التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

أي قل يا محمد لهؤلاء المتعنتين : أجل ، أنا نبي ، ولكن النبي لا يصنع المعجزات ، ولا يبتدع من عنده الآيات ، ولا يقترحها على الله ، بل ينتظر الوحي ، ويبلغه لعباده.

(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). هذا اشارة الى القرآن ، والبصائر هي الحجج والبينات التي يبصر العاقل بها الحق ، ويميزه عن الباطل .. بعد ان قال النبي (ص) للمشركين : انما اتبع ما يوحى إليّ من ربي قال لهم : وقد أوحى إليّ ربي بهذا القرآن ، وفيه الأدلة الساطعة على نبوتي ، وهو هدى ورحمة لمن يريد أن يؤمن بالحق لوجه الحق ، فإن كنتم من طلابه كما تزعمون فعليكم أن تتركوا الشرك ، وتسلموا ، والا فأنتم طلاب منافع وأرباب غايات.

واذا قرىء القرآن الأية ٢٠٤ ـ ٢٠٦ :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

اللغة :

استمع له واليه أصغى بقصد. والإنصات السكوت من أجل الاستماع. والغدو جمع غدوة ، وهي الصباح ، والآصال جمع أصيل ، وهو المساء ، والقصد دوام الذكر. وخيفة حالة الخوف.

٤٤١

الاعراب :

تضرعا وخيفة مصدران في موضع الحال من واو فاستمعوا ، أي متضرعين وخائفين. ودون الجهر أي واذكر ربك دون الجهر ، والجملة عطف على واذكر ربك في نفسك. وبالغدو متعلق باذكر.

المعنى :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). لما ذكر سبحانه في الآية السابقة ان القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر في هذه الآية بالاستماع والإنصات له ، لتدبر ما فيه من الهدى والدلائل ، وليس من شك ان من تدبر القرآن ، واتعظ به فهو جدير برحمة الله ورضوانه.

واتفق الفقهاء ما عدا الظاهرية على ان الإنصات لقراءة القرآن مستحب وليس بواجب على غير المأموم الذي يصلي جماعة خلف الإمام.

واختلفوا في المأموم : هل يجب عليه أن يسمع وينصت للإمام ، وهو يقرأ القرآن في صلاته؟. ذهب جماعة الى الوجوب ، وقال آخرون بعدمه.

وعلى أية حال فان الأمر في قوله تعالى : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) هو للاستحباب لا للوجوب ، لأن هذا الأمر حكمه حكم الأمر في قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) لأنهما جاءا في سياق واحد ، والأمر بالذكر للاستحباب فكذلك الأمر بالاستماع والإنصات .. هذا ، الى ان الإنصات لكل قارئ فيه عسر وحرج ، بخاصة في عصرنا الذي أصبحت فيه قراءة القرآن في المكبرات أشبه بالغناء واللعب ترتفع الأصوات به بمناسبة وغير مناسبة. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ). اذكر الخطاب للنبي ، والمراد عام ، وتضرعا وخيفة أي ليكن مع الذكر خشوع وخوف من الله ، ودون الجهر من القول معناه اذكر ربك بصوت متوسط بين الجهر والإخفات ، وبالغدو والآصال كناية عن دوام الذكر وقوله تعالى : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) يدل صراحة على ان من

٤٤٢

رفع صوته بالقرآن فقد ترك المستحب وفعل خلاف الأولى بخاصة إذا كان في المكبر ، وبصورة أخص إذا كان فيه إزعاج للنائمين. (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله في نفسك ، لأن الذكر باللسان فقط أشبه بكلام فارغ لا معنى له.

