التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

يقول نيكولاس سبيكمان في كتابه الاستراتيجية الامريكية في السياسية العالمية ، يقول : مسموح لنا نحن الامريكيين بكل أشكال الجبر والقسر بما فيها حروب الدمار ان نملي ارادتنا ونفرضها بالقوة على الذين لا قوة لهم. وأيضا يقول ليو ويلتش الأمريكي : وأجبنا أن تحقق زعامتنا الايجابية بالقوة على العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، ولا ينبغي أن يكون ذلك إلى أجل مسمى ، انه واجب أبدي لا يجوز التفريط فيه.

ولا سر لهذا التعاظم من أعداء الله ، والجهر بالعدوان على عياله وعباده من غير مبالاة إلا عدم الخوف والرهبة من القوة الرادعة التي تجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى.

ونفذ القادة في الولايات المتحدة ما جاء في كتاب الاستراتيجية الامريكية ، واعتبروه انجيلهم المقدس دون كتاب الله ، ومارسوا جميع أشكال الجبر والقسوة بما فيها حروب الدمار ليفرضوا ارادتهم على الذين لا قوة لهم ، فألقوا بالقذائف المحرقة على الأطفال والعجائز والحوامل ، وبالقنابل الكيماوية على المحاصيل ووسائل الرزق والحياة من نبات وحيوان لتموت جوعا البقية الباقية من قنابل النابالم وغيرها من القذائف .. ولهذه الغاية أقامت الولايات المتحدة على أرضها العديد من قلاع الموت ، أنشأت فيها المعامل والمختبرات لاكتشاف أشد المكروبات فتكا بالإنسان والحيوان والنبات ، ولاختراع الغازات التي تذهب العقل ، وتنهك الأعصاب.

فأي عجب بعد هذا إذا أنشأت الولايات المتحدة على أرض فلسطين قلعة الموت والفناء ، وترسانة التخريب والتدمير ، وأطلقت عليها اسم دولة إسرائيل؟. أجل ، لا عجب في شيء من ذلك ، وإنما العجب أن تعترف الدول بما فيها الدول الصغيرة الضعيفة ـ ان تعترف بهذه القلعة والترسانة التي قامت وأسست على عداء الانسانية جمعاء ، وان يكون لها من يمثلها ويدافع عنها ويبرر أعمالها في الأمم المتحدة .. وبرغم هذا وفوق هذا فنحن لا نيأس أبدا من انتصار الحق ، وخذلان الباطل في يوم من الأيام ، فهذه أصوات الاحتجاج ضد الطغاة المعتدين ترتفع في كل مكان ، حتى في الولايات المتحدة ، وهذا الشعب الفيتنامي الباسل قد أودى بهيبة الامريكيين ، وقتل من جيوشهم عشرات الألوف ، وأرغمهم أن

٥٠١

يحرقوا من أموالهم البلايين.

٥ ـ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ). هذا ترغيب في انفاق المال الذي لا بد منه لإعداد القوة الرادعة. وتقدم الكلام عن ذلك في ج ١ ص ٣٠١ عند تفسير الآية ١٩٦ من سورة البقرة ، وج ٢ ص ١٠٧ عند تفسير الآية ٩٢ من آل عمران.

٦ ـ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). السلم عام يشمل ترك الحرب بالهدنة والصلح ، وبدفع الجزية ، والدخول بالإسلام ، وقوله تعالى لنبيّه : (فَاجْنَحْ لَها) هو أمر حتم بمسالمة كل من يسالم كائنا من كان إلا إذا دلت الدلائل القطعية على أن سلمه مكر وتمهيد للوثبة والاغتيال على غرة.

وينبغي أن نفهم ان المراد بالسلم في الآية سلم الجميع من قاتل ومن لم يقاتل ، وليس سلم الأطراف المتنازعة فحسب ، كالتعايش السلمي بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الذي تسللت هذه من خلفه لتدبير المؤامرات والانقلابات لصالحها في الدول المحايدة ، وضرب الحريات في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية لتزيد من أرباح شركاتها الاحتكارية على حساب دم الشعوب وخبزها ومستقبلها.

وتسأل : قال سبحانه في هذه الآية : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها). وقال في الآية ٣٥ من سورة محمد : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ). فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : لا منافاة بينهما ، فالأولى تأمر المسلمين أن يسالموا من يسالم ، والثانية تشد من عزائمهم ، وتقوي فيهم الروح المعنوية ، وتنهاهم عن الانهيار والفرار من العدو ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا). وقوله : (وَاللهُ مَعَكُمْ). فهذه الآية ، وهي فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم تماما كالآية ١٠٣ من سورة النساء : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ).

