رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٢

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٢

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-090-0
الصفحات: ٤١٠

رواه بطريق آخر « تصلح » (١) بدون لا ، وهو صريح في الجواز.

وهنا روايتان لم أجد عاملا بهما ، مع ضعف إحداهما بالجهالة ، والأخرى بالإرسال ، ففي الأولى : عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة ولم يمكنه الخروج منها : « استلقى على قفاه ويصلّي إيماء » (٢) الحديث.

وفي الثانية : « يصلّي إلى أربع جوانبها إذا اضطر إلى ذلك » (٣).

قال في الذكرى بعد نقل هذه : هذا إشارة إلى أن القبلة إنما هي جميع الكعبة ، فإذا صلّى في الأربع فكأنه استقبل جميع الكعبة (٤). وهو حسن.

وفيها بل وفي الأولى أيضا ـ كالرواية الآتية (٥) ـ تأييد لما قدّمناه من أن القبلة هي مجموع قطر الكعبة يجب استقباله ولو بعضا حيث كان خارجها. لكن ضعف سندهما ومعارضتهما بعضا مع بعض يمنع عن العمل بهما ، وإن تؤيدا بالصحيحين الناهيين ، لما عرفت من مرجوحيتهما بالإضافة إلى الموثقة المعتضدة بالشهرة ، وحكاية الإجماع المتقدمة ، لكنّها معارضة بنقل الشيخ في الخلاف الإجماع على المنع (٦).

والشهرة المرجّحة معارضة باحتمال التقية ، الموجب للمرجوحيّة.

والموثقة لا تعارض الصحيحين من وجوه عديدة ، وإن كانت صريحة.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٨٣ / ١٥٩٧ ، والموجود فيه « لا تصلح » أيضا ، نعم نقله بدون « لا » في الوسائل ٤ : ٣٣٧ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٥ ، وقال في ذيله : لفظة « لا » هنا غير موجودة في النسخة التي قوبلت بخطّ الشيخ ، وهي موجودة في بعض النسخ.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٥٣ / ١٥٨٣ ، الوسائل ٤ : ٣٣٨ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٧ بتفاوت فيهما.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩١ / ١٨ ، الوسائل ٤ : ٣٣٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٢.

(٤) الذكرى : ١٥١.

(٥) في ص : ٢٥٧.

(٦) الخلاف ١ : ٤٣٩.

٢٦١

والاحتياط اللازم المراعاة في العبادة التوقيفية يقتضي المنع عن فعل الفريضة جوف الكعبة إلّا مع الضرورة المسوّغة له. ولكن الأقرب الجواز مع الكراهة بلا شبهة.

(ولو صلّى على سطحها) صلّى قائما و (أبرز بين يديه شيئا منها ولو (١) قليلا) ليكون توجّهه إليه ، ويراعي ذلك في جميع أحواله حتى الركوع والسجود ، فلو خرج بعض بدنه عنها أو ساواها في بعض الحالات كما لو حاذى رأسه نهايتها حال السجود بطلت صلاته.

هذا هو المشهور بين المتأخّرين ، بل عليه عامّتهم ، على الظاهر ، المصرّح به في التنقيح وغيره (٢) ، وفاقا منهم للحلي والمبسوط (٣) ، ولكن عبارته قاصرة عن إفادة الوجوب ، لتعبيره عن الأمر بالصلاة قائما بجوازها الذي هو أعم منه ، وإن أرجعه الماتن إليه ، قال : لأن جواز الصلاة قائما يستلزم الوجوب ، لأن القيام شرط مع الإمكان (٤).

وهو حسن لو كان بناء الشيخ على ما ذكروه من حصول الاستقبال باستقبال المبرز من الكعبة وأمّا على ما قدّمناه ـ وهو خيرته في المسألة السابقة ـ من أنّ القبلة إنّما هي مجموع قطر الكعبة ولو بعضا ممّا يحاذيه المصلّي فلا يستلزم الجواز الوجوب ، لاحتمال كون المراد منه مطلق الرخصة. ووجهه دوران الأمر بين فوات الاستقبال لو صلّى قائما ، أو القيام ونحوه من الواجبات‌

__________________

(١) في المختصر المطبوع زيادة : كان.

(٢) لم نعثر في التنقيح على التصريح بذهاب عامّة المتأخرين إلى ذلك. انظر التنقيح ١ : ١٧٤.

نعم ، نقله في مفتاح الكرامة ٢ : ٨٢ عن غاية المرام ، وادّعى في روض الجنان : ٢٠٣ الشهرة بل الإجماع على ذلك.

(٣) الحلي في السرائر ١ : ٢٧١ ، المبسوط ١ : ٨٥.

(٤) المعتبر ٢ : ٦٨.

٢٦٢

لو صلّى مستلقيا موميا ، وحيث لا ترجيح فلم يبق إلّا التخيير ، كذا قيل (١).

وفيه نظر ، لفوات الاستقبال المأمور به في الكتاب والسنة على التقديرين. ومع ذلك فترجيح الصلاة قائما أظهر ، لعدم فوات شي‌ء من الواجبات معه عدا الاستقبال. ولا كذلك الصلاة مستلقيا ، لفوات القيام والركوع والسجود ورفع الرأس منهما معها ، فيكون الأول بالترجيح أولى.

ومن هنا ظهر مستند الأكثر في تعيين الصلاة قائما ، وهو الأقوى.

ويتعيّن الإبراز ، أمّا على ما اختاروه في القبلة وأنه ما حاذى المصلّي من أبعاضها مطلقا فظاهر.

