التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). الا متحرفا لقتال أي تاركا موقفه إلى موقف أحكم وأصلح للقتال ، أو متحيزا إلى فئة أي منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين تقاتل العدو لأنهم بحاجة اليه ، أو هو بحاجة اليهم ، والمعنى اثبتوا أيها المسلمون لعدوكم في المعركة ، ولا تفروا منها الا أن تختاروا موقعا أحسن ، أو تدبروا خطة أحكم بانضمام بعضكم إلى بعض ، وان من فر من العدو بلا مبرر فقد استحق غضب الله ومأواه جهنم.

وقد أفتى الفقهاء بتحريم الفرار من الزحف إلا إذا كان عدد جيش العدو أكثر من ضعف عدد جيش المسلمين .. وفي رأينا ان الفقهاء لا يملكون هنا الفتوى بوجوب الثبات ، ولا بجواز الفرار ، وان الأمر في ذلك يجب أن يترك لتقدير القائد الأمين الخبير ، لأنه هو المسئول عن الحرب ، وليس الفقهاء ، فيجب أن يترك له تقدير وجوب الثبات أو الفرار ، فقد يرى الثبات مع زيادة عدد العدو ثلاثة أضعاف ، وقد يرى لزوم الفرار والانسحاب من المعركة مع زيادة عدد المسلمين أضعافا مضاعفة ، لأن الثبات عملية انتحارية ، وفي جميع الحالات يجب الأخذ بقوله ، لا بقول الفقهاء الدين يفتون ، وهم على الوسائد متكئون .. هذا ، إلى أن قول الفقهاء في الحروب قد ذهب بذهاب وقته الذي كانت تقاس فيه القوة بالكم لا بالكيف ، وبعدد الجيش لا بمعداته الجهنمية الحديثة.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ). انتصر المسلمون ببدر على المشركين ، فقتلوا منهم من قتلوا ، وأسروا من أسروا ، وسبب هذا الانتصار ثبات المسلمين وصبرهم في القتال ، أما سبب هذا الثبات والصبر فهو ما أشارت اليه الآيات السابقة من ان الله ربط على قلوب المسلمين ، وثبت أقدامهم ، وأمدهم بالملائكة ، وأزال الرعب من قلوبهم وألقاه في قلوب المشركين .. وعلى هذا تصح نسبة قتل المشركين إلى المسلمين لأنه كان بأيديهم ، وبسبب ثباتهم وصبرهم ، وأيضا تصح نسبته إلى الله تعالى لأنه هو الذي مهد لهم لهذا الثبات والصبر بالاضافة إلى انه سبب الأسباب .. وفي رواية ان بعض المسلمين قال يوم بدر أنا قتلت فلانا. وقال آخر : وأنا قتلت فلانا. فأنزل الله سبحانه : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). أجل ، ان الله رمى ، ولكنه

٤٦١

اختار لرميته كف محمد (ص) الذي فضله على جميع خلقه ، وخصه برسالته التي عمت رحمتها جميع العالمين. وروي ان النبي أخذ يوم بدر قبضة من الحصى أو التراب ، ورمى بها المشركين ، وقال : شاهت الوجوه ، فأعقب ذلك هزيمتهم. وغير بعيد أن تكون هذه الرواية صحيحة ، وأيضا غير بعيد أن يكون المراد بالرمية تدبير الأمر وأحكامه ، ومهما يكن ، فان مشيئة الله هي سبب الأسباب ، بها وجد محمد (ص) والحصى والكون بما فيه ، فان أي سبب مباشر أو غير مباشر لأية حادثة من الحوادث فإنها تنتهي إلى قوة عليا وجدت من غير موجد ، وإلا كانت كلمة الوجود لفظا من غير معنى ، تماما كما لو قلت : لا أحد يعطي المال ، حتى يأخذه من غيره فان هذا تعبير ثان عن قولك : لا أحد يعطي المال على الإطلاق ، لأنك نفيت الأصل الذي يعطي ولا يأخذ ، وبانتفاء الأصل ينتفي الفرع.

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً). البلاء والابتلاء يستعملان بمعنى الاختبار ويكون الاختبار بالنعمة لإظهار الشكر ، وبالمحنة لإظهار الصبر ، وأيضا يستعمل كل من البلاء والابتلاء بالإعطاء ، وهذا المعنى هو المراد بالبلاء في الآية ، أما المراد بالحسن فهو النصر والغنيمة ، أي ان الله سبحانه أمر المسلمين بالثبات والصبر وعدم الفرار من الزحف ، ومهد لهم السبيل الى ذلك ليتم عليهم نعمته بالنصر والغنيمة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). فقد سمع استغاثة المسلمين واستجاب لهم لأنه علم منهم صدق النية وصحة العزم.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ). ولا نعمة أجل وأعظم من ضعف العدو ، وإبطال كيده وحيله (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). الخطاب في أن تستفتحوا وان تنتهوا وان تعودوا وفي لكم وعنكم وفئتكم ، كل أولاء للمشركين بقرينة السياق واستقامة المعنى. وروي ان المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة ، فاستنصروا الله ، وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين. فأجابهم الله بقوله : ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح الخ. أي إن تستنصروا للأعلى والأهدى فقد استجاب الله ونصر

٤٦٢

الأعلى والأهدى ، فان انتهيتم عن حرب المسلمين ومشاقة الله والرسول فالانتهاء خير لكم وأبقى بعد أن ذقتم من القتل والأسر والهزيمة ما ذقتم ، وان عدتم إلى الحرب والمشاقة يحل بكم ثانية ما حل بكم أولا. أما الكثرة التي تعتزون بها فقد رأيتم انها لا تدفع عنكم القتل والأسر والهزيمة ، فان الله هو الناصر ، وهو مع المؤمنين ، فان أردتم النصر حقا فدعوا الشرك ، وآمنوا بالله ورسوله.

طاعة الله والرسول الآية ٢٠ ـ ٢٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) جاء هذا النداء منه تعالى للمؤمنين بعد قوله : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) والغرض من النداء والأمر بطاعة الله والرسول هو تحديد المؤمن الذي ينصره الله ، ويكون معه أينما كان ، وانه الذي يطيع الله ورسوله فيما يأمران به ، وينهيان عنه ، وان من خالف وعصى فقد استحق من الله العذاب والخذلان (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ). التولي الاعراض ، وضمير عنه يعود الى الرسول ، ومفعول تسمعون محذوف أي تسمعون كتاب الله وآياته.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ). يستعمل السماع كثيرا

٤٦٣

في القبول ، ومنه : لا أسمع منك أي لا أقبل منك. وسماعون للكذب أي قابلون له ، وهذا المعنى هو المراد بالسماع في الآية ، أي ان الله سبحانه نهى المؤمنين أن يكونوا كالمنافقين يظهرون القبول من النبي والطاعة لأمره ، ويضمرون المخالفة والعصيان.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). الأصم لا يسمع ، والأبكم لا يتكلم ، والدواب لها آذان تسمع بها ، ولكنها لا تفهم الكلام الذي تسمعه ، ولها ألسنة ولكنها لا تنطق ، فهي لا تفهم ولا تفهم ، ومن يسمع كلام الله والرسول ، ثم لا يهتدي به فمثله كمثل الدابة الصماء البكماء تسمع الكلام ولا تنتفع به.

طالب حق وطالب صيد :

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ). الناس اثنان : الأول طالب حق ، مجردا عن كل غاية .. وهذا لا يؤمن بمبدإ ، ولا يرى رأيا إلا بعد البحث وإمعان النظر في الأدلة ، ثم يبني آراءه عليها.

والثاني طالب صيد لا يؤمن إلا بذاته ومصالحه ، فيرحب بما يلائمها ، وان كان باطلا ، ويرفض ما ينافيها ، وان كان حقا.

والله سبحانه يسمع دعوة الحق لكل من الاثنين على السواء إلقاء للحجة ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وبعد البيان الذي تتم به الحجة على الجميع يزيد سبحانه من النصح والإرشاد للذين يستجيبون له وينتفعون به : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ـ ١٧ محمد. أما الذين لا يستجيبون إلا لمنفعتهم الذاتية فان الله يعرض عنهم ، ما دام النصح لا يجدي معهم شيئا. وهذا هو المراد من قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) .. ويدل على ذلك قوله بلا فاصل : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي لو أسمعهم الحق لأعرضوا عنه لأنه لا يلائم أهواءهم.