٧ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). ضمير الخطاب موجه للنبي (ص) ، وضمير الغائب في يريدوا

٥٠٢

ويخدعوا عائد إلى الذين جنحوا للسلم ، والمعنى ان كان هؤلاء يبيتون لك يا محمد الخيانة والغدر من وراء جنوحهم للسلم فلا تخش غدرهم ، فأنت في أمان من الله وهو كافيك شرهم ، وقد أيدك من قبل بنصره وبالمؤمنين.

وتسأل : لقد مر قريبا عند تفسير قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) مرّ ان الله أمر نبيه أن ينقض عهدهم إذا خاف منهم الغدر والخديعة ، وفي هذه الآية أمره بالاستجابة لهم إذا طلبوا السلم ، حتى ولو كانوا مريدين الخيانة في الواقع ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : أمره الله هناك بنقض العهد مع اعلامهم بالنقض إذا كان على يقين من غدرهم بما ظهر له من الامارات القطعية ، وأمره هنا بمسالمتهم وان أرادوا الغدر في الواقع إذا لم تقم الدلائل القطعية على غدرهم ، وإنما احتمل ذلك ، وفي مثل هذه الحال يأخذ النبي بالظاهر ويعاملهم بحسبه ، فان الظاهر للناس ، والباطن لله.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). ليس من شك ان الله سبحانه هو الذي ألف بين قلوب الصحابة بعد أن كانت عصية على التأليف بخاصة بين الأوس والخزرج الذين امتدت الحروب بينهما ١٢٠ سنة .. وأيضا ليس من شك ان الله سبحانه يجري الأمور على سننها ، والمسببات على أسبابها ، وسبب التأليف بين قلوب أصحاب محمد (ص) هو الإسلام وإيمانهم به نظريا وعمليا ، والإسلام من عند الله ، فصحت النسبة اليه تعالى.

وقلنا عند تفسير الآية ٢ من هذه السورة ان الدين لا ينبت قمحا ، ولكنه ينبت سبا وإخلاصا .. ونظير هذه الآية التي نحن بصددها الآية ١٠٣ من سورة آل عمران ، وتجد تفسيرها مفصلا في ج ٢ ص ١٢٢.

حسبك الله الآة ٦٤ ـ ٦٦ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ

٥٠٣

حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

اللغة :

حسبك كافيك. والتحريض الحث. والتخفيف رفع المشقة. والضعف بكسر الضاد من المضاعفة أي زيادة الشيء مثله في المقدار ، وبفتحها ضد القوة المادية والمعنوية ، وكذلك بضم الضاد ، وقيل الضم يختص بضعف العقل.

الإعراب :

حسبك الله مبتدأ وخبر ، ومر في الآية ٦٢. ومن اتبعك من في محل رفع عطفا على اسم الجلالة. وان يكن منكم عشرون منكم خبر مقدم ليكن ، وعشرون اسمها.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). قيل : معناه يكفيك الله يا محمد ، وأيضا هو يكفي المؤمنين الذين اتبعوك ، وعلى هذا التفسير يكون محل من النصب عطفا على الكاف في حسبك ، أما نحن فنميل الى قول من قال : ان من محلها الرفع عطفا على اسم الجلالة ويكون المعنى يكفيك

٥٠٤

يا محمد الله والمؤمنون برسالتك ، ودليلنا على ذلك قوله تعالى في الآية السابقة ٦٢ : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فإنها صريحة بأن الله والمؤمنين نصروا محمدا ، فكذلك : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). ومهما يكن ، فان القصد أن يطمئن النبي ويعلم بأن معركته مع الكافرين مضمونة على كل حال ، لأن القوة التي تسانده لا غالب لها.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). يقول جل ثناؤه لنبيه : شجع يا محمد أصحابك على القتال ، وأخبرهم بأنهم كفء لأعداء الله وأعدائهم ، حتى ولو زاد عددهم عشرة أضعاف ذلك بأن المؤمنين يفقهون أمر الله ، ويعتقدون باليوم الآخر ، وان السعادة تنال بالجهاد والاستشهاد ، فيقدمون عليه بنية صادقة ، وعزم قوي ، أما الكافرون فإنهم لا يفقهون أمر الله ، ولا يعتقدون بالمعاد ، ولهذا يحجمون شحّا بحياتهم وحرصا عليها من الفناء والحرمان.

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). أطال المفسرون والفقهاء الكلام حول هذه الآية ، فمنهم من قال : إنها ناسخة للآية المتقدمة التي فرضت على المسلم أن لا يفر من عشرة ، وقال آخر ، شق على المسلمين أن يقابل الواحد منهم عشرة ، فجاء التخفيف بقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الخ ، وأفتى الفقهاء استنادا الى هذه الآية بتحريم الفرار من الزحف إلا إذا كان عدد جيش العدو أكثر من ضعف عدد جيش المسلمين .. وبينا عند تفسير الآية ١٥ من هذه السورة ان الفقهاء لا يملكون الفتوى بذلك ، وان الأمر فيه يترك لتقدير قائد الجيش الخبير الأمين وحده.

