رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

ستحدث له مفاجأة غير سارة عند إستعداد المركب للإقلاع إذ سيهبط عليه الأمين بحجة التفتيش عن العملات التي لا يجوز إخراجها من البلد ، وبهذه الحجة يعمد إلى فتح الأحمال من جديد فيقلب عاليها سافلها والعياذ بالله!

١٠١
١٠٢

الفصل التاسع

السفر من بغداد إلى البصرة

بعد أن أدينا ما علينا من رسوم ، وقدمنا الهبات والهدايا التي اعتادوا على تقديمها إلى مسؤولي بغداد ، وبعد أن أمضينا في هذه المدينة بضعة أيام. أخيرا توكلنا على الله وقررنا السفر ، فحملنا بضائعنا وأمتعتنا في اليوم الثالث عشر من شهر آذار سنة ١٥٨٠ على متن سفينة مزدوجة (مدرعة!) لأن كل السفن التي تنحدر إلى البصرة هي من هذا النوع ، أي أنها مبطنة من الداخل بطبقة سميكة مثبتة بمسامير ضخمة تمنحها قوة كبيرة جدّا ، وفي هذا المجال يجب أن تعرف أن أهل بغداد لافتقارهم إلى الخشب فإنهم يصنعون السفن من الواح المراكب القادمة من بيره جك ، لأن هذه المراكب ـ كما أسلفنا ـ عندما تصل إلى الفلوجة تفكك أوصالها وتباع.

١٠٣

وصف المركب

يصنعون السفن هنا في بغداد بكواثل منخفضة على شاكلة السفن التي نسميها في البندقية «بياتي» أي المسطحة ، لكن صدرها ـ أي مقدمتها ـ مرتفع على شاكلة سفننا المحلية التي نسميها «بوركي». وتصنع الدفة من أخشاب النخيل بعد ربطها إلى بعضها بحبال ، وتبعد القطعة عن الأخرى أربع أصابع ونيفا ليمر الماء من الداخل والخارج في كل الإتجاهات.

إن الرجال الذين يجذفون في السفن لا يجلسون على المقاعد في داخل المركب بل على تلك المقاعد المثبتة في الجوانب حيث يحركون المجاذف حتى أنهم عندما يعملون يكاد نصف أجسامهم تميل فوق الماء.

وبصنعون هنا نوعا ثانيا من المراكب يشبه تلك التي ندعوها «كريبي» (١) لها دعامة في صدرها ، أما دفاتها فهي شبيهة بتلك التي ورد وصفها سابقا وتنشر أشرعة هذه المراكب على شكل مصلب (٢) كما نفعل نحن في قواربنا

__________________

(١) مركب تجاري بسارية واحدة سريع الجريان يحمل عادة كميات كبيرة من البضائع (تعليق بينتو).

(٢) أي أن تماس السارية بحاملة الشارع يكون على شكل صليب.

١٠٤

المسماة «المربعة» (١) ، وفي الواقع أن أشرعتها مربعة الشكل تقريبا لكن النهاية السفلى أعرض بقليل من النهاية العالية ، ويرجع السبب في ذلك إلى طول الحبال. ويربط رأس الشراع بخشبة مثبتة بالصدر ، وبهذه تغطى المقدمة كلها ويمتد الشراع من جهتي المركب إلى الخارج أكثر من نصف قدم.

أما المجاذف فإنها تشبه الرفش (٢) المتصل بعصا طويلة نوعا ما. لكن الأخشاب كلها : أكانت السارية أم المجاذيف أو حاملات الأشرعة هي أخشاب غير مستقيمة وبها أعوجاج ظاهر.

تكملة الرحلة في دجلة

بعد أن حملنا البضائع مساء الرابع ليلة الخامس عشر من الشهر المذكور (آذار) بدأنا السفر في دجلة متجهين جنوبا لأن غايتنا كانت البصرة. فمخرنا النهر طوال الليل بقوة المجاذيف. وعند بزوغ الشمس رأينا على الضفة اليسرى من النهر مدينة مقفرة تدعى «إيوان كسرى» (٣).

