التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

فسادا وطغيانا من تحويل الطيبات من الرزق إلى قنابل النابالم ، تقتل الصغار وتشوه الكبار ، وإلى نفاثات السموم واللهب يحرق الأخضر واليابس ، أما القنابل الذرية والهيدروجينية فإنها لا تبقي ولا تذر.

لقد بدّل الإنسان نعمة الله كفرا ، وحوّل نعيم أرضه إلى جحيم ، وربط مصير الانسانية كلها بمصير القنابل الذرية والهيدروجينية .. لقد أودع الله في هذه الأرض المتع والطيبات من الرزق لعباده وعياله ، وأودع الظلوم الكفار القنابل الذرية في مخازنه وطائراته ، تجوب أجواء القارات ليل نهار ، يرقب الفرصة المؤاتية ليحوّل الأرض ومن عليها إلى رماد وهباء .. وهذا هو تأويل قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها). فيجب أن تعرف الذي أفسد علينا الأرض بعد أن أصلحها الله لنا ، وأن نقطع عليه الطريق بكل ما نملكه من وسائل ، وأقلها أن نعلن حقيقته للملإ ، ونسميه باسمه الذي وضع له ، وهو عدو الله والانسانية ، ليحذر الناس ، كل الناس من مكره وخداعه.

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً). ