رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

دير الزور

من عادات القوم في هذه المدينة تقديم هدية إلى السنجق والمتقدمين في بطانته. وإلى المسؤولين كافة في البلدة. وعملا بهذه العادة فقد أرسلنا مساء ذلك اليوم إلى السنجق ثلاثة رؤوس سكر وأثنتي عشرة قطعة صابون ، كما أرسلنا عشرين قطعة صغيرة من الصابون وهدايا أخرى إلى الباشوات (١) ، مع صحن عامر بالزبيب ، وعشرة قطع صابون وقالب سكر. وفعلنا الشيء نفسه للكتخدا إذ بعثنا له قطعتي صابون عن كل سفينة من سفننا. ولقاء هدايانا هذه نلنا التفاتا كريما من قبل السنجق ، الأمر الذي لم نحظ به في أي مكان آخر خلال رحلتنا في الأيام السابقة.

مدينة الدير هذه كانت تسمى قديما «ميناء السلسلة» وبقدر ما أستطيع فهمه أن هذا الإسم اتخذ معناه من

__________________

(١) باشا (فارسية) وتجمع باشوات وبواشية.

٤١

الصخور العظيمة التي مررنا بها وتقطع النهر في أكثر من موضع وهي أشبه ما تكون بالحواجز. ومن المؤكد أن هذه الحواجز قديمة ، فلقد رأيت في مواضع عديدة من تلك الصخور مسامير مثبتة فيها لها رؤوس متجهة عكس مجرى الماء ، وبعض تلك المسامير كانت كبيرة جدّا. وهي مغمورة تحت الماء بمقدار ذراعين ، وقيل لي أن ذلك هو من عمل الأقدمين الذين إذا داهمهم الأعداء في سفن منحدرة مع مجرى الماء تصطدم بهذه الحواجز المخفية ولا بد لها أن تغرق.

ولما كنا قد أدينا ما علينا من رسوم في تلك المدينة ، وهي ست بندقيات (وهي العملة كما أسلفنا) ، وقطعتين من فئة المويدي (١) عن كل سفينة ، لأن هذا هو المبلغ المحدد عن أي نوع من البضائع.

في صباح اليوم الخامس من الشهر المذكور رحلنا من

__________________

(١) قيل نسبة إلى المؤيد شيخ من مماليك مصر (١٤١٢ ـ ١٤٢١) ذكرها المقريزي في : كتاب النقود القديمة الإسلامية ، تحقيق الأب انستاس الكرملي (القاهرة ـ ١٩٣٩) ص ٦٣. واختصر الناس هذه اللفظة حتى تشوهت فكتبها بالبي وغيره من الرحالين «مدين» فظن بعضهم أنها أسم نقد (يعقوب سركيس : نظرة في كتاب النقود العربية وعلم النميات) مجلة المجمع العلمي العراقي ١ / ١٩٥٠ ، ص ٢٩٢ ؛ بينما أرجعها البعض إلى كلمة معدن أو معدني على قول عباس العزاوي : تاريخ النقود العربية ، بغداد ١٩٥٨ ، ص ١٦٦.

٤٢

هناك فمررنا في موضع ضيق أو حاجز من الصخور ، وكانت المسافة بينها ضيقة جدّا ، حتى أن السفن بالكاد استطاعت المرور بينها ، بعد أن لامستها قليلا من الجانب الأيمن ، ولحق بها هناك أذى بسيط لكنه لا يذكر. وأكملنا السير طوال النهار حتى توقفنا عند المساء لنرتاح من السفر في الجانب الأيسر من النهر في موضع يقال له «مواكزير».Muachesir

برحنا ذلك المكان في صباح اليوم التالي ، وفي الساعة الرابعة رأينا مدينة قديمة مهملة واقعة على شاطئ النهر الأيسر وتسمى «البصيرة» (١) ,Elpisara وبعد ساعة وصلنا عند نهر يسمى الخابور ويصب في نهر الفرات ، أما منبعه ففي مدينة تسمى «ماردين» (٢) ويختلف لون ماء هذا النهر عن لون ماء الفرات ، إذ يميل قليلا إلى الحمرة ، ويقولون أنه صالح للشرب وصحي.

في الساعة السابعة من النهار رأينا قلعة عن يميننا يقال لها «الرحبة» (٣) ، وتخضع لسنجق الدير وبقرب تلك القلعة

__________________

(١) تقع بالقرب من آثار قرقيسية ، وتبعد عن دير الزور نحو ٥٤ كلم ، أو البسيرة (موزيل ص ٢٢).

