رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

ولما كانت هذه المنطقة عامرة بالقرى والقصبات ، ولئلا يصاب القارئ بالملل فسأكتفي بذكر الأسماء فقط دون ذكر مواقعها أكانت على هذه الضفة أم الأخرى. فعلى الشاطئ الأيسر رأينا القرى الآتية : دولل ثم أسب ، وبعد قليل مررنا بجبل أبيض اللون ، أجرد السفح ، ثم : بغيري وجديدة وهما قريتان ؛ أما المدن فهي الآتية : فريكا وجديدة ودولب ولولب (١) وتتوسط هذه الأخيرة غابة نخل يقال لها «ستيفا» ومن هناك وصلنا إلى موضع يسمى «دولاب جديد» واسمه يعني موضع جديد.

أما عن اليمين فقد تركنا جزيرتين مليئتين بالأحطاب المفيدة للإيقاد. ولا إسم لهما لأنهما ظهرتا مؤخرا في النهر.

وأكملنا السير فوصلنا إلى قرية واقعة عن اليمين تسمى «زبيدة» (٢) ومن ثم جئنا إلى «عراصة» Urasa ثم قرية أخرى تسمى «عامرية» Amerie وتبعتها «البارة» Elbara ثم تركنا هذه القصبة إلى «فوق البيرة».Fuochelbera بعدئذ قابلنا انحدار قوي في النهر في موضع ضيق ، وكان الماء الهادر بين الصخور الكبيرة يجري بسرعة مجنونة. ولمحنا بين

__________________

(١) دولب أو دويلية وجديدة (موزيل : ٢٥).

(٢) قصدر زبدة عند موزيل. وعامرية يقال لها اليوم عامرة ، والبارة هي بالأحرى البارج على قول الأستاذ فرحان.

٦١

الصخور ثلاث أشجار كأنها قامت هناك كعلامة إلى موضع الخطر. وأخيرا تخلصنا لحسن الحظ من هذا المنحدر وذهبنا بإتجاه «أبو شابور» (١) Abusabur وهو حصن يقع على اليسار ، ثم مررنا تدريجيّا بقرى أخرى هي : بنفورة والجديدة والفراشية. ورأينا جبلين هناك أبيضين.

بعد مسافة قليلة رأينا ناعورا أبعدته المياه عن اليابسة فأصبح في وسط النهر كأنه جزيرة. فالمياه تحيط به من كل جانب. ورأينا أكواخا يقال لها «شيخ حديد» Segadid وأماكن عديدة كلها مأهولة ، وبعض الأبراج وبقايا أسوار على ساحل النهر أي الفرات.

أخيرا وصلنا إلى مدينة تسمى «حديثة» (٢) Aditi وفيها قلعة كتلك التي وصفناها من قبل في عنه ، وسكانها أكثر عددا ، وموقعها في جزيرة. فمررنا بها وهي على جانب

__________________

(١) ذكرها موزيل وكذلك جيسني في المرجع نفسه ، وكذلك المعاضيدي : أعالي الفرات : ص ٢٣٦.

(٢) الحموي : معجم البلدان ٢ : ٢٢٣ ، وهي حديثة الفرات وتعرف بحديثة النورة وبها قلعة حصينة في وسط الفرات. وقد ذكرها البلدانيون العرب.

وأنظر : فرحان الحديثي : تاريخ الحديثة ، بغداد ١٩٨٩ وهو يتطرق إلى الأضرحة والقباب وما إلى ذلك ، أنظر ص ١٥٣ وما بعدها. وله أيضا مقالة في مجلة التراث الشعبي ١٠ (١٩٧٩) العددان الأول والثاني ، ص ١٠١ ـ ١١٦.

٦٢

النهر الأيمن. وبعد قليل أبصرنا جامعا يقع على قمة تل ويسمى «شيخ ايته».Sechaite

يوجد في مدينة الحديثة «سنجق» معين من قبل «أبو ريشة» زعيم العرب.