ومن أجل هذا نرجح ان الآيتين هذه والتي قبلها لم تردا لبيان حكم الفرار من الزحف بوجه عام ، وإنما هما خاصتان بالنبي وأصحابه فقط ، ولا تتجاوزان إلى غيرهم ، والله أعلم بمراده.

٥٠٥

في الأسرى الآية ٦٧ ـ ٧١ :

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

اللغة :

أسرى جمع أسير ، والأسر الشد على المحارب وأخذه. والإثخان الشدة ، يقال : أثخنه إذا اشتد عليه. والعرض ما يعرض ولا يدوم. ومسّكم أصابكم.

الاعراب :

لو لا كتاب كتاب مبتدأ ، وسبق صفة له ، والخبر محذوف ، أي لو لا كتاب كائن. وحلالا حال من الموصول في مما غنمتم ، أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي كلوا أكلا حلالا.

٥٠٦

المعنى :

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). اتفق المفسرون على ان هذه الآية نزلت في أسرى بدر ، وظاهر السياق يدل على ذلك ، واختلفوا في تفسيرها على أقوال ، ولإيضاح المراد منها نورده بصيغة السؤال والجواب :

إذا قامت الحرب بين المسلمين وعبدة الأوثان ، وأمكن الله المسلم المقاتل من كافر ينازله فهل يجب على المسلم قتل هذا الكافر ، أو يجوز له أسره ، وإذا أسره بناء على جواز الأسر فهل يخير النبيّ بين قتل الأسير ، وبين أن يطلقه بفدية أو بدونها؟.

ولا بد في الجواب من التفصيل بين حالين : الأولى أن تقع المعركة بعد أن يعظم شأن الدين في الأرض ، وتتم القوة له ولأهله بحيث لا يضرهم كيد العدو ومكره لمكان القوة الرادعة ، وفي مثل هذه الحال يخير المسلم المقاتل بين القتل والأسر ، فإذا أسر كان الخيار للنبي بين قتل الأسير وإطلاقه بفداء أو غير فداء ، قال تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ـ ٤ محمد. والسر في ذلك واضح ، وهو وجود القوة الرادعة.

الحال الثانية أن تقع المعركة قبل أن يتمكن الدين في الأرض ، وتتم له القوة والغلبة ، فإذا نمكن المسلم المقاتل في مثل هذه الحال من الكافر المحارب فعليه أن يقتله ولا يأسره ، والسر إلقاء الرعب في قلب كل من يحاول إعلان الحرب على المؤمنين ، ويدل على هذا قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي لا أسر من الكفار ، حتى تتم للدين القوة الرادعة التي يذل بها أهل الكفر والطغيان.

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) هذا الخطاب موجه بصفة خاصة لمن أسر أسيرا من المشركين بقصد الغنيمة وأخذ الفدية غير مكترث بما يترتب على حياته من الفساد في الأرض (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يريد لعباده ثواب الآخرة لأنه خير وأبقى من

٥٠٧

عرض الدنيا (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يهب العزة للمؤمنين وإن لم يكن لهم أسرى ، وهو حكيم في تدبيره وأمره ونهيه.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). لقد سبق في قضاء الله أن ينصر دينه ونبيه بالفئة القليلة التي حاربت معه ببدر ، وان ينكل بالكثرة الكافرين قتلا وأسرا ونهبا بأيدي المؤمنين ، ولو لا قضاؤه هذا لعذّب المؤمنين الذين أسروا أعداء الله طمعا بالفدية ، لأنه تعالى يريد أن يكون الجهاد والعمل خالصا لوجهه الكريم ، وفي الحديث : من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر اليه وتجدر الإشارة إلى انه تعالى لم يبين نوع العذاب الذي كان سيوقعه بالآسرين من الصحابة لو لا قضاؤه السابق : هل هو العذاب الدنيوي أو الأخروي.

وتسأل : إذا كان الأسر محرما قبل أن يظهر الله دينه على الدين كله فكيف أجاز رسول الله (ص) للصحابة أن يأسروا يوم بدر ، ويقبل هو الفدية من الأسرى قبل النصر الشامل الكامل؟ فان المفروض ان معركة بدر كانت الأولى ، وأعقبتها معارك استمرت إلى عام الفتح والنصر.