(٢) معجم البلدان ٤ : ٣٩٠ ، في تركيا حاليّا.

(٣) وهي رحبة مالك بن طوق ذكرها الحموي : معجم ٢ : ٧٦٤ وأنظر موزيل : ص ٢٤.

٤٣

توجد مدينة متهدمة لا يزال بعض الناس يعيشون في بعض أحيائها تسمى «الرحبة العتيقة» (١).

توقفنا هناك ساعتين لنساعد في انزال حمولة إحدى سفننا ، لأنها كانت محملة اكثر من طاقتها زبيبا وتينا وحديدا. وفي المساء توقفنا عند الضفة اليسرى من النهر ، وربطنا السفن بسلاسل قرب موضع يقال له «سوق السلطان».Zoxosuldan

رحلنا من هذا المكان صباح اليوم التالي ، فسرنا ثلاث ساعات حتى وصلنا إلى مكان يقع على يميننا يقال له مدينة «القسارة» (٢) ويحكمها سنجق تركي ، أستوفى منا شاهيين عن كل سفينة ، فضلا عن الهدية المعتادة ، إذ أرسلنا له صحنا مليئا بالزبيب ، وخمس قطع صابون وجرة خمر (٣) ، وأرسلنا للباشا التابع له ثلاث قطع صابون.

في مساء ذلك اليوم وصلنا إلى «كورور» Gorur وهي قلعة واقعة على ضفة النهر اليمنى ، وكان الريح معاكسة لنا

__________________

(١) موزيل : ص ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) موزيل : ص : ٢٦ ، وذكر جيسني برج القسارة في الخارطة رقم ٤ ، وكذلك راوولف في رحلته وسماها «شارة» ص ١٤٦ وقال المحقق أنها تعرف الآن بأسم «تل الشارة».

(٣) اليس من الغريب والمعيب أيضا أن يتقبل السنجق التركي جرة خمر؟!

٤٤

طوال ذلك اليوم وبالرغم من الجهود الجبارة التي بذلها الملاحون فقد كانت المسافة التي قطعناها قصيرة جدّا ، ولم تهدأ الرياح إلا مع حلول المساء.

في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي ، وهو الثامن من شباط ، مرننا أمام جبل جرفت المياه القوية قاعدته ، ويقال له جبل «كرتون» Carteron وموقعه على ضفة النهر اليمنى ، وكان منظره يوحي إلينا بأنه سيقع علينا بين لحظة وأخرى ، لذا انتابنا خوف عظيم خاصة عند رؤيتنا كتلا كبيرة من صخوره ساقطة في ثلاثة مواقع من النهر. وكان مجرى الماء قويّا. لكننا أستطعنا التخلص من ذلك المكان بربع ساعة. قم رأينا أطلال مدينة مهملة تسمى «رومي».Romi وفي المساء توقفنا عند «حلدجي» Heldegi الواقعة إلى اليمين. وفي مساء اليوم التاسع وصلنا إلى قلعة تسمى «سورة» Sora فأمضينا ليلتنا هناك داخل السفن بعد أن أوقفناها وربطناها عند تلك القلعة. ولا تبعد هذه القلعة كثيرا عن آثار مدينة كبيرة متهدمة واقعة على الجانب الأيسر من النهر فوق تل قليل الإرتفاع مسح القمة. إن أنقاضها الكبيرة تحملنا على الظن بأنها كانت مدينة عظيمة ، وفي اعتقادي أنها أكبر بكثير من القاهرة في مصر. وقد فهمت من الملاحين أنهم سمعوا من شيوخهم أن هذه المدينة كان لها ٣٦٦ بابا ، تدعى هذه المدينة

٤٥

«الأرسي» (١) ,Elersi لقد نال منها الخراب كليّا ، ولا يشاهد فيها الآن سوى بقايا أسوارها الضخمة وأبراجها العالية. لقد كانت واسعة الأرجاء بحيث أننا مررنا بمحاذاتها منذ الصباح ولم نستطع أن نترك وراءنا جانبا واحدا من تلك المدينة قبل انتصاف النها ، مع العلم أن التيار كان حسنا وكنا نستعمل أربعة مجاديف. إن هذا والحق يقال شيء لا يصدق.

