التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

لنخرجنک ا شعب الآية ٨٨ ـ ٨٩ :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

اللغة :

الملة الديانة. وللفتح معان ، منها الحكم ، وهو المراد هنا.

الإعراب :

أو لو كنا كارهين ، الهمزة للإنكار ، والواو للحال ، ولو بمعنى ان ، والجملة بمعنى الحال ، والتقدير كيف نعود في ملتكم ، ونحن كارهون لها؟. وربنا بدل من الله ، والمصدر المنسبك من أن يشاء الله مجرور بإضافة ظرف محذوف ، أي إلا عند مشيئة الله ، أو مع مشيئة الله. وعلما تمييز محول عن فاعل ، أي وسع علم ربنا كل شيء.

المعنى :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ

٣٦١

مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا). قدمنا ان شعيبا دعا المترفين الكافرين الى المسالمة والتعايش مع الذين أمنوا به ، وان يترك الخيار لمن يشاء أن يدخل في الدين الذي يشاء .. ولكن المترفين رفضوا دعوته ، وخيروه بين أمرين لا ثالث لهما : اما أن يخرج هو ومن آمن معه من بلدهم ، واما أن يعود الذين آمنوا به الى الكفر ، ويعود هو إلى موقفه السابق ـ قبل النبوة ـ لا مؤيد لدينهم ولا مفند ، وبكلمة ان قولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) معناه أن يرجع الوضع الذي كان قبل النبوة إلى ما كان.

(قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ)؟. هذا هو منطق المنصف المخلص ، لا يحمل أحدا على ما يكره ، ولا يحب أن يحمله أحد على ما لا يريد ، ثم هل يكون الإيمان بالإكراه؟. وهل المؤمن حقا يؤثر الإقامة في الوطن على دينه وعقيدته؟.

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها). طلب المشركون من شعيب (ع) أن يرتد عن الإيمان إلى الشرك ، فقال لهم : ان الارتداد افتراء على الله ، وعاقبة الافتراء عليه تعالى وبال وعذاب ، وقد أنجانا الله منه ، فكيف نفتري عليه؟ .. اما ان الارتداد افتراء على الله فواضح ، لأن معناه ان الشرك بالله خير وأبقى من الإيمان بوحدانيته (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا). ضمير فيها يعود إلى ملة الكفر والشرك ، والتعليق هنا على مشيئة الله تعليق على المحال ، لأن الله لا يشاء الكفر والشرك ، فهو تماما كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) تقدم نظيره في الآية ٨٠ من سورة الأنعام. (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا). ومن توكل عليه لا يخشى التهديد والوعيد ، لأنه على علم اليقين بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع. (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ). بعد أن يئس شعيب منهم وتأكد من إصرارهم على الكفر التجأ إلى الله ، وتضرع اليه أن يحكم ويفصل بينه وبين من كفر من قومه ، لأنه تعالى هو مصدر القوة والعدل.

٣٦٢

لئن اتبعتم شعيباً الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

اللغة :

غني بالمكان أقام به. وآسى عليه حزن عليه.

الإعراب :

لئن تدل اللام على قسم محذوف ، وجملة انكم إذا لخاسرون جواب للقسم ، وسادة مسد جواب الشرط ، وإذا ملغاة لاعتراضها بين اسم انّ وخبرها. والذين كذبوا شعيبا الأولى مبتدأ ، وكأن اسمها ضمير الشأن محذوف أي كأنه ، وجملة كأن واسمها وخبرها خبر المبتدأ ، والذين كذبوا شعيبا الثانية بدل من الأولى. وهم ضمير فصل بين اسم كان وخبرها ، ولا محل له من الإعراب.

المعنى :