وحار المفسرون وغيرهم في الجواب عن هذا السؤال أو الاشكال ، وتضاربت فيه أقوالهم ، واستسلم بعضهم قائلا : إن النبي غير معصوم عن الخطأ ، حاشا الله ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى .. والذي نرجحه ان الله سبحانه قد استثنى من تحريم الأسر كل من أطلقه النبي (ص) من أسرى بدر ، وقد أسلم الكثير منهم وحسن فيه بلاؤهم ، بل كان فيهم من أخرج كرها إلى حرب المسلمين ، قال ابن الأثير في المجلد الثاني من تاريخه بعنوان ذكر غزوة بدر الكبرى :

قال رسول الله (ص) لأصحابه يومئذ : قد عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرها ، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله .. وكان في الأسرى سهيل بن عمرو ، فقال عمر بن الخطاب : دعني اقتله يا رسول الله ، فلا يقوم عليك خطيبا ، فقال النبي (ص) دعه ، فسيقوم مقاما تحمده عليه .. ومن جملة أسرى بدر أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله (ص) ، وبعثت

٥٠٨

زينب بفداء زوجها ، وفيه قلادة كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله (ص) رقّ رقة شديدة ، وقال للمسلمين : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ، فأطلقوا الأسير ، وردوا القلادة .. وقد أسلم أبو العاص بعد ذلك.

وقتل النبي (ص) من الأسرى من لا يؤمن شره ، ولا يرجى خيره ، ولم يقبل الفدية منه ، قال ابن الأثير : وكان في الأسرى النضر بن الحارث ، وعقبة ابن أبي معيط ، فأمر النبي بقتلهما ، فقال عقبة : أليس لي اسوة بهؤلاء الأسرى؟ فلم يلتفت الرسول إلى قوله ، لأنه يعلم بخبثه وغدره ، وان حياته شر وفساد في الأرض .. فإطلاق النبي لبعض الأسرى ، وقتله البعض الآخر يشعر بوجود مصلحة للإسلام والمسلمين في إطلاق من أطلق منهم ، وقد ظهرت هذه المصلحة فيما بعد كما أشرنا .. ومن أجل هذا صح استثناء أسرى بدر من حكم التحريم.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الخطاب موجه لمن حارب مع النبي (ص) ببدر ، ويتضمن الاذن بالأكل مما غنموه في معركة بدر فدية كان أو سلبا ، وهذا دليل على ان الأسر من المشركين في معركة بدر جائز ، لأن إباحة أحد العوضين تستدعي إباحة العوض الآخر ، وفي الحديث : إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بعد أن أخذ النبي (ص) الفدية من الأسرى أمره أن يقول لهم : ان آمنتم بالله يعوض عليكم خيرا من الفدية دنيا وآخرة ، وقال المفسرون : ان قوما من الأسرى أظهروا الإسلام ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : ان كان ما قلتموه حقا فان الله يعلمه ويعوض عليكم خيرا مما أخذ منكم ، ويغفر لكم ، وان كان نفاقا فقد كفرتم ومكرتم من قبل ، وأمكن الله نبيه منكم.

ثم ذكر المفسرون ، ومنهم الرازي والطبرسي ان النبي (ص) قال لعمه العباس ،

٥٠٩

أفد نفسك وابني أخيك عقيلا ونوفلا (١). فقال العباس : كنت مسلما فأكرهوني على الخروج ، فقال له النبي : ان يكن ما تقول حقا فالله يجزيك. قال العباس : ليس معي شيء. قال النبي : أين الذهب الذي سلمته لزوجتك أم الفضل ، وقلت لها : ان حدث بي حدث فهو لك ولأولادك؟. قال العباس : من أخبرك بهذا؟. قال : الله تعالى أخبرني. قال العباس : أشهد أنك رسول الله ، والله ما علم بهذا أحد إلا الله .. وقال العباس بعد ذلك : صدق الله ورسوله لقد عوضني الله عما افتديت أضعافا كثيرة.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). الضمير في يريدوا عائد الى الأسرى الذين أطلقهم النبي (ص) ، والمعنى لا تخف يا محمد من خيانة من سرحت وأطلقت من الأسرى ، وما ذا عسى أن يفعلوا إذا أرادوا الغدر والخيانة؟. فليس بعد الشرك وإعلان الحرب شيء ، وقد حاربوك من قبل فسلطك الله عليهم : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ـ ٩٦ المائدة. وهذا دليل آخر على أن الله أباح الأسر للمسلمين في وقعة بدر.

والخلاصة ان الله أوجب قتل أهل الشرك في حربهم مع أهل الايمان إذا وقعت قبل أن يعظم شأن الدين إلا في معركة بدر فإن الله سبحانه قد أباح فيها للمسلم المقاتل الأسر لمصلحة الإسلام والمسلمين.