٤٦٤

الدين والدعوة الى الحياة الآة ٢٤ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

إذا في قوله تعالى : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ليست للشرط ، وانما هي لبيان موضوع دعوة الله والرسول ، وتقريرها وحصرها بالدعوة إلى الحياة بأكمل معانيها.

ومن أحاط بالإسلام علما يجد ان كل أصل من عقيدته ، وكل فرع من شريعته يرتكز على الدعوة صراحة أو ضمنا الى العمل من أجل الحياة .. فالإيمان بالله يستدعي الإيمان بالتحرر من العبودية إلا لله وحده ، وبأنه لا سلطان للمال ولا للجاه ولا للجنس ولا لشيء إلا للحق والعدل ، وبديهة ان الحياة الطيبة القوية لا توجد ، ومحال ان توجد إلا مع الالتزام بهذا المبدأ وتطبيقه. أما الإيمان برسالة محمد (ص) فهو عين الإيمان بشريعة الإخاء والمساواة ، وبحرية الإنسان وحمايته ، وبكل مبدأ يعود على الانسانية بالخير الصلاح .. ذلك بأن رسالة محمد تهدف الى هدي البشر وإسعاده ، وبث العدل بين أفراده ، أما الإيمان باليوم الآخر فهو الإيمان بأن الإنسان لا يترك سدى ، وانه مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة من أعماله يحاسب عليها ويكافأ ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر .. وهذا الإيمان ـ كما ترى ـ أشبه بالقوة التنفيذية ، أو بالحافز على العمل بما يوجبه الإيمان بالله والرسول.

هذا فيما يعود الى أصول العقيدة ، أما الفروع ، وأعني بها ما يجوز من الأفعال ، وما لا يجوز في الشريعة الاسلامية فإنها تقوم على مبدأ انساني أشار اليه الإمام جعفر الصادق (ع) بقوله : كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات فهو جائز ، وكل ما فيه فساد بجهة من الجهات فهو غير جائز .. هذه هي دعوة الله والرسول التي نص عليها القرآن بصراحة ووضوح : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

٤٦٥

وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ). وإذا عطفنا على هذا النص الآية ٣٢ من آل عمران : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) إذا عطفنا هذه الآية على تلك ، وجمعنا بينهما تشكل معنا هذا القياس المنطقي : لقد دعا الله والرسول إلى العمل من أجل الحياة ، وحكم سبحانه بكفر من أعرض وتولى عن هذه الدعوة. فالنتيجة الحتمية ان الذي لا يعمل من أجل الحياة فهو كافر (١).

وبهذا يتبين معنا ان الإسلام يسير مع الحياة جنبا الى جنب ، وان كل ما هو بعيد عن الحياة فما هو من الإسلام في شيء ، وان أي انسان ـ كائنا من كان ـ يدعو الى حياة لا استغلال فيها ولا ظلم ولا مشكلات فان دعوته هذه تلتقي مع دعوة الله والرسول ، سواء أراد ذلك ، أم لم يرد ، وان من يقف في طريق الحياة وتقدمها فهو عدو لله وللرسول ، وان قام الليل ، وصام النهار .. أما تلك الزمرة التي ظهرت في عصرنا ، وباعت دينها للصهيونية والاستعمار ، وتسترت باسم الدين ، اما هذه الزمرة العميلة فقد أشرنا اليها في ج ٢ ص ١٦٦ عند تفسير الآية ١٤٢ من سورة آل عمران.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). القلب محل الايمان والكفر ، والإخلاص والنفاق ، والحب والبغض ، وعنه تصدر الأعمال خيرها وشرها ، ولو لا القلب لم يكن الإنسان إنسانا ، وكفى به عظمة قوله تعالى : ما وسعتني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ، وما من شك ان الذي يتسع لما ضاقت عنه السموات والأرضين فهو أعظم منها.

وتسأل ، كيف اتسع هذا العضو الصغير لمن ضاقت عنه السموات والأرضون ، ثم لما ذا خص تعالى قلب المؤمن دون قلب الكافر؟.