ومعنى ذكره تعالى في النفس أن ندرك ان الله وحده هو الخالق الرازق ، والمحيي والمميت ، والمبدئ والمعيد .. وأفضل الذكر إطلاقا أن يتقي الإنسان الاساءة الى أخيه الإنسان خوفا من عقاب الله ، وأفضل منه أن يحسن اليه رغبة في ثواب الله عز وجل ، ونقول من غير تحفظ : ان هذا المعنى هو المقصود من قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ـ ٤٥ العنكبوت. وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) بعد قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) يؤيد أن الذكر الأكبر هو الإحسان الى عيال الله .. وأخسر الناس صفقة عند الله من يهلل له ويكبر ، وهو يسعى في أرض الله فسادا بالغش والخداع ، ومشايعة الطغاة والمستعمرين ضد عيال الله الآمنين والمستضعفين.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ). قال المفسرون : أراد الله بهؤلاء المسبحين الساجدين ـ الملائكة ، واستدلوا على ذلك ب (عِنْدَ رَبِّكَ) لأن الذين عند الله هم الملائكة .. ويلاحظ بأنه من الجائز أن يكون المراد كل من له مكانة ووجاهة عند الله ، سواء أكان ملكا ، أم بشرا.

واختلف الفقهاء : هل يجب السجود عند تلاوة آية فيها كلمة يسجدون كهذه الآية؟. نقل الطبرسي في المجمع عن أبي حنيفة القول بالوجوب ، وعن الشافعي والإمامية القول بالاستحباب المؤكد.

ويلاحظ بأن الشيعة الإمامية قد أوجبوا السجود على كل من القارئ والمستمع لآيات السجدة من السور الأربع ، وهي ألم تنزيل ، وحم فصلت ، والنجم ، والعلق.

٤٤٣
٤٤٤

سورة الأنفال

٤٤٥
٤٤٦

سورة الأنفال

آياتها ٧٥ ، وهي مدنية الا من آية ٣٠ لغاية ٣٦ فإنها مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قل الأنفال لله والرسول الآة ١ ـ ٤ :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

اللغة :

الأنفال جمع نفل بفتح الفاء ، وهو الزيادة ، والمراد به هنا نوع من المال يأتي بيانه. وبين ظرف يتوسط بين اثنين أو أكثر ، والمراد بالذات هنا الحال الواقعة بين اثنين أو جماعة. والوجل الخوف.

٤٤٧

الإعراب :

حقا منصوب على المصدرية ، أي أحق حقا ، أو صفة لموصوف محذوف أي إيمانا حقا.

المعنى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). ذكر سبحانه في هذه الآية ان قوما سألوا النبي (ص) عن الأنفال ، ولم يبين المراد منها ، واتفق أهل العلم بالدين على ان أية كلمة ترد في كتاب الله وسنة نبيه من غير تحديد لمعناها فإنها تحمل على المعنى الذي يفهمه الناس من الكلمة ، فان لم يعرف الناس لها معنى تعين الرجوع الى قواميس اللغة. وتقول هذه القواميس : النفل الغنيمة والزيادة بوجه عام من غير تحديد لنوعها ، ومن هنا اختلف المفسرون في المراد بالأنفال : هل هي جميع الغنائم ، أو هي غنائم بدر ، أو غيرها؟.

أما الشيعة الإمامية فقالوا : لا مبرر لهذا الاختلاف لأنه ثبت في السنة النبوية برواية أهل بيت الرسول (ص) ان المراد بالأنفال الأرض التي تؤخذ من غير المسلمين بلا قتال ، والأرض الموات ، سواء أكانت مملوكة ثم باد المالك ، أم لم تكن ، ورؤوس الجبال وبطون الأودية ، والأحراج ، وكل ما اختص به سلطان الحرب ، على شريطة أن لا يكون مغتصبا من مسلم أو معاهد ، وميراث من لا ميراث له.

ويتفق هذا مع مذهب المالكية لأنهم فسروا الأنفال بما أخذ بغير قتال احكام القرآن لأبي بكر المالكي المعروف بابن العربي المعافري. وقال أبو اسحق الفيروزآبادي الشافعي في كتاب المهذب : الأنفال أن ينفل أمير الجيش لمن فعل فعلا يفضي الى الظفر بالعدو ، كالتجسس والدلالة على طريق أو قلعة ونحو ذلك. وقال الجصاص الحنفي في كتاب أحكام القرآن : قال أصحابنا : أن يقول الأمير : من قتل قتيلا فله سلبه ، ومن أصاب شيئا فهو له.

(قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). هذا بيان لمحل الأنفال ، وانها لله ورسوله ،

٤٤٨

وما كان لله فهو لرسوله ، وما كان لرسوله ينفق لإعلاء كلمة الإسلام ، وصالح المسلمين ، يأخذ منه كل ذي حاجة منهم على قدر حاجته. والتفصيل في كتب الفقه ، ومنها الجزء الثاني من كتابنا فقه الإمام جعفر الصادق.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). هذا يشعر بأن الصحابة قد تنازعوا على الأنفال ، ولما سألوا النبي (ص) قال لهم بأمر من الله : انها لله والرسول ، وان عليهم أن يستسلموا لله ورسوله ، ولا يتنازعوا على الأنفال ولا على غيرها ، وان يتآلفوا ويتحابوا في الله ، كما هو شأن المؤمنين حقا.

ثم أوضح لهم جل ثناؤه بأن المؤمنين حقا من اتصفوا بالأوصاف التالية :

١ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). فالخوف لا ينفك أبدا عن اسم الله عند المؤمنين بلقائه وحسابه وجزائه ، ولكنهم في الوقت نفسه يرجون رحمة الله ، لأنهم يؤمنون أيضا بقوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ). وقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). ومما قاله الإمام علي (ع) في وصف المؤمنين : فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون. وقال الشاعر في وصفهم :

تعادل الخوف فيهم والرجاء فلم

يفرط بهم طمع يوما ولا وجل

٢ ـ (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) بأنهم على بصيرة من دينهم ، تماما كما لو رأوا الغيب رأي العين ، بل قد يشكون فيما تراه العين لأن الحواس تخدع صاحبها بعض الأحيان ، فيظن السراب ماء ، والورم شحما ، أما قوله تعالى فلا يتطرق اليه الشك واحتمال الخلاف.

الدين لا ينبت قمحا :

٣ ـ (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). وليس معنى التوكل عليه تعالى أن نقول

٤٤٩

بألسنتنا توكلنا على الله ، ولا أن نترك الأسباب والعمل اتكالا على ان يسخر لنا الأشياء ، ونحن قاعدون ، وانما التوكل ان نسعى كما أمرنا الله راجين التوفيق منه في سعينا مؤمنين بأن العمل شرط أساسي للتوكل ، وانه عبادة وطاعة لقوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك .. ان الإيمان والتوكل على الله من غير عمل لا ينبت قمحا ولا يشفي مريضا ، وإلا لم يخلق الله للإنسان يدين ورجلين من أجل العمل .. نعم ، ان الدين الحق ينبت الحب والإخلاص والاستقامة ، وليس الخبز والدواء .. حتى العلم لا يعطينا القمح ، ولا يشفينا من المرض ، وانما يعلمنا كيف نزرع القمح ونصنع الدواء ، ولا يعنيه بعد هذا متنا من الجوع والمرض أو لم نمت ، أما الدين فهو الحريص على حياتنا ومن أجلها يحثنا على العلم والسير على منهجه ، ويعتبر إهماله جريمة إذا أدى الى الفساد والضرر .. ان العلم يرسم الخطوط لحياة راضية مرضية ، وهذا ما يهدف اليه الإسلام ، ومن أجله أمر بالعلم وحث عليه تماما كما أمر بالصيام والصلاة ، ويعاقب من يستغل العلم للنهب والعدوان كما يعاقب من يحرف الدين لمنافعه الشخصية. والخلاصة إذا صح ان الإنسان لا يحيا بالخبز وحده فصحيح أيضا ان الإنسان لا يحيا بالصلاة وحدها.