ينتصب مقابل هذه المدينة ، على الجانب الآخر من النهر ، برج قديم تتناثر حوله القبور على عادة هؤلاء الناس (١).

عند مغادرتنا هذه المدينة توجب علينا عبور ممر ضيق يقع بين سور المدينة والصخور العظيمة المكدسة هناك من أجل دعم ستة نواعير قائمة في النهر مقابل المدينة. وكنا نحرك المجاذيف بصعوبة بالغة في هذا الممر الضيق ، فكان إعتمادنا أكثر على مقود المركب. فأسرعنا بالعبور خوفا من السقوط في شرك يدبره لنا أولئك ولم نتلكأ بإرسال الهدايا إلى باشا السنجق إذ ادّينا له شاهيتين مع ست قطع صابون وصحن زبيب.

في نحو الساعة ٢١ وبينما كنا نجذف في النهر رأينا

__________________

(١) أخبرني الأستاذ فرحان مشكورا أن هذا البرج يدعى «ضريح الشيخ محمد» وتتناثر جنوب هذا الموضع قبور قديمة ظاهرة يطلق عليها الأهالي أسم «قبور النصارى» ولم تتم فيها اية تنقيبات آثرية علمية إلى الآن.

٦٣

بيوتا كثيرة متناثرة على الضفتين ، فضلا عن أبراج وبساتين وأشجار نخيل.

ثم مررنا بجزيرتين مأهولتين واقعتين على يسارنا ، ثم جزيرة ثالثة مأهولة أيضا وهي خاصة بكتخدا السنجق الذي يحكم تلك المنطقة. وفي نحو الساعة ٢٣ مررنا بجزيرة أخرى فعبرنا بين ناعور يقع إلى اليمين وصخور كبيرة جدّا كان بعضها مغمورا تحت الماء والقسم الآخر منها ظاهر فوق سطح الماء. وبعد مسافة أخرى رأينا حجارة كبيرة ـ هي في تقديري ـ من أجود أنواع الرخام الأبيض.

وبعد أن تركنا خلفنا عددا كبيرا من الجزر ، كان بعضها مأهولا والآخر خاليا من السكان ورأينا من جديد غابات نخيل.

وعند المساء وصلنا نطلب الراحة في الضفة اليمنى من النهر ، في موقع يقال له «جزيرة آلوس» (١) Zezirnalus وهي عامرة بالأشجار والدور والأبراج والنخيل الكثيرة.

رحلنا من هناك في السابع عشر من الشهر قبل شروق الشمس بنصف ساعة وبعد أن مخرنا عباب النهر ثلاث ساعات وصلنا إلى موضع يقع على ضفة النهر اليمنى حيث رأينا برجين وثلاثة بيوت. ورأينا على مسافة قصيرة منها

__________________

(١) على الفرات قرب عانات والحديثة (معجم البلدان ١ : ٣٥٢).

٦٤

مسجدا قال مرافقونا عنه انه مثوى واحد من أعظم أوليائهم (١). ولهذا ما أن اقتربنا من المسجد حتى هب المسلمون الذين كانوا في المركب فرفعوا أصواتهم بالدعاء ولم يتوقفوا إلى أن غاب المسجد عن أنظارهم.

ثم خلفنا وراءنا مواضع عديدة حيث يستخرج الرخام ، وغابات نخيل ، وعددا من النواعير والبيوت والجزر ، ومررنا من جديد بمنحدرات قوية وخطيرة حتى وصلنا إلى مدينة تسمى «جبة» (٢) Giuba وتقع في الساحل الأيسر من النهر ، وتحيط بها المياه من كل جانب. وهي محصنة بقلعتين في كل جهة منها. بيوتها جميلة مشيدة على الطريقة العربية ، وحقولها خصبة ، وثمارها وافرة.