الجواب : ليس المراد بالسعة في هذا الحديث القدسي السعة المكانية ، لأن الله

__________________

(١). عند تفسير الآية ٤٧ من المائدة ذكرنا ان الكفر إذا أضيف الى العمل فالمراد به الفسق ، وان الفسق إذا أضيف الى العقيدة فالمراد به الكفر ، وعليه يكون المراد بكفر تارك العمل من أجل الحياة الكفر العملي ، لا الكفر العقائدي.

٤٦٦

لا مكان له ، وانما المراد بها سعة الإدراك والفهم عن الله ، وان قلب المؤمن يفهم عنه تعالى ما لا تفهمه السموات والأرض ، وكذلك قلب الكافر لا يفهم عن الله شيئا ، لأنه في كنّ من الضلال والفساد : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ـ ٥ فصلت.

وبهذا يتضح ان المراد بالمرء الذي يحول الله بينه وبين قلبه هو الذي أعماه الهوى والضلال ، وعليه تكون هذه الآية بمعنى الآية ٧ من سورة البقرة : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي انهم لا ينتفعون بقلوبهم بسبب ما ران عليها من الضلال ، حتى كأن الله قد ختم عليها أو حال بين أصحابها وبينها .. وعلى هذا تكون نسبة الختم والمنع اليه تعالى مجازا ، لا حقيقة.

وذهب جماعة من المفسرين الى ان معنى قوله تعالى : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ان القلب في قبضة الله يقلبه كيف يشاء ، فيفسخ عزائمه ، ويبدله بالذكر نسيانا ، وبالنسيان ذكرا ، وبالخوف أمنا ، وبالأمن خوفا .. وكل من التفسيرين محتمل.

واتقوا فتنة الآة ٢٥ ـ ٢٩ :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ

٤٦٧

لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

اللغة :

للفتنة معان ، منها العذاب ، وهو المراد من الفتنة في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) بدليل قوله في نفس الآية : (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). أما الفتنة في قوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فان المراد منها المحبة والهوى الذي يصد عن الحق. ويجعل لكم فرقانا أي هداية ونورا تفرقون به بين الحق والباطل.

الإعراب :

لا تصيبن نفي بمعنى النهي ، ولهذا دخلت على الفعل نون التوكيد ، والجملة صفة للفتنة. وتخونوا أماناتكم عطفا على لا تخونوا الله والرسول.

المعنى :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). هذا تحذير منه تعالى لكل مفتن يفسد في الأرض ، بخاصة الذين يبثون الخلافات والنعرات الدينية ، ويقلقون راحة الآمنين ، ويعتدون على المستضعفين ، هذا تحذير منه تعالى بأن شرور الفتنة ومفاسدها لا تقتصر على الظالمين ، بل تعم المجتمع بكامله صالحه وطالحه .. وفي تفسير الطبري نقلا عن السدي ، وهو مفسر كبير ، ان هذه الآية تنطبق على أصحاب الجمل الذين حاربوا علي بن أبي طالب وذكر الرازي عند تفسير هذه الآية : ان الزبير كان يسامر رسول الله (ص) يوما إذ أقبل علي رضي الله عنه فضحك اليه الزبير ، فقال له رسول الله :

٤٦٨

كيف حبك لعلي؟ فقال : يا رسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد. فقال له الرسول : كيف أنت إذا سرت اليه تقاتله؟.