ما أجمل نهر دجلة! ... في رأيي انه يشبه النيل ،

__________________

(١) لأنها مربعة الشكل (بينتو).

(٢) سبق شرحه في الهامش ٢٨.

(٣) يشير إلى المدائن والموقع معروف.

١٠٥

ولا خطر فيه للإرتطام باليابسة أو بالمضائق أو بجذوع الأشجار كما كان يحدث في نهر الفرات. ولهذا سفرنا آمنين طيلة النهار ، ولم نشاهد شيئا يذكر إلا في الواحدة صباحا إذ رأينا مسجدا.

كانت ضفاف النهر عامرة بالنخيل أشبه ما تكون بالغابات. كما لاحظنا وجود عدد كبير من الخنازير البرية التي كانت تتقدم من النهر لترد الماء.

بعد أن تركنا وراءنا قريتين متهدمتين ، قيل أن الأولى تدعى «جديدة» Zadide والأخرى «كرد» Chert وأصلنا السفر طوال الليل ، ولم نشاهد شيئا يذكر سوى خيام الرعاة العرب تحيط بها حيواناتهم بأعداد كبيرة.

صباح اليوم السادس عشر وجدنا في الساعة الواحدة من النهار قرية مأهولة بالسكان تدعى «دولاب» Duleb وكانت واقعة على ضفة النهر اليمنى ، وهناك بالقرب منها جزيرة في وسط النهر مليئة بالأحطاب المفيدة للإيقاد وتسمى «ياسونة».Iassune

العمارة (كوت العمارة)

أكملنا سيرنا على هذه الشاكلة إلى المساء. وفي الساعة الثالثة ليلا وصلنا إلى موضع يقع على عدوة النهر اليسرى ويسمى «العمارة» EImara ويقوم على إدارته سنجق.

١٠٦

يتوجب علينا أن ندفع له ثلاث دوكاه (دوقية) عن كل مركب من مراكبنا.

ينقسم دجلة في هذا الموضع إلى قسمين : يجري الأول متجها إلى البصرة ، بينما يختلط الثاني بجدول يدعى «شط الجوالز» Settigiualez الذي يصب في آخر المطاف بنهر الفرات (١).

تابعنا سفرنا فوجدنا النهر بعد قليل أضيق جدّا من قسمه السابق ، ولاحظنا أيضا أن الريف الواقع على ضفته اليسرى كان مأهولا بالناس يدعون «كرجا» (٢). أما على ضفة النهر اليسرى فهناك العرب الذين يعيشون في خيام متناثرة في البادية هي بيوتهم الطبيعية. ويستفيد العرب من ساقية ممتدة من النهر تصل إلى حصن يدعى «الكرجيلاوية» Gurigielauia ومن هناك تجري في أراض صحراوية.

في الساعة ١٨ وصلنا إلى «كير» Cher وهو موضع يديره «سنجق» أيضا ، ويطالب بدوره بدوكاتين (دوقيتين) عن كل مركب يمر من هناك.

توجد في أطراف هذا المكان أسود كثيرة تشاهد عند

__________________

(١) شط الحي أو شط الغراف. نوه بهذه الفقرة يعقوب سركيس : مباحث عراقية ١ : ٢٦٥.

(٢) هل أراد أن يقول كردا؟

١٠٧

نزولها إلى النهر لترتوي (١) إن النهر في هذه المنطقة أعرض بقليل من نهر «برينتا» (٢).

عادات البدو

أذكر القارئ على سبيل الفائدة بأن تلك المناطق يكثر فيها الأعراب الذين يعيشون على الغزو ويقيمون في الغابات ويتسلحون بأنواع مختلفة من الأقواس والسهام التي تنتهي برؤوس حادة شبيهة بتلك المستعملة عندنا التي نطلق عليها أسم «زكاليا». فيحومون حول السفن ويجعلون منها هدفا لسهامهم حتى تجبر على التوجه إلى البر لتصبح لقمة سائغة لهم. لكنهم بالطبع يخافون كثيرا من البنداق ، لذلك لم يتقربوا من سفننا.

