رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

الفصل الثاني

وصف الرحلة من حلب إلى بغداد

بدء السفر (١)

أعلم أيها القارئ أني غادرت حلب متوجها إلى بغداد في الثالث عشر من شهر كانون الأول سنة ١٥٧٩ مع تجار كثيرين منهم نصارى وآخرون من أتباع الأديان الأخرى. فحملنا الأموال والبضائع على عدد كبير من الجمال والبغال ؛ وبعد أن أقمنا كلنا الصلاة (٢) ، امتطينا الخيول. وفي مساء اليوم الأول وصلنا إلى قرية تدعى «الباب» Bebbe حيث أمضينا ليلتنا الأولى من الرحلة.

في صباح اليوم التالي رحلنا من ذلك المكان قبل انبلاج الصباح بثلاث ساعات وتابعنا سيرنا. وفي المساء

__________________

(١) أضفت عناوين ثانوية لتسهيل متابعة الرحلة.

(٢) يلاحظ أن السائح كان متدينا فهو يذكر الله سبحانه وتعالى في حله وترحاله ، وفي الصعوبات ، كما سنرى أكثر من مرة خلال الرحلة.

٢١

أرتحنا في مكان هادئ يسمى «ساجور» (١) Saguir ، وغادرنا ذلك الموضع في صباح اليوم التالي قبل شروق الشمس بساعتين. وبعد أن سرنا طوال النهار وصلنا إلى «البير» (٢) Albir التي تقع على شاطئ الفرات الأيسر ، فتوقفنا هناك ؛ وقبل أن نعبر النهر لنمضي إلى تلك المدينة ، أنزلنا أحمالنا في الجهة اليمنى من النهر وعملنا على تعبيرها بواسطة قارب سبق أن طلبنا إعداده في «بيره جك» لهذه المهمة. ولما لم نكن بمأ من في ذلك الموضع أسرعنا بأكمال هذه الأمور إذ يتوجب علينا الحذر الشديد من اللصوص ، ولا سيما أن الليل قد جن ، لذلك عبرنا رجالا آخرين إلى جانب أولئك العاملين معنا من أجل الإسراع في تحميل البضائع ، وفي ضوء الشموع حملنا بأسرع وقت أمتعتنا وعبرنا النهر إلى الجهة اليسرى حيث مدينة «بيره جك». وهناك أوقفنا قاربنا عند بيت صاحب القوارب المدعو «مصطفى» الذي تعهد لنا بأن يقودنا إلى موقع آخر يسمى «الفلوجة» يبعد عن بغداد مسيرة يوم واحد.

ما إن توقف القارب عند بيت الرجل ، حتى أخرجنا

__________________

(١) بليدة تقع على الرافد الساجور أو الصاجور.

(٢) وهي البيرة أو بيره جك (معجم البلدان ١ : ٧٨٧) ذكرها الرحالون الذين اتخذوا هذا الطريق للقدوم إلى العراق من أمثال فيدريجي (رحلة : ص ١٦٥) وديللافاليه (رحلة : ص ١٨) وسبستياني وغيرهم.

٢٢

الخيمة التي كنا قد أعددناها خصيصا في حلب لتغطية القارب كله من كوثله (١) إلى مقدمته. ولما كان المناخ باردا فنحن الآن في الخامس من كانون الثاني (٢) ، لم نستطع تحمل البرد القارس ، لذا ابقينا أربعة رجال في المركب يقومون على حراسته نهارا وليلا. أما نحن فقد ذهبنا ونزلنا في دار مصطفى حتى يحين موعد سفرنا. وكان الرجل ـ والحق يقال ـ مضيفا ورفيقا كريما ، فبذل قصارى جهده من أجل راحتنا في بيته ، وإعادة الطمأنينة إلى نفوسنا لطرد الأفكار السوداء عنها ، لأن الخوف كان قد دب إلى قلوبنا مصحوبا بالقلق في الليالي الثلاث السابقة إذ كنا بين حلب وبيره جك نخشى أن يداهمنا القتلة بين لحظة وأخرى ، فقد قيل لنا أن ذاك الطريق خطر ويعج بأعداد كبيرة من اللصوص. وقد بلغنا إذ كنا في حلب قبل أن نبارحها بأربعة أيام أن قافلة محملة بالحرير داهمها اللصوص فسرقوها وقتلوا ثلاثة رجال منها وجرحوا أثنين. لكن ذلك لم يحدث لنا ، فدليلنا انكشاري (٣) وهو رئيس القافلة ، وفي ركابنا عدد