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

٣٦٣

توجه المشركون أولا إلى شعيب صاحب الدعوة يهدون ويتوعدون ، ولما يئسوا منه تحولوا الى الذين آمنوا به يحاولون فتنتهم عن دينهم ، وقالوا لهم فيما قالوا : انكم لخاسرون في اتباعكم شعيبا ، وهذا دأب من لا حجة له إلا الإغواء والإضلال.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). هذا هو الجواب الصحيح لمن عاند وتمرد ، وأبى إلا الضلال والفساد ، وتقدمت هذه الآية بالحرف ٧٨ من هذه السورة.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). لقد أتى العذاب عليهم وعلى ديارهم وجميع آثارهم ، حتى كأنهم لم يعرفوا هذه الحياة وتعرفهم .. وكل امرئ مجزي بما أسلف عاجلا أو آجلا. (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ). قال الذين أشركوا للذين آمنوا : انكم لخاسرون فكانت العاقبة خسرانهم وهلاكهم ، وربح المؤمنين ونجاتهم .. والعاقل لا يقول للمترف الهناء لك ، وللمستضعف الويل لك ، لأن للدهر مخبآت ومفاجآت ، والأمور بخواتيمها ، وإنما كرر (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) تأكيدا لخسرانهم وهوانهم.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ). كيف أحزن على من أهلك نفسه بنفسه مصرا على الكفر بالله وكتبه ورسله ، والاستهزاء بمن آمن به واتبع صراطه القويم. وتقدم نظيره في الآية ٧٩ من هذه السورة.

وما أرسلنا في قرية الآية ٩٤ ـ ٩٥ :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

٣٦٤

اللغة :

البأساء الشدة. والضراء ما يضر الإنسان ماديا أو أدبيا. والتضرع الخضوع. والعفو الترك ، والمراد به هنا الكثرة والنمو ، أي تركوا حتى تناسلوا وكثروا. والبغتة الفجأة.

الإعراب :

يضرّعون أصلها يتضرعون ، فأدغمت التاء في الضاد. وحتى عفوا أي الى أن عفوا. وبغتة نعت لمصدر محذوف أي اخذة بغتة ، ويجوز أن تكون بغتة مصدرا في موضع الحال ، أي مباغتين.

المعنى :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). المراد بالقرية البلدة الجامعة التي يسكنها ـ في الغالب ـ الرؤساء والزعماء ، ولعل هنا بمعنى كي.

في الآيات السابقة أشار سبحانه الى الهلاك الذي حل بالمكذبين من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وإلى ما في نهايتهم من عبر وعظات ، وان الخير كان عاقبة المتقين ، وان دائرة السوء دارت على المبطلين ، وبيّن في هذه الآية ان ما جرى لأقوام أولئك الأنبياء لا يختص بهم وحدهم ، ولكنها سنة الله. تجري على كل قوم كذبوا نبيهم .. يأخذهم الله بالشدة والمشقة في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم ، لا لشيء إلا ليتعظوا ويرتدعوا ، ويعتبر بهم من يأتي من بعدهم.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ). المراد بالسيئة هنا الضيق والعسر ، وبالحسنة السعة واليسر ، وبالعفو الكثرة. والمعنى ان الله سبحانه ابتلاهم بالضيق والشدة ليتعظوا ، وبالسعة والعافية ليشكروا ، ولكن قلّ من يتعظ ، وأقل منه من يشكر ، ولما كثروا بالنعم والنسل استخفوا

٣٦٥

بالحق ، وهزأوا بأهله ، وأخذوا يفسرون سنة الله بجهلهم وعلى أهوائهم ، ويقولون : ما أصاب آباءنا من الضراء لم يكن عقوبة على ضلالهم وفسادهم ، وما نالهم من السراء لم يكن مثوبة على صلاحهم وهدايتهم ، وانما هي الصدفة تخبط خبط عشواء.

وإذا غفل هؤلاء واضرابهم عن حكم الله وحكمته فان الله جل ثناؤه ما هو بغافل عنهم وعن أعمالهم (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جزاء على اغترارهم وانطلاقهم مع الأهواء والأغراض .. وهكذا يحذر القرآن الذين لا يتورعون ولا يتحرجون عن شيء ، يحذرهم من الأخذ بغتة ، وهم لا يشعرون.

ولو ان أهل القرى آمنوا الآية ٩٦ ـ ١٠٠ :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

اللغة :

البركات بوجه عام الخيرات النامية ، وبركات السماء كثيرة ، وأظهرها المطر ،

٣٦٦

وبركات الأرض كثيرة أيضا ، وأظهرها الخصب والمعادن ، بخاصة الذهب الأسود. والمراد بالبأس هنا العذاب. والبيات وقت المبيت وهو الليل. والضحى انبساط الشمس.

الإعراب :

أفأمن الهمزة للاستفهام على وجه التوبيخ والإنكار ، والفاء لعطف الجملة على ما قبلها. وبياتا منصوب على الظرفية بيأتيهم لأن المراد به الليل. والمصدر المنسبك من أن يأتيهم مفعول لأمن ، أي امنوا إتيان بأسنا. ان لو نشاء ان مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة بعد لو خبرها ، والمصدر المنسبك فاعل يهد ، والتقدير أو لم يهد لهم هذا الشأن ، وهو انّا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.