وأيضا في تفسير الطبري : ان الزبير بن العوام قال : قرأنا هذه الآية زمانا ، وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). الخطاب لصحابة الرسول (ص) يذكرهم الله تعالى بما كانوا فيه قبل الإسلام من الضعف والخوف ، والمهانة والفقر ، وبما هم عليه بعد الإسلام من الأمن والمنعة ، والغنى والعز ، لأنهم استجابوا لدعوة الحياة التي دعاهم اليها الله ورسوله ، والغرض من هذا التذكير أن يستمروا على الطاعة والاستجابة لدعوة الحياة ، ليعيشوا في ظلها أقوياء أعزاء .. وانهم متى أعرضوا وعصوا عادوا إلى ما كانوا فيه من الضعف والهوان كما هي حال المسلمين اليوم ، بخاصة العرب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ). وليست خيانة الله والرسول بترك الصوم والصلاة فقط ، وإنما الخيانة العظمى هي خيانة الأمة والوطن ، هي أن يتولى الطغاة مركز القوة والقيادة ، ويتحكموا بالبلاد ومقدراتها ، وان نصبر عليهم وعلى طغيانهم ، ونسكت عن حربهم وجهادهم (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ). أي ولا تخونوا أماناتكم. وقال كثير من المفسرين : ان هذا نهي عن خيانة الأمانة فيما بين الناس من المعاملات المالية .. وليس من شك ان رد الأمانة واجب ، وان خيانتها حرام ، ولكن من الخيانة ، بل من أعظمها عدم التعاون مع المستضعفين لاسترداد حقوقهم من الأقوياء الظالمين (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ولا أحد أجرأ على الله ممن يقدم على معصيته عالما متعمدا.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). جاءت هذه الآية بعد النهي عن الخيانة للتنبيه إلى أن المؤمن لا ينبغي له أن يمنعه المال والولد عن القيام بواجبه تجاه الله والأمة والوطن ، والمراد بالفتنة هنا المحبة التي تصد عن الحق والخير. وقد روي عن النبي (ص) انه قال : الولد ثمرة القلب ، وانه مجبنة مبخلة محزنة ، تماما كالمال ، فانه ثمرة عرق الجبين وكد اليمين ، وهو مجبنة لأن

٤٦٩

أيضا : «أمرني ربي بالمدارة ، كما أمرني بالفرائض». وأجمع الفقهاء على أن الكذب واجب اذا توقف عليه حفظ النفس البريئة ، وخلاصها من الهلاك ، وان الصدق حرام في النميمة والغيبة ، فالنمام صادق ، والمغتاب صادق ، ولكنهما مذمومان عند الله والناس (١).

وبعد ، فأن الرياء المحرم هو ان يتظاهر المرء أمام الناس بما ليس فيه، فيريهم الخير والصلاح من نفسه ، ليحظى عندهم بمكان الصالحين الخيرين، وهو من الأشرار المفسدين.

(مذبذبين). يتظاهرون تارة مع المسلمين ، وتارة مع الكافرين ، وهم في الواقع (لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء). بل الى منافعهم ومطامعهم ... يقبلون كل يد تقبض على منفعتهم ، أو على شيء منها ، قدرة كانت اليد ، أو طاهرة.

(ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً). أي ان الله سبحانه قد تخلى عنهم ، وأوكلهم الى أنفسهم لعنادهم وتمردهم على الحق ، ومن كان هذا شأنه فلن يؤوب الى رشد. ولابد من التنبيه الى ان حكمة الله تعالى تستدعي ان لا يتخلى عن عبده ، تماماً كما لا تتخلى الوالدة عن وليدها ، الا اذا كان العبد هو السبب الموجب لتخلي الله عنه لولوجه في العصيان والتمرد ، كما تتخلى الأم عن ابنها لغلوه في العقوق. وتقدم هذا النص القرآن بالحرف ف الآة ٨٨ من هذه السورة ، وتكلمنا عنها هناك مفصلاً ، فقرة «الاضلال من الله سلبي لا ايجابي» ، كما بسطنا القول في أقسام الهدى والضلال عند تفسير الآية ٢٦ من سورة البقرة، المجلد الأول ص ٧٠.

لا تتخذو الكافرين أولياء الآة ١٤٤ ـ ١٤٧ :

(يَا أيهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخذوا الكّافِرِينَ أّوْلِيّاءَ مِنْ دُونِ المؤمِنِينَ)

__________________

(١) نصوص الكتاب والسنة تقوم على أساس العمل بما فيه مصلحة ، وترك ما فيه مفسدة ، فحيث تكون المصلحة يكون الأمر ، وحيث تكون المفسدة يكون النهي ، ومن هنا جاز الكذب مع المصلحة ، وحرم الصدق مع المفسدة الترتبة على الغيبة والنميمة.

٤٧٠

واذ يمكر بك الآية ٣٠ ـ ٣٥ :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

اللغة :

إذا نسب المكر إلى الإنسان فمعناه الحيلة والخداع ، وإذا نسب الى الله فمعناه إبطال المكر. ليثبتوك أي يمنعوك من الحركة بالحبس أو شد الوثاق. والأساطير جمع اسطورة أي سطرت في الكتب من غير تمحيص. المكاء التصفير بالفم. والتصدية التصفيق باليد.

الإعراب :

ان هذا ان نافية. هذا هو الحق هو ضمير فصل لا محل له من

٤٧١

الاعراب ، والحق خبر كان. واللام في ليعذبهم تسمى لام الجحود لمجيئها بعد النفي ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك مجرور باللام متعلقا بمحذوف خبرا لكان ، والتقدير ما كان الله مريدا لعذابهم. وما لهم مبتدأ وخبر. والمصدر المنسبك من ان لا يعذبهم منصوب بنزع الخافض ، وقدره الطبرسي وأبو البقاء في والصحيح انه من والمعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون. وصلاتهم اسم كان ، ومكاء خبرها.

المعنى :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ). في الآية السابقة ٢٦ ذكّر الله سبحانه المسلمين بنعمه عليهم ، وفي هذه الآية ذكّر النبي (ص) بنعمه عليه ، وذلك ان المشركين من قريش أجمعوا على الخلاص من محمد (ص) ، واختلفوا في الوسيلة التي يتخلصون بها منه .. فمن قائل : نحبسه ونقيده ، وقال آخر : بل نخرجه من مكة ، ثم اتفقوا على أن يختاروا من كل قبيلة رجلا على أن يقتحم الجميع عليه بيته ، وهو نائم في فراشه ، ويضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل كلها ، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب .. قال المفسرون ، ومنهم الطبري والرازي وأبو حيان الأندلسي : ان الله أوحى الى نبيه بذلك ، وأمره أن يخرج الى المدينة ، وأن يأمر علي بن أبي طالب بالمبيت في مضجعه ، وبات علي في فراش الرسول ، واتشح ببردته ، ولما بادر القوم إلى المضجع أبصروا عليا فبهتوا. وأوصى النبي (ص) عليا أن يرد ودائع للناس كانوا قد أودعوها عند رسول الله.

وقوله تعالى : (لِيُثْبِتُوكَ) يشير إلى من قال : احبسوه وقيدوه. وقوله : (أَوْ يُخْرِجُوكَ) يومئ إلى من أشار بإخراجه. وقوله : (أَوْ يَقْتُلُوكَ) أراد به ما اتفقوا عليه من القتل.

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). أما مكر قريش فهو تآمرهم على قتل محمد (ص) بأسلوب يعجز الهاشميون عن الاقتصاص من قاتله. أما مكر الله فهو إبطال مكرهم وكيدهم بما دبر سبحانه من خروج النبي ، ومبيت علي

٤٧٢

في فراشه. وتقدم الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ٥٤ من آل عمران ج ٢ ص ٦٦.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). قالت قريش عن القرآن : انه أساطير ، وانها لو شاءت لقالت مثله ، قالت هذا ، وهي تعلم علم اليقين ان القرآن من عند الله ، لأنه تحداها والناس أجمعين على أن يأتوا بسورة من مثله ويدعوا من يشاءون ، ولما عجزت قريش لجأت الى الافتراءات والمناورات تخفي عجزها وضلالها ، شأنها في ذلك شأن كل من عجز عن مجابهة الحق بالحجة والمنطق.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). قد تأخذ بعض الناس العزة بالإثم تعصبا لكبريائهم تماما كما يتعصبون لدينهم أو أشد ، حتى انهم ليؤثرون القتل على الخضوع للخصم وان كان محقا ، ويستسلمون للهلاك والعذاب ، ولا يتنازلون عن تعاليمهم وتقاليدهم وفي التاريخ الكثير من هؤلاء ، ذكر القرآن منهم فرعون وقوم نوح وغيرهم .. وقالت قريش حين دعاها النبي (ص) إلى الإسلام : اللهم ان كان محمد محقا في دعواه فأمطر علينا حجارة من السماء. أي انهم يفضلون الهلاك رجما بالحجارة على أن يتبعوا محمدا ، وان كان نبيا مرسلا من الله.