__________________

(١) الكوثل أي مؤخر السفينة.

(٢) التاريخ مغلوط كما سيظهر بعد أسطر.

(٣) أي الجند الجديد (تركية) لعبوا دورا مهما في الدولة العثمانية ودام أمرهم من القرن الرابع عشر حتى سنة ١٨٢٦ عند ما تمردوا وطغوا فقضى عليهم السلطان محمود الثاني ، وكانوا يعرفون أيضا بأسم ينجرية. أنظر :

٢٣

كبير من المسلمين (١) ، المقتدرين.

مساء السادس عشر (من كانون الأول) وضعنا بضائعنا كلها وامتعتنا في مركب مصطفى ، ثم ذهبنا لتقديم الهدايا إلى سنجق (٢) مدينة بيره جك ؛ والهدية عبارة عن أربعة رؤوس سكر ، وأربع شموع عسل يبلغ سعر الواحدة شاهيا (٣) ، والشاهي يعادل في نقودنا عشرين فلسا (٤). كما قدمنا قطعا من صابون حلب. وأعطينا للكتخدا (٥) التابع للسنجق رأس سكر واحدا وشمعتين وقليلا من صابون حلب. وهكذا فعلنا نحو الأمين الذي كان يستوفي الرسوم في ذلك المكان ، إذ قدمنا له رأس سكر وقالب صابون (٦).

بقينا في ذلك الموضع إلى ٥ كانون الثاني (١٥٨٠)

__________________

د. علي الوردي : لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج الأول ، بغداد ١٩٦٩ ، ص ٢٦٣ وما بعدها.

(١) يستعمل كلمة موروMoro.

(٢) كلمة تركية تعني البيرق ، وتشير إلى منطقة يحكمها سنجق بكي ، أو إلى وحدة إدارية تابعة للولاية ، وهنا تشير إلى الشخص الحاكم نفسه.

(٣) نقد عثماني صغير ، عرف بهذا الأسم لأن السلطان العثماني اتخذ لقب الشاه عند استيلائه على بعض أقسام إيران. العزاوي : تاريخ النقود العراقية : ١٣٤.

(٤) يشير إلى أصغر النقود التي كانت متداولة آنذاك في البندقيةSoldo.

(٥) هو الموظف المعتمد في الوحدة الإدارية لمساعدة السنجق.

(٦) الأصح : صحن زبيب كما سنرى في المحطات التالية.

٢٤

منتظرين وصول خمسة مراكب طلبت الرحيل بصحبتنا. وفي مدة الانتظار هذه عانينا كثيرا من البرد القارس والثلوج.

وصف قوارب بيره جك

لما كنا قد تحدثنا أكثر من مرة عن مراكب هذه البلاد التي استعملناها ، فلا بأس أن نتوقف قليلا في وصف طريقة صنعها. وسأخص بالذكر المركب الذي استقللناه في بيره جك.

تصنع قوارب بيره جك (١) من قاع مزدوج الألواح لكي لا تغرق بسهولة في حالة اصطدامها. وفوق هذه الأرض المزدوجة تصف المساند أو العطفات الواحدة غير بعيدة عن الأخرى ، ثم تثبت الألواح الخشبية على الجهتين بحيث توضع الخشبة الواحدة فوق الأخرى مسافة أصبع أو أصبعين ، ثم يسدون الفراغات بالقطن حيث نستعمل نحن القنب.