هنا يدفعون للأمين شاهيين عن كل مركب ، وست قطع صابون فضلا عن صحن الزبيب.

لم نتوقف في تلك البلدة خوفا من تدخل السكان بطريقة من الطرق : أكانت بالحيلة أو الدسيسة لإنتزاع شيء من سلعنا. فما كدنا نؤدي المكس حتى أكملنا السفر ونحن نمتع الأنظار بالحقول العامرة ببساتين البرتقال والنخيل.

__________________

(١) من المحتمل أن يكون هذا المكان هو مقام الإمام الخضر في جزيرة الخزنة. قاله الأستاذ فرحان.

(٢) معجم البلدان ٢ : ١٣ ؛ موزيل وجيسني المرشد إلى موطن الآثار والحضارة ١ : ١٨.

٦٥

وظهر إلى اليسار مسجد «شيخ جبة» الذي له في نفوس السكان مكانة عظيمة وإجلال كبير.

٦٦

الفصل الرابع

الطريق من جبه إلى الفلوجة (١)

لا أجد ضرورة للتوقف هنا لأذكر التجار الذين يأتون إلى هذه المدينة بأهمية وفائدة أطعام (٢) سنجق جبة وأمينة ، لأنهما سيقتنعان بسهولة بالاراجيف التي يلفقها المسافرون ـ ضد الأجانب ـ فلا بأس من تقديم هدية طيبة خيرا من تحمل أتعاب بغنى عنها.

بعد أن أنطلقنا من هذه المدينة رأينا على جانب النهر الأيسر جزيرة مسورة مليئة بالأشجار المثمرة والأحطاب المفيدة للإيقاد والأشجار التي تصنع من أخشابها دواليب النواعير (٣). وخلاصة القول أن تلك الأراضي كلها كانت مليئة بالتلال الصخرية والبيوت والنواعير. وبعد أن عبرنا

__________________

(*) لم يضع المؤلف عنوانا لهذا الفصل.

(١) بمعنى تأدية الخاوة أو الرشوة للموظف ، والتعبير للسائح نفسه لكنه لا يزال قيد الاستعمال في الوسط الشعبي.

(٢) هي أشجار الغرب عادة.

٦٧

منحدرا مائيّا وذلك بعد مضي ساعتين من مغادرتنا «جبة» وجدنا مدينة «ناؤوسة» (١) وهي جزيرة واقعة على ضفة النهر اليمنى. وهناك جبل يقوم عليه مسجد قديم متهدم.

كانت هذه البقعة كسابقاتها عامرة بالبيوت والبساتين والأحراش والنواعير ، وتجد حولها جبالا جرداء ذات لون أبيض. إضافة إلى غابات النخيل الكثيفة ومختلف الدور التي يقال لها «خرائب» Caraib وصفرةSofera. فلما أوشك النهار على المغيب اتينا نطلب الراحة في موضع يسمى «جارجولا» Giaregiuola ولم نجد فيه بشرا. وفي ذلك النهار مررنا بثمانية وأربعين مضيقا أو منحدر مياه في النهر!

صباح اليوم الثامن عشر من الشهر غادرت سفينتنا ذلك الموضع تتبعها المراكب المرافقة لنا ، فوجدنا أثناء السفر في تلك الأرياف التي كنا نمر بها غابات نخيل ونواعير وجزرات مليئة بأخشاب الوقود وقرى عديدة ، منها : زيريزةZiriza وبسطامية (٢) Bostamia وبزينةBisina والجزيرةJizira وغيرها لن أذكرها حبّا بالاختصار.

__________________

(١) محطة قديمة على الطريق من بغداد إلى الرقة ذكرها البلدانيون.

(٢) موزيل ٤٨.

٦٨

هيت

أخيرا وصلنا عند منتصف النهار إلى مدينة تدعى «هيت» (١) وهي تقع على شاطئ النهر الأيمن ، ويكثر فيها اللصوص والقتلة الذين يقال لهم «جزريون» ولهم قلعة قريبة من المدينة المذكورة.