فأجابهم الله سبحانه بأن العذاب أمامهم ، وان الباب اليه ما زال مفتوحا ، وإنما أمهلهم بعض الوقت لسبب واحد أشار اليه بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). أي ان الله جل ثناؤه لا يعذب أهل مكة ، ومحمد بين أظهرهم إكراما له ، وتعظيما لشأنه.

(وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). أي وهم يؤمنون برسالة محمد (ص) بعد أن قال عز من قائل : انه لا يعذب قريشا ما دام محمد بينهم ـ قال : وأيضا لا يعذبهم إذا آمنوا ، سواء أكان محمد بينهم ، أم لم يكن ، فقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) بمعنى قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) ـ ١٤٦ النساء ، ويدل على ارادة هذا المعنى قوله بلا فاصل : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ). وقوله مخاطبا قريشا : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

٤٧٣

وبكلمة بسيطة وواضحة ان معنى الآية انه تعالى لا يعذب قريشا إذا كان محمد بينهم ، وأيضا لا يعذبهم إذا أسلموا ، وعبّر عن الإسلام بالاستغفار لأنه من لوازمه. وبهذا يتضح انه لا حاجة إلى التأويلات التي ذكرها المفسرون بالإضافة إلى أنها تترك القارئ في ظلمات لا يهتدي الى شيء.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). ما لهم استفهام يتضمن معنى النفي ، أي لا شيء فيهم من دين أو خلق يمنع من عذابهم ، فإنهم الى جانب شركهم يصدون المسلمين عن عبادة الله في بيته الحرام ، فما كان المسلم ، حتى النبي (ص) يوم كان بمكة يستطيع الصلاة في المسجد الحرام ، دون أن يتحمل منهم الأذى والتنكيل ، وقد اتفقوا على صد النبي والمسلمين بالقوة عن العمرة عام الحديبية (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي ان المشركين ليسوا أصحاب المسجد الحرام ، ولا هم أولياء عليه ، بل هم أعداء الله وأعداء بيته فيجب طردهم ومنعهم عنه ، لأنهم يدنسونه برجسهم ونجاستهم ، ومن أجل هذا حين قوي الإسلام منعهم من قربه : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ـ ٢٨ التوبة.

(إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ). أي لا يحق لأحد كائنا من كان أن يتولى المسجد الحرام إلا إذا كان برا تقيا إلى جانب إسلامه وإقراره بالشهادتين. فكيف المشرك والجاحد؟ وموضوع الآية وان كان خاصا بأولياء المسجد الحرام ، ولكن التقوى شرط في كل من يتولى المساجد والمقامات الدينية ، لأن السبب الموجب هو طهارة المكان وقداسته .. والغريب ان أكثر الذين يتولون أمر هذه المقامات هم شرار الخلق الذين يتقنون فن الاحتيال واللصوصية (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الولي على المساجد والعتبات المقدسة يجب أن يكون برا تقيا ، انه لا ولاية لفاسق.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) يشعر بأن الله قد عذب قريشا ، مع العلم بأنه لم يحل بهم ما حل بقوم الأنبياء السابقين كعاد وثمود وقوم نوح ولوط وغيره؟.

الجواب : إن الذين آذوا النبي والمسلمين من قريش قتلهم الله يوم بدر بأيدي المسلمين أنفسهم .. وقد كان من جملة القتلى أبو جهل وعقبة بن أبي معيط

٤٧٤

والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وغيرهم من صناديد قريش الذين كانوا يشتدون ويبالغون في أذى المسلمين. ونذكر من باب المثال أمية بن خلف ، فقد كان يملك بلالا مؤذن الرسول (ص) وكان أمية يعذبه في الرمضاء ، ويذيقه ألوان العذاب ، وفي يوم بدر خرج أمية مع المشركين ، وخرج بلال مع رسول الله (ص) وما أن رأى بلال أمية حتى صرخ : هذا رأس الكفر لا نجوت ان نجا ، واجتمع حول بلال بعض المستضعفين الذين. لاقوا الأذى من أمية بن خلف ، واندفع بلال يضرب أمية بالسيف حتى قتله ، وحمل رأسه على سيفه ، وهو يرقص طربا.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً). المكاء التصفير ، والتصدية التصفيق ، وكأنّ سائلا يسأل : إن قريشا كانوا يصلون في المسجد الحرام ، فكيف استوجبوا العذاب؟ فأجاب سبحانه بأن صلاتهم كانت هرجا ومرجا لا خشوع فيها ولا خضوع ، لأنها كانت صفيرا بالأفواه ، وتصفيقا بالأيدي (فَذُوقُوا الْعَذابَ) الذي حل بكم يوم بدر ، وعذاب الآخرة أشد (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ولو أسلمتم لسلمتم من عذاب الدنيا والآخرة.