المعنى :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). أظهر بركات السماء المطر ، وأظهر بركات الأرض النبات والمواشي والمعادن بشتى أنواعها.

وقد بينا عند تفسير الآية ١٠٠ من سورة المائدة ، فقرة هل الرزق صدفة أو قدر : ان مجرد الإيمان بالله لا ينبت قمحا ، وبينا أيضا في تفسير الآية ٦٦ من سورة المائدة ، فقرة الرزق وفساد الأوضاع : ان المراد بالإيمان الموجب للرزق هو الإيمان بالله مع العمل بجميع أحكام الله ومبادئه ، واقامة العدل في كل شيء ، وانه متى عمّ العدل وساد صلحت الأوضاع ، وذهب البؤس والشقاء.(وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). أي لم يعملوا بأحكام الله ، بل سعوا في الأرض فسادا بالظلم والجور ، والسلب والنهب ، وتكديس الثروات على حساب الضعفاء والبؤساء ، وقد أخذهم الله بالهلاك والعذاب ، لأنهم كفروا واستأثروا.

٣٦٧

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ)؟. هذا تخويف وإنذار منه تعالى للمتمردين والمستأثرين أن يفاجئهم الله بعذابه ، وهم في غفلة من غفلاتهم ، كما فعل بمن كان قبلهم .. وهل يملك الإنسان أن يدفع عنه قضاء الله في صحوه وحذره؟ فكيف يملكه ، وهو أشبه بالموتى؟.

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)؟ ويلعبون هنا كناية عن ذهولهم عن المفاجئات والمخبآت ، وعن محاسبتهم لأنفسهم. وتسأل : لا فرق أبدا بين يقظة الإنسان وغفلته أمام بأس الله ، فما هو القصد من ذكر النوم واللعب؟.

الجواب : ان يتنبه الإنسان إلى جهات الضعف فيه لعله يتذكر أو يخشى.

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ). المراد بمكر الله هنا العذاب الذي يأتيهم بغتة دون سابق إنذار ، وسبق الكلام عن مكر الله تعالى في تفسير الآية ٥٤ من آل عمران ج ٢ ص ٦٨ وانه سبحانه يصف نفسه بالماكر لأنه يبطل مكر الماكرين ، وبالشاكر لأنه يثيب الشاكرين ، وبالتواب لأنه يقبل من التائبين .. أما انهم الخاسرون فلأنهم أوقعوا أنفسهم في الخسران بسبب عنادهم واستهتارهم.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ). أي ان هؤلاء المشركين الذين ورثوا الأرض ممن أهلكناهم بذنوبهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة ـ ان هؤلاء المشركين ألم يتبين لهم ان شأننا فيهم تماما كشأننا فيمن كان قبلهم لو نشاء أصابهم عذابنا كما أصاب غيرهم من قبل؟ .. فان سنة الله واحدة في جميع خلقه .. والغرض من هذه المبالغة في النصيحة والتحذير أن يراقب الإنسان نفسه ، ولا يذهل عنها ، وان يتعظ بغيره ، ولا يغتر بالمظاهر الجوفاء .. ولكن : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ـ ١٠١ يونس.

(وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ). تقدم الكلام عنه في الآية ٧ من سورة البقرة ج ١ ص ٥٣.

٣٦٨

تلک القر نقص علک الآية ١٠١ ـ ١٠٢ :

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

اللغة :

نقص عليك أي نتلو عليك. والنبأ الخبر عن أمر عظيم الشأن. والمراد بالعهد هنا الالتزام بالأدلة الدالة على التوحيد والنبوة وكل ما أمر الله والعقل به ، ونهيا عنه.

الإعراب :

تلك مبتدأ ، القرى عطف بيان ، وجملة نقص خبر. ومن عهد من زائدة وعهد مفعول لوجدنا ، ولأكثرهم متعلق بمحذوف حالا من عهد. وان مخففة من الثقيلة يجوز أن تكون ملغاة ، وان تكون عاملة ، واسمها محذوف أي إنا وجدنا ، ولفاسقين مفعول ثان لوجدنا ، ودخلت عليه اللام للفرق بين ان المخففة وان النافية.