ليس هذا فحسب ، فقد أخبرنا أيضا بالنسبة إلى الأبواب ثلاث المئة والستة والستين ، إنه عند كل باب كان يقف قبان (٢) ، ويعني بلغة البلد الرجل الواقف عند الميزان ، وكل قبان يساعدة ستة رجال ، وما عدا هؤلاء كان في داخل المدينة آخرون لتسهيل عمليات الوزن. من هذا كله يستنتج مدى ما كانوا يتعاطونه من التجارة.

بعد منتصف النهار رأينا على بعد ثمانية أميال من مدينة «الأرسي» أنقاض مدينة أخرى متهدمة ومهملة تسمى «عنقا» Anga وتدل الآثار الباقية على أنها لم تكن كثيرة السكان وواسعة الأطراف ، لكنها كانت تملك عددا كبيرا من

__________________

(١) ذكرها جيسني (الخارطة رقم ٥) وكذلك راوولف في رحلته : ص ١٤٧ لكن المترجم الفاضل ظن بوجود خطأ مطبعي وقال هي بالحقيقة «انفي» أو «أختي» وعلق عليها ، وأما موزيل : ص ٣٠ قال «العرضي» وأضاف أن هذه الأطلال تسمى اليوم «الشيخ جابر».

(٢) ذكرها بلفظها العربي.

٤٦

النواعير ، بعضها عند النهر وبعضها الآخر في الداخل. واحصينا عددها فرأينا في الأقل عشرة على النهر وفي الداخل ، ومن هذا نستنتج أن الفرات كما هو حاليّا يسير في مجرى يختلف عما كان عليه في الماضي ، فتوسع أكثر مما كان في الأزمنة الغابرة عندما كانت تلك المدن مأهولة بالسكان.

في الساعة ٢٢ شاهدنا برجا في مدينة القائم (١).

وفي الساعة ٢٣ رأينا جهازا غريبا مكونا من ثلاث دوائر كان يسحب الماء من النهر ويصبه في ساقية من أجل سقي الحقول (٢).

توقفنا مساء للاستراحة عند ضفة النهر اليسرى ، ويقال لذلك الموضع «سيما» ,Sema وهناك داهمنا برد شديد طوال الليل.

وفي اليوم التالي وهو الحادي عشر من شباط ، بعد ساعة من النهار وجب علينا أن نعبر ثلاث فتحات ضيقة في النهر قريبة من موقع أبنية كبيرة متهدمة ، وقد هوت على

__________________

(١) مدينة معروفة ذكرها الرحالون ، وتشير إلى دير القايم الأقصى ، والقايم هو برج من مميزات أديار اليعاقبة والملكية على قول الشابشتي (الديارات : ٣٠٣). وقد بقي هذا الدير بحيث نزل فيه هارون.

(٢) يشير إلى النواعير كما عند موزيل : ٣٧.

٤٧

جانبي النهر ، فعبرنا ذلك المكان بإنتباه كبير وقد سيطر علينا الخوف من خطر الغرق في النهر.

بعد قليل رأينا قصرا فخما يسمى «كابيل جلبي» (١) ,Capilchelbi وفي نحو الساعة الرابعة صباحا رأينا عن يميننا «الروضة فوق الكرمة» (٢) ,Araudi Fochelcurmi ويوجد بالقرب من هذا الموضع مضيقان لا يقلان خطرا عن المضيق السابق.

عند منتصف النهار وصلنا إلى حصن يقال له «الدير» (٣) Eldir ويقع فوق تل جميل على ضفة النهر اليسرى ، وبعد قليل توقفنا في موضع يسمى «رقة الميل» Rechtalmel منتظرين هدوء الرياح لأنها كانت تهب عكسنا. وبعد أن أكملنا الإنحدار مررنا بناعورين متقابلين أي الواحد إزاء الآخر ، وكانت نحو الساعة ٢٢ ثم أتينا إلى موقع يدعى «زعفران» (٤).Zafara

نهضنا عند الصباح وبارحنا ذلك المكان ، فسرنا طيلة النهار ، مارين بواحد وثلاثين موضعا ضيقا كالذي وصفته آنفا. وفي الثانية عشرة قدمنا إلى موضع قالوا أن فيه مثوى

__________________

(١) لعلها أطلال الشكرة التي ذكرها موزيل.

(٢) لا أرى أنها تشير إلى موضع معين بل إلى وصف عام.

(٣) موزيل : المرجع نفسه.

(٤) في خارطة جيسني رقم ٥ يذكر الزعفراني.

