التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

اللغة :

الجبار للمبالغة. ويستعمل في إصلاح الأمور ، يقال : جبر كسره إذا أصلحه. وجبر الفقير إذا أنعشه ، وأيضا يستعمل في ذم الإنسان المتكبر المتعاظم وهذا هو المراد هنا. وإذا وصف ذو الجلال به فالمراد به العالي الذي لا ينال ، حتى العقول تعجز عن ادراك كنهه وحقيقته ، ومن ذلك قول العرب : نخلة جبارة ، إذا طالت وعلت وقصرت الأيدي عن تناولها. والتيه الحيرة. والأسى الحزن له أو عليه.

٤١

الاعراب :

فتنقلبوا منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لوقوع الفعل في جواب النهي. وما داموا (ما) مصدرية ظرفية ، والمصدر المنسبك بدل بعض من أبدا. وها هنا. (ها) للتنبيه ، وهنا ظرف متعلق بقاعدون. وأربعين سنة ظرف متعلق بمحرمة. وجملة يتيهون حال من الضمير في عليهم.

المعنى :

هذه الآيات حلقة من قصة بني إسرائيل التي ذكرها سبحانه متفرقة في العديد من سور القرآن ، وكرر بعض حلقاتها مرات ، وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة ، واضحة المعنى:

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ). ذكرهم موسى (ع) بنعم الله عليهم تمهيدا لما سيأمرهم به من الجهاد ، وعدّ من هذه النعم ثلاثا : الأولى ان الله جعل فيهم أنبياء. الثانية : انه جعلهم ملوكا ، أي مستقلين يحكمون أنفسهم بأنفسهم ، ولا نعمة أعظم من الحرية. الثالثة : انه عاملهم بما لم يعامل به أحدا من الناس ، فأهلك عدوهم من غير جهاد وقتال ، وأنزل عليهم المن والسلوى بلا حرث ولا حصاد ، وأخرج لهم المياه العذبة من الحجر بلا حفر وتنقيب ، وأظل فوقهم الغمام بلا بناء وعناء.

وبهذه النعم الثلاث نجد تفسير الآية ٤٧ من سورة البقرة : «يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين». فالتفضيل على أهل زمانهم كان بإرسال الأنبياء منهم ، وباستقلالهم ، وانزال المن والسلوى عليهم ، وما اليه. وبتعبير ثان ان التفضيل لم يكن بالأخلاق والمناقب ، بل بكيفية المعاملة معهم.

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ) ـ أي وعد ـ (اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ). بعد أن ذكرهم موسى بنعم الله عليهم

٤٢

أمرهم بغزو فلسطين ، وكان فيها الحيثيون والكنعانيون ، وأمرهم بالصبر والثبات في القتال ، وكان الله قد وعدهم السكنى بها في ذلك العهد. فقول موسى : «كتب الله لكم» اشارة الى هذا الوعد ، وليس معناه ان فلسطين ملك طلق لهم ، كما يزعم اليهود.

ولكن قوم موسى قالوا له جبنا وضعفا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ). فهم يريدون نصرا رخيصا ومريحا ، لا يكلفهم قتيلا ولا جريحا ، تماما كإغراق عدوهم فرعون ... ولكن رجلين صالحين منهم قاما فيهم مرشدين يحثانهم على السمع والطاعة لله ولرسوله ، واليهما أشار سبحانه بقوله :

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) ـ أي بالايمان ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). أي اغزوا القوم في عقر دارهم ، فيذلوا وينكسروا ، على أن تكونوا متوكلين حقا على الله ، كما هو شأن المؤمنين المخلصين. ولكنهم عادوا الى جبلتهم من العناد والتمرد والقحة والصلافة.

و (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). أرأيت الى هذه الجرأة على الله ورسوله؟ .. الى هذه الوقاحة والصلافة : «اذهب أنت وربك» .. انه ربهم إذا خدم مصالحهم الشخصية ، ولم يكلفهم بما يزعجهم ، وقتل أعداءهم .. وهم (قاعدون) سالمون آمنون ، أما إذا انزعج خاطرهم بأدنى تكليف فهو رب موسى ، وليس بربهم .. ومعنى هذا في واقعه ان أهواءهم وشهواتهم وحدها هي ربهم وإلههم الذي يستحق منهم العبادة والتقديس بحمده.