أدينا في ذلك المكان ضريبة كانت بمقدار ما دفعنا في «عنة». ويجبي المكس هنا أمين من أتباع باشا بغداد ، رغم أن المدينة خاضعة لزعيم العرب المعروف بأسم «أبو ريشة». ولكي لا يخدعنا الأمين جامع الرسوم بحيله ، سبقناه فأجلسناه على بساط وقدمنا له صحن زبيب وجوزا ، وهذه الملاطفة لا تعد إهانة بل بالعكس فقد قابلنا لطفا بلطف أحسن من أي مكان آخر. ولهذا قدمنا لسنجق المكان نفسه وإلى كّتابه صحن زبيب وخمس قطع صابون صغيرة لكل واحد منهم.

__________________

(١) معجم البلدان : ٤ : ٩٩٧ موزيل : ٤٩.

٦٩

بارحنا ذلك المكان نحو الساعة ٢١ ومخرنا عباب النهر الجاري في سهل منبسط ، وهنا أيضا رأينا جبلا يقوم على قمته مسجد جميل جدّا. وهكذا سرنا نمتع الأبصار بتلك التلال والحقول ورأينا أحراش حطب ، وأشجار نخيل ؛ ومررنا قرب النواعير والأكواخ ، ومختلف البيوت المشيدة على ضفتي النهر. حتى جاء المساء فمضينا لنحل في موضع على ضفة النهر اليمنى وكان المكان أشبه ما يكون بالجزيرة.

قير هيت

في الساعة الواحدة ليلا وصلت إلينا في الموضع الذي نزلنا فيه إحدى سفننا التي أبطأت في السير وبقيت وراءنا بإنتظار بعض التجار الأتراك الذين ذهبوا إلى موضع قريب من هيت لمشاهدة المحل الذي يتدفق منه القير وهو أشبه ما يكون ببحيرة يفور منها القير باستمرار ، ومع هذا لم يكن حارّا.

إن سكان تلك النواحي يشيدون بيوتهم من أغصان الأشجار ثم يطلونها بطبقة سميكة من القير حتى يمكن القول بأنهم يقيمون جدرانا مقيرة. وبهذه الطريقة نفسها يصنعون السفن من سعف النخيل ثم يضعون كمية كبيرة من القير فتؤدي الغاية المتوخاة كما لو كانت مصنوعة من الواح الخشب كما نفعل نحن.

٧٠

بإمكانهم استخراج كميات من القير كما يشاؤون دون دفع أي مبلغ ، لأن هذه المادة تتدفق بكميات هائلة بحيث أنهم لا يعرفون ما يصنعون بها.

وأعلم إنه أثناء فوران بحيرة القير ترتفع موجات منه فتجري خارج نطاق البحيرة وتغطي الحقول المجاورة لها. كما تخرج من البحيرة نفسها جداول ماء عذب يصلح للشرب فيفيد البلد.

ويؤكد أولئك السكان أن نهر الفرات عندما يفيض ويتعدى مجراه يجرف كميات عظيمة من القير الموجود في تلك البراري ، ولو لا ذلك الفيضان لتراكمت كميات هائلة منه ولأصبحت أقرب إلى الجبال الكبيرة.

في صباح اليوم التالي وهو التاسع عشر من الشهر ، بارحنا تلك الجزيرة قبل شروق الشمس. وبعد ساعة من الجريان في النهر رأينا جبل رخام على شاطئ النهر الأيمن. وفي ذلك المكان التقينا بقارب من مدينة الفلوجة قاصدا هيتا. إن القارب يستطيع الذهاب إلى هيت لكنه لا يستطيع التقدم أبعد منها بسبب منحدرات المياه التي تحول دون مروره.