٤ و ٥ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). الأوصاف السابقة من أحوال القلب ، والصلاة والزكاة من أفعال الجسم ، وهما نتيجة حتمية للإيمان بالله ، والخوف منه ، والتوكل عليه .. فتارك الصلاة والزكاة لا يعد من المؤمنين حقا ، والدليل قوله تعالى :

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). أولئك اشارة الى الذين جمعوا بين الصفات الخمس ، والمؤمنون حقا هم الذين ينعكس الإيمان في أفعالهم ، لا في أقوالهم فحسب ، والدرجات عند الله تتفاوت تبعا للجهاد والتضحية ، وأعلاها لمن ينتفع الناس بهم ، ويتحملون الكثير ليعيش عيال الله جميعا في ظل الأمن والعدل والخصب ، والمغفرة التجاوز عن الهفوات والرزق الكريم الجنة.

٤٥٠

کما أخرجك ربك الآة ٥ ـ ٨ :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

اللغة :

المراد بالشوكة هنا القوة ، والطائفتان هما العير والنفير ، والنفير ذات الشوكة والعير غير ذات الشوكة ، ويأتي التوضيح. ودابر القوم آخرهم.

الإعراب :

كما متعلق بمحذوف دل عليه السياق ، والتقدير ان القتال حق كما أخرجك من بيتك بالحق ، وكما كره فريق اخراجك من بيتك فقد كره أيضا فريق القتال. وإذ يعدكم إذ منصوب بفعل محذوف أي اذكروا إذ يعدكم ، وإحدى مفعول ثان ليعدكم ، وتسبك انها لكم بمصدر في موضع نصب بدل اشتمال من إحدى أي يعدكم احدى الطائفتين ملكيتها. والمعنى ملكية احدى الطائفتين ، تماما كما تقول : أعجبني زيد ثوبه أي ثوب زيد.

الى بدر :

بعث النبي (ص) وهو ابن أربعين ، وأقام بمكة بعد البعثة ١٣ سنة ، ثم

٤٥١

هاجر الى المدينة فدخلها يوم الاثنين ١٢ ربيع الأول ، وأقام فيها عشر سنوات ، وانتقل إلى ربه وهو ابن ٦٣ سنة يوم الاثنين ١٢ ربيع الأول ، ولما استقر به المقام في المدينة أخذ يرسل السرايا تعترض قوافل المشركين ، وتستطلع أخبارهم ، وتقلق راحتهم ، قال المسعودي : كانت غزوات النبي التي قادها بنفسه ٢٦ قاتل منها في تسع.

ونشير هنا الى خروجه لبدر لأنها موضوع الآيات التي نحن بصددها ، وفي هذه الغزوة ظهرت أول قوة للمسلمين ترد بها على قوة المشركين الذين ظلوا يطاردون المسلمين بالتنكيل والأذى أكثر من ١٣ سنة ، والمسلمون يتلقون التنكيل بالاحتمال ، والأذى بالصبر ، لأن المقاومة مع الضعف الذي كانوا فيه أشبه بعملية الانتحار ، وتتلخص قصة الخروج الى بدر بأن رسول الله (ص) سمع بأن أبا سفيان رجع من الشام بقافلة ضخمة جهزتها قريش بالكثير من أموالها ، وكان من جملة هذه الأموال ما استولت عليه قريش من أموال المهاجرين الذين نفتهم من مكة.

فجمع النبي الصحابة ، وحثهم على الخروج ليصادروا أموال القافلة ، فتثاقل البعض وكره الخروج رهبة من قريش وشوكتها ، ثم مضوا مع النبي ، وكان ذلك في ١٧ رمضان للسنة الثانية من الهجرة ، ولم يدر بخلد واحد من الصحابة انه مقبل على معركة من أعظم معارك المسلمين ، وأبعدها أثرا في حياة الإسلام والمسلمين.