والحق ان هذه الظاهرة لا تخص اليهود وحدهم ، بل تشمل كل من عبد الله على حرف .. وما أكثرهم في المسلمين والنصارى.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي). هذا التوجه من موسى الى ربه يشعر بالشكوى من غربته بين قومه بعد الجهد الجهيد ، والعناء الطويل من أجلهم .. (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ولا ملك ولا أمر لمن لا يطاع :

٤٣

(فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ). لم يجد موسى بدا من الطلب اليه تعالى ان يفصل ويباعد بينه وبين قومه بعد نكولهم عن عهد الله وميثاقه.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ). هذا هو جزاؤهم : التيه في صحراء سيناء الجرداء ، يسيرون فيها لا يهتدون الى طريق الخروج ، ولا يدرون أين المصير .. وهكذا يضربون في مجاهلها أربعين عاما ، حتى يفنى كبراؤهم ، وينشأ بعدهم جيل جديد.

قابيل وهابيل الآة ٢٧ ـ ٣١ :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

اللغة :

القربان مصدر كالشكران والكفران ، والمراد به هنا اسم المفعول ، أي الشيء

٤٤

الذي يتقرب به الى الله من الذبائح وغيرها ، فهو مثل الخلق حيث أريد به المخلوق. والبسط المد ضد القبض. وباء بوءا ، أي رجع رجوعا. فطوعت له نفسه ، أي زينت له نفسه. والسوأة ما يسوء ظهوره. والويل حلول الشر ، والويلة تستعمل في الفضيحة ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، فكأنه قال : وا فضيحتاه.

الإعراب :

إذ قربا قربانا ، أي قرب كل واحد منهما قربانا ، مثل قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ، أي اجلدوا كل واحد منهم. وكيف حال من الضمير في يواري. وجملة يواري مفعول ثان ليريه. يا ويلتا ليس النداء هنا للآدميين بل للويل نفسه ، أي يا ويل احضر هذا وقتك. وكذا وا عجباه ، أي أيها العجب هذا وقتك.

المعنى :

لقد حاك القصاص ، وكثير من المفسرين الأساطير من قصة ابني آدم هذين .. ولا مصدر إلا الاسرائيليات. ونحن نلخص ما دل عليه ظاهر الآيات بما يلي : لقد كان المتنازعان ابني آدم من صلبه مباشرة ، كما هو الظاهر ، ولكن الله سبحانه لم يصرح باسمهما ، وقال المفسرون والمؤرخون : ان اسم القاتل قابيل ، واسم المقتول هابيل .. وسبب النزاع والشقاق ان كلا منهما قرب قربانا لله سبحانه ، فتقبله جل ثناؤه من هابيل ، ولم يتقبل من قابيل .. ولم تذكر الآيات نوع القربان ، ولا كيفية التقبل من ذاك ، والرفض من هذا.

فثارت حفيظة قابيل ، وهدد أخاه بالقتل. فقال له هابيل : انت الجاني على نفسك ، ولا لوم عليّ ، لأن الله تعالى يتقبل من المتقين ، ولست منهم ، وان أردت قتلي فلا أقابلك بالمثل ، وكفاك جرما إن فعلت أن ترجع بإثم قتلي ، واثمك الذي كان السبب في عدم قبول قربانك.

٤٥

ولكن هذه الكلمات لم تترك أثرا في نفس قابيل ، بل على العكس زادت من نقمته ، ونفّذ الخطة عامدا ، وبعد أن صار أخوه جثة هامدة لم يعرف كيف يواريها ، فبعث الله غرابا ، فحفر برجليه ومنقاره حفرة ، فلما رآها القاتل زالت حيرته ؛ واهتدى الى دفن أخيه من عمل الغراب .. ولكنه عض يده ندامة بعد أن أدرك فداحة الخطب ، كما أدرك انه دون الغراب معرفة وتصرفا.

هذا هو موجز القصة ، كما دلت عليها الآيات .. وبهذه المناسبة نشير الى خلاف معروف بين علماء الأخلاق منذ القديم ، وهو ، هل الإنسان شرير بالطبع ، أو خيّر بالطبع؟. وحاول كثير من المفسرين أن يستدلوا بهذه القصة على انه شرير بالطبع.