المهاجرون والأنصار الآية ٧٢ ـ ٧٥ :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ

__________________

(١). أسلم عقيل بن أبي طالب قيل وقعة بدر ، وأخرجه المشركون لحرب ابن عمه محمد (ص) كرها ، فاستأسر هو لابن أمه علي (ع).

٥١٠

يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

اللغة :

الهجرة فراق الوطن. وآواه أسكنه منزله. والمراد بالولاية النصرة في قوله : بعضهم أولياء بعض. والميراث في قوله : أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.

الإعراب :

من شيء من زائدة وشيء مبتدأ ومالكم خبر ، والجملة خبر الذين آمنوا ولم يهاجروا. فعليكم النصر مبتدأ وخبر ، ويجوز نصب النصر على معنى الزموا النصر ، مثل عليك زيدا. والهاء في تفعلوه عائد الى النصر.

المعنى :

قسمت هذه الآيات المؤمنين إلى أقسام ، وتعرضت للولاية فيما بينهم بسبب

٥١١

الإيمان والهجرة ، وأشارت إلى ولاية الكافرين ، وميراث أولي الأرحام ، والتفصيل فيما يلي :

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). وهم المهاجرون الأولون ، وقد وصفهم جل وعز بالإيمان ، وهجرة الأوطان ، والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله وبهذه التضحية لا بمجرد الايمان أثنى عليهم القرآن ، وتحدث كثيرا عن استجابتهم لله ورسوله.

وتسأل : المفروض ان المهاجرين دخلوا المدينة ، ولا شيء معهم من المال ، ومن أجل هذا آواهم الأنصار في مساكنهم ، وآثروهم في المأكل والملبس على أنفسهم ، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا) فمن أين جاءهم المال الذي جاهدوا به في سبيل الله؟.

الجواب : أولا ان أغنياء المهاجرين كانوا ينفقون على فقراء المسلمين قبل الهجرة. ثانيا انهم هاجروا من ديارهم تاركين مساكنهم ومزارعهم نهبا للمشركين رغبة في مرضاة الله .. ولا شيء أعظم من تضحية الإنسان بمسكنه وأرضه ، وبكل ما جمعه لحياته وحياة أولاده.

٢ ـ (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). وهؤلاء هم الأنصار ، ونعتهم سبحانه بأنهم آووا النبي ومن هاجر معه في مساكنهم ، وآثروهم على أنفسهم وأولادهم ، وبأنهم سالموا من سالمهم ، وعادوا من عاداهم ، ولهذا شرفهم الله بهذا الوصف ، حتى أصبح اسم الأنصار علما عليهم مدى الدهر. وقوله : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) إشارة إلى المهاجرين والأنصار معا ، وان كلا منهم يتولى من أمر صاحبه ما يتولى من نفسه نصرة ودفاعا .. وفي الحديث : مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر.

وقارن بعض المفسرين بين المهاجرين والأنصار ، وفضّل أولئك على هؤلاء ، أما نحن فنميل إلى انهم عند الله سواء ، وتشعر بذلك الآية التي نحن بصددها ، والآية ١٢ من الواقعة: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فان المراد بالسابقين المهاجرون والأنصار ، أولئك سبقوا إلى الإيمان والهجرة ، وهؤلاء سبقوا

٥١٢

إلى الإيواء والنصرة ، فكان كل فريق من السابقين الأولين ، وقد وصفهم سبحانه بذلك في الآية ١٠٠ من سورة التوبة : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ).

٣ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) هؤلاء آمنوا بالله ورسوله ، ولكنهم رفضوا الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ، مع ان القرآن أمرهم بها ، وحثهم عليها ، ولكنهم رفضوا تمسكا بأموالهم ، وخوفا على مصالحهم ، وسبق الكلام عن هؤلاء ، وعن حكم الهجرة في ج ٢ ص ٤١٨ وما بعدها عند تفسير الآية ٩٧ من النساء.

وقد بيّن سبحانه حكم الذين آمنوا ولم يهاجروا بقوله : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ). أي ان هؤلاء لا يعتبرون أعضاء في المجتمع الإسلامي ، ولا يثبت لهم شيء من حقوق المسلمين المقيمين في دار الإسلام ، لأنهم قد اختاروا حكم الشرك والمشركين على حكم الإسلام والمسلمين .. أجل ، إذا تركوا أرض الشرك إلى أرض الإسلام كان لهم حق الدفاع والنصرة ، وأيضا إذا اعتدى عليهم معتد من أجل دينهم وعقيدتهم ، وحاول أن يفتنهم عن الإسلام ، ويردهم إلى الشرك فعلى المهاجرين والأنصار أن يدافعوا عنهم ، ولا تجب نصرتهم في غير ذلك ، لأن رابطة الدين تحتم على كل واحد من أهله أن يدافع عن دين أخيه ، وإن كان فاسقا .. وبكلمة ان الدفاع عن عقيدة الفاسق دفاع عن الدين بالذات ، لا عن شخص الفاسق.