المعنى :

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها). تلك القرى اشارة الى أهل القرى

٣٦٩

الخمس ، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، والخطاب في نقص عليك موجه الى رسول الله محمد (ص) ، والقصد منه أن يخبر المسلمين بأحوال الغابرين ليعتبروا ويحذروا (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ).

ذكر الرازي ثلاثة وجوه لتفسير هذا المقطع من الآية ، وزاد الطبرسي رابعا ، ولم يرجحا وجها منها ، وتركا القارئ العادي في تيه ، مع ان المعنى واضح. لا غموض فيه ، ويتلخص بأن أهل تلك القرى كانوا قبل أن يرسل الله اليهم رسله على الشرك والضلال ، وانهم استمروا في شركهم وضلالهم بعد أن جاءتهم الرسل بالدلائل والمعجزات ، ولم تؤثر فيهم شيئا ، حتى كأن الله لم يرسل اليهم بشيرا ونذيرا ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) ، والطبع هنا كناية عن قسوة قلوبهم ، وانها لا ترعوي عن ضلالها ، ولا يرجى خيرها.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ). فلا يؤمنون بدين الله ، ولا يلتزمون بشيء يمت الى الانسانية بصلة .. أجل ، لهم عهد واحد يلتزمون به ، ولا يحيدون عنه ، وهو اتباع المصالح والأهواء. (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ). أي وانّا وجدنا أكثرهم منحرفين عن قصد السبيل.

موسى وفرعون الآية ١٠٣ ـ ١١٢ :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ

٣٧٠

مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

اللغة :

ظلموا بها أي جحدوا بها. وحقيق بمعنى جدير. والنزع إخراج الشيء من مكانه. والمراد بتأمرون هنا تشيرون. وأرجأ الشيء أخّره وأجّله. ومدائن ومدن جمع مدينة. وحاشرين أي ان الشرطة يجمعون السحرة ، ويحشرونهم ضد موسى (ع).

الإعراب :

كيف خبر مقدم لكان ، وعاقبة اسمها ، والجملة مفعول فانظر. وحقيق مبتدأ ، وعلي متعلق به ، والمصدر المنسبك من إلا أقول خبر المبتدأ ، أو فاعل حقيق ساد مسد الخبر ، والتقدير حقيق عليّ قول الحق على الله. فإذا للمفاجأة. وهي ثعبان مبتدأ وخبر. وفما ذا تأمرون يجوز أن تكون ما مبتدأ وذا اسم موصول خبر ، ويجوز أن تكون ما ذا كلمة واحدة منصوبة بنزع الخافض مفعولا لتأمرون ، والتقدير بأي شيء تأمرونني؟. وأرجه أصله أرجئه بالهمزة ، أو أرجيه بالياء حيث يجوز فيه الأمران ـ كما قيل ـ وعلى الياء يكون الحذف على الأصل ، وعلى الهمزة يكون حذفها إلحاقا لها بالياء أو للتخفيف ، وأخاه مفعول معه. وحاشرين مفعول به لأرسل.

٣٧١

تلخيص القصة :

لقد مر بنا العديد من الآيات التي عرضت قصة موسى (ع) مع بني إسرائيل ، والآن تعرض هذه الآيات التي نفسرها قصة موسى (ع) مع فرعون.

وكلمة فرعون لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم ، وكسرى لملوك الفرس ، والنجاشي لملوك الحبشة ، ونقل عن الكثيرين ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم : ان اسم فرعون موسى منفتاح ، وكان يلقب بسليل الإله ، وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية هذه الآية : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).

اسم ام موسى والأسطورة :

أما موسى (ع) فهو ابن عمران ، وأهل الكتاب يقولون عمرام ، وفي المجلد الأول من هذا التفسير ص ١٠١ ذكرنا ان اسم موسى مركب من مو اسم الماء ، وسى اسم الشجر ، لأن أمه وضعته في صندوق ، واقفلته أقفالا محكما ، وألقته في النيل خوفا عليه من فرعون الخ.

ومن الطريف أن يخترع مخترع من هذا القفل الذي أقفلت به ام موسى صندوق وليدها ، أن يخترع منه اسطورة شاعت وذاعت مدى قرون من الزمن ، وآمن بها كثيرون من البسطاء السذج .. وهي ان ما من قفل إلا ويفتح تلقائيا إذا قرئ عليه اسم ام موسى ، ومن أجل هذا لا يعرفه إلا الخواص من أهل الأسرار .. وفي ذات يوم دخلت على أحد رجال الدين ، وله اسم وشأن بين قومه ، فوجدته يبحث وينقب مهتما في مجلدات بحار الأنوار للمجلسي ، فقلت له : ما شأنك؟ قال : أربد؟؟؟ أن أعرف اسم ام موسى ..