لا يستخدمون السارية في هذه المراكب. ويصنعون مقدمتها دقيقة إذ تنتهي بزاوية حادة ، على شاكلة القوارب التي نسميها عندنا «بوركيللي» (٢) لكن مقدمة هذه أعلى. أما

__________________

(١) اشتهرت بيره جك بصنع الشختور (ج : شخاتير) وكذلك هيت. أنظر : موزيل : الفرات الأوسط ص ٥٠.

(٢) هي قوارب تستعمل للتنقلات العادية في قنوات البندقية.

٢٥

المؤخرة أي الكوثل فتكاد تكون مقطوعة رأسيّا مع شيء من الاستدارة. فهي تشبه مراكبنا التي نسميها «بياتي» (١). وفائدة الاستدارة هي لإفساح المجال للدفة التي تتكون من قطعة خشب مدورة فيها شق يثبت فيه المردي المصنوع من لوح خشب عريض له نهاية أشبه ما تكون بالرفش (٢) وتتم قيادة المركب بهذا اللوح الذي يحركه الربان يمينا وشمالا ، أو قد يسحبه إلى سطح الماء بحسب الحاجة. وقطعة الخشب مثبنة بتوازن ، وفي رأسها فتحة كبيرة يدخلون فيه قطعة خشب تمتد من الكوثل حتى منتصف المركب حيث يجلس صاحبه الذي يديره. إنه والحق يقال تصميم غريب ، من لا يراه بعينيه لا يستطيع أن يتصور شكله. وهناك في المركب أيضا خشبتان الواحدة في المقدمة والثانية في المؤخرة تربطان جانبي المركب فتزيدان من متانته ، ويجلس عليهما الملاحون على شاكلة السجناء قديما (٣). أما المجاديف فهي أعواد طويلة وفي آخرها قطعة خشب عريضة مثبتة فيها.

__________________

(١) هي قوارب مسطحة ، أنظر رحلة فيدريجي : ص ١٦٥.

(٢) الرفش ما يجرف به التراب ونحوه ، مجذاف السفينة (المنجد).

(٣) كانت الأنظمة القديمة عند الرومان تعاقب المجرمين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة الخدمة في المراكب والسفن للتجذيف على نسق واحد وعلى إيقاع صادر من النقر الرتيب على الطبل.

٢٦

بعد أن وصلت المراكب التي كنا ننتظرها ، وبعد أن أدينا ضريبة مقدارها ١٩ بندقيّا (١) عن كل مركب ، فهذا هو الملغ المحدد هنا ، تعاملنا مع أربعة ملاحين لتسيير مركبنا لقاء ثلاث بندقيات لكل واحد منهم على أن يوصلونا إلى مدينة «عنه» وأن نتحمل المصاريف الأخرى الواجبة علينا تجاههم.

__________________

(١) من النقود المتداولة آنذاك في البندقية وتسمى Zecchino وأصل اللفظة ـ على ما يظهر لي ـ عربي : السكة.

٢٧
٢٨

الرحيل

أنطلقنا من «بيره جك» في منتصف النهار ، فذهبنا وتوقفنا عند قرية غير بعيدة منها تسمى «كفرى» (١) Caffra وتقع على ضفة النهر اليمنى.

وفي اليوم السادس من الرحلة إنطلقنا من هناك وسرنا طوال النهار ، فوصلنا عند المساء إلى موضع يقال له «مكسارة» (٢) Cerchis Maxara ويقع على الشاطئ الأيسر من النهر ، وقابله على الضفة الأخرى موضع يقال له «جركيس» (٣) فتوقفنا هناك بإنتظار المراكب الثلاثة المرافقة لنا التي أرتطمت بقاع النهر بسبب حمولتها

__________________

(١) ذكرها جيسني (الخارطة رقم ٢) وراوولف في رحلة المشرق : ص ١٠٤ إلا أن المترجم كتبها «كسرة» لتشابه الفاء والسين (بالأحرف الأفرنجية) في الطباعة القديمة.

(٢) لعلها مغارة ، تل مغارة عند جيسني.