في تلك المناطق التي مررنا بها يكثر فيها الرعاة الذين لهم قطعان الماشية من ثيران وخراف وماعز وسائر الحيوانات الأليفة الأخرى ، رأينا كل ذلك وكما شاهدنا خيامهم التي يسكنون فيها.

في الساعة ٢٣ وصلنا إلى موضع يدعى «عين قصر» Encaerami حيث يوجد ضريح أحد أوليائهم (٣). فأراد

__________________

(١) أنظر الهامش ١٠٨ وكذلك مباحق عراقية ١ : ٣١٣.

(٢) نهر بإيطاليا ينبع في تيرول ويصب في بحر الادرياتيك قرب البندقية.

(٣) لعله يشير إلى علي الشرقي.

١٠٨

ملاحو سفننا الخمس التعبير عن أكرامهم له فرموا في الماء خبزا وتمرا للأسماك على سبيل الصدقة.

كان الهواء حتى ذلك الوقت حسنا خلال سفرنا كله ، سواء في الفرات ، أم هنا في دجلة. ولكن أعتبارا من هذه المنطقة هبت علينا من النهر رائحة غريبة كتلك التي نشعر بها في البندقية في حي «مارغيرا» (١) وكانت بالحقيقة مزعجة جدّا (٢). أضف إلى ذلك أننا إذ كنا نسير ليلا هبت ريح قوية على الشراع فدفعت السفينة إلى أحد فروع النهر الهادر حيث توجد لجج خطيرة لم ينتبه إليها الربان بسبب ظلام الليل الدامس. وإذا بنا ضحية ريح عاتية ومياه جارفة قاتلة فتملكنا خوف رهيب إذ أوشكت السفن أن تتحطم فتصبح لقمة سائغة بيد اللصوص. ومن المؤكد أن نهايتنا باتت قريبة لو لم تسرع لنجدتنا السفن الأخرى التي بقيت خلفنا ولاحظ ركابها الورطة التي وقعنا بها ، فأسرعوا ورموا لنا الحبال وخلصونا من ذلك المأزق.

تحط قرب الماء في تلك النواحي أعداد كبيرة من طيور النورس والبلقشة والسمان فتغطي المناطق القريبة من هناك.

__________________

(١) محلة في البندقية الماء فيها عفن لقلة حركته.

(٢) أرى أن الريح المزعجة تهب من الأهوار.

١٠٩

في نحو الساعة الثالثة نهارا من اليوم التالي ، أتينا إلى موضع جميل جدّا وهو القرية (١) ، ويديره سنجق ، وهناك يصب نهر يدعى «نهر مروان» Maroan ينبع من أطراف فارس ويجري بسرعة عالية حتى انه يعمل على توسيع النهر في هذا الموضع.

توجد قرية أخرى مقابل القرية التي ذكرناها وتسمى «كوركاب» Corcab وموضع مأهول آخر يسمى «سكر».Socher وهنا يبدأ النهر بالتوسع قليلا متأثرا بعامل المد والجزر كما يحدث في البحر عندنا. فمياه النهر ترتفع لمدة ست ساعات ثم تعود فتهبط ست ساعات أخرى وذلك بفعل الموجات الصاعدة من الخليج القريب من هناك.

بعد قليل من ذلك الموضع توجد قرية مأهولة تسمى «الكارر» Elcharer وتقابلها قرية أخرى متهدمة تدعى «قلعة التل».

القرنة

يجب الإنتباه كثيرا إلى السفن أعتبارا من هنا ، لأن ماء البحر في مده يسعى للدخول على النهر ، ففي هذه الحالة يجب إيقاف السفن ، وعلى ما يروي الملاحون انه بقدر ما

__________________

(١) لم يكتب أسمها في الأصل.

١١٠

تندفع السفن إلى الأمام بقوة المجاذيف ، ترجع إلى الوراء بقوة المياه المتصاعدة من جراء المد.

كان الريف القريب من هناك مأهولا بالسكان. وكانت تسرح فيه ـ على ما قيل لنا ـ في الأزمنة الغابرة خيول ذات شعر أخضر وعيون صفر (١).