ومنذ سنتين قصدني رجل يظن اني من أهل الأسرار ، وسألني عن اسمها ، فقلت له : ليس المسئول بأعلم من السائل ، فلم يقتنع ، فقلت له : ان هذه خرافة .. فاعتقد اني أتهرب منه ، ولا أريد أن اطلعه على هذا السر العظيم .. ولما يئست منه قلت له : لا يجوز لي أن اطلعك عليه لأني لا آمن أن تسرق

٣٧٢

أموال الناس ، فأقسم وأغلظ في القسم انه لن يفعل ، فتظاهرت بعدم الثقة به ، ومضت الأيام ، وشرعت في تفسير القرآن الكريم ، ولما بلغت هذه الآيات راجعت مصادرها ، ومنها كتاب قصص القرآن وضعه أربعة من الكتّاب المصريين ، وهم محمد أحمد جاد المولى ، وعلي محمد البجاوي ، ومحمد أبو الفضل ، والسيد شحاته ، وإذا فيه ان اسم ام موسى يوكابد ولكن المؤلفين لم ينسبوه إلى مصدر.

وبعد هذا الاستطراد نعود إلى قصة موسى مع فرعون ، كما جاءت في الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ، ويتلخص معناها بأن فرعون كان يدعي الربوبية من دون الله ، ويضطهد بني إسرائيل ، فأرسل الله اليه موسى وهارون ، فذهبا واقتحما عليه مجلسه لا يخشيان سلطانه وطغيانه ، وجابهه موسى بقوله : يا فرعون اني رسول من رب العالمين اليك والى كل جاحد ، ولديّ ما يثبت رسالتي ، وعليك أن تطلق بني إسرائيل من أسرك ، وتدعهم أحرارا يذهبون حيث يشاءون .. فاستخف به فرعون ، وقال : هات ما يثبت رسالتك ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي ثعبان ، ووضع يده في جيب قميصه ، وأخرجها فتلألأت ناصعة لكل ناظر ، وكان موسى أسمر.

فقال رجال فرعون وأهل مشورته : ان هذا ساحر ماهر .. وجمع فرعون السحرة لموسى ، وقبل أن يشرعوا بألاعيبهم قالوا لفرعون : ألنا أجر ان غلبنا موسى؟ قال : لكم أجر وقربى ، وألقى السحرة حبالهم وعصيهم ، فخيل للنظارة انها حيات تسعى ، وألقى موسى عصاه ، فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فأسلم السحرة ، وآمنوا برسالة موسى ، فتهددهم فرعون بالعذاب والتنكيل ، فلم يعبئوا وثبتوا على ايمانهم .. وجاء في العديد من الروايات ان فرعون نفّذ فيهم تهديده ووعيده ، وطبيعة الحال ترجح ذلك.

وراح فرعون ينزل بموسى ومن معه صنوف العذاب ، ويشتط في التنكيل والتعذيب ، ولكن موسى استمر في دعوته الى الله لا يثنيه عنها شيء ، فضج بنو إسرائيل وقالوا لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، فأمرهم بالصبر ، ومناهم الفوز.

٣٧٣

وأخذ الله آل فرعون بالجدب والضيق ، وأرسل عليهم أمطارا تهلك زرعهم وثمارهم ، وجرادا يأتي على ما تبقى من أثر السيول ، وقملا ينهك أجسامهم ، وضفادع تفسد عليهم حياتهم ، وفوق هذا كله تحولت مياههم الى دماء .. وعندها فزعوا الى موسى ، وقالوا له : لئن كشف ربك عنا العذاب لنكونن من المؤمنين ، وكشف الله عنهم الى حين لعلهم يرجعون .. ولكن نكثوا العهد ، وأصروا على الكفر ، فأغرقهم الله في البحر ، وقطع دابر الكافرين.

هذا تلخيص سريع لما جاء في الآيات التي نحن بصددها ابتداء من الآية ١٠٣ الى نهاية الآية ١٣٧. وفيما يلي نشرح دلالة هذه الآيات على ما ذكرنا.