والصحيح ان في كل انسان استعدادا للخير والشر بفطرته ، حتى خير الأخيار ، وشر الأشرار ، والفرق ان في بعض الأفراد مناعة من عقل رصين ، أو دين متين يكبح نزواتهم الى الشر ، ويندفع البعض الآخر مع شهواته لضعف في دينه ، أو عقله.

الفرد والجماعة في الاسلام الآة ٣٧ :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

اللغة :

من أجل ذلك ، أي بسبب ذلك. والإسراف التجاوز عن حد الاعتدال.

٤٦

الإعراب :

من أجل ذلك متعلق بكتبنا. وانه (الهاء) ضمير الشأن ، والمصدر المنسبك من ان وما بعدها مفعول كتبنا. ومن شرطية. وبغير متعلق بمحذوف حالا من الضمير في قتل. وبعد ظرف متعلق بمسرفون.

المعنى :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ). لقد كشفت قصة ولدي آدم ان في الناس نوعين : معتديا ومعتدى عليه .. ولحماية هذا من ذاك ، وصيانة الحياة ونظامها جعل الله لكل معتد عقوبة يستحقها ، واعتبر قتل الأبرياء جريمة الجرائم كلها ، فقوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) اشارة الى جريمة القتل من حيث هي ، وليس اشارة الى قصة قابيل مع أخيه هابيل ، وان كانت هي السبب الباعث على التشريع ، تماما كما تشرع السلطة قانونا عاما بسبب حادثة خاصة.

وتسأل : ان عقوبة القتل تعم بني إسرائيل وغيرهم ، فما هو القصد من تخصيصهم بالذكر؟

الجواب : أجل ، ان هذه العقوبة وغيرها عامة لهم ولغيرهم ، ولكن الله سبحانه خص اليهود بالذكر لأنهم أجرأ خلق الله على قتل عباده ، واراقة دمائهم ، وبذلك تشهد توراتهم التي أباحت لهم قتل النساء والأطفال ، ويشهد عليهم قتلهم الأنبياء في تاريخهم القديم ، وسيرتهم في فلسطين في تاريخهم الحديث.

(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ). أي أو غير فساد في الأرض عطفا على نفس ، لا على غير ، والمعنى يجوز شرعا قتل من قتل غيره عدوانا ، وأيضا يجوز قتل من سعى في الأرض فسادا جزاء وفاقا ، وصيانة لحياة الناس وأمنهم.

أما من يقتل نفسا بريئة مسالمة (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً). اختلف المفسرون وغير المفسرين في الوجه المبرر لتشبيه القتل الافرادي بالقتل الجماعي ، واحياء الفرد باحياء الناس جميعا ..

٤٧

فمن قائل : انه مبالغة في الردع عن جريمة القتل ، والحث على إنقاذ النفس وتخليصها من المهلكات ، كالغرق والحرق ، وما اليهما من اغاثة الملهوف. ومن قائل : انه بيان لحقيقة القاتل والمحسن ، بأن من أقدم على قتل واحد يقدم على قتل الناس جميعا ، تماما كما يقولون : «من يسرق البيضة يسرق الجمل» (١) وان من أحسن الى واحد من الناس يحسن للجميع ، ما دام الدافع له حب الخير والإحسان. وقال آخرون : انه بيان للطبيعة النوعية في الإنسان ، وانها تتمثل في البعض والكل على السواء ، لا تزيد بكثرة الأفراد ، ولا تنقص بقلتهم.

والذي نفهمه من الآية ان الفرد في نظر الإسلام هو غاية بنفسه ، لا وسيلة الى غيره ، وانه ظاهرة انسانية ، له ما لها من الحرمة والكرامة ، وان العدوان عليه عدوان على الانسانية التي تتمثل به وبالناس جميعا ، وان الإحسان اليه احسان الى الناس جميعا.