وأمّا على ما ذكرناه ، فللاحتياط اللازم المراعاة ، مضافا إلى الإجماع من كل من جوّز الصلاة قائما.

والفرق بين المختار وما اختاروه إنّما هو أصل جواز الصلاة عليها اختيارا ، فيأتي على مختارهم ولا على المختار إلّا مع الاضطرار. وحكي التصريح بعدم الجواز هنا إلا مع الاضطرار عن المهذّب والجامع (٢).

(وقيل) والقائل الشيخ في النهاية والخلاف (٣) ، مدّعيا فيه الإجماع ، والقاضي وغيرهما (٤) : إنه لو صلّى فوقها وجب عليه أن (يستلقي ويصلّي موميا إلى البيت المعمور) للخبر (٥).

وفيه ضعف سندا ومقاومة ، كالإجماع ، للأدلة الدالّة على لزوم الأفعال‌

__________________

(١) انظر كشف اللثام ١ : ١٧٢.

(٢) المهذّب ١ : ٨٥ ، الجامع للشرائع : ٦٤.

(٣) النهاية : ١٠١ ، الخلاف ١ : ٤٤١.

(٤) القاضي في المهذّب ١ : ٨٥ ، جواهر الفقه : ٢٠ واختاره الصدوق في الفقيه ١ : ١٧٨.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩٢ / ٢١ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٦ ، الوسائل ٤ : ٣٤٠ أبواب القبلة ب ١٩ ح ٢.

٢٦٣

الواجبة من القيام والركوع وغيرهما ، المعتضدة من أصلها بالإجماع ، وفي خصوص المسألة بالشهرة العظيمة المتأخّرة التي كادت تكون إجماعا ، بل لعلّها إجماع في الحقيقة ، كما صرّح به في روض الجنان (١).

(و) اعلم أنه ذكر جماعة من الأصحاب (٢) أنه يجب أن يكون (توجه أهل كلّ إقليم إلى سمت الركن الذي يليهم ، فأهل المشرق) ـ وهم أهل العراق ومن والاهم وكان في جهتهم إلى أقصى المشرق وجنبيه مما بينه وبين الشمال والجنوب ـ إلى الركن الذي يليهم ، وهو الركن العراقي الذي فيه الحجر الأسود ، وأهل المغرب إلى الغربي ، وأهل الشام إلى الشامي ، وأهل اليمن إلى اليمني.

وهذا لا يلائم شيئا من القولين المتقدمين في قبلة النائي : أنها جهة الكعبة أو الحرم ، فإنهما أوسع من ذلك ، فلا يتم الحكم بوجوب التوجّه إلى سمت الركن نفسه ، إلّا أن يراد بسمت الركن سمت الكعبة. ولا بأس به ، إلّا أنه لا فائدة لذكره هنا بعد معلوميته سابقا ، لكنّهم أعرف بما قالوه.

ومع ذلك فالتعبير بسمت الركن أولى من التعبير بالركن ، كما اتفق في القواعد (٣) ، لإيهامه وجوب التوجّه إلى عينه لا سمته.

ولذا قال المحقق الثاني : والمراد بالإقليم هنا الجهة والناحية ، ويتوجّه أهل كلّ إقليم إلى ركنهم توجّههم إلى جهة الركن الذي يليهم ، لأنّ البعيد لما كان قبلته الجهة ـ وكونها أوسع من الكعبة بمراتب أمر معلوم ـ فلا بد أن يراد بتوجّههم إلى الركن توجّههم إلى جهته. أو يراد أن حق توجّههم الصحيح في‌

__________________

(١) روض الجنان : ٢٠٣.

(٢) منهم المفيد في المقنعة : ٩٦ ، والديلمي في المراسم : ٦٠ ، والمحقق في المعتبر ٢ : ٦٩.

(٣) القواعد ١ : ٢٦.

٢٦٤

الواقع الذي ليس فيه ميل أصلا ولا انحراف : أن يكون إلى الركن الذي يليهم ، وإن اكتفى منهم بالتوجه إلى الجهة ، لأن البعد يمنع عن العلم بذلك.

انتهى (١).

وهو حسن ، إلّا أنّ قوله في التوجيه الأخير : حق توجّههم الصحيح ..

غير مفهوم للعبد ، لأنّ التوجّه الصحيح بالنسبة إلى القريب إنّما هو إلى نفس الكعبة وأيّ قطر منها يحاذي المصلّي ولو كان ركنا مخالفا لركنه ، كما إذا توجّه إلى الركن اليمني وهو عراقي مثلا ، فإنه صحيح ، وبالنسبة إلى البعيد جهتها ، وهي أوسع من الركن ، كما مضى ، فحصره التوجّه الصحيح فيما ذكره غير مستقيم على التقديرين ، ولا أعرف وجهه ، وهو أعرف بما حرّره.

وكيف كان فقد ذكر الأصحاب لأهل الأركان علامات :

فلأهل الشام جعل الجدي (٢) خلف الكتف اليسرى ، وسهيل عند طلوعه بين العينين ، وعند غروبه على العين اليمنى ، وبنات النعش عند غيبوبتها خلف الاذن اليمنى.

ولأهل اليمن جعل الجدي بين العينين ، وسهيل عند غيبوبته بين الكتفين.

ولأهل المغرب جعل الجدي على الخدّ الأيسر ، والثريّا والعيّوق على اليمين واليسار.