كانت تطير فوق مراكبنا في هذا المكان أسراب هائلة من الذباب الأبيض ، وكان لسعها أشبه بوخز الزنبور ، بل كوخز الأبر. كم كانت مزعجة ومضرة في الوقت نفسه.

توقفنا في ذلك المكان حتى الساعة الثالثة ليلا ، لأن المياه كانت تزداد بفعل مد البحر ؛ ولما رحلنا أخيرا من هناك نحو منتصف الليل ، وصلنا إلى مدينة تسمى «القرنة» التي يديرها سنجق يستوفي ٢٥ شاهيا عن كل مركب يمر من هناك ، وشاهيين عن كل حمل ما عدا الثياب الوبرية (الأجواخ) والمخملية ، إذ يطلب عن كل حمل أربع شاهيات. ولقد توقفنا هناك إلى الساعة الثالثة من نهار اليوم التالي وهو ٢٠ آذار.

رحلنا من هناك ، وبعد مسافة غير بعيدة رأينا فرعا

__________________

(١) لعله ينوه بالحمار الوحشي المسمى الاخدر والاخدري (أنظر معجم الحيوان لمعلوف : ص ٩٨). أو إنه نقل رواية شعبية سمعها من المسافرين.

١١١

للفرات يتحد بدجلة (١) وقد شيد في الموضع حصن للحراسة يسمى «سير سيز اوزاكا» (؟) Sersisauzaca ويقيم فيه عدد كبير من الجنود لملاحقة السراق الذين يجوبون تلك المنطقة بمجموعات كبيرة قوام كل مجموعة منها مئة شخص وغايتهم السطو!

في تلك الأثناء دخلنا في عرض النهر الفائق الجمال إذ توسعت جوانبه في تلك المنطقة حتى أصبح شبيها بنهر النيل. وكانت المناطق على جانبيه مأهولة بالناس ، فالبيوت كثيرة والأرض خضراء.

المناخ في هذه المنطقة حار جدّا في بعض فصول السنة ، قد يؤدي بحياة بعض الناس الضعفاء. وقد علمت شخصيّا أن أربعة أنفار كانوا في سفر فأضناهم التعب والحر فجلسوا يستريحون قليلا وإذا بهواء حار هب عليهم أدى إلى موتهم بالاختناق. لهذا السبب شيدوا هناك مسجدا يقال له «منصور بني صعب».

بعد مسافة قصيرة رأينا جزيرة كثيرة السكان تسمى «ابن النمر» وبالقرب منها جزيرة أخرى يقال لها «جزيرة الأرمو».

__________________

(١) وردت هذه الفقرة في كتاب «الأقليم الوظيفي لمدينة القرنة» تاليف عبد الحسين جواد السريح ، ص ٢١٤ (بغداد ت ١٩٧٧) والترجمة غير موفقة.

١١٢

السكان

دعني أتوقف قليلا لابين كيف يستخدم هؤلاء السكان آلة لطيفة جدّا يصطادون بها كميات وافرة من السمك ، وما هذه الواسطة سوى قصبة محددة الرأس لا غير (١).

يعيش هؤلاء الناس حياة هانئة لكثرة ما عندهم من الحنطة. وجدير بالذكر أن حبة الحنطة هنا كبيرة تفوق الحجم الاعتيادي ؛ ويرجع سبب ذلك في ظني إلى أن حقولهم فسيحة وواسعة جدّا ، ولذا فبإمكانهم الزرع في حقل ارتاح مدة طويلة منذ الحصاد الأخير ، قد تطول هذه المدة إلى ١٥ أو ٢٠ شهرا. ففي هذه الحالة يعطي مثل هذا الحقل ثمرا جيدا. لهذا السبب نرى تلك المناطق عامرة بالسكان والدور.

كما يزرعون هناك الرز بكميات كبيرة أعتبارا من هذه المناطق وإمتدادا إلى حدود مدينة البصرة.

بعد أن سرنا حتى الساعة ٢٣ وصلنا إلى حصن يقال له «المناوي» (٢). وفي هذا الموقع يستوفون الضريبة من تجار العبيد.

أكملنا رحلتنا بقوة الشراع طيلة ذلك الليل فرأينا قرى

__________________

(١) أظنه يشير على الفالة المنتشر استعمالها في الأهوار وما يليها.