وتسأل : ان هذا تضخيم خيالي لذات الفرد ، وتضحية بالجماعة من أجله ، مع ان العكس هو الحق والعدل؟

الجواب : ليس المراد بمصلحة الفرد المصلحة التي تطغى على مصلحة الجماعة ، وتتنافى معها ، ولا المراد بالفرد الذي يحاول العيش على حساب غيره من الناس .. ان هذا لا يعد إنسانا بالمعنى الصحيح ، بل هو أعدى أعداء الانسانية في نظر الإسلام ، والى هذا يومئ قوله تعالى : (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ). وانما المراد بالفرد الذي يستمد مصلحته من مصلحة الجماعة ، ويرى حياته بحياتها ، وكرامته بكرامتها. كما ان المراد بمصلحة الجماعة مصلحة جميع أفرادها ، لأن الجماعة ليست مجموعة أصفار ، وانما هي مجموعة أفراد .. فأية جماعة يوجد فيها ضعيف واحد يخاف على حق من حقوقه فهي ضعيفة في كيانها ، فاسدة في أوضاعها ، تماما كالجسم إذا فسد بعض أعضائه ، أو البيت إذا انهدم ركن من أركانه.

وعلى هذا تكون مصلحة الفرد والجماعة متكاملتين ، يملأ بعضهما بعضا ، ولا تنفك إحداهما عن الأخرى.

__________________

(١). رأيت هذا بالحرف في بعض الأحاديث المروية عن النبي (ص).

٤٨

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). أي ان رسل الله قد بلغوا اليهود حكم الله سبحانه ، وقالوا لهم بوحي منه : من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا .. ولكن الكثير من اليهود لم يكترثوا بهذا التحذير ، ومضوا مسرفين في سفك الدماء وانتهاك الحرمات .. وقوله تعالى : (بَعْدَ ذلِكَ) اشارة الى انهم فعلوا ما فعلوا بعد إقامة الحجة عليهم ، وانقطاع كل عذر يمكن أن يتذرعوا به .. وهذا هو موقف القرآن من كل جاحد يحتج عليه بمنطق الحق ، ويدعوه اليه بالحكمة ، حتى إذا أصر على جحوده كان إصراره عنادا للحق بالذات ، لا لشخصية الداعي.

جزاء المفسدين الآة ٣٣ ـ ٣٤ :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

اللغة :

تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى ، والعكس بالعكس ، والخزي الذل والفضيحة.

٤٩

الإعراب :

جزاء مبتدأ. وفسادا مصدر وضع موضع الحال من الواو في يسعون ، أي يسعون في الأرض مفسدين. والمصدر المنسبك من أن يقتلوا خبر جزاء. ومن خلاف متعلق بمحذوف حال من أيديهم وأرجلهم. وذلك مبتدأ أول ، وخزي مبتدأ ثان ، وخبره لهم ، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدأ الأول ، وفي الدنيا متعلق بمحذوف صفة لخزي. وإلا الذين في محل نصب على الاستثناء المتصل من واو يحاربون.

المعنى :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) المراد بمحاربة الله ورسوله ان الاعتداء على الناس اعتداء على الله والرسول ، ومن أجل هذا كانت عقوبته حدا من حدود الله. والمراد بالفساد في الأرض هنا قطع الطريق ، وتلتقي في هذه الجريمة عدة جرائم : إخافة الآمنين ؛ والتمرد على الحكم ، والمجاهرة بالإجرام ، وإراقة الدماء ، ونهب الأموال ، وقد يكون فيها هتك الأعراض. ومن أجل ذلك جعل الله جزاء قطاع الطريق ما أشار اليه بقوله :

(أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). المراد بالمفسد هنا كل من جرد السلاح لاخافة الناس بالضرب أو القتل أو السلب أو الاهانة أو الاعتداء على الأعراض ، مسلما كان أو غير مسلم ، فعل ذلك في بر أو بحر ، في ليل أو نهار ، في مصر أو غير مصر ، تسلح بسيف أو مسدس أو عصا أو حجارة ، فالعبرة باخافة الناس على أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم ، ونصت الآية على أربع عقوبات :

١ ـ القتل ، وجاء بصيغة المبالغة اشارة الى ان القتل حتم لا بد منه ، ولو ان قاطع الطريق قتل نفسا ، وعفا عنه ولي المقتول فلا يعفى عنه ، قيل للإمام

٥٠

أبي جعفر الصادق (ع) : أرأيت لو أراد أولياء المقتول أن يأخذوا الدية ، ويدعوه ، ألهم ذلك؟ قال : لا ، عليه القتل.

٢ ـ الصلب ، والمبالغة فيه كالمبالغة في القتل ، أما كيفيته فما هو معروف عند الناس.