(٣) أو كركيز كما ذكرها جيسني.

٢٩

الزائدة ، فتوجب علينا إرسال رجل إلى بيره جك لطلب سفينة أخرى لكي نخفف من حمولة السفن المذكورة.

التحقت بنا أخيرا تلك السفن مساء اليوم الثامن من الشهر ، وكانت أحداها في حالة يرثى لها لكثرة الماء المتسرب إليها من جراء اصطدامها بالصخور الكامنة تحت الماء. فأسرع ملاحونا يمدون يد العون إلى أولئك الرجال ، وأمضوا الليل كله في العمل على إخراج الماء منها. وبعد تعب وجهد كبيرين تمكنوا من اصلاحها وإعادتها إلى حالة مقبولة. وفي تلك الأثناء وصلت سفينتان من بيره جك محملتان بالرصاص ووجهتهما بغداد وكانتا تحت قيادة جاويش (١) ، وكان الرصاص مخصصا لحامية بغداد من أجل صنع العتاد.

ثم قدمت سفينة أخرى كانت تقل شخصا مهما برتبة «بيك» (٢) إلى البصرة.

بهذه المناسبة لا بد من التحذير بعدم تحميل المراكب أكثر من طاقتها ، فهناك احتمال كبير للاصطدام بالصخور أو بجذوع الأشجار الكبيرة المخفية تحت الماء والتي لا ترى عادة.

__________________

(١) ضابط من رتبة صغيرة يعهد إليه القيام بأعمال مختلفة (دوزي : تكملة المعاجم العربية ٢ : ١٣٢).

(٢) لقب اعتبار إجتماعي أو عسكري (دوزي : تكملة ١ : ٥٠٦).

٣٠

بقينا في ذلك المكان إلى اليوم الحادي عشر من كانون الثاني. ففي صباح ذلك اليوم انطلقنا كلنا معا لنكمل السفر. وعند المساء توقفنا عند موضع يقال له «تل ويوي» Tell euiui وهو على ضفة النهر اليسرى. تعبنا هناك إلى منتصف اليوم التالي ونحن نعمل من أجل سحب السفن المحملة التي كانت قد انغرزت في الرمال وأصبحت بخطر. وكم بقينا في ذلك اليوم! ومما زاد في تعبنا ذلك المناخ البارد والأمطار والثلوج والرياح!

عند انتصاف النهار انطلقنا من هناك ، وتوقفنا عند المساء في موقع يقال له «متاو لنتاكي» Matao Lantache ويقع على الضفة اليمنى للنهر فأمضينا الليل هنا. وفي الصباح ، وهو اليوم الثالث عشر (من كانون الثاني) رحلنا من هناك ، وبقينا نمخر عباب النهر طيلة ذلك النهار ، ثم توقفنا في المساء عند موقع يسمى «قلعة النجم» (١) Calatel negiur وهي قلعة قديمة مهجورة ، فاوقفنا مراكبنا عند الضفة اليسرى من النهر مقابل القلعة وربطناها إلى الشاطئ.

في مساء اليوم التالي وصلنا إلى «سوق النصير» Zoxeniasir الواقعة على الشاطئ نفسه. وفي ذلك اليوم

__________________

(١) قال : قلعة النجور ولعله خطأ مطبعي أو زلة قلم ، وقد ذكر الحموي قلعة النجم (معجم البلدان ٤ : ١٦٥) ووصفها راوولف وتكلم عن حادثة معاصرة (رحلة المشرق : ١١٢).

٣١

اصطدمنا مرتين مع اللصوص فقاتلناهم ببسالة. وحدث ذلك أننا أدنينا مراكبنا من الشاطئ فحاول هؤلاء سرقتها ، فأسرعنا وتصدينا لهم بالبنادق والسهام ومختلف الأسلحة المتيسرة عندنا. وبعد هذا الحادث توجب علينا اليقظة خاصة في تلك الليلة لأن أولئك الناس لا مصدر لهم للعيش غير السرقة!