ولأهل السند والهند جعل الجدي إلى الاذن اليمنى ، وسهيل عند طلوعه خلف الاذن اليسرى ، وبنات النعش عند طلوعها على الخدّ الأيمن ، والثريّا عند غيبوبتها على العين اليسرى.

__________________

(١) راجع جامع المقاصد ٢ : ٥٣.

(٢) قال في المغرب ١ : ٧٧ : الجدي : العاشرة من البروج ، ويقال لكوكب القبلة جدي الفرقد .. والمنجمون يسمّونه الجدي على لفظ التصغير فرقا بينه وبين البرج.

٢٦٥

ولأهل البصرة وفارس جعل الجدي على الخدّ الأيمن ، والشولة إذا نزلت للمغيب بين العينين ، والنسر الطائر عند طلوعه بين الكتفين.

ولأهل المشرق ما أشار إليه بقوله (يجعلون المشرق إلى المنكب) وهو مجمع العضد والكتف (الأيسر ، والمغرب إلى الأيمن) هذه علامة (و) اخرى أن يجعلوا (الجدي) وهو نجم مضي‌ء في جملة أنجم بصورة سمكة يقرب من القطب الشمالي ، الجدي رأسها والفرقدان ذنبها (خلف المنكب الأيمن ، و) ثالثة أن يجعلوا (الشمس عند الزوال محاذية لطرف الحاجب الأيمن مما يلي الأنف) ورابعة ذكرها بعضهم (١) ، وهي : جعل القمر ليلة السابع من كل شهر عند غروب الشمس بين العينين ، وكذا ليلة إحدى وعشرين عند طلوع الفجر.

ومستندهم في هذه العلامات قوانين الهيئة ، فإنّها مفيدة للظن الغالب بالعين ، والقطع بالجهة ، كما ذكره جماعة (٢). وإلّا فلم يرد بشي‌ء منها نص ولا رواية ، عدا العلامة الثانية لأهل العراق ، فقد ورد بها نصوص ، منها الموثق : « عن القبلة ، فقال : ضع الجدي في قفاك وصلّ » (٣).

ومنها المرسل : أكون في السفر ولا أهتدي إلى الكعبة بالليل ، فقال : « أتعرف الكوكب الذي يقال لها جدي؟ » قلت : نعم ، قال : « اجعله علي يمينك ، وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك » (٤).

ومنها المروي عن تفسير العياشي في تفسير (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٥)

__________________

(١) كالشيخ البهائي في الحبل المتين : ١٩٢.

(٢) منهم الشهيد في الذكرى : ١٦٢ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ١ : ١١٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٣ ، الوسائل ٤ : ٣٠٦ أبواب القبلة ب ٥ ح ١.

(٤) الفقيه ١ : ١٨١ / ٨٦٠ ، الوسائل ٤ : ٣٠٦ أبواب القبلة ب ٥ ح ٢.

(٥) النحل : ١٦.

٢٦٦

قال : « هو الجدي ، لأنه نجم لا يزول ، وعليه بناء القبلة ، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر » (١).

ونحوه آخر مروي فيه أيضا في تفسيره (٢).

وهي وإن كانت مطلقة ليس فيها التقييد بأهل العراق لكنّها خصّت بهم بقرينة الرواة ، لكونهم منهم ، لكنها مع ذلك لا تخلو من إجماع ، سيّما الروايات الأخيرة ، مع ضعف أسانيدها جملة بالإرسال ، والضعف بالسكوني في المشهور بين الطائفة (٣).

فإذا العمدة هو استعمال قوانين الهيئة. وعليه لا يستقيم جعل الأمور الأخيرة علامات لأهل العراق على الإطلاق ، كما نبّه عليه جماعة من المحققين (٤) ، فقيّدوا المشرق والمغرب بالاعتداليين ، حاكين له عن الأكثر ، وجملة منهم (٥) قيّدوا الجدي بحالة غاية ارتفاعه ، بأن يكون إلى جهة السماء والفرقدان إلى جهة الأرض ، أو غاية انخفاضه عكس الأوّل.

ومع ذلك فقالوا : إن بين العلامات الثلاث الأول اختلافا واضحا ، فإن العلامة الأولى ـ سواء قيد المشرق والمغرب بالاعتداليين ، أو كان المقصود أن‌

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٦ / ١٢ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ أبواب القبلة ب ٥ ح ٣.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٦ / ١٣ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ أبواب القبلة ب ٥ ح ٤.

(٣) وقد وثقه الشيخ في العدة : ٣٨٠ ، وحكي عن المحقق في الرسالة العزّية أنه ثقة أجمع الأصحاب على العمل بروايته ، وحكاه عنهما في خاتمة الوسائل ٣٠ : ٢٣٠ ، ٢٣١ ، ٣١٨ ، ووثقه أيضا المحقق الداماد في الرواشح السماوية : ٥٦ ، ٥٧ ، فضعفه من المشهورات التي لا أصل لها. ولمزيد الاطلاع راجع رجال السيد بحر العلوم ٢ : ١٢١ ـ ١٢٥ ، مفتاح الكرامة ٨ : ٢٥٦ ، تنقيح المقال ١ : ١٢٧ ـ ١٢٩ ، الكنى والألقاب ٢ : ٢٨٥ ، ٢٨٦.

(٤) منهم الشهيدان في البيان : ١١٤ ، وروض الجنان : ١٩٦ ، والفاضل المقداد في التنقيح ١ : ١٧٤ ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد ٢ : ٥٤.

(٥) كالشهيد الثاني في روض الجنان : ١٩٦ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ١٧٤.