أسعار القوارب

ما دمنا نتكلم على القوارب فينبغي أن تعلم أن من

٧١

يشتري القوارب في بيره جك قاصدا بغداد ، عليه أن يبيعها في هيت أو في الفلوجة. إذ يجب ترك السفن في إحدى هاتين المدينتين ، لأن السفن لا تستطيع العودة في النهر بسبب سرعة جريانه خاصة في المنحدرات التي ذكرناها فهي تعوق تقدمها.

أما أسعار السفن فحدث عنها ولا حرج : فأنت تشتري المركب في بيره جك بخمس وعشرين دوكاة (دوقية) وتبيعه في الفلوجة أو في هيت بأربع دوكاة أو خمس لا غير!

٧٢

تكملة الرحلة

إنطلقنا من هناك لنكمل رحلتنا فلم نجد في تلك البراري المقفرة الجرداء سوى بعض الأحراش هنا وهناك ولا شيء آخر. وشاهدنا بعض الجبال ، ومن جملة تلك الجبال رأينا جبلا عاليا يدعى «مالبين» Maleben يقوم عليه مسجدان. ورأينا في النهر جزرا عديدة ، كانت إحداها كبيرة نسبيّا لأنها قسمت النهر إلى فرعين وتسمى «الخليجي» Elchaligi وليس فيها سوى الأشجار البرية.

ثم رأينا بالقرب من ذلك الموضع تلا ينتصب فوقه برج قديم عظيم البنيان ، لكنه متهدم. هناك توقفنا نحو ثلاث ساعات ، لأن ريحا شرقية عاتية هبت علينا في ذلك الوقت فحالت دون تقدمنا.

بعد أن هدأت الريح ، وأصبحت الملاحة ممكنة في النهر ، إنطلقنا حالا ، فرأينا بعض القصور القديمة المتدمة ، لكنها لا تزال محافظة على الشكل والطراز ، ويظهر أنها

٧٣

كانت مسكن أشخاص على شيء من الأهمية. وتسمى «أوسي» Auosi.

كان السهل مليئا بالأشجار البرية ، وتعيش هناك حيوانات وحشية كثيرة كالوعول والخنازير البرية والدببة وما شاكلها.

ولما كانت غحدى سفننا قد سبقتنا لتعد مكانا نستريح فيه تلك الليلة ، لذلك اجتهدنا لنلحق بها. لكن الحظ عاكسنا إذ أرتطم مركبنا باليابسة. وكان الظلام قد لف الأرض فإضطررنا إلى قضاء تلك الليلة في ذلك المكان الموحش والخطر ، خوفا من اللصوص الذين يخرجون في أفواج مكونة من مئة إلى مئتي شخص لنهب السفن. ومما زاد في الطين بلة أن إحدى سفننا التي كانت تسير في أثرنا ارتطمت هي أيضا بالرمال فلزمنا أن نقضي الليلة هناك ، والبنادق بأيدينا ونحن على أهبة الإستعداد لإستعمالها!

رحلنا في الصباح بعد جهد جهيد إذ غادرنا ذلك الموضع لنكمل سفرنا ، وبعد شروق الشمس بساعتين ونصف وصلنا إلى أكواخ مشيدة بأغصان الشجر ومطلية من الخارج بالطين ويطلق على ذلك الموضع أسم «قره قول» (١) Caraguol ويتكلم أولئك الناس ثلاث لغات ، وهي : العربية التركية والعجمية أي الفارسية.

__________________

(١) لعله يشير إلى سكني القراغول ، أنظر : أعالي الفرات : ص ٢٧٨.