إنطلقنا من ذلك المكان حتى حل المساء فتوقفنا في موضع يسمى «ميسارافي» Miserafi وهو على شاطئ النهر الأيمن. وفي اليوم التالي ذهبنا من هناك إلى قلعة «باليس» (١) Beles التي تقع على الضفة اليسرى للنهر. وكان البرد شديدا للغاية ، وقيل أن في ذلك الموضع أناسا قتلة ، فأستولى علينا خوف عظيم.

في السابع عشر من شهر كانون الثاني أكملنا الرحلة فوصلنا إلى «بليس» (٢) Blis وتقع على ضفة النهر اليسرى ، وتكثر في ذلك الموضع القيعان الرملية الضحلة ، والموانع الصخرية وجذوع الأشجار المغمورة في المياه. ولهذا تعبنا كثيرا في ذلك اليوم من إنزال البضائع إلى اليابسة تارة وإعادتها إلى السفن تارة أخرى ، أو نقلها من هذه السفينة

__________________

(١) ويقال لها أيضا بالس.

(٢) أظنه كرر أسم الموقع المذكور سابقا.

٣٢

إلى الأخرى عندما كنا نلاحظ أنها في موقع ضحل ، لأن سفننا في الواقع كانت محملة أكثر من طاقتها وكان من المفروض علينا أن نخفض من الحمل ولكن ما العمل؟ وبسبب هذا التحميل المفرط تسربت مياه قليلة إلى داخلها ، خاصة إلى جوف سفينتنا ، وبالرغم من كونها حديثة الصنع ، فلم يحل ذلك دون دخول المياه إليها ، وحاولنا معالجة الموقف بهمة وإنتباه مستمرين.

لم نرحل من ذلك الموضع حتى صباح الثامن عشر من الشهر نفسه ، وفي المساء جئنا ونزلنا في «مليو زراعة» (١) Meliolzura وهو موضع يقع على ساحل النهر الأيمن.

وحدث في ذلك اليوم أننا فقدنا إحدى السفن وكانت بقيادة «خواجا بكر» لأنها اصطدمت بجذع شجرة كبيرة فغرقت ، وفقدنا من جراء ذلك حاجيات كثيرة. وفي هذه الأحول أسرعت سفينتان في الجري والابتعاد لكي لا تأخذا شيئا من البضائع الغارقة ، وهكذا فمن السفن الست بقيت أربع في تلك الأماكن الموحشة والخطرة جدّا لكثرة ما فيها من لصوص ظهروا بغتة وحاولوا التحرش بنا والتقاط المواد الغارقة ، لكننا قاومناهم بطلقات نارية من بنادقنا ، واستطعنا

__________________

(١) لا أرى انه أسم موضع بل يشير إلى مكان عامر بالمزروعات ليس إلا والله أعلم!

٣٣

استرجاع بعض البضائع الغارقة فوضعناها على ما هي عليه في حالة مزرية في قارب كنا أخذناه معنا ، وأخيرا بعد جهد جهيد أستطعنا سحب تلك السفينة.

في الحادي والعشرين من الشهر تم إصلاح السفينة ثم سحبت إلى جانب سفننا وحملناها بالبضائع التي كنا أنقذناها من الغرق ، ولو أنها كانت أقل بكثير من تلك التي ضاعت في لجج النهر.

رحلنا من هناك في الثاني والعشرين ، فسرنا طوال النهار ، وعند حلول المساء ذهبنا وتوقفنا في موضع يدعى «قلعة جابر» (١) Chalagiabar الواقعة على جانب النهر الأيسر. أما في مساء اليوم التالي فقد جئنا إلى «الحمام» (٢).Alaman وفي مساء اليوم التالي نزلنا في «سوريش» (٣) Suriech بعد أن مررنا خلال النهار بحصن يقال له «بلد سوريا» (٤) Beletsurie فتركناه وراءنا.