٣ ـ قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، أي إذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى ، والمبالغة فيه أظهر من المبالغة في القتل والصلب لتكرار القطع.

٤ ـ النفي إلى بلد ناء عن بلده يحس فيه بالغربة والتشريد ، وقال أبو حنيفة : المراد بالنفي السجن ..

وعلق صاحب المنار على هذا بقوله : «وهو أغرب الأقوال».

واختلفت المذاهب الاسلامية في كيفية تنفيذ هذه العقوبات الأربع : هل تنفذ على سبيل التخيير أو التعيين لكل حسب جرمه ، ومقدار إفساده؟.

قال الشيعة الإمامية : ان (أو) تدل بظاهرها على التخيير ، وعليه يترك الأمر لاجتهاد الحاكم في تنفيذ ما تدرأ به المفسدة ، وتقوم به المصلحة من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي. وقريب من هذا قول المالكية.

وقال الشافعية : ان هذه العقوبات تختلف باختلاف الجنايات ، فمن اقتصر على القتل قتل ، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب بعد القتل ثلاثة أيام ، ومن أخذ المال فقط قطع من خلاف ، ومن أخاف السبيل ، دون أن يقتل أو يأخذ المال نفي.

وقال الحنفية : ان أخذ المال وقتل فللحاكم الخيار ، ان شاء قطع من خلاف وان شاء قتل ولم يصلب ، وان شاء جمع بين القتل والصلب ، وصفة الصلب عنده أن يصلب حيا ، ويبعج بطنه برمح إلى أن يموت ، ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). إذا تاب قاطع الطريق من تلقائه ، وقبل القبض عليه سقطت عنه العقوبة ، لأن الحكمة من العقوبة أن يرتدع المجرم عن الفساد ، فان ارتدع من نفسه لم يبق لها من موجب ، وهذا أصدق مثال على انسانية الشريعة الإسلامية وعظمتها.

٥١

وتجدر الإشارة إلى أن التوبة قبل الظفر بالجاني تسقط عنه العقوبة الأدبية ، أما الحقوق المادية للناس فيطالب بها ، فإن سلب مالا فعليه ارجاعه أو إرجاع بدله من المثل أو القيمة إذا كان قد تلف ، وان قتل ، فلأولياء المقتول أن يقتلوه به إن شاءوا.

ابتغوا اليه الوسيلة الآة ٣٥ ـ ٣٧ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

اللغة :

الوسيلة الوصلة والقربة ، تقول توسلت اليه ، أي تقربت اليه.

الإعراب :

ما في الأرض اسم أن. ولهم خبرها ، والمصدر المنسبك من أن وما بعدها فاعل لفعل محذوف ، أي لو ثبت ان لهم ، و «لو وجوابها» خبر إن الذين.

٥٢

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ان تقوى الله ، وابتغاء الوسيلة اليه ، والجهاد في سبيله ، كل هذه تعبر عن معنى واحد ، أو عن معان متلازمة متشابكة ، لأن تقوى الله اتقاء سخطه ، وابتغاء الوسيلة اليه طلب مرضاته ، والجهاد في سبيله يشمل الأمرين .. وأفضل ما يتوسل به المتوسلون الى الله حب الناس ، والعمل من أجلهم ، وقرأت كلمة لكاتب كبير تقول : «محال أن يعرف حقيقة الناس من لا يحب الناس». ونزيد عليها : ومحال أن يحب الله من لا يحب الناس.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ). يضحي الإنسان بجميع ما يملك للخلاص من أسقامه وآلامه في حياته هذه ، فكيف بنار جهنم. (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). انما يقبل الفدية من يفتقر اليها ، ولله ملك السموات والأرض. (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ). وهذا نص قاطع على أن من جحد الخالق ، أو عبد سواه ، فهو مخلد في النار. (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها). وفي الآية ٢٠ من سورة السجدة : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). وهناك جرائم لا تقل إثما وعذابا عن الكفر بالله ، كسلب الشعوب أقواتها ومقومات حياتها ، وقتل النفس ، لأنها أبت إلا أن تعيش حرة كريمة.