وكأنّ سائلا يسأل : إذا اعتدى معتد من الكافرين على مؤمن من الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وكان بين الكافر المعتدي ، وبين المسلمين المقيمين في دار الإسلام عهد وميثاق في الأمان والمسالمة ، واستنصر المؤمن المعتدى عليه بمن في دار الإسلام من المسلمين ، إذا كان الأمر كذلك فهل تجب نصرة المعتدى عليه على المعاهد المعتدي؟.

فأجاب سبحانه بقوله : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). أي ان النصرة لا تجب في مثل هذه الحال محافظة على الوفاء بالعهد والميثاق ، والإسلام وان كان عهدا وميثاقا أيضا ، ولكنه لا يجيز بحال الخيانة والغدر ، حتى بالكافر.

٥١٣

لا أثر لاسم الدين :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). قد يوهم ظاهر الآية ان مجرد المشاركة في الكفر بين اثنين تستدعي بطبيعتها ان يناصر كل منهما الآخر .. وهذا لا ينطبق على الواقع ، فان تاريخ أهل الكفر بعضهم مع بعض تاريخ حروب ودماء .. وكذلك تاريخ المسلمين .. وقد دلتنا التجارب ان المصلحة هي التي تجمع وتفرق ، أما مجرد المشاركة في الألفاظ والأسماء الدينية ، كمسلم ومسيحي فقد يكون لها شيء من الأثر ، ولكنه لا يبلغ حد الولاية ، أي يتولى كل واحد يحمل هذا الاسم من أمر صاحبه وشريكه فيه ما يتولى من نفسه إلا إذا تجرد عن كل غاية إلا الغاية الدينية ، بحيث يضحي بجميع مصالحه ، حتى بنفسه وأهله وماله في سبيل دينه ومعتقده ، وهذا هو المراد من قوله تعالى عن المهاجرين والأنصار : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). وقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ـ ٧١ التوبة. أي ان الأمر بالمعروف عندهم هو المصلحة.

أما المراد من قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). وقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ـ ١٨ الجاثية. وقوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) ـ ٦٧ التوبة. أما المراد من هذه الآيات فهو ان الكفار والظالمين والمنافقين يتفقون يدا واحدة ضد الحق ، على ما بينهم من العداء والتناقضات ، لأن المصلحة المشتركة تجمعهم وتوحد صفوفهم ، وهي الدفاع عن المنافع والامتيازات ، وقد تكرر ذلك مرات ومرات قديما وحديثا ، فمن التاريخ الحديث تكتل المستعمرين والمستغلين ضد الشعوب والثورات الوطنية ، على ما بين الدول الاستعمارية ، والشركات الاحتكارية من التنافس على الأرباح ، ومن القديم اتفاق مشركي العرب ويهود الحجاز والمنافقين ، اتفاقهم وإجماع كلمتهم على محاربة الإسلام والمسلمين ، ولا دافع إلا المصالح المشتركة ، فلقد بلغت العداوة بين المشركين واليهود الغاية قبل الإسلام .. وبهذا نفسر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). أما ما ذهب اليه أكثر المفسرين من أن المراد به ان الكفار يرث بعضهم بعضا ،

٥١٤

أما هذا التفسير فبعيد عن ظاهر اللفظ. وتكلمنا عن نظير هذه الآية ، وعن المصلحة المشتركة بين كثير من اليهود والنصارى في هذا العصر عند تفسير الآية ٥١ من سورة المائدة بعنوان اليهود والبترول والنصارى.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ). إلا هنا مركبة من كلمتين إن الشرطية ، ولا النافية ، والهاء في تفعلوه تعود إلى النصر في قوله : (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) والمعنى انكم أيها المسلمون إن لم تنصروا من استنجد بكم من المسلمين على الكافرين الذين حاولوا أن يفتنوه في دينه ، ويردوه إلى الشرك ، إن لم تنجدوه تكن فتنة وفساد بتسلط الشرك على الإيمان والباطل على الحق.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). ذكر سبحانه في الآية السابقة المهاجرين والأنصار بهذا اللفظ لبيان ما يجب على كل واحد منهم تجاه الآخر من الدفاع والمناصرة ، ثم أعاد هنا للثناء عليهم بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ولبيان شأنهم ، وما أعد الله لهم غدا من العفو عن السيئات والثواب الجزيل الذي عبّر عنه بقوله : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

وما قرأت شيئا أبلغ من وصف الإمام زين العابدين (ع) للمهاجرين والأنصار وهو يناجي ربه ، ويطلب لهم الرحمة والرضوان بقوله :

اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة ، وأبلوا البلاء الحسن في نصره وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له ، حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته .. فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك .. وكانوا مع رسولك لك اليك.