المعنى :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها). ضمير بعدهم يعود إلى الأنبياء الخمسة : نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، أو إلى قومهم ، والآيات التي بعث بها موسى هي المعجزات الدالة على نبوته ، وملأ فرعون أشراف قومه الذين بيدهم الحل والعقد ، وليس لغيرهم إلا الانقياد والتسليم ، ومعنى ظلموا بها جحدوا وكفروا بما جاء به من الآيات والمعجزات. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). وهم فرعون وأنصاره الذين يتحكمون في رقاب العباد ، وهذه العاقبة ستجيء في السياق.

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). بهذا النداء خاطبه موسى (يا فِرْعَوْنُ) من غير تبجيل وتعظيم ، لأنه يتكلم بلسان الله ، ويبلغ رسالات الله التي يصغر عندها كل كبير .. وبهذا ندرك السر لسيرة الصلحاء الذين يترفعون على الفاسقين ويخفضون جناح الذل من الرحمة للمؤمنين.

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) شأن كل نبي ائتمنه الله على وحيه ، واختاره لرسالته (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تدل على اني رسول من رب العالمين (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كان فرعون يستعبد بني إسرائيل ، ويستخدمهم في أشق الأعمال ، فطلب منه موسى (ع) أن يطلقهم ، ويدعهم وشأنهم يذهبون الى حيث يشاءون.

٣٧٤

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). يظهر ان فرعون كان يظن ان موسى كاذب في دعواه ، فأراد أن يفتضح أمام الملأ ، فقال له : فأت بها ان كنت من الصادقين ، فألقمه موسى حجرا بحجته الدامغة ومعجزته القاطعة (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهرا وواقعا ، لا تمويها وإيهاما ، ففزع فرعون ، ولكنه تمالك لأنه كان يدعي انه هو الرب الأعلى ، وفاجأه موسى بالثانية كما فاجأه بالأولى (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ). ويد موسى سمراء ، لأنه كان يميل إلى السمرة ، فكيف صارت بيضاء من غير سوء ، أي من غير مرض وعلة؟.

فشعر فرعون بالمذلة والهوان ، وصغر شأنه عند نفسه ، فأدرك جلساؤه وحاشيته منه ذلك ، وان موسى أنزله من عليائه ، فحاولوا أن يخففوا عن سيدهم ، وكذبوا عليه وعلى أنفسهم (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ). هذه هي حجة العاجز إلصاق التهم بالأبرياء ، والنيل من كرامة الأصفياء.

ثم قال الملأ من قوم فرعون : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ). أي ان موسى يريد أن ينزع منهم الحكم والسلطان ، ولما سمع فرعون ما سمع قال : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي إذا كان الأمر كذلك فبماذا تشيرون؟ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) ، أخرهما ولا تقتلهما ، لأنك ان فعلت ذلك غضب الرأي العام ، وعرضت نفسك وسلطانك للتهديد والخطر (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) المدائن جمع مدينة ، والحاشرون الشرطة (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ). قال المؤرخون : ان أرض مصر كانت تموج بالسحرة على عهد الفراعنة ، وكان كهنة الديانات وسدنة الآلهة هم الذين يزاولون أعمال السحر ، قال العقاد في كتاب إبليس فصل الحضارة المصرية :

كان الفراعنة أنفسهم يلجئون إلى السحر لمغالبة الأرواح الخفية .. ولدينا من بقايا قصص السحر نخبة لم يتخيرها جامعو الآثار ، ولكنها اجتمعت لهم من حيث اتفق بين الأنقاض والمحفورات ، وكلها تروي أعمال السحر في مجازاة الأشرار .. وكانوا يقسمون السحر إلى أقسام ، منها ما يستعان فيه بقدرة إله الخير على إله الشر ، ومنها ما يستعان فيه بقدرة الشيطان الكبير على الشياطين الصغار.

٣٧٥

وانتشار السحر في عهد فرعون يفسر لنا عصا موسى ، ويؤيد المبدأ القائل : ان معجزة كل نبي تأتي من النوع السائد في عصره ، ليكون التحدي أبلغ في الحجة وقاطعا لكل عذر ، فموسى أبطل السحر لرواجه في عصره ، وعيسى أحيا الموتى ، ومحمد أخرس البلغاء للغاية نفسها من المشابهة.