٢٦٧

يجعل مشرق يوم على اليسار ومغرب ذلك اليوم على اليمين ـ تقتضي محاذاة نقطة الجنوب ، وكذا العلامة الثالثة ، وأمّا الثانية فتقتضي انحرافا بيّنا عنها نحو المغرب ، وهو الموافق لمعظم بلاد العراق.

والأولى حمل العلامة الاولى والثالثة على أطراف العراق الغربيّة ، كالموصل ، وبلاد الجزيرة ، فإن قبلتهما تناسب نقطة الجنوب. والعلامة الثانية على أوساط العراق ، كبغداد والكوفة والحلة والمشاهد المقدّسة ، فإنه تنحرف قبلتها عن نقطة الجنوب نحو المغرب. وأما أطرافها الشرقية ـ كالبصرة ـ فهي أشدّ انحرافا ، ويقرب منها تبريز وأردبيل وقزوين وهمدان وما والاها من بلاد خراسان. ونزّلوا إطلاق عبائر الأصحاب على ما ذكروه.

وفيه بعد ، ولذا جعل ذلك سبيلا إلى سهولة الأمر في القبلة واتساع الدائرة فيها ، وأنه لا ضرورة إلى ما ذكروه أرباب الهيئة.

مضافا إلى خلوّ النصوص عن بيان العلامات بالكلية ، إلّا ما مرّ إليه الإشارة ، وقد عرفت أيضا إجماله.

ومع ذلك فقد ورد في الصحيح وغيره : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » (١).

قيل : ويؤيّد ذلك بأوضح تأييد ما عليه قبور الأئمة عليهم‌السلام في العراق من الاختلاف ، مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بعدم انحراف القبلة فيه ، مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ، ودفن الأموات ، ونحو ذلك ، وهو أظهر ظاهر في التوسعة كما لا يخفى (٢).

وفيه نظر ، يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره شيخنا في روض الجنان ، فقال‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٥ ، الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ٢.

(٢) الحدائق ٦ : ٣٨٧.

٢٦٨

في جملة كلام له : وأما توهّم اغتفار التفاوت الحاصل بينها ـ أي بين العلامات الثلاث ـ وعدم تأثيره في الجهة ففاسد ، لما تقدم في تحقيق الجهة من اعتبار تعيين (١) الكعبة [ أو ] (٢) ظنها أو احتمالها ، وهذا القدر من التفاوت لا يبقى معه شي‌ء منها. فإنّ من كان بالموصل مثلا وكان عارفا مجتهدا في القبلة يقطع بكونه ـ إذا انحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب بنحو ثلث ما بين الجنوب والمغرب الاعتداليين ـ خارجا عن سمت الكعبة. وكذا من كان بأطراف العراق الشرقية ـ كالبصرة ـ إذا استقبل خط الجنوب. وهذا أمر لا يخفى على من تدبّر قواعد القبلة وما يتوقف عليه من المقدمات. ومن طريق النص إذا كان جعل الجدي على الأيمن يوجب مسامتة الكعبة في الكوفة التي هي بلد الراوي ونحوها كيف يوجب مسامتتها إذا كان بين الكتفين؟! لبعد ما بينهما بالنسبة إلى بعد المسافة ، فإنّ الانحراف اليسير عن الشي‌ء مع البعد عنه يقتضي انحرافا فاحشا بينه وبين محاذاته ، فإنّا إذا أخرجنا خطين من نقطة واحدة لم يزالا يزدادان بعدا كلّما ازدادا امتدادا ، كما لا يخفى. وأيضا : فلو كان جعله بين الكتفين محصّلا للجهة كان الأمر بجعله على اليمنى لغوا خاليا عن الحكمة (٣).

وإنما ذكرناه بطوله لحسن مفاده وجودة محصوله.

(و) لذا منع هو وكثير من الأصحاب ـ كالمحقق الثاني وجملة ممّن تأخّر عنهما (٤) ـ عما (قيل :) من أنه (يستحب التياسر لأهل المشرق عن سمتهم قليلا) (٥) قالوا : لأن البعد الكثير لا يؤمن معه الانحراف الفاحش بالميل‌

__________________

(١) في « ل » و « ش » : تعيّن ، وفي المصدر : يقين.

(٢) في النسخ : و. وما أثبتناه من المصدر.

(٣) روض الجنان : ١٩٨.

(٤) جامع المقاصد ٢ : ٥٧ ، وانظر المدارك ٣ : ١٣٠ ، والمفاتيح ١ : ١١٣.

(٥) مصباح المتهجّد : ٢٤ ، الجامع للشرائع : ٦٣ ، وانظر ص ٢٥٢.

٢٦٩

اليسير.

(و) مع ذلك (هو) أي هذا الحكم (بناء) أي مبني (على توجّههم إلى الحرم) كما يستفاد من النصوص الدالة عليه.

منها : الخبر : عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة ، وعن السبب فيه ، فقال : « إن الحجر الأسود لما انزل به من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يساره ثمانية أميال ، كله اثنا عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة » (١) ونحوه المرفوع (٢).

والرضوي : « إذا أردت توجّه القبلة فتياسر مثل (٣) ما تيامن ، فإن الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال » (٤).

والمبني عليه ضعيف كما تقدم (٥). وكذا النصوص الواردة هنا سندا ، لرفع الثاني ، وإرسال الأوّل في التهذيب ، وضعفه في الفقيه ، لتضمّن سنده محمد ابن سنان ومفضّل بن عمر الضعيفين عند الأكثر ، والرضوي قاصر عن الصحّة ، وإنما غايته القوّة ، وهي بمجرّدها لا تصلح لمعارضة الاعتبار الذي ذكره الجماعة ، فما ذكروه لا يخلو عن قوّة.