ـ ملحوظة ـ هذه المناجاة جاءت في الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة ، وتقدس كل حرف منها ، وهي رد مفحم لمن قال : ان الشيعة ينالون من مقام الصحابة.

٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ). هؤلاء هم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم

٥١٥

بعد السابقين الأولين ، ومع ذلك فحكمهم واحد من حيث وجوب النصرة والدفاع.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قال المفسرون : بعد أن آخى النبي (ص) بين أصحابه ، وبينه وبين علي (ع) (١). أصبحوا أولياء في النصرة ، وفي الميراث أيضا ، أي انهم يتوارثون بهذه المؤاخاة لا بالنسب والقرابة ، ثم نسخ التوارث بهذه المؤاخاة ، وعاد الى التوارث بالرحم والقرابة.

واستدل الشيعة بهذه الآية على ان من كان أقرب إلى الميت نسبا فهو أولى بميراثه من الأبعد ، سواء أكان الأبعد ذا سهم ، أم لم يكن ، وسواء أكان عصبة ، أم غير عصبة ، فبنت الميت تحجب أخاه عن الإرث لأنها أقرب منه إلى الميت ، وأخته تحجب عمه لنفس السبب ، وهكذا يحجب الأقرب الأبعد من جميع المراتب ، وتكلمنا عن ذلك وأقوال السنة والشيعة فيه ، كما أشرنا إلى التوارث بالمؤاخاة ، وإلى أسباب الإرث في الجاهلية ، كل ذلك تكلمنا عنه في ج ٢ ص ٢٦٢ وما بعدها عند تفسير الآية ١١ من سورة النساء.

__________________

(١). قال الشيخ محمد الغزالي في كتاب فقه السيرة ص ١٤٢ طبعة ١٩٥٣ : ولقد صح ان رسول الله (ص) جعل عليا منه بمنزلة هرون الى موسى ، وهذا يؤيد رواية مؤاخاة النبي لعلي.

٥١٦

الفهرست

سورة المائدة...................................................................... ٥

اوفوا بالعقود الآية ١ ـ ٢.......................................................... ٥

الثورة والثورة المضادة.............................................................. ٨

حرمت عليكم الميتة الآة ٣....................................................... ٩

إكمال الدين وإتمام النعمة....................................................... ١٣

وما علمتم من الجوارح ملكبين الآة ٤............................................. ١٥

طهارة أهل الكتاب الآة ٥...................................................... ١٧

الوضوء والتيمم الآة ٦ ـ ٧...................................................... ٢٠

اعدلو هو أقرب التقوى الآة ٨ ـ ١٠............................................. ٢٤

اذكروا نعمة الله الآة ١١ :...................................................... ٢٧

اخذ الميثاق من اليهود والنصارى الآة ١٢ ـ ١٤.................................... ٢٨

قد جاءكم من الله نور الآة ١٥ ـ ١٦............................................. ٣٣

الإسلام وأنصار السلام......................................................... ٣٤

قالوا ان الله هو المسيح الآة ١٧ ـ ١٩............................................. ٣٥

الاشاعرة والنصارى............................................................. ٣٨

٥١٧

موسى وقومه الآة ٢٠ ـ ٢٦..................................................... ٤٠

قابيل وهابيل الآة ٢٧ ـ ٣١..................................................... ٤٤

الفرد والجماعة في الاسلام الآة ٣٧............................................... ٤٦

جزاء المفسدين الآة ٣٣ ـ ٣٤................................................... ٤٩

ابتغوا اليه الوسيلة الآة ٣٥ ـ ٣٧................................................. ٥٢

والسارق والسارقة الآة ٣٨ ـ ٤٠................................................. ٥٣

سماعون الكذب الآة ٤١ ـ ٤٣.................................................. ٥٦

فلا تخشوا الناس الآة ٤٤....................................................... ٦٠

النفس بالنفس الآة ٤٥ ـ ٤٧................................................... ٦٢

بين الكفر والفسق والظلم........................................................ ٦٤

لكل جعلنا منكم شرعة الآة ٤٨ ـ ٥٠........................................... ٦٦

لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء الآة ٥١ ـ ٥٣................................... ٧١

البتول واليهود والنصارى......................................................... ٧٣

أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين الآة ٥٤..................................... ٧٥