٤٨

أحد الأولياء الذي يلقى منهم الأكرام كما نكرم القديسين في ديارنا. وقد رمى الملاحون في ذلك المزار رغيفا عن كلّ واحد منهم تقربا ، إذ قالوا : إن قوارب محملة بالقمح مرت من هناك فلم تقدم بحارتها شيئا للمزار فغرقت حالا في ذلك المكان (١).

وفي الساعة ٢٣ من ذلك اليوم وجدنا قرية تسمى «الكرخي» Elcuxi وكانت عن يسارنا. وبعد قليل رأينا قصبة مأهولة بالناس تسمى «الميزتانا» Elmesetana حيث أمضينا تلك الليلة.

في الساعة الحادية عشرة ، وبعد أن سرنا ثلاث ساعات ، مررنا بمنحدر قوي جدّا هو أخطر ما رأينا حتى الآن (٢). لكننا نجونا ومررنا بسلام بفضل الصلوات الحارة التي رفعناها إلى الله.

بعد أن عبرنا ذلك المنحدر بدأنا نمر بمواضع مأهولة من بيوت وأبراج ونخيل وبساتين وغير ذلك من الأبنية. وكانت هذه كلها قائمة عند سفح جبل لطيف جدّا وتقابله في النهر جزيرة صغيرة عامرة بالنخيل وغرسات البرتقال ، وكانت على ضفة النهر اليمنى. وبعد مسافة قليلة من

__________________

(١) إنه مزار الشيخ رجب الرفاعي.

(٢) ينوه راوولف أيضا بخطر ذلك الموضع (رحلة المشرق : ص ١٥٠).

٤٩

الجزيرة المذكورة ، وعلى الضفة نفسها ، بدأنا نساهد بيوتا وأبراجا ونخيلا وبساتين وغير ذلك ، ثم جزيرة أخرى تسبه السابقة لكنها أكبر منها ، وكانت معظم ضفافها مسورة. ورأينا عددا كبيرا من سكانها جالسين هناك على الأسور للتسلية.

وما عدا ذلك توجد جزر أخرى مليئة بالأحراش ونباتات الوقود كالطرفاء والعوسج. وهناك بيوت قائمة أيضا. كما رأينا على اليابسة أعدادا كبيرة من أشجار البرتقال والاترج وسائر الأشجار المثمرة. وبسبب كثرة الجزر والنواعير التي تبلغ أربعة عشر في تلك المنطقة ، لذا توجد منحدرات مائية خطيرة جدّا على الجانب الأيسر من النهر.

٥٠

بلدة عنه

أما قلعة عنه فلها على شاطئ النهر ثمانية عشر ناعورا ، تؤوي هذه البلدة عددا كبيرا من قطاع الطرق (كذا) (١).

وهنا لا يسعني إلا أن أذكر أننا من بيره جك ، تلك البلدة الصغيرة العامرة بالسلع حيث أخذنا السفن في نهر الفرات إلى هذا الموضع الذي هو قلعة عنه. استغرقت السفرة أربعين يوما كانت مليئة بالمغامرات والأخطار خوفا من الغرق تارة ، ومن الأغتيال تارة أخرى.

مع العلم أن قطاع الطرق لا يقتلون بل يكتفون بالاستحواذ على المواد ثم يفرون. ولهذا فأنفع شيء لمثل هذه الحالة هو استعمال البنادق لأنها تدخل الفزع في قلوبهم.

__________________

(١) مع الاعتذار عن مدينة عنه الكرام ، وقد قيل : ناقل الكفر ليس بكافر.

٥١

أبو ريشة

يخضع هؤلاء لزعيم يدعى «أبو ريشة» (١) الرجل القوي لكثرة الأموال التي ترده عن طريق الأتاوات. هذه المبالغ ليست جسيمة بحد ذاتها ، لكنه يستوفي أموالا طائلة من كل ما تثمره الأرض ، كما له حصة في مواليد الحيوانات.

أما الأماكن التي ذكرناها ونزلنا بها لقضاء الليل في الأيام السابقة فمعظمها مقفرة ، أو هي أحراش أو غابات أو جبال لا يأوي إليها سوى بعض قطاع الطرق ، ما عدا : بيره جك والرقة والدير وقلعة باليس والرحبة ، والرحبة العتيقة وعشارة والكوخي والميزتانا والقرى وقلعة عنه ، فهذه الأماكن مأهولة وعامرة.