وأرسل يهود المدينة الى أبي سفيان من ينذره ، وهو في الطريق ، فبعث؟؟؟ أبو سفيان يطلب النجدة من قريش ، فخرجت برجالها ، ولم يبق أحد قادر على حمل السلاح في مكة ، وكان المسلمون إذ ذاك ما يزالون في طريقهم الى بدر ، ولكن أبا سفيان تحول عنها الى ساحل البحر الأحمر ، وأتى النبي (ص) نبأ قريش ، فاستشار (ص) الصحابة أيمضون لقتال قريش ، أو يعودون الى المدينة؟ وفي الوقت نفسه قال لهم : ان الله وعده بإحدى الطائفتين إذا مضوا للقتال ، والطائفتان هما العير المحملة بالأموال ، والنفير وهم قريش الذين خرجوا من مكة لحماية الأموال ، فأشار الأكثرون بالمضي للقتال ، وكرهه البعض ، كما

٤٥٢

كره الخروج من المدينة منذ البداية ، ثم أجمعوا على لقاء قريش.

وعندها قال لهم النبي (ص) : سيروا على بركة الله ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ، فتأهبوا لخوض المعركة ، وابتدأت بها قريش ، وكان عددها حوالى الف مقاتل بينهم مائة فارس ، والمسلمون نحو ٣٠٠ ليس فيهم إلا فارس وقيل اثنان. وقتل المسلمون من المشركين ٧٠ وأسروا ٧٠ ، وفر الباقون ، واستشهد من المسلمين ١٤ ولم يؤسر أسير ، وكانت هذه الغزوة أول نصر للمسلمين تغيرت بعدها أوضاعهم ، وانحاز الكثير إلى جانبهم ، وأصبحوا يقابلون القوة بالقوة والعنف بالعنف بعد أن كانوا يتلقونه بالسكوت أو الفرار من الوطن .. بعد هذا التمهيد نشرع بتفسير النصوص.

المعنى :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ). المراد بالبيت المدينة .. حين أراد النبي (ص) الخروج من المدينة لمصادرة العير تثاقل جماعة من المؤمنين ، وقالوا : لا طاقة لنا بقريش ، ثم خرجوا على كره مع من خرج على حب ، وفي أثناء الطريق أخبرهم النبي بخروج قريش من مكة ، واستشارهم : أيمضون للقتال ، أو يعودون الى المدينة ، فكره البعض القتال ، وقالوا : ما كان خروجنا إلا للعير ، وقال الأكثر : نمضي معك للقتال. ثم مضوا جميعا الى المعركة على بركة الله. وهذه الآية تشير الى موقفين لبعض الصحابة : الأول كراهية الخروج من المدينة الى العير. والثاني كراهية المضي لقتال النفير بعد أن خرجوا من المدينة قاصدين العير ، وانهم كما كرهوا الخروج الى العير فقد كرهوا أيضا المضي لقتال النفير .. هذا هو معنى الآية ، وهو واضح وبسيط ، ولكن المفسرين حاروا في تفسيرها ، وذكر صاحب البحر المحيط خمسة عشر قولا.

ومن الطريف ما قاله هذا المفسر في كتاب آخر : انه ذكر في البحر المحيط ١٥ قولا للآية ، ولم يقتنع بشيء منها ، حتى رأى في النوم انه يمشي في رصيف ومعه رجل يباحثه في قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) فقال له : ما

٤٥٣

مر بي شيء مشكل في القرآن مثل هذا .. ولعل هناك محذوفا يصح به المعنى ما وقفت فيه لأحد المفسرين على طائل ، ثم قلت للرجل : ظهر لي الساعة ان ذاك المحذوف هو نصرك.

وما أردت بذكر ما حدث لهذا المفسر الجليل ان أمس من مكانته ، وانما أردت التدليل على ان العالم الفطن قد تسد أحيانا في وجهه نوافذ الفطنة ، فتلجئه الحيرة إلى التشبث بكل شيء .. حتى بالأحلام يفسر بها القرآن ، وهو في واقعه في فطرته على يقين من خطأه ، دون أن يلتفت الى هذا الواقع ، وهنا مكان الغرابة .. كيف يكون على يقين ، وهو غير ملتفت؟. ولكن هذا هو الواقع .. والدليل انه لو رأى من غيره ما ارتضاه لنفسه لأنكر عليه.