وجاء السحرة الآية ١١٣ ـ ١٢٦ :

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

٣٧٦

اللغة :

استرهبوهم أي أرهبوهم وخوفوهم من أعمال السحر. وتلقف الشيء تناوله بحذق وسرعة. والإفك صرف الشيء عن وجهه ، ومنه الكذب. والمكر الخديعة ، ومنه مذموم إذا قصد به الشر ، ومنه ممدوح إذا كان وسيلة للخير ، ولا شائبة فيه للشر. وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والعكس بالعكس.

الاعراب :

والمصدر المنسبك من إما أن تلقي وإما أن نكون مفعول لفعل محذوف ، أي اختر اما القاءك واما القاءنا. ان ألق ان مفسرة لأوحينا ، فهي هنا ترادف كلمة أي ، ويجوز أن تكون مصدرية على أن يكون المصدر المنسبك مجرورا بباء الجر المحذوفة أي وأوحينا بالإلقاء. وهنالك في محل نصب على الظرفية متعلقا بغلبوا ، لأنه إشارة إلى المكان الذي غلبوا فيه. وصاغرين حال ، ومثلها ساجدين. ورب موسى وهرون بدل من رب العالمين. وما تنقم ما للاستفهام مع الإنكار ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة تنقم خبر ، والمصدر المنسبك من ان آمنا مفعول تنقم أي لا تنقم منا إلا الإيمان.

المعنى :

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ، قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). ان هؤلاء السحرة الذين ساوموا فرعون ضد موسى (ع) كانوا يمثلون الدين في عصرهم .. ولهم أشباه ونظائر في كل عصر ، يساومون على دينهم وضميرهم كل من يدفع الثمن .. ففي عصرنا هذا اشترى الصهاينة والمستعمرون الكثير من أرباب القلانس والعمائم ، ودفعوا لهم الثمن ، فقبضوا وتطوعوا يناصرون الاستعمار والاستغلال بالتمويه والتضليل ، وألفوا لهذه الغاية

٣٧٧

الهيئات والجمعيات باسم الدين والمبادئ ، ولكن سرعان ما افتضحوا ، وصاروا سبة على لسان كل واع مخلص.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ). خيروه بين أن يبدأ ، أو يبدءوا ثقة منهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة ، وعدم مبالاتهم بموسى (ع). وغريب قول الرازي : ان السحرة خيروا موسى تأدبا واحتراما. قال ـ موسى ـ (أَلْقُوا) مستخفا بهم وبسحرهم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). ونسبة السحر إلى الأعين دليل على ان سحرهم لا واقع له ، وإنما هو مجرد تمويه وتضليل ، واسترهبوهم أي ان سحرهم لا واقع له ، وإنما هو مجرد تمويه وتضليل ، واسترهبوهم أي ان السحرة خوفوا وأرهبوا النظارة ، وجاءوا بسحر عظيم في التمويه والتضليل ، لا في الحقيقة والواقع.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). خاف موسى أن يغتر الجاهلون بتمويه السحرة وتضليلهم ، فشد الله من عزمه ، وأوحى اليه انه معه ، وأن ما جاء به السحرة ليس بشيء ، وإنما هو افتعال وتزوير. وأمره أن يلقي العصا ، ولما ألقاها ابتلعت ما زوروا ، وأبطلت ما افتعلوا ، وظهر الحق عيانا للجميع. وذهل فرعون من هول الصدمة .. انه حشد الجماهير ، وأتى بالسحرة من كل مكان ليدعم بهم عرشه وسلطانه ، ويثبت للناس كذب موسى وافتراءه .. وإذا بالآية تنعكس رأسا على عقب ، ويؤمن الجميع بما فيهم السحرة بصدق موسى وأمانته ، وكذب فرعون وخيانته (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ). بعد ذاك الزهو ، وتلك الكبرياء ، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان الخطب على فرعون بعض الشيء ولكنه فوجئ بما هو أدهى وأمر (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ). هؤلاء هم السحرة الذين تحدى بهم فرعون موسى وهرون يستسلمون طائعين ، ويسجدون لرب العالمين رب موسى وهرون ، لا لفرعون الذي جاء بهم لإبطال دعوة الله والحق.

وتسأل : ما هو القصد من قول السحرة : رب موسى وهرون ، مع العلم بأن قولهم : آمنا برب العالمين يغني عنه؟.

الجواب : ان فرعون كان يقول للناس : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى .. ما عَلِمْتُ

٣٧٨

لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي). ولو اكتفى السحرة بقولهم : رب العالمين لدلّس فرعون وحرّف ،وقال: اياي يعنون برب العالمين ، فقطعوا الطريق على تدليسه وتحريفه بقولهم : رب موسى وهرون.