تقوم بجانب حصن عنه مدينة أشبه ما تكون بالجزيرة ، فالماء يحيط بها من كل الأطراف إلا من جهة الحصن ، وتسمى المدينة أرض ديانا ، ويسكن في هذه المدينة أبو ريشة سيد العرب (٢).

وقد أقام لإدارتها سنجقا عربيّا يقال له «جر علي» (٣) ؛

__________________

(١) كتبه السائح «أبو ريزة».Aborise

(٢) ذكره الرحالون الذين ساروا في هذه الطريق مثل فيدريجي (الرحلة المعربة : ١٦٥) وديللافاليه (الرحلة المعربة : ٣٢ ، ١٤٨ ، ١٧٦) ويسمونه سيد العرب أو الزعيم أو ملك العرب والبادية.

(٣) وردت اللفظة في الرحلة بحرف صغير فهي والحالة هذه لا تشير إلى أسم ـ ـ علم ، فتكون صفة أو كنية أم هي خطأ مطبعي؟

٥٢

أرسلنا إلى الزعيم ـ أي أبو ريشة ـ (١) عشر قطع صابون ، أما لصاحبه «جر علي» فقد بعثنا إليه ست قطع وصحن زبيب ، كما أرسلنا قطعتي صابون إلى أحد حراس «الأمين» وزوجي سكاكين المانية الصنع من النوع المعروف بأسم «سكالا».

تكثر في هذه الأماكن أشجار النخيل والليمون والبرتقال ، ويسكن هذه الإنحاء خليط من العرب واليهود والأتراك. كما فيها ـ على ما قيل لي ـ عدد غير قليل من شاربي الكحول المدمنين (٢) ، إذ أنهم يستهلكون في تلك البلدة كمية كبيرة منه (٣).

__________________

(١) لم يتأكد لنا أسم الزعيم من آل ريشة في ذلك العهد. ففي رحلة تكسيرا يرد أسم أحمد (جعفر خياط : مشاهدات تكسيرا في العراق سنة ١٦٠٤ ، مجلة الأقلام ١ / ١٩٦٤ ص ١٤٨) ويذكر لونكريك (أربعة قرون : ص ٥٧) أسم أحمد (أو حميد) في مجرى كلامه عن أحداث سنة ١٥٧٥ فهل هو الشخص نفسه الذي ذكره تكسيرا وقد حافظ على زعامته كل هذه المدة مع أن أخبار هذه الأسرة تشير إلى أن أبناءها كانوا يتقاتلون على الزعامة. وهناك أسم آخر وهو الأمير شديد بن أحمد كما يقدمه الأستاذ فرحان أحمد سعيد في كتابه : آل ربيعة الطائيون.

ص ١٩٠ وفي هذا الكتاب وصف لطيف لمقر إمارة أبو ريشة. ص ١٧٧ وما بعدها. وأنظر أيضا : زهير العطية : الأعمال الجصية في حوض شمال الفرات ، مجلة آفاق عربية ١ (١٩٧٥) العدد ٣ ص ٨٠ ـ ٨٥.

(٢) لم يقل الخمر بل مستقطر العنب ، فأرى انه يشير إلى العرق.

(٣) تطرق امرؤ القيس والأخطل وعلقمة إلى خمر عنه في أشعارهم ، وأشار

٥٣

يحاول بعض الناس دائما المخادعة ، تارة مع هذا وطورا مع ذاك لإنتزاع الأتاوات ، ولا هم لهم سوى الحاق الأذى بالمستطرقين. وفي سبيل المثال : وصل قبلنا إلى هناك مركب أخذوا من راكبيه ستين قطعة من نقود البندقية دون وجه من العدالة. وحاولوا فعل الشيء نفسه معنا لو لا وجود بعض الأشخاص المتقدمين في رفقتنا منهم الخواجا سليمان وعثمان مكروس (مغروس ، مجروس؟) وهما من أكابر القوم إذ كانا موضع أحتفاء حيثما مررنا ، ولو لا وجودهما لتلقينا المعاملة نفسها ـ المهيمنة ـ في إنتزاع الأتاوات. مهما يكن من أمر فقد أجبرنا على منح الباشا التابع للزعيم قالبي سكر وأثني عشرة صابونة. كما أعطينا الباشا آخر خمس عشرة صابونة ، وإلى شيخ المدينة وهو الكتخدا ما يقارب ذلك. عندئذ توقفوا عن الألحاح ، ولم يطلبوا أكثر من المعتاد أي شاهيين عن الحمل الواحد من الأقمشة ، أو ثمانية عشر من فئة المؤيدي للحمل الواحد ، وكذلك عن الوبريات والقماش المسمى موكياري.