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) جادل فريق من المؤمنين في لقاء النفير وقتاله ، مع ان هذا اللقاء والقتال حق وخير ، وآثروا العير لأنها أكثر أموالا ، وأقل رجالا .. وقوله تعالى : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) يشير إلى أنهم جادلوا بعد أن أخبرهم النبي (ص) بالنصر (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الى الموت وأسبابه عيانا ، وهذه صورة يرسمها القرآن لشدة خوفهم من قريش ، لأنها أقوى عدة ، وأكثر عددا.

وتسأل : ان المسلمين يقدسون البدريين ، ويرفعونهم إلى المكان الأعلى ، وها هو القرآن يدين بعضهم صراحة ، وانهم جادلوا النبي على رغم بيان الحق لهم ووضوحه عندهم لأن الوحي نزل به وأخبرهم عنه الرسول الأعظم (ص).

الجواب : ان هذا لا يحط من شأنهم ، ولا يمس من إيمانهم بالله ورسوله. إنهم بشر تهتز نفوسهم إذا رأوا الموت برغم إيمانها واطمئنانها ، هذا إلى انها غمامة صيف عرضت ، ثم تقشعت. ومضوا مع النبي ، وواجهوا الموت بعزم وثبات.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) : إما الانتصار في الحرب على قريش ، ولا عير ، وإما العير ، ولا انتصار (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) غير ذات الشوكة هي العير وأموالها ، وقد آثروها على القتال والجهاد في سبيل الله ، ولكن الله أراد الخير لهم وللإسلام بتحطيم الشرك والطغيان(وَيُرِيدُ

٤٥٤

اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ). المراد بالحق هنا ظفر المسلمين بالمشركين ، والمراد بكلماته وعده بأن تكون إحدى الطائفتين للمسلمين ، والمعنى انكم أيها المسلمون أردتم الحطام الزائل ، وأراد الله أن ينصركم على صناديد قريش أعداء الله وأعدائكم ، ويهلكهم بأيديكم ، ويستأصل الكافرين منهم ، ويحقق وعده بالنصر لكم ، فأيهما خير وأفضل : هذه العزة والكرامة ، أو الأباعر وحمولتها؟.

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). المراد بالحق في الآية السابقة أي قوله تعالى : (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) انتصار المسلمين على قريش ، والمراد بالحق هنا الإسلام ، والمجرمون أعداؤه ، والمراد بالباطل الشرك ، وإحقاق الحق يكون بإظهاره وإعلانه على الملأ ، أو بانتصار أهله ، أو بهما معا ، وإبطال الباطل يكون باعلانه ، أو خذلان المبطلين ، أو بهما معا ، وأوضح تفسير لهذه الآية قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ـ ٣٣ التوبة.

اذ تستغيثون ربكم الآة ٩ ـ ١٤ :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ

٤٥٥

كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

اللغة :

مردفين من أردفه إذا ركب وراءه ، والمراد ان للألف من الملائكة تبعا. أو ان الألف يأتي بعضهم في أثر بعض. والرجز الشيء المستقذر حسا أو معنى. والربط على القلب اطمئنانه. وفوق الأعناق الرؤوس. والبنان أطراف الأصابع من اليد أو الرجل. وشاقوا الله ورسوله خالفوهما.