__________________

(١) هي قلعة جعبر ، قال ياقوت : «قلعة جعبر على الفرات مقابل صفين التي كانت فيها الواقعة بين معاوية وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض) ، وكانت تعرف أولا بدوسر فتملكها رجل من بني نمير يقال له جعبر بن مالك فغلب عليها فنسبت به (معجم البلدان ٤ : ١٦٤ و ٢ : ٦٢١).

(٢) ذكرها معظم الرحالين بأسم أمان أو حمام.

(٣) أو سوريك لدى موزيل وجيسني.

(٤) لعله يعني أرض سوريا.

٣٤

في اليوم الخامس والعشرين رحلنا حالا واتخذنا موقعا لنا على الضفة اليسرى في موضع يقال له «الرقة» (١) التي تقع في أرض منبسطة ، وفيها قلعة ضمن حصن. ويحكم الرقة سنجق تركي. فبقينا هناك مدة ولم نغادرها إلى يوم ٢٨ من ذلك الشهر لأن السنجق المذكور أرسل عددا كبيرا من رجاله مطالبا بحصته من الأقمشة الصوفية. فلما أجبناهم بأننا لا نملك ما يطلبون ، شرعوا بقطع حبال أي الحزم بشراسة ، والتفتيش فيها لعلهم يعثرون على مبتغاهم ، فوجدوا في إحدى الحزم أربعة أطوال قماش أحمر اللون ، فأخذوا واحدا إلى السنجق فقص حالا سبعة أذرع ليصنع منها جبة (٢) يرتديها عند ركوبه الحصان ، وقال انه مستعد لدفع الثمن الذي حدده بنفسه ، وهو أربع بندقيات للذراع الواحد لا أكثر.

وحدث في صباح اليوم التالي انه شرع يطالب باتاوة على الطريقة المتبعة محليّا ، لعله أراد من وراء الحاحه انتزاع طول القماش كله ، مدعيا بضرورة دفع ضريبة عن كل السلع التي كنا نحملها على أن تكون النسبة خمسة بالمائة من

__________________

(١) معجم البلدان ٢ : ٢٠١ يتوقف الرحالة راوولف عند وصفها.

(٢) يشير إلى جبة طويلة وعريضة ، لكن أكمامها ضيقة وفيها غطاء للرأس كانت تستعمل في البندقية لكن أصلها من الشرق ، دعاها في النص «جاربلوكو».

٣٥

قيمتها ، بينما كانت العادة تأدية ١٨ شاهيا عن كل سفينة ، مهما كانت تحمل من بضائع. وبعد أخذ ورد واحتجاج التجار كلهم عربا وأتراكا الذين قالوا بأن هذا الأمر لم يحدث من قبل ، وانه سيلحق بهم ضررا فادحا ، اقتنع أخيرا بوجهة نظرهم. مهما يكن من أمر فإن الرجل لم يرجع القماش الذي أخذه ، ولم يدفع الثمن (١).

رحلنا من هناك لئلا تلحق بنا مصيبة أخرى ، فنحن غرباء في تلك الديار وليس لنا من يدافع عنا. وفي المساء وصلنا إلى «الحمراء» (٢) Elamora وتقع على ضفة النهر اليمنى ، حيث أخذنا قسطا من الراحة في تلك الليلة.

وفي صباح اليوم التالي وهو ٢٩ من ذلك الشهر ، واصلنا السفر إلى «أمان» (٣) Aman حيث وصلناها عند المساء ، فتوقفنا هناك إلى الساعة الثانية من صباح اليوم التالي ، لأن سفننا كلها ارتطمت في الرمال في محل مليء بجذوع الأشجار المخفية تحت الماء. ولأن الخوف من اللصوص كان مهيمنا علينا جميعا لذا عاون بعضنا بعضا للأسراع في إنهاء العمل والتخلص من تلك المحنة. وفي

__________________

(١) يحدثنا راوولف أيضا عن المضايقات التي لاقاها وأصحابه في الرقة (رحلة المشرق : ص ١٢٤).

(٢) ذكرها موزيل.