في هذا الموقع أبدلنا الملاحين العاملين في مركبنا وفي السفن الأخرى ، فأمامنا خمسة أيام صعبة وخطرة. وأتفقنا مع الربان على أن ندفع له تسع شاهيات ، وللملاحين

__________________

الهمداني إليها بكونها من المدن المشهورة بخمرها ، ووصف الشابشتي كرومها : الديارات ، تحقيق كوركيس عواد ، ط ٢ (١٩٦٦) ص ٢٢٨.

٥٤

ست شاهيات لكل واحد منهم ، فضلا عن قالب صابون وصحن زبيب لكل واحد منهم أيضا.

في اليوم الرابع عشر ـ من الشهر ـ جاء «الأمين» ليستوفي المكس. فقبل أن يبدأ بعمله أسرعنا فقدمنا له صحن زبيب وجوزا ، وأعطيناه خمس قطع صابون وثلاث صحون زبيب ؛ ثم أن كاتب «الأمين» أرسل إلينا على سبيل الهدية سمكتين ، فأرجعناه محملا بعشر قطع صابون ـ كبيرة ـ مع قطع صغيرة من المادة نفسها.

ولما كان الخواجا سليمان قد غمرنا بأفضاله في هذا المكان ، لا بل خلال الرحلة كلها. لذا قدمنا له عشرين قطعة صابون وصحن زبيب ومشطا من العاج. فبعث الرجل ساعيا لينبهنا بأن نسرع بالسفر لأن الصوباشي (١) سيأتي بدوره إلينا ليطالب بأربعة أذرع من القماش الأحمر وعشر فينتيم (٢) وغير ذلك مما توحيه إليه وقاحته! لذلك أسرعنا بالرحيل من هناك فإنطلقنا نحو الساعة الحادية والعشرين.

__________________

(١) صوباشي (تركية) وهو ملازم الجند الذي يؤدي أعمال الشرطة في المدن كمراقبة الأسواق وتعمير الطرقات وما إلى ذلك.

(٢) الكلمة غير واضحة «اتكون» من فئة العشرين؟

٥٥
٥٦

الفصل الثالث

تكملة السفر من عنه إلى جبه (١)

غادرنا مدينة عنه ، وما أن أبتعدنا عنها قليلا حتى إضطررنا إلى عبور أربعة منحدرات صخرية حيث يجري الماء بقوة كبيرة ، فتملكنا خوف عظيم وفي هذا الموقف الحرج تحققنا من مهارة الربان الجديد ونباهة الملاحين.

أكملنا السير حتى المساء ، ومررنا بتسعة مواضع ضيقة جدّا بسبب وجود النواعير القائمة هناك. أما البيوت فكانت عديدة متناثرة على عدوتي النهر ، كما أن تلك الحقول كانت عامرة بأشجار النخيل.

وفي المساء أتينا إلى جزيرة في الفرات تسمى «اناتلبس» (٢) Anatelbes حيث لا تزال تشاهد آثار أسوار

__________________

(*) ذكر المؤلف رقم الفصل لكنه لم يضع له عنوانا.

(١) وهي جزيرة تلبيس أو تلبس (بدون ياء) ذكرها الرحالون مثل موزيل ص ٤٢ ، وذكرها جيسني باسم اناتلبس. تبعد نحو ١٤ كلم إلى الجنوب من بلدة عنه ، كانت قديما محصنة. طه باقر وفؤاد سفر : المرشد إلى مواطن الآثار

٥٧

سامقة إلى عنان السماء ، أما شرفاتها فقد تهاوت على الرض. وقد أخبرنا الملاحون أن في ذلك المكان كانت تقوم بلدة كمدن اليابسة لكنها سقطت على أثر زلزال مدمر فطمست أسسها في النهر على الحالة التي رأيناها.

ثم نظرنا إلى الشاطئ الأيسر فرأينا برجا ، وأخبرنا الرجال أن الناس الذين نجوا من كارثة الزلزال الذي ذكرناه قبل قليل قد شيدوا حصنا هناك وسكنوا فيه مدة طويلة من الزمن ، لكنه لم يلبث أن تهدم فتركه ساكنوه وتفرقوا.