ولذا توقف فيه في ظاهر الدروس (٦) ، كالماتن في ظاهر العبارة ، إلّا أنّ‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٨ / ٨٤٢ ، التهذيب ٢ : ٤٤ / ١٤٢ ، علل الشرائع : ٣١٨ / ١ ، الوسائل ٤ : ٣٠٥ أبواب القبلة ب ٤ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٨٧ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٤٤ / ١٤١ ، الوسائل ٤ : ٣٠٥ أبواب القبلة ب ٤ ح ١.

(٣) في المصدر : « مثلي ».

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٨ ، المستدرك ٣ : ١٨٠ أبواب القبلة ب ٣ ح ١.

(٥) في ص ٢٥٢.

(٦) الدروس ١٥٩.

٢٧٠

ظاهر من تقدّمهم من الأصحاب عدم الخلاف في رجحان التياسر ، وإن اختلفوا في استحبابه ، كما هو المشهور على الظاهر ، المصرّح به في عبائر هؤلاء الجماعة حدّ الاستفاضة (١) ، وغيرهم كالشهيد في الذكرى ، وبها قد اختاره (٢).

أو وجوبه ، كما هو ظاهر جماعة من القدماء ، ومنهم الشيخ في كثير من كتبه ومنها الخلاف مدعيا عليه الإجماع (٣) ، وحكي أيضا عن غيره (٤). فيمكن أن يجبر بذلك ضعف سند الروايات أو قصورها.

والبناء المتقدم وإن كان ظاهر كثير من الأصحاب ، كالفاضل في المنتهى والمحقق الثاني والشهيد الثاني وجملة ممن تبعهم (٥) ، ولكن ظاهر آخرين ـ كالفاضل في المختلف والتحرير والإرشاد والقواعد والشهيد في الذكرى وغيرهما (٦) ـ اطراد الحكم على كل من القول بالمبني عليه ومقابله ، لتصريحهم بهذا الحكم مع اختيارهم القول الثاني.

ولعل وجهه ما ذكره في الذكرى وغيره : من أنّ القبلة هي الجهة ، ولا يخفى ما فيها من السعة (٧). ومرجعه إلى ما مرّ إليه الإشارة من سهولة الأمر في‌

__________________

(١) الدروس : ١٥٩ ، جامع المقاصد ٢ : ٥٦ ، روض الجنان : ١٩٩ ، المدارك ٣ : ١٣٠ ، المفاتيح ١ : ١١٣.

(٢) الذكرى : ١٦٧.

(٣) الخلاف ١ : ٢٩٧ ، النهاية : ٦٣ ، المبسوط ١ : ٧٨.

(٤) كالشيخ أبي الفتوح في تفسيره ١ : ٢٢٤ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٨٥.

(٥) المنتهى ١ : ٢١٩ ، المحقق الثاني في جامع المقاصد ٢ : ٥٦ ، الشهيد الثاني في روض الجنان : ١٩٨ ، وانظر المدارك ٣ : ١٣٠ ، ومفاتيح الشرائع ١ : ١١٣.

(٦) المختلف : ٧٧ ، التحرير ١ : ٢٨ ، الإرشاد ١ : ٢٤٥ ، القواعد ١ : ٢٦ ، الذكرى : ١٦٧ ، وانظر الشرائع ١ : ٦٦ ، والجامع للشرائع : ٦٣.

(٧) الذكرى : ١٦٧.

٢٧١

القبلة ، ولكن فيه ما عرفته (١).

فإذا : العمدة هي النصوص المعمول عليها بين الطائفة ، مضافا إلى حكاية الإجماع المتقدمة ، وإن لم يصلح للحجيّة ، لوهنه بندرة القول به من حيث دلالته على الوجوب ، ولم نر قائلا به عدا الناقل ونادر. وكيف كان فهو أحوط من الترك ، لضعف القول به بضعف دليله عن المقاومة لما دلّ على رجحان التياسر من الإجماع المنقول والنص المعمول به.

وأمّا ما ربما يجاب عنه : بوروده مورد التقية ، لكون المحاريب المشهورة المبنية في العراق في زمان خلفاء الجور ولا سيّما المسجد الأعظم كانت مبنيّة على التيامن عن القبلة ، ولم يمكنهم إظهار خطأ هؤلاء الفسقة ، فأمروا شيعتهم بالتياسر عن تلك المحاريب ، معلّلين بما عرفته من العلة ، لئلّا يشتهر منهم عليهم‌السلام الحكم بخطإ من مضى من هؤلاء الكفرة (٢).

فغير مفهوم للعبد ، فإن مراعاة التقية على تقدير ثبوت بناء المساجد على التيامن تقتضي أمر الشيعة بمتابعة قبلة هؤلاء الفجرة ، كي لا يعرفوا فيقتلوا ، لا أن يأمروا بالمخالفة لهم فيؤخذ برقابهم.

واعلم أنّ مقتضى الأصول والنصوص وفتوى الأصحاب من غير خلاف معروف : وجوب تحصيل العلم بالقبلة عينا أو جهة مع الإمكان ، ولو بالأمارات المتقدمة المستندة إلى القواعد الرياضية ، بناء على إفادتها العلم بالجهة ، كما صرّح به جماعة ، كالفاضلين في المعتبر والمنتهى على ما حكي عنهما (٣) ، والشهيدين في روض الجنان والذكرى (٤) ، وإن كان يظهر من بعضهم إفادتها‌

__________________

(١) راجع ص : ٢٦٢.