حول السحر :

في المجلد الأول ص ١٦٤ تكلمنا عن السحر بعنوان السحر وحكمه ، وقلنا فيما قلنا : نحن مع الذين لا يرون للسحر واقعا ، وأقمنا الدليل على ذلك ، ونعطف الآن على ما سبق ما يلي :

ان قوله تعالى : سحروا أعين الناس دليل واضح ان السحر لا واقع له ، وانه شعوذة وتمويه ، أما قوله سبحانه : وجاءوا بسحر عظيم فمعناه ان ما جاءوا به عظيم في ظاهره ، وفي أعين الناس ، وانهم قد بلغوا النهاية في الشعوذة والتزوير ، ويوضح هذا المعنى ويؤكده الآية ٦٦ من سورة طه : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). انها لا تسعى حقيقة وواقعا ، بل توهما وتخيلا .. وعن الرسول الأعظم (ص) : من مشى الى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه فقد كفر بما أنزل الله.

وقال كثير من المفسرين : ان سحرة فرعون احتالوا لتحريك الحبال والعصي بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تتحرك بحرارة الشمس .. وأيا كان السبب فنحن نؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأن الساحر كذاب لا يصدقه إلا مغفل ، وان ما أتى به سحرة فرعون ، ويأتي به الهنود وغير الهنود من الأعمال المدهشة لها سبب من غير شك ، ونحن وان كنا نجهل نوع هذا السبب فانا نعلم علم اليقين بأنه لا يغير الواقع ، ولا يبدل منه شيئا ، والا استطاع الساحر أن يدفع عن نفسه الضر ، ويملك لها النفع ، ويحكم العالم بأسره بمجرد ارادته وتمتماته ، وكان شريكا لله في ملكه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ). أرأيت الى هذا المنطق؟ انه يريدهم أن يستأذنوه في شئون قلوبهم من الإيمان والحب والبغض .. ولا انسان

٣٧٩

في الكون له سلطان على قلبه ، ولكنه منطق الطغاة (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). يوجه فرعون بقوله هذا التهمة إلى السحرة بأن ايمانهم بموسى لم يكن عن حجة واقتناع ، وانما هو مجرد حيلة وخديعة تواطئوا عليها مع موسى من قبل ، وان الغاية من هذا التواطؤ إخراج الحاكمين من مصر وانتزاع الملك منهم .. قال هذا فرعون ، وهو يعلم انه كاذب في قوله ، ولكن أراد التمويه على الناس خوفا أن ينتقضوا عليه ، ويؤمنوا بموسى ، ولكن الناس يعلمون ان السحرة كانوا يؤلهون فرعون ، ويمكنونه من رقاب العباد باسم الدين ، وان السحرة لم يؤمنوا الا عن بصيرة واقتناع ، وأيضا يعلم الناس ان موسى لم يجتمع بواحد من السحرة ، لأن فرعون جمعهم من هنا وهناك.

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ). هذا هو سلاح الطغاة في مواجهة الحق ، قال المسعودي في مروج الذهب : جمع معاوية الناس في سنة ٥٩ ه‍ ليبايعوا ولده يزيد ، فقام رجل من الأزد خطيبا ، وقال : ان مات هذا ـ مشيرا الى معاوية ـ فهذا مشيرا إلى يزيد ، ومن أبى فهذا ، وهز السيف. فقال له معاوية : اقعد أنت من أخطب الناس.

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ). افعل ما شئت فلا نأبه بك ولا بقتلك فنحن على يقين من لقاء ربنا وعدله .. وكل من يؤمن بلقاء الله يقف هذا الموقف ، بل يرى الاستشهاد سعادة ووسيلة لمرضاة الله وثوابه ، أما الذين يخافون الموت في سبيل الله ، ويتهربون منه فهم يؤمنون بلقاء الله نظريا فقط ، أما عمليا فإنهم به كافرون.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا). ان قولهم هذا يتضمن التهديد لفرعون ، لأن معناه انك لا تنقم منا نحن ، وانما أنت تنقم من الله ورسوله بالذات ، لأنه لا ذنب لنا إلا الإيمان بالله ورسوله موسى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) ـ ٦٤ التوبة.

(رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً). في هذا الموقف يحمد الصبر على القتل والتعذيب

٣٨٠