنفسنا ببعض الأطعمة الساخنة أحيانا فقد تزودنا بعدة أدوات للطبخ (كما هو المعتاد في مثل هذه الحالات) لطهي اللحم فيها.

كان ربان سفينتنا ما زال في حاجة إلى المزيد من المسافرين والبضائع التي ثقلها سفينته ، ولذلك أرغمنا على المكوث فترة أطول انتظارا لتجار آخرين جاؤوا إلينا بعد وقت قصير من حلب (وكان بينهم بعض الأرمن والبعض الآخر من الفرس ، وآخرون من بغداد والبصرة (١) كذلك ركب مع هؤلاء في ذات السفينة أربعة جنود من الأتراك أرسلوا إلى بغداد لتعزيز الحدود مع فارس. كذلك نقل ربان السفينة بعض اليهود وهم أسوأ من اليهود في بلادنا وطلب إلينا أن نعنى بهم. وفضلا عن ذلك أجبرنا على أن ننقل معنا بعض الدراويش الذين تمرسوا على الاستجداء وأصبحوا يعتمدون عليه في معيشتهم (٢) فتراهم يطالبونك أن تتصدق عليهم بشيء ما لوجه الله ومع ذلك فإذا ما تهيأت لهم أية فرصة انقضوا

__________________

(١) ذكرها راوولف باسم بلصراBalsra كما يسميها أوروبيون غيره باسم بصورةBasura.

(٢) كثيرا ما يخيل إلى الأجانب أن طائفة الدراويش هم من رجال الدين كما سماهم المؤلف بذلك هنا. والحقيقة أن هؤلاء فئات من الناس لا علاقة لها بالدين بل قد لا تعرف من أحكامه شيئا وإنما اعتادت حياة التشرد والاستجداء والتنقل من مكان إلى آخر.

١٢٠