(٢) انظر البحار ٨١ : ٥٣.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٠ ، المنتهى ١ : ٢١٩.

(٤) روض الجنان : ١٩٤ ، الذكرى : ١٦٢.

٢٧٢

المظنة ، ولعلّها بالنسبة إلى العين ، وإلّا فالأمر بالنسبة إلى الجهة كما ذكره الجماعة.

وإن فقد العلم جاز الاكتفاء بالظن الحاصل بأيّ نحو كان من الأمارات المفيدة له ، متحرّيا في ذلك الظن الأقوى ، بلا خلاف إلّا ما يحكى عن المبسوط ، حيث أوجب الصلاة إلى أربع جهات إذا فقد العراقي ما نصب له من العلامات (١).

وهو غير ظاهر في المخالفة حتى في صورة حصول المظنة بجهة القبلة من غير تلك العلامة ، لاحتمال اختصاصه بصورة فقدها بالكلية كما هو الغالب ، ولعلّه لذا لم ينقل عنه الخلاف هنا إلّا نادر. وعلى تقدير ظهور المخالفة فهو شاذّ ، محكيّ على خلافه الإجماع من المسلمين كافّة في كثير من العبائر ، كالمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى (٢) ، وبه صرّح بعض الأجلّة ، حيث قال : وهل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات؟ الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا وفعلا ، وأن فعل الأربع حينئذ بدعة ، فإن غير المشاهد للكعبة ومن بحكمه ليس إلّا مجتهدا أو مقلدا ، فلو تقدّمت الأربع على الاجتهاد لوجبت على عامة الناس وهم غيرهما أبدا ، ولا قائل به .. إلى آخر ما قال (٣) ، ونعم ما قال.

والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة ، ففي الصحيح : « يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (٤).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٧٨.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٠ ، المنتهى ١ : ٢١٩ ، التحرير : ٢٨ ، التذكرة ١ : ١٠٢ ، الذكرى : ١٦٤.

(٣) كشف اللثام ١ : ١٧٧.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٥ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٧ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

٢٧٣

وفي الموثق : « عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم ، قال : اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك » (١).

وقريب منهما الصحيح : في الأعمى يؤمّ القوم وهو على غير القبلة ، قال : « يعيد ولا يعيدون ، فإنّهم قد تحرّوا » (٢).

وفي آخر : الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة ، كيف يصنع؟ قال : « إن كان في وقت فليعد صلاته ، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده » (٣).

ونحوه الأخبار الدالّة على عدم الإعادة بعد خروج الوقت في صورة التحري (٤).

نعم ربما ينافي ذلك المرسل الآتي (٥) الظاهر في نفي الاجتهاد من أصله ، مضافا إلى الأصل الجابر لضعف سنده ، مضافا إلى الجابر الآتي ، وهو لزوم الأربع صلوات إلى الجهات الأربع من باب المقدمة لتحصيل الأمر بالاستقبال بقول مطلق. لكن في مقاومتها للأدلة المتقدمة نصا وفتوى إشكال ، والظاهر بل المقطوع به عدمها.

(وإذا فقد العلم بالجهة والظن) بها مطلقا ، لغيم أو ريح أو ظلمة أو شبهها (صلّى الفريضة) (٦) مطلقا (٧) (إلى أربع جهات) متقاطعة على زوايا‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٤ / ١ ، التهذيب ٢ : ٤٦ / ١٤٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٩ ، الوسائل ٤ : ٣٠٨ أبواب القبلة ب ٦ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٨ / ٢ ، الوسائل ٤ : ٣١٧ أبواب القبلة ب ١١ ح ٧.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٥ / ٩ ، التهذيب ٢ : ٤٧ / ١٥٢ ، الاستبصار ١ : ٢٩٦ / ١٠٩١ ، الوسائل ٤ : ٣١٧ أبواب القبلة ب ١١ ح ٦ وفي الجميع بتفاوت.

(٤) منها : صحيحة يعقوب بن يقطين ، انظر الوسائل ٤ : ٣١٦ أبواب القبلة ب ١١ ح ٢.

(٥) في ص : ٢٦٩.

(٦) في « ح » زيادة : الواحدة.

(٧) أي كائنة ما كانت من الصلوات الخمس والعيدين والجنازة وغيرها. منه رحمه الله.

٢٧٤

قوائم ، أو مطلقا كيف اتفق ، أو بشرط التباعد بينها بحيث لا يكون بين كل واحدة وبين الأخرى ما يعدّ قبلة واحدة لقلّة الانحراف ، على اختلاف الأقوال ، إلّا أن أشهرها بل وأصحّها الأوّل ، اقتصارا على المتبادر من النص والفتوى.

(ومع الضرورة) بخوف لصّ أو سبع أو نحوهما (أو ضيق الوقت) عن الصلوات الأربع (يصلي إلى أيّ جهة شاء) ما قدر منها (١) ولو واحدة ، كما صرّح به جماعة (٢) ، أو يصلّيها خاصة ولو قدر على الزيادة ، كما هو ظاهر العبارة وكثير من عبائر الجماعة (٣) ، وهو الأوفق بالأصل ، كالأول بالاحتياط اللازم المراعاة في العبادة.