الاعراب :

إذ تستغيثون إذ ظرف متعلق بمحذوف أي اذكروا إذ تستغيثون ، وقيل بدل من إذ يعدكم. ومردفين حال من ألف. والضمير في جعله يعود الى الامداد ، وهو مصدر متصيد من (مُمِدُّكُمْ). وبشرى مفعول لأجله. ولتطمئن منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك معطوف على بشرى لأن المعنى إلا للبشارة وللاطمئنان. وفاعل يغشيكم ضمير مستتر يعود الى الله ، والناس مفعول به ليغشيكم ، وامنة مفعول لأجله. ذلك بأنهم شاقوا ذلك مبتدأ وبأنهم شاقوا خبر ، والكاف لخطاب السامع. وذلكم خبر لمبتدأ محذوف أي أمر الله أو عذاب الله ذلكم ، والخطاب للمشاقين.

المعنى :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

٤٥٦

لما تأكد المسلمون ان القتال واقع لا محالة مع عدو أقوى عدة ، وأكثر عددا التجأوا الى الله يطلبون منه النجاة من هذه الشدة ، ولما علم الله منهم صدق النية والعزم أنبأهم جل ثناؤه بلسان نبيه (ص) انه قد استجاب دعاءهم ، وانه ينجدهم بألف ملك يأتي بعضهم إثر بعض. وتسأل : قال سبحانه هنا : ممدكم بألف مردفين ، وفي الآية ١٢٤ من آل عمران قال : يمدكم بثلاثة آلاف منزلين ، وفي الآية التي بعدها بلا فاصل قال : بخمسة آلاف مسوّمين. فما هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث؟. وأجبنا عن هذا السؤال في ج ٢ ص ١٥٢.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). يقول جلت عظمته : ان الغرض من هذا الامداد ان تطمئنوا وتصبروا في قتال العدو ، لا أن تتكلوا على الملائكة ، بل عليكم أن تبذلوا كل جهد ، ولا تبقوا منه بقية ، أما النصر فلا يكون ولن يكون إلا بمشيئة الله ، لا بجهودكم ولا بامداد الملائكة. وتقدمت هذه الآية في سورة آل عمران رقم ١٢٦ ج ٢ ص ١٥٢.

ثم ذكر سبحانه ستة وجوه لنعمته على المسلمين.

١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ). في يغشيكم ضمير يعود الى الله ، وكذلك ضمير منه .. خاف المسلمون من المشركين لكثرتهم ، فعالج خوفهم بالنوم ، وما استيقظوا منه إلا وأنفسهم تغمرها السكينة ، وكلنا يعلم بالتجربة ان النوم يخفف الكثير من وطأة الحزن والخوف ، قال الإمام علي (ع) : ما انقض النوم لعزائم اليوم. أي قد يعزم المرء على أمر فإذا نام وقام انحلت عزيمته.

٢ ـ (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ). بعد أن أخذ المسلمون قسطا من الراحة بالنوم وجدوا أنفسهم بحاجة الى الماء ، لأنهم لم يكونوا قد وصلوا الى بدر آنذاك ، فأنزل الله عليهم المطر فشربوا وتطهروا ، وهذه نعمة ثانية تأتي بعد النوم.

٣ ـ (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ). كان الشيطان يوسوس للمسلمين ، ويخوفهم من المشركين ، وقد أذهب الله هذا التخويف الذي عبر عنه برجز الشيطان ، أذهبه بالنوم والامداد بالملائكة.

٤٥٧

٤ ـ (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بزوال الخوف والفزع.

٥ ـ (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ). قال أكثر المفسرين : ان ضمير به يعود الى الماء ، وان المراد بالأقدام الأرجل ، وذلك ان المسلمين كانوا في رملة لا تثبت فيها قدم ، فلما نزل المطر تلبدت الرملة وتماسكت ، وثبتت عليها أقدام المسلمين.

هذا ما جاء في أكثر التفاسير ، أما نحن فنختار ان ضمير به يعود إلى مصدر متصيد من ليربط قلوبكم ، وان المراد بتثبيت الأقدام الثبات في ميدان القتال ، وعدم الفرار منه ، والمعنى ان الله يثبتكم في القتال بما منحكم من ربط القلوب واطمئنانها.