مشكلة الأخلاق............................................................... ٧٩

يؤتون الزكاة وهم راكعون الآة ٥٥ ـ ٥٦.......................................... ٨١

اتخذوا دينكم هزوا ولعبا الآة ٥٧ ـ ٥٩........................................... ٨٣

وجعل منهم القردة والخنازيرالآية ٦٠ ـ ٦٣.......................................... ٨٦

قالت اليهود يدالله مغلولة الآة ٦٤ ـ ٦٦.......................................... ٨٩

الصهاينة تواطئوا مع النازيين...................................................... ٩١

اليهود ونار الحرب.............................................................. ٩٣

الرزق وفساد الأوضاع........................................................... ٩٤

٥١٨

وبلغ ما أنزل اليك الآية ٦٧..................................................... ٩٦

صاحب المنار وأهل البيت....................................................... ٩٨

اقامة التوراة والانجيل الآة ٦٨ ـ ٦٩............................................... ٩٩

ميثاق بني اسرائيل الآية ٧٠ ـ ٧١............................................... ١٠٠

دعوة المسيح الى بني اسرائيل الآية ٧٢ ـ ٧٥...................................... ١٠٢

لا ملک لکم ضرا ولا نفعا الآة ٧٦ ـ ٨١....................................... ١٠٥

عداوة اليهود ومودة النصارى الآة ٨٢ ـ ٨٦..................................... ١١٣

من هم أقرب مودة للمسلمين.................................................. ١١٥

لا تحرموا الطيبات الآة ٨٧ ـ ٨٨............................................... ١١٧

اللغو في الإيمان الأة ٨٩...................................................... ١١٨

الخمر والميسر الآية ٩٠ ـ ٩٢................................................... ١٢١

اتقوا وآمنوا الآة ٩٣.......................................................... ١٢٣

لا صيد في الحرم ولا مع الاحرام الآية ٩٤ ـ ٩٦................................... ١٢٤

معنى الاختبار من الله.......................................................... ١٢٦

البيت الحرام الآية ٩٧ ـ ٩٩.................................................... ١٢٨

كثرة الخبيث الآة ١٠٠....................................................... ١٣١

هل الرزق صدفة أو قدر....................................................... ١٣١

لا تسألوا عن أشياء الآية ١٠١ ـ ١٠٢.......................................... ١٣٤

لا بحيرة ولا سائبه الآية ١٠٣ ـ ١٠٥............................................ ١٣٦

في اثبات الوصية الآية ١٠٦ ـ ١٠٨............................................. ١٣٨

الرسل ويوم الجمع الآية ١٠٩ ـ ١١١............................................ ١٤٢

عيسى ونبوة الأطفال.......................................................... ١٤٤

٥١٩

مائدة السماء الآية ١١٢ ـ ١١٥............................................... ١٤٦

بين حواري محمد وحواري عيسى................................................ ١٤٨

عيسى والناس الآية ١١٦ ـ ١١٨............................................... ١٤٩

صدق الصادقين الآة ١١٩ ـ ١٢٠............................................. ١٥٢

سورة الأنعام.................................................................. ١٥٧

خلق السموات والأرض الآة ١ ـ ٣............................................. ١٥٧

الجحود بآيات الله الآة ٤ ـ ٦.................................................. ١٥٩

لا دكتاتورية في الأرض ولا في السماء............................................ ١٦١

ولو نزلنا عليك الآة ٧ ـ ١١................................................... ١٦٢

کتب ربکم عل نفسه الرحمة الآة ١٢ ـ ١٦..................................... ١٦٥

لا كاشف الا الله الآة ١٧ ـ ١٩............................................... ١٦٩

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الآية ٢٠ ـ ٢٤....................................... ١٧١

على قلوبهم أكنة الآة ٢٥ ـ ٢٦................................................ ١٧٥

وقفوا على النار الآة ٢٧ ـ ٣٢................................................. ١٧٧

قد نعلم انه ليحزنك الآة ٣٣ ـ ٣٧............................................. ١٨٠

الدواب والطيور الآة ٣٨ ـ ٣٩................................................. ١٨٤

قل أرأيتكم الاة ٤٠ ـ ٤٥..................................................... ١٨٦

الله والفطرة................................................................... ١٨٨

ان اخذ الله سمعكم وأبصاركم الآة ٤٦ ـ ٤٩..................................... ١٩٠

ان اتبع الا ما يوحى الى الآة ٥٠ ـ ٥٥.......................................... ١٩٢

لا اتبع أهواءكم الآة ٥٦ ـ ٥٨................................................. ١٩٧

وعنده مفاتح العيب الآة ٥٩ ـ ٦٢............................................. ١٩٩

٥٢٠