ولا خلاف نصّا وفتوى في جواز الاقتصار عن الأربع صلوات بالمقدور منها أو الواحدة في صورة الضرورة. وإنما اختلفوا في وجوبها مع الإمكان على أقوال ، ما في المتن من وجوبها أشهرها ، بل في ظاهر المعتبر والمنتهى وشرح القواعد للمحقق الثاني أنّ عليه إجماعنا (٤) ، وحكي التصريح به عن الغنية (٥) ، وهو الحجة ، مضافا إلى الأصل المتقدم إليه الإشارة من لزوم الإتيان بالأربع من باب المقدمة تحصيلا للأمر المطلق باستقبال القبلة.

وخصوص المرسل : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم يعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه » (٦).

__________________

(١) في « ش » و « م » : يصلي ما قدر منها إلى أيّ الجهات شاء.

(٢) منهم المحقق في المعتبر ٢ : ٧٠ ـ ٧١ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ١٧٩.

(٣) انظر المقنعة : ٩٦ ، والمبسوط ١ : ٧٨ ، والوسيلة : ٨٦ ، والسرائر ١ : ٢٠٥.

(٤) المعتبر ٢ : ٧٠ ، المنتهى ١ : ٢١٩ ، جامع المقاصد ٢ : ٧٢.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٦.

(٦) التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٥ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٥.

٢٧٥

خلافا للعماني (١) ، وظاهر الصدوق كما قيل (٢) ، فيصلّي حيث شاء ، ومال إليه الفاضل في المختلف والشهيد في الذكرى (٣) ، وغيرهما من متأخّري متأخّري أصحابنا (٤).

التفاتا إلى الصحيح : « يجزي المتحير أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (٥).

والصحيح المروي في الفقيه : عن الرجل يقوم في الصلاة ثمَّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا ، فقال : « قد مضت صلاته ، فما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحير : (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٦).

والمرسل كالصحيح بابن أبي عمير المجمع على تصحيح ما يصح عنه : عن قبلة المتحيّر ، فقال : « يصلي حيث يشاء » (٧).

وطعنا في الإجماع : بعدم المسموعية في محل النزاع. وفي الأصل : بمنع وجوب الاستقبال مع الجهل بالقبلة استنادا إلى ما تقدم من المعتبرة. وفي الخبر : بضعف السند بالإرسال وغيره ، والمتن بتضمنه سقوط الاجتهاد من‌

__________________

(١) كما حكاه عنه في المختلف : ٧٧.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ٧٧ ، وانظر الفقيه ١ : ١٧٩.

(٣) المختلف : ٧٨ ، الذكرى : ١٦٦.

(٤) كالمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٦٧ ، وصاحبي المدارك ٣ : ١٣٦ ، والذخيرة : ٢١٨ ، والمحدث المجلسي في روضة المتقين ٢ : ٢٠٥ ، والمحدث الكاشاني في المفاتيح ١ : ١١٤ ، والمحدث الشيخ يوسف البحراني في الحدائق ٦ : ٤٠٠. منه رحمه الله.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٥ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٢.

(٦) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦ ، الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١. والآية في البقرة : ١١٥.

(٧) الكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٠ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٣.

٢٧٦

أصله ، وهو مخالف للإجماع الظاهر والمحكي (١).

وفي الجميع نظر : لانجبار الضعف بالإرسال وغيره بالشهرة العظيمة والإجماعات المحكية حدّ الاستفاضة التي كل منها حجة (٢) مستقلة.

واحتمال الاجتهاد الممنوع عنه ، الاجتهاد في مسألة قبلة فاقد العلم ، وهي جملة أنه يعمل بالظن مع القدرة عليه وإلّا فيسقط اعتبار القبلة.

وهو وإن بعد لكن لا محيص عنه ، جمعا ، وصيانة للنص عن المخالفة للإجماع مهما أمكن ، سيّما مع اعتضاده ـ بعد فتوى الأصحاب والإجماع المحكي ـ بالمرسل الآخر المروي في الفقيه من دون هذا المحذور ، وكذا في الكافي (٣). مع أنه حجّة مستقلّة بنفسه ، لانجباره بما مضى ، وبالأصل الذي قدّمناه.

والجواب عنه بما مرّ (٤) فرع تسليم سند المنع. وهو غير مسلّم ، لإرسال الخبر الأخير وإن قرب من الصحيح ، لضعفه عن المقاومة للمنجبر بالعمل ، لكونه أقوى منه ، بل ومن الصحيح وإن تعدّد واستفاض ، على الصحيح.

وبه يظهر الجواب عن الصحيحين الأوّلين. مع احتمال القدح في أوّلهما بأنّ راويه قد رواه بدل ما هنا : « يجزي التحرّي » (٥) لا المتحيّر ، فيحتمل كون الأصل هذا والتحريف وقع في المبدل ، ومعه لا يصح الاعتماد عليه في مقابلة ما مضى.

واتحادهما سندا ومتنا ـ غير ما وقع فيه الاختلاف ـ مع الأصل ، يدفع‌

__________________

(١) راجع ص : ٢٦٩.

(٢) في « م » زيادة : برأسه.

(٣) انظر الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٤ ، والكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٠ ، الوسائل ٤ : ٣١٠ ، ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ١ ، ٤.

(٤) من منع وجوب استقبال القبلة مع الجهل بها. منه رحمه الله.

(٥) كما تقدم في ص : ٢٧٠.

٢٧٧

احتمال التعدّد رواية ، وأنه روى بهذا مرّة وبالآخر اخرى.