(٢) هي القلعة الفاصلة بين البصرة وشط العرب.

١١٣

مأهولة وقلاعا على عدوتي النهر. وفي صباح اليوم التالي قبل شروق الشمس بثلاث ساعات رأينا في الجهة اليمنى قناة عريضة بمقدار رمية حجر (١). ودخلنا في تلك القناة وسرنا حتى الساعة الثانية من يوم الحادي والعشرين من شهر آذار (١٥٨٠) فوصلنا إلى مدينة البصرة.

__________________

(١) إنه نهر المعقل.

١١٤

الفصل العاشر

وصف البصرة

بلصرة (١) أو كما يقال لها البصرة ، مدينة واقعة في بلاد العرب ، وهي تحت سيطرة الأتراك حاليّا ، لكنها كانت من قبل بقبضة العرب الذين يقال لهم «الجزريون» الذين يمتلكون الآن بلدا واسعا حيث لا تصلهم يد الأتراك ، لأن منطقتهم تخضع لعامل المد والجزر ومعظم أراضيهم تحيطها المياه فتصبح عند المد أشبه بالجزيرة بل قد يغمرها الماء. لهذا السبب لا يستطيع الجيش النظامي التوغل فيها لا عن طريق الماء ولا عن طريق اليابسة.

وسكان هذه المناطق هم رجال قتال ، لذلك يتوجب على الأتراك أبقاء حامية كبيرة في البصرة تكلفها نفقات باهظة (٢).

__________________

(١) راجع الهامش ٤ من هذا الكتاب.

(٢) هذا الوصف نقله بالبي على ما يظهر من رحلة فيدريجي المار ذكرها ، مجلة المورد ١٨ (١٩٨٩) العدد ٤ ص ١٦٦.

١١٥

تبعد هذه المدينة عن البحر نحو خمسة عشر ميلا. وهي مدينة واسعة التجارة بالتوابل والعقاقير ومختلف السلع الأخرى التي تردها عن طريق هرمز ، وفيها وفرة من التمور والرز والقمح ، وكلها تزرع في المنطقة نفسها. لكنها تشكو من شحة المياه العذبة. فمن يرد أن يشرب ماء طيبا عليه الذهاب مسافة نصف نهار ليرد الماء الزلال. أما الأشخاص الذين يشربون ماء النهر فتصيبهم الأمراض ، لأن النهر يجرف معه كمية هائلة من الأوساخ بسبب أن أهل تلك البلاد يسمدون الأرض بالبراز البشري. فعند ما يفيض النهر يجرف كمية كبيرة من تلك الأقذار وهو ما يجعل طعم الماء أجاجا وفوق ذلك يؤثر في الهواء أيضا فيجعله مزعجا ورديئا وتكثر من جراء ذلك أعداد هائلة من الذباب والبراغيث والبق ومختلف الحشرات الضارة والمزعجة.

رسوم المكس

تدفع الرسوم في هذه المدينة على حساب ستة بالمئة ، فضلا عن ما يحاول «الأمين» إنتزاعه عنوة عندما يفتح الحزم ويقلب البضائع. لذا فالأفضل منحه مقدما مقدارا من المال ، وكذلك الباشا ، وهو ابن جيكالا قائد مسينا (١) ذاك

__________________

(١) شيبيوني جيكالا (١٥٤٥ ـ ١٦٠٥) المعروف في المصادر العثمانية بأسم جغالة ازاده يوسف سنان باشا ، وهو أبن فسكونت جيكالا في صقلية من

١١٦

الذي لم يتورع عن أخذ بعض الثياب مدعيا شراءها على حسابه ، وكان ثمنها يبلغ نحو ٦٢ من فئة الدراهم البندقية.