بقينا هناك بإنتظار إحدى سفننا التي تأخرت في عنه ، فأنضمت إلينا في الخامس عشر من الشهر. وفي الساعة الرابعة صباحا انتقلنا من هناك تاركين على الضفة اليسرى غابة نخل وموضعا مأهولا بالسكان وعددا من النواعير. كما مررنا بمواضع ضيقة في النهر لأنها مسدودة بحجارة ، ولهذا السبب كانت المياه تجري بسرعة ، وكان الملاحون يبحثون بجهد كبير عن الممر المائي بين تلك الصخور ، لأن تلك الممرات كانت ضيقة جدّا بحيث لا تمر المراكب إلا بصعوبة بالغة ولا مفر من ملامستها الصخور. ولكننا عبرنا تلك الممرات الستة بسلام بعون الله وبفضل مهارة الملاحين ، وتخلصنا منها نحو الساعة السادسة من النهار.

__________________

والحضارة ، المرحلة الأولى ، بغداد ـ ١٩٦٢ ، ص ١٩ ـ ٢٠.

٥٨

تقوم على الضفة اليسرى من النهر منازل عديدة تسمى «بني يابين» وجزيرة يقال لها «بيجان» (١) Beggian مليئة بأشجار النخيل ، ثم رأينا موضعا يدعى «كبين» (٢).Cabin أما الجهة اليسرى فما رأينا غير الأرض القفراء والجبال الجرادء وبعض أشجار النخيل المتفرقة.

سرنا حتى الساعة ٢٠ مارين بمواضع مأهولة كثيرة على جهتي النهر ، وعدد كبير من النواعير وهو ما يدل على أن مساحة كبيرة من الأراضي البعيدة عن النهر هي خصبة.

وبعد قليل رأينا أكواخا في موضع يدعى «سبرية» Sabrie وهو على ضفة النهر اليسرى ، وتلاه بعد قليل موضع مشابه له يسمى «زاوية» (٣) أو «زوية».Zouia

في الساعة ٢١ خلفنا وراءنا جزيرة صغيرة مليئة بالأحطاب التي تستعمل للايقاد كالطرفاء والعوسج ، وأسم الجزيرة «زيرة» ,Zera ومن بعدها مجموعة أكواخ يقال لها «جيرة» (٤) Giera وهناك عدد كبير من النواعير. والموضع التالي الذي يشبهه يسمى «عدلية» Adlelie وبعد مسافة قليلة

__________________

(١) ذكرها موزيل ص ٤٢ ، وكذلك جيسني في الخارطة رقم ٥.

(٢) المعاضيدي : أعالي الفرات : ص ١٣٢ و ١٣٣.

(٣) المرجع السابق : ص ١٣٢ و ١٣٣.

(٤) أو جرعة أو كورو كما في كتاب : المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة ٢٠ : ١.

٥٩

«باصبلية» Bousobileiia وهي عبارة عن حصن مأهول بالسكان ، ثم «هذرتا» Ederita و «الجرمة» (١) Germa وكلاهما مأهول ويقعان على الشاطئ الأيسر.

ولما تركنا هذه المواضع وابتعدنا عنها نحو الساعة ٢٣ مررنا بأماكن أخرى في النهر تقدر بأربعين موضعا وكلها خطرة جدّا. وفي آخر المطاف قررنا أن نأخذ قسطا من الراحة في «بينكسي» Benexi وهو موضع مأهول بالسكان ويقع على الشاطئ الأيمن من النهر.

أرتحلنا من ذلك المكان في السادس عشر من الشهر. وفي الساعة الثانية من ذلك النهار مررنا بقريتين الواحدة إزاء الأخرى : فتلك الواقعة على الجانب الأيمن تسمى «ديرة» (٢) ,Dera أما الأخرى فتسمى «سيميا».Simia وبعد قليل رأينا على الجانب الأيسر قرية أخرى كبيرة تسمى «جيلمة» (٣) Gielma وأخرى شبيهة بها لكنها على الضفة اليمنى ويقال لها «سيا» Sia ثم رأينا ستة نواعير ، وقرية أخرى أسمها «الناصرية» Naseria وفيها محلات عديدة وغابات نخيل ونواعير.

__________________

(١) الجرنة عند موزيل.

(٢) ذكرها موزيل وكذلك جيسني.

(٣) موزيل : المرجع نفسه.

٦٠