(٣) لعلها عمران (جيسني : خارطة ٣).

٣٦

المساء وصلنا إلى «خواجا أبو العيناء» Auagia Abulena وفي مساء اليوم التالي اتينا «القصبة» (١) Casabi وهي على ضفة النهر اليمنى.

في صباح اليوم التالي وهو الأول من شباط ، وبعد أن قطعنا ثلاث ساعات من النهار ، رأينا قلعة مهملة ومدينة مقفرة تسمى «جلبي» (٢) Celibi وتقع على الضفة اليمنى ، وبعد قليل وجدنا قلعة متهدمة تسمى «سلبي» (٣).Zelebe

في الساعة ٢٢ من اليوم ذاته مررنا بمحاذاة جبل عظيم كان منظره يوحي إلينا بأنه سيقع علينا بين لحظة وأخرى لأنه كان مقعرا في أسفله ، ولم يبق بيننا من لم يجزع من منظره ، فالكل في الواقع يخاف على الحياة والمالّ ومما زاد في خوفنا رؤيتنا كمية كبيرة من الصخور الضخمة كانت قد سقطت في النهر من ذلك الجبل المخيف ، وحجارة عظيمة على جوانبه تهدد بالإنهيار لأنها تبدو للناظر عنه وكأنها غير متعلقة بشيء. واستغرقت مدة العبور تحت الجبل نحو نصف ساعة.

عند حلول المساء توقفنا في الضفة اليمنى من النهر ،

__________________

(١) وهي الكسوبي عند جيسني : خارطة ٤ وعند مزيل.

(٢) حلبية ، حلبي ، زلبي أو جلبي عند جيسني.

(٣) الحلبية والزليبية في رحلة المشرق لراوولف : ص ١٣٩.

٣٧

فالضفة الأخرى يسرح فيها ويمرح عدد كبير من اللصوص ، وقد فهمت بأن هذا الجبل يسمى «الطرف الطويل» (١).Eltoref trouil

رحلنا من هناك صباح اليوم التالي ، أي الثاني من شباط ، فواصلنا السير إلى منتصف النهار ، ومررنا بموقعين منحدرين تكثر فيهما الصخور المتساقطة من الجبل المذكور آنفا ولذلك ارتفع هناك مستوى الماء نحو قامتين بالنسبة إلى يليه (٢). فقبل أن نجتاز من هذه الجهة الأخرى ، أي قبل اجتياز المنحدر المائي ، رفع كل منا صلاة إلى الله مستمدين العون والمضي في رحلة أمينة. ولقد أظهر الملاحون بالحقيقة إهتماما بالغا فحافظوا على إستقامة السفينة. أما السفن الأربع الأخرى. فقد ارتطمت قليلا بالصخور بسبب حمولتها الزائدة فلحق بها عطل خفيف. وفي المساء توقفنا عند ضفة النهر اليمنى في مدينة تدعى «الدير» (٣) Elder وكانت تسمى قديما «ميناء السلسلة» (٤) ويقيم في هذه

__________________

(١) يذكر موزيل (ص ١٨٣) قرية طريف.

(٢) ذكر المؤلف مقياسا محليّا يعرف عندهم بالكوع ويساوي نحو ٤٤ سم.

(٣) يريد دير الزور وهي مدينة معروفة وقائمة ، ذكرها الرحالين ، أنظر : موزيل : الفرات الأوسط ، ص ١٥ وما بعدها.

(٤) يرد في رحلة هرتسفيلد (١ : ١٦٨) أسم جبل سلسلة سمعه من مرافقه التركي المدعو مصطفى.

٣٨

المدينة سنجق تركي وقاض. وهي عامرة بالسكان من رجال أشراف ونساء بارعات الجمال لهن بشرة بين بيضاء وسمراء وهن أكثر جمالا من أي موضع آخر في تلك الأرجاء (١).

__________________

(١) لاحظ راوولف أيضا أن أهل دير الزور «... حسنو الصورة» (رحلة المشرق ١٤٢).

٣٩
٤٠