وخلاصة القول أننا عوملنا في هذه المدينة بخشونة فائقة أكثر من أي بلد آخر ، ولكانت أمورنا أتعس بكثير لو لا حماية اسكندر الآغا (١) التابع للباشا الذي أكرم مثوانا سواء عند الباشا أو في الكمرك ، وفي الأماكن الأخرى إلى أن أبحرنا إلى هرمز. وأضاف الرجل إلى حسناته حسنة جديدة عند ما علم عن طريق الباشا خبرا وصل إليه آنذاك ومفاده أن بعض القراصنة المدعوين «نوتيكي» (٢) ينهبون البضائع ويقتلون الناس ويغرقون السفن. وكانوا بأعداد كبيرة في تلك الأيام ينشرون الرعب في تلك الأطراف. فلما علم الرجل ـ أي الآغا ـ بهذا النبأ أسرع فأخبرنا ونصحنا بعد الاقلاع حتى أشعار آخر. لذا بقينا هناك بسبب هؤلاء القراصنة.

__________________

جارية تركية. أسر وهو صغير السن فتربى في بلاط سليمان الأول وخدم خلفاءه وتسلم مسؤوليات كبيرة منها توليه بغداد. أنظر كلشن خلفا ص ٢٠٩ ؛ رحلة ديللافاليه ص ١٧٩ ـ ١٨٠.

(١) الآغا (تركية) هو السيد أو الموظف في إحدى دوائر الدولة.

(٢) هم قراصنة كانوا يلاحقون السفن في الخليج قضى عليهم الإنكليز سنة ١٨٠٩ (قالته السيدة بينتو).

١١٧

تجارة الهنود في البصرة

في السادس والعشرين من آذار تعرفنا على بعض التجار الوثنيين من الذين يقال لهم «أهل بنيان» (١) قدموا من مدينة تدعى «كمباجا» (٢) وهي مدينة وثنية أيضا. ويتناول أهلها عادة الرز والخبز والحليب ، ولا يتناولون أكثر من وجبة واحدة في اليوم. وهم لا يأكلون لحوم الحيوانات من أي نوع كان ، بل ولا يقبلون بذبحها ، وإذا وجدوا البراغيث أو الحشرات الأخرى فإنهم يضعونها على ورقة ويطلقونها في الجو. وأكثر من ذلك كله أنهم عندما كانوا في البصرة ورأوا الأهالي يصيدون الفئران عمدوا إلى شرائها واطلاق سبيلها!

هؤلاء القوم لا يطلقون لحاهم أي أنهم يحلقونها ، أما بالنسبة إلى الشوارب فمنهم من يطلقها ويحرص على أن تكون عريضة وكثة ، وبعضهم لا يهتم بها البتة. لكنهم يتركون شعر رؤوسهم ينمو ويطول جدّا ويلمونه تحت الشاشية (٣) الصغيرة التي يغطون بها رؤوسهم. وأخيرا

__________________

(١) مقاطعة في الهند (كوجرار) اشتهر سكانها بالصيرفة وتعاطي التجارة ، حتى عم أسمها على كل التجار الآسيويين.

(٢) يقال لها اليوم كامبي وهي على البحر.

(٣) غطاء للرأس انتشر إستعماله في العراق قديما. أنظر : دوزي : المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب ، ترجمة د. أكرم فاضل ، بغداد ـ ١٩٧١ ، ص ٢٠٠.

١١٨

يرتدي هؤلاء الناس القماش الموصلي الأبيض ، وثيابهم طويلة جدّا لذا يجمعون اذيالها عند الصدر.

لغتهم خشنة على الطريقة الهندية ، ولهم سحنة سمراء ، لكنهم ليسوا سودا.

عندما يتوفى أحدهم يقوم ذووه بحرق جثته. وما يتبقى من رماد جثمانه يذرى في النار والهواء والقسم الباقي يوارى في الأرض ، لأنهم يعتقدون أن الإنسان مكون من أربعة عناصر ، ولذا يجب أن تسترجع هذه العناصر حصصها منه بعد الموت.

في السابع والعشرين من آذار قطع الباشا بحد السيف رقاب ثمانية من هؤلاء البنيانيين لأنهم شتموا الدين الإسلامي.

بعد أن تكلمت ما يكفي عن عادات البصرة وتقاليدها ، وعن موقعها ، يليق بنا أن نقول شيئا عن الموازين والمقاييس المتداولة فيها.

١١٩
١٢٠