ان الذين كفروا ينفقون أموالهم الآية ٣٦ ـ ٤٠ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

٤٧٥

اللغة :

يركمه يضمه ويجعل بعضه فوق بعض. والمراد بالفتنة هنا الكفر.

الاعراب :

ليميز منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك مجرور باللام متعلقا بيحشرون. ويجعل وفيركمه عطف على ليميز. وبعضه بدل بعض من الخبيث. وجميعا حال من الهاء في فيركمه. ونعم المولى ونعم النصير المخصوص بالمدح محذوف أي الله ، وهو مبتدأ ، والجملة من الفعل والفاعل خبر مقدم.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). كان المشركون ينفقون أموالهم في قتال المسلمين ، وصد الناس عن الإسلام ، فبيّن سبحانه في هذه الآية أن تلك الأموال ستعود عليهم بالحسرة والخذلان في الدنيا ، والعذاب الشديد في الآخرة ، لأن النصر في النهاية لدين الله وأهله على الشرك وعبدة الأصنام.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). هذا تعليل وبيان للسبب الموجب لحسرة المشركين وخذلانهم ، وهو ان الله سبحانه عادل وحكيم ، ومن عدله ان لا يتساوى عنده الخبيث والطيب ، والمؤمن والكافر ، بل يميز كلا عن الآخر ، ويعامله بما هو أهل له ، ومن أجل هذا يثيب الطيب ، ويرفع من شأنه في الآخرة ، وقد يجمع له بين ثواب الدارين ، ويخذل الخبيث المجرم ويعاقبه في الآخرة دار الحساب والجزاء ، وقد يعجل له نوعا من العذاب في الدنيا حسبما تقتضيه حكمته.

(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ). المراد جنس الخبيث أي ما ينطبق عليه هذا الاسم بدليل قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) والمعنى ان الله سبحانه يجمع الخبثاء غدا بعضهم فوق بعض متراكمين متراكبين ،

٤٧٦

ثم يلقي بهم في نار جهنم ، كما يفعل الحاطب يحزم الحطب في حبله ، ثم يجعله وقودا للنار : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) ـ ١٥ الجن. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وأي خسران أعظم من أن يكون المرء بلحمه ودمه وقودا لنار سجّرها جبارها لغضبه على من خان ربه وضميره!. اللهم إنا من عذابك خائفون ، وبك لائذون ، وأنت كريم لا تطرد من استجار بكرمك ، ولاذ إلى رحمتك.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). الخطاب للنبي (ص) يأمره الله به أن يعظ الكافرين ، ويقول لهم : ان باب التوبة مفتوح أمامهم ، وان الفرصة سانحة للانتهاء عن الكفر وعداوة الله والرسول ، فإن تابوا تاب الله عليهم ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، كما جاء في الحديث (وَإِنْ يَعُودُوا) بعد التبين والتأمين الى عداوة الله والرسول ، والتجمع لحرب الإسلام وأهله ، وانفاق الأموال للصد عن سبيل الله ورسوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) من أمثالهم الذين كذبوا الرسل وقاتلوهم ، والمراد بسنة الأولين سنة الله فيمن مضى من هلاك الكافرين ونصر المرسلين عليهم : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ـ ٢١ المجادلة.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). تقدمت هذه الآية مع تفسيرها في ج ١ ص ٢٩٩ الآية ١٩٣ من سورة البقرة.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). أي فان أعرض المشركون عن بيان الرسول وأمانه فاصمدوا لهم أيها المسلمون ولا تخافوهم ، فان الله ناصركم عليهم ، وحافظكم منهم ، وهو خير الحافظين والناصرين.

٤٧٧
٤٧٨

الجزء العاشر

٤٧٩
٤٨٠