وفي الثاني منهما بأن محل الدلالة : « ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر » إلى آخره. وهو كما يحتمل كونه من تتمّته كذا يحتمل كونه من كلام الفقيه ، بل هذا أظهر على ما يشهد به سياق الخبر ، مع أنه مروي في التهذيب بدون هذه الزيادة (١).

فإذا : يشكل الاستناد إلى هذه المعتبرة سيّما في مقابلة خصوص ما مرّ من المراسيل المنجبرة بالشهرة والإجماعات المحكية التي كل منها حجّة مستقلة. وتخيّل الجواب عنه بما مرّ إليه الإشارة ، مضعّف بعدم انطباقه على قواعد الإمامية ، كما مرّ غير مرّة.

ثمَّ لو سلّم اعتبار هذه الأدلة وخلوصها عن القوادح المتقدمة ، فغايتها إيراث شبهة في المسألة ، بناء على أنّ ترجيحها على الأدلة المقابلة فاسد بلا شبهة. فينبغي الرجوع إلى مقتضى الأصل ، وهو ما مرّ من لزوم فعل الأربع من باب المقدمة.

والقدح فيه ـ زيادة على ما مر ـ بإمكان تحصيل المأمور به بصلوات ثلاث إلى ثلاث جهات.

ممنوع بعدم تحصيل القبلة الواقعية بذلك ، بل غايتها تحصيل ما بين المشرق والمغرب ، وهو ليس بقبلة ، بل هي الجهة المخصوصة التي لا يجوز الانحراف عنها ولو بشي‌ء يسير ، إلّا فيما استثني بالمرة ، وكون ما نحن فيه منه أوّل الكلام. ولا كذلك الصلاة إلى الأربع جهات ، فإنّها وإن لم تحصل الجهة الواقعية كما هي ، إلّا أنه يدفع الزائد عنها بعدم القائل به بلا شبهة (٢).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٧.

(٢) في « ح » : ولا شبهة.

٢٧٨

ولو سلّم فساد هذا الأصل ، فلنا أصل آخر هو استصحاب شغل الذمة اليقيني ، المقتضي لوجوب تحصيل البراءة اليقينية ، ومرجعه إلى استصحاب الحالة السابقة ، وهو أخصّ من أصالة البراءة فتكون مخصّصة.

وللمحكي عن ابن طاوس ، فأوجب استعمال القرعة ، فإنها لكل أمر مشكل (١).

ويضعف بأنه لا إشكال هنا على كلّ من القولين السابقين ، لاستناد كل منهما إلى حجّة شرعيّة ينتفي معها الإشكال بالمرة.

ومن هنا ينقدح ما في المدارك من نفي البأس عن هذا القول (٢) ، مع أنّه اختار القول الثاني الذي مقتضاه جواز الصلاة إلى أيّ جهة شاء ، وصحّتها كذلك ولو من دون قرعة ، ولا كذلك القول بلزومها ، فإنّ مقتضاه البطلان لو صلّيت من دونها.

(و) اعلم أنّ (من ترك الاستقبال) إلى القبلة (عمدا أعاد) (٣) وقتا وخارجا ، إجماعا ، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.

مضافا إلى النهي المفسد للعبادة ، فكأنه ما أتى بها فيصدق الفوت ، كما إذا ترك أصل الصلاة عامدا ، فيجب القضاء.

مضافا إلى النصوص المستفيضة بإعادة الصلاة بترك القبلة (٤) بقول مطلق ، خرج منها ما سيأتي لما يأتي ، فيبقى الباقي.

(ولو صلّى) (٥) إلى القبلة (ظانّا) لجهتها ، أو لضيق الوقت عن الصلاة‌

__________________

(١) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ٨١.

(٢) المدارك ٣ : ١٣٧.

(٣) في « ح » زيادة : مطلقا.

(٤) الوسائل ٤ : ٣١٢ أبواب القبلة ب ٩.

(٥) في المختصر المطبوع : ولو كان.

٢٧٩

إلى الجهات الأربع ، أو لاختيار المكلف لها إن قلنا بتخيير المتحيّر (أو ناسيا) لمراعاة القبلة أو لجهتها (و) بعد الفراغ (تبيّن الخطأ) والصلاة إلى غير القبلة (لم يعد ما كان) صلّاه (بين المشرق والمغرب) مطلقا ، في وقت كان أو خارجا ، إجماعا في الظانّ ، كما في التنقيح وروض الجنان (١) وغيرهما (٢) ، بل في المنتهى وعن المعتبر أنّ عليه إجماع العلماء (٣).

وهو الحجّة ، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة ، منها ـ زيادة على الصحاح وغيرها المتضمّنة لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة (٤) ـ خصوص الصحيح : قلت : الرجل يقوم في الصلاة ثمَّ ينظر بعد ما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف من القبلة يمينا وشمالا ، قال : « قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة » (٥).

وموثّقة عمّار عنه عليه‌السلام : في رجل صلّى على غير القبلة ، فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : إن كان متوجّها فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجّها إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمَّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمَّ يفتتح الصلاة » (٦).

والخبر المروي عن قرب الإسناد : « من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنه على القبلة ثمَّ عرف بعد ذلك ، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ١ : ١٧٧ ، روض الجنان : ٢٠٣.

(٢) كالمفاتيح ١ : ١١٤.

(٣) المنتهى ١ : ٢٢٣ ، المعتبر ٢ : ٧٢.

(٤) الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦ ، الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٢٨٥ / ٨ ، التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٩ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ / ١١٠٠ ، الوسائل ٤ : ٣١٥ أبواب القبلة ب ١٠ ح ٤.

٢٨٠