٧٤

الكرود

يسقي هؤلاء الناس حقولهم بطريقة مختلفة عما يفعل الآخرون. فهم يسحبون الماء من النهر بقرب مصنوعة من جلود الماعز أو جلود الحيوانات الأخرى المتوفرة عندهم ، مع العلم أنهم يمتلكون حيوانات كثيرة (وجدير بالذكر وجود أسود في ديارهم (١) تزعج الفلاحين كثيرا فيضطرون على حمل السلاح دائما). ويسحبون القرب إلى الأعلى بواسطة بكرة تدور بقوة الثيران ، فعندما تنزل القرب نحو الماء تسير الثيران المربوطة بحبال إلى نقطة معينة حتى ترتفع القربة إلى البكرة حيث توجد ساقية فينسكب الماء فيها ، وحينئذ يوجهون الماء إلى حيث يحتاجون (٢).

بعد أن بارحنا ذلك المكان شاهدنا على الجانب الأيسر بيوتا عديدة متجاورة على شاكلة المدينة ، وتسمى «قصور» (٣) Cozzur وموقعها بالحقيقة جميل جدّا ، وأرضها

__________________

(١) تدل الآثار القديمة على وجود الأسود في العراق كما في آثار نينوى أو بابل وغيرها ، وبقيت إلى القرن الماضي أي التاسع عشر ، أنظر كوك : بغداد مدينة السلام ١ : ٥٣ أحمد سوسة : فيضانات بغداد ص ٢٩٤.

(٢) كاظم سعد الدين : الكرود ، مجلة التراث الشعبي ١٠ (١٩٧٩) العدد ١١ ص ٨٩ وما بعدها.

(٣) يشير الوصف إلى موقع الرمادي التي وسعها مدحت باشا في القرن التاسع عشر ، أنظر : لونكريك : أربعة قرون ، ص ٣٦٠.

٧٥

خصبة لأنها غنية بالمياه التي ترويها بتلك الطريقة الغنية التي نوهنا بها.

بعد مسافة قليلة من ذلك المكان ، نشاهد على الضفة اليمنى من النهر مسجدا مع منارة (١) ويسمى «مزيات» (٢) Misiat ويقال أن البادية تبدأ من هناك.

في ذلك المساء ذهبنا فقضينا ليلتنا في نهاية أراضي مقاطعة ـ قره قولي ، وهي واسعة جدّا لأننا صرفنا نهارا كاملا في قطعها ونحن نمخر النهر.

إن سكان منطقة القره قول ليسوا أتراكا ولا عربا ولا فرسا ، وهم في نظر الآخرين أنا لا يتبعون شريعة قويمة ، كما ننظر نحن (٣) إلى الهراطقة والوثريين (٤).

__________________

(١) لم يقل منارة بل قال برج ناقوس لأنه يجهل الأولى وما كتبنا أصح.

(٢) لعله المشهد كما عند موزيل.

(٣) قوله «نحن» يشير إلى الإيطاليين الكاثوليك.

(٤) الهرطوقي (ج : هراطقة) يونانية تعني المنشق عن تعاليم الكنيسة واللوثريون هم اتباع مارتن لوثر (١٤٨٣ ـ ١٥٤٦) الألماني ، صاحب اجتهاد ديني خاص وزعيم ما يسمى بالإصلاح الديني ، وكانت حركته على أشدها في ذلك العهد.

٧٦

الفلوجة

في الحادي والعشرين من الشهر نفسه إنطلقنا منذ الصباح الباكر من ذلك المكان ، وعند شروق الشمس رأينا جدولا (١) يصب في الفرات ومنشؤه في بغداد ، وهو صالح للملاحة ولكن بقوارب صغيرة.

وبعد مسافة قليلة من ذلك الموقع وجدنا أحراشا كثيفة يحتطب الناس منها وقودا لأهالي بغداد.

وبعد منتصف النهار شاهدنا «الفلوجة» (٢) ، وقبل أن نصل إليها مرننا بغابات النخيل الكثيفة. وها قد وصلنا بسلام وأمان بعون الله تعالى إلى الفلوجة وذلك في الساعة الحادية والعشرين.

__________________

(١) إنه نهر عيسى الذي ـ على حد علمنا ـ ياخذ من الفرات ويصب في دجلة.

(٢) معجم البلدان ٣ : ٩١٥.