والسارق والسارقة الآة ٣٨ ـ ٤٠ :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ

٥٣

عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

الاعراب :

والسارق والسارقة مبتدأ ، والخبر فاقطعوا ، وجاز دخول الفاء على الخبر لأن الألف واللام في السارق والسارقة بمعنى اسم الموصول ، فكأنه قال ، من سرق فاقطعوا. وعن سيبويه ان الخبر محذوف. والظاهر من أيديهما ان السارق تقطع يداه الاثنتان ، لأن أيديهما جمع ، والجمع يصدق على الثلاثة وما فوق ، ولو كان المقصود قطع الواحدة لقال يديهما ، ولكن هذا الظاهر متروك بالسنة النبوية والإجماع على قطع الواحدة ، كما ان عموم السارق والسارقة يقتضي قطع كل سارق وسارقة ، ولكن هذا العموم متروك كما يتضح مما يأتي. وجزاء مفعول من أجله لإقطعوا. ونكالا بدل من جزاء.

المعنى :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ). المراد بالنكال هنا العقوبة الدنيوية .. ومهما اختلفت الشرائع السماوية والأرضية في تحديد الجريمة ، ونوع العقوبة ، وشروط تنفيذها فإنها تتفق على أن الهدف منها ردع المجرم عن الاجرام حفظا للأمن وصيانة للمصالح ، قال الإمام علي (ع) : «السلطان وزعة الله في أرضه». ولا يلتفت إلى قول بعض الفقهاء : ان الهدف من العقوبة مجرد سقوط العذاب عن المجرم في الآخرة .. أجل ان الله أعدل وأرحم من أن يجمع بين عقوبتين على جرم واحد. ولقطع يد السارق شروط :

١ ـ أن يكون المسروق في حرز ، ويخرجه السارق منه ، فمن سرق سيارة ـ مثلا ـ من كاراج مقفل يحد ، ويرجع السيارة إلى أهلها ، ومن سرقها من

٥٤

الطريق ، أو من كاراج غير مقفل فلا يحد ، بل يعزر بما يراه الحاكم ، ويرجع المسروق إلى صاحبه. ولا خلاف في ذلك.

٢ ـ اتفقوا على أنه لا قطع إلا في ربع دينار أو أكثر. وقال أبو حنيفة : بل في دينار.

٣ ـ أن يكون السارق بالغا ، لحديث : «رفع القلم عن الصبي ، حتى يحتلم ، وعن المجنون ، حتى يفيق ، وعن النائم ، حتى يستيقظ». وقال المالكية : لا فرق بين الصغير والكبير.

٤ ـ أن يكون السارق عاقلا ، لحديث «رفع القلم».

٥ ـ اتفقوا على ان الوالد لا يقطع إذا سرق من مال ولده ، لحديث : «أنت ومالك لأبيك» وقالت المذاهب الأربعة ، وبعض فقهاء الشيعة : الأم مثل الأب. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة : لا يقطع أحد الزوجين بسرقة مال الآخر. وقال المالكية : لا يقطع إذا سرق من بيت يسكنان فيه معا ، وإلا قطع. وقال : الشيعة : يقطع إطلاقا إلا إذا سرقت الزوجة لنفقتها ونفقة أولادها.

٦ ـ أن لا تكون السرقة في عام المجاعة ، فإذا سرق الجائع مأكولا ، حيث لا وسيلة لسد حاجته إلا السرقة فلا حد عليه.

أما كيفية القطع فقد اتفقت المذاهب الأربعة على ان الكف اليمنى تقطع من المفصل. وقال الإمامية : تقطع أصابعه الأربع من الكف اليمنى ، وتترك الراحة والإبهام. وهناك مسائل كثيرة تتصل بهذا البحث ندعها لكتب الفقه ، ومنها الجزء السادس من فقه الإمام جعفر الصادق.

(فَمَنْ تابَ) ـ من السارقين ـ (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قال السنة : توبة السارق لا تسقط عنه الحد. وقال الشيعة الإمامية : إذا تاب السارق من تلقاء نفسه ، وقبل أن تثبت السرقة عليه عند الحاكم فلا حد عليه. ووافقهم على ذلك صاحب تفسير المنار ، قال : «وإذا قيست السرقة على الحرابة ـ أي قطع الطريق ـ فالقول بسقوط الحد ظاهر ، إن تاب السارق قبل رفع أمره إلى الحاكم».