٦ ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ). الخطاب في ربك لمحمد (ص) وفي معكم وثبتوا للملائكة عملا بظاهر السياق ، أي ان الله مع الملائكة يسمع ويرى ، تماما كقوله لموسى وهرون : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ـ ٤٦ طه.

وتسأل : على أي شكل شارك الملائكة في نصرة المسلمين يوم بدر؟ هل كانت بالضرب والقتل ، أو بالتشجيع ، وانهم كانوا يسيرون أمام الصف في صورة الرجال المقاتلين ، ولا يقاتلون ، وإنما يقولون للمسلمين : ابشروا فان الله ناصركم ، كما قال بعض المفسرين.

الجواب : لقد أخبر سبحانه انه أمر الملائكة أن يثبتوا المؤمنين ، وليس من شك في انهم فعلوا ، لأنهم يفعلون ما يؤمرون ، وأيضا ليس من شك ان المشركين هابوا المسلمين وتخوفوا منهم ، لأن الله وعد بذلك ، ووعده الحق ، وان المؤمنين انتصروا على المشركين .. هذا كل ما دل عليه ظاهر النص ، أما التفصيلات والكيفيات فهي من الغيب الذي سكت الوحي عنه ، فبالأولى أن نسكت نحن ، وسكوت الوحي دليل قاطع على ان الإيمان بالتفصيلات ليس من العقيدة في شيء ، وإلا وجب بيانها.

(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ). قال بعض المفسرين :

٤٥٨

الخطاب في اضربوا للملائكة. وقال آخرون : بل للمسلمين. ثم اختلفوا في المراد من فوق الأعناق ، فمن قائل : المراد الأعناق بالذات ، وان فوق بمعنى على ، ومن قائل : المراد الرؤوس ، ومن الطريف قول بعض الصوفية : ان المراد النفوس الخبيثة .. والذي نختاره نحن ان الخطاب للمسلمين ، لأنهم المقصودون بالقتال ، وان قوله : فوق الأعناق وكل بنان كناية عن حث المسلمين على الشدة في قتال المشركين ، وان لا تأخذهم بهم هوادة ، ولا يدعوا فرصة تمر إلا ضربوهم في أي عضو من أعضائهم اتفق ، فهذه الآية أشبه بقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ـ ٢ النور.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). ذلك اشارة إلى لزوم معاملة المشركين بالشدة ، وبأنهم بيان للسبب الموجب لهذه الشدة ، وهو وقوف المشركين من الله والرسول موقف المخالف والمعاند (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) ذا اشارة الى العقاب الشديد وخطاب كم للذين شاقوا الله والرسول (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) الى جانب ما أصابهم في الدنيا من القتل والأسر والهزيمة ، وليست هذه بشيء بالقياس الى النار الكبرى.

الفرار من القتال الآية ١٥ ـ ١٩ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ

٤٥٩

تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

اللغة :

الزحف الدنو قليلا قليلا. والأدبار جمع دبر ، وهو الخلف ، والمراد به هنا الهزيمة. وقال صاحب البحر المحيط : المتحرف للقتال هو الذي يكر بعد أن يفر يري عدوه انه منهزم ، ثم يعطف عليه. ومتحيزا الى فئة منحازا الى جماعة من المسلمين. والمأوى الملجأ. والموهن المضعف.

الإعراب :

زحفا حال من الذين كفروا أي زاحفين. والأدبار مفعول ثان لتولوهم. ومتحرفا أو متحيزا حالان من الواو في تولوهم. ذلكم خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلكم. وتسبك ان الله موهن بمصدر خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر كون الله موهنا كيد الكافرين ، والجملة عطف على جملة الأمر ذلكم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ). يقال : زحف العسكر إذا توجه للقتال ، وسبق ان المشركين خرجوا من مكة لقتال المسلمين ، وهذه الآية من تعاليم الحرب ، وهي تأمر المسلمين أن يثبتوا لعدوهم ، ولا يفروا منه إذا زحف لقتالهم ، لأن الفرار وهن في الدين ، وذلّ للمسلمين.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ

٤٦٠