٧٧

لقد تركنا الفرات الذي تكثر فيه طيور الكركي وبنات الماء (١) والبلشون والنورس والبلقشة وغيرها (٢).

يقول العرب ـ ممن كانوا بصحبتنا ـ أن فرعا من الفرات يصب في نهر دجلة قرب البصرة ، والفرع الآخر يصب في الخليج لنحدر من ثم إلى هرمز (٣) من جملة الأسماك ويسمى «سمك فراتي» إنه لذيذ جدّا ، وأصلح الأنواع قاطبة. ويصطادون منه كميات كبيرة على ضفتي النهر ، فيعتاش منه كلهم : الملاحون والفلاحون على السواء ، وكذلك الناس الذين يقال لهم «كرجي» (٤) وهم مسلمون أيضا ، منهم عرب يعيشون على السلب ، ومنهم تركمان وهؤلاء لا يسرقون لكنهم يعادون العرب الغزاة.

وهكذا وصلنا إلى الفلوجة. وعندها نفحنا الرجل الذي دق وتدا في الأرض وربط سفننا به أكرامية قدرها أربع شاهيات وثلاث قطع منفئة المؤيدي.

__________________

(١) ويقال له البيوضي وهو نوع من مالك الحزين شديد البياض له جمة مرغوب بها (معجم الحيوان لأمين معلوف ، ص ٩٦).

(٢) المرجع نفسه.

(٣) من المحتمل أن يكون هذا كري سعدة فقد كان فرعا من الفرات يخرج من جنوب هيت ويشق البادية إلى الأخيضر ثم إلى الحيرة ثم مدينة الزبير الحالية ويصب في خور الزبير مباشرة. وهو مندرس حاليّا (قاله الأستاذ فرحان أحمد مشكورا).

(٤) هل يشير يا ترى إلى الأكراد كما تقترح السيدة بينتو؟ لا أظن ذلك لأنه يقول : «منهم عرب ... ومنهم تركمان».

٧٨

الفصل الخامس

وصف الفلوجة حيث نزلنا

للإنطلاق منها إلى بغداد وتكملة الرحلة

تبعد الفلوجة عن بغداد مسيرة يوم ونصف ، وهي نقطة مرور يفد إليها عدد كبير من التجار الغرباء في طريقهم ذهابا أو إيابا بين حلب وبغداد ، لأنهم ينزلون الأحمال والبضائع في هذه البلدة ، ويوسقونها على القوافل أو بالعكس.

الكلك

يصنع أهل هذه المدينة أنواعا من القوارب أو الأطراف تحملها عشرة زقاق أو قرب ، أو أثنا عشر منفرخة بالهواء ومربوطة إلى بعضها. ثم يطرحون فوقها الواح خشب وتحمل كمية كبيرة من البضائع.

لم نفرغ البضائع مساء وصولنا ، بل أبقيناها في المراكب حتى انقضى اليوم التالي بأكمله. وفي الليل وصل ثلاثة وعشرون جملا أتينا بها سرّا للحميل ، وأرسلت رجلين من جماعتي برفقة الجمال المحملة ، أما أنا فبقيت في

٧٩

المركب إلى أن أعادوا الجمال إلي. لقد عملنا بسرية تامة لئلا يشعر الرئيس المحلي بوجودنا لأنه كان هناك لينفذ أوامر سيده جامعا الأموال لإرضائه (١).

إنصرفنا من هناك خفية في الليل بعد أن اتفقنا مع رئيس القافلة على أن نؤدي له سبع شاهيات عن كل جمل. بينما في أوقات أخرى عندما تكون الجمال كثيرة لا يحتاجها السيد عندئذ تهبط الأسعار فلا يدفع عن الجمل الواحد أكثر من ثلاثين مؤيديّا.

__________________

(١) لعله يشير إلى ممثل أبي ريشة دون أن يذكر اسمه.

٨٠