٥٥

واتفقوا على ان التوبة لا تسقط الحق الشخصي للمسروق منه ، ولا بد من اعادة المال الى صاحبه عينا ان كان قائما ، أو بدله ان كان تالفا.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ).

هذا خطاب لكل من يسمع القرآن ، لا للنبي وحده ، وفيه بيان ان الله سبحانه هو الذي خلق الكون والإنسان ، وانه لا يفعل إلا ما فيه خير وصلاح لعباده ، فإذا عذب من يشاء من الجناة فإنما يفعل ذلك تربية له ، وتأمينا للناس من شره ، وإذا غفر ورحم من يشاء من عباده التائبين فإنما يفعل ذلك ترغيبا له في إصلاح نفسه.

سماعون الكذب الآة ٤١ ـ ٤٣ :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ

٥٦

وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

اللغة :

كل من يقبل الكذب يقال له سماع للكذب. والمراد بالسحت المال الحرام.

الإعراب :

من الذين قالوا متعلق بمحذوف حال من واو يسارعون. سماعون مبتدأ خبره من الذين هادوا ، واللام في (لِلْكَذِبِ) زائدة ، والكذب مفعول سماعون. وسماعون الثانية تأكيد للأولى ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي هم سماعون. واللام في (القوم) ليست زائدة ، بل متعلقة بسماعون الثانية ، مثل استمعت له. وشيئا مفعول مطلق ، أي فلن تملك له من الله أي نوع من الملك. وكيف حال من فاعل يحكمونك. وعندهم التوراة مبتدأ وخبر. وكذلك فيها حكم الله.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). هذا خطاب من الله لرسوله (ص) ، يهون عليه أمر المنافقين واليهود ، لأن العاقبة ستكون عليهم لا لهم .. وهذه الجملة تختص بالمنافقين ، لأن الإيمان بالأفواه ، دون القلوب حقيقتهم وهويتهم.

والنهي عن الحزن نهي عن لوازمه ، وعدم ترتب الأثر عليه ، لأن الإنسان لا اختيار له فيه ، وأي عاقل يختار الحزن لنفسه؟ ولكن تبقى السيطرة معه للعقل والدين ، قال الرسول الأعظم (ص) : تدمع العين ، ويحزن القلب ،

٥٧

ولا نقول ما يسخط الرب. وبعد أن ذكر سبحانه المنافقين أشار إلى قوم من اليهود بقوله :

(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ). عاد الحديث عن اليهود ، وفي هذه الآيات أخبار اعتمدها المفسرون ، وتتلخص بأن التوراة كانت تنص على وجوب رجم الزاني .. وصادف في عهد الرسول (ص) ان زنى رجل وامرأة من أشرافهم ، فكره قوم من اليهود رجمهما ، وأرسلوا وفدا منهم إلى رسول الله ليسألوه عن حكم الزنا ، وقالوا للوفد : ان افتى بغير الرجم فاقبلوا ، وان افتى بالرجم فارفضوا .. فجاءوا الرسول ، فأفتاهم بالرجم ، فرفضوا زاعمين ان التوراة ليس فيها رجم ، ولما حاجّ الرسول بعض علمائهم اعترف بأن حكم التوراة هو الرجم ، تماما كما أفتى الرسول ، وان اليهود خصوا حكم الرجم بالضعفاء ، وجعلوا الجلد مكان الرجم إذا زنى الشرفاء.

فالمراد بقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ان اليهود يقبلون الكذب من المنافقين ، ومن بعضهم البعض. والمراد من القوم في قوله : (لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أولئك الذين أرسلوا الوفد ليسألوا النبي (ص) ولم يأتوه بأنفسهم.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ). حيث وضعوا الجلد مكان الرجم. وتقدمت هذه الجملة بالمعنى في سورة البقرة الآية ٧٥ : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ). وأيضا تقدمت بحروفها في الآية ٤٥ من سورة النساء.

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا). أي قال الذين أرسلوا الوفد للوفد : ان أفتى محمد (ص) بغير الرجم فاقبلوا ، وإن أفتى بالرجم فارفضوا.

(وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً). اختلف المفسرون في المراد من الفتنة .. قال الأشاعرة ، أي السنة : المراد من الفتنة الكفر ، ويكون المعنى ان أي عبد جعله الله كافرا وضالا فلن يقدر أحد أن يدفع عنه الكفر والضلال .. وإنما ذهب الأشاعرة إلى هذا التفسير ، وفي مقدمتهم الرازي لأنهم يجيزون على الله أن يريد الكفر من عبده ، وأن يفعله فيه ، ثم يعذبه عليه.

وقال الشيعة والمعتزلة : المراد من الفتنة في هذه الآية العذاب ، ويكون المعنى

٥٨

ان من يرد الله عذابه فلن يقدر أحد أن يدفع العذاب عنه .. وإنما قالوا ذلك لأنهم لا يجيزون على الله أن يفعل الشيء ، ثم يعاقب غيره عليه.

والذي نراه في تفسير هذه الآية ان الله سبحانه نهى اليهود عن الكذب والتحريف ، والمكر والخداع ، وتوعدهم بالعذاب إن خالفوا وتمردوا. ولكنهم أصروا على العناد ، ولم يكترثوا بالنهي ، ولا بالوعيد .. فتركهم الله وشأنهم ؛ ولم يردعهم بالقسر والقهر عن الفتنة ، لأنه تعالى يعامل الناس ـ فيما يعود إلى أفعالهم ـ معاملة المرشد الناصح ، لا معاملة القاهر الغالب.

وقد أكد سبحانه ذلك بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ). أي لم يرد أن يلجئهم إلجاء إلى تطهير القلوب وتزكية النفوس ، بل جعل لهم الخيار في ذلك ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الفتنة اليه تعالى .. وقد أوضحنا ذلك عند تفسير الآية ٨٨ من سورة النساء ، فقرة «الإضلال من الله سلبي لا إيجابي».

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ). كرر سبحانه (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) مبالغة في الذم والقدح ، والردع والزجر ، والمراد بالسحت المال الحرام ، كالربا وما اليه .. وأشد جرما من الربا الأموال التي يقبضها العملاء من الدول الاستعمارية لتبقى شعوبهم متخلفة بائسة تتسول الرغيف ممن ينهب أقواتها وثرواتها.

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). هذا بيان لوظيفة الحاكم المسلم إذا تحاكم لديه خصمان من غير المسلمين .. وقد اتفق الفقهاء على انه إذا كان الخصمان من غير أهل الذمة فللحاكم الخيار ، إن شاء حاكمهما ، وإن شاء رفض ، حسبما يرجحه من المصلحة .. واختلفوا فيما إذا كان الخصمان من أهل الذمة ، فقال صاحب المنار ـ من السنة ـ : يجب على الحاكم أن يحاكمهما. وقال فقهاء الشيعة : بل هو مخير ان شاء حاكم ، وان شاء رفض.

وإذا حاكم يجب عليه أن يفصل بينهما بحكم الإسلام ، لا بأحكام دينهم ، لقوله تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ).

وإذا كان أحد المتخاصمين مسلما ، والآخر غير مسلم وجب على الحاكم قبول الدعوى والحكم بما أنزل الله باتفاق المسلمين.

٥٩

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). تحاكم اليهود في أمر الزاني عند النبي (ص) ، ولما حكم بينهم تولوا عنه ورفضوا حكمه بعد أن اختاروه حكما .. وما كان أغناهم عن الحالين؟. فالأولى بهم أن لا يحكمّوه منذ البداية ، أما أن يرضوا به حكما ، ثم يرفضوا حكمه فغريب .. هذا مع أنهم يعلمون علم اليقين بأنه (ص) حكم بحكم الله الموجود في التوراة .. فقوله تعالى : (بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى التحكيم ، وإلى حكم النبي بحكم الله. ولفظ ذلك يشار به الى المفرد والمثنى والجمع.

(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). أي لا غرابة في أن يتولوا عن حكم النبي بعد أن رضوا به حكما ، وبعد ان حكم بحكم الله ، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالتوراة إيمانا صادقا ، وإنما يؤمنون بأهوائهم ورغباتهم .. وكل من لا يرضى بالحق وحكمه فما هو من الايمان الحق في شيء يهوديا كان أو مسلما. قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ـ ٦٤ النساء».

فلا تخشوا الناس الآة ٤٤ :

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤))

اللغة :

ربانيون جمع رباني نسبة إلى الرب ، أي يرضي الرب بأقواله وأفعاله. والأحبار جمع حبر بفتح الحاء ، وهو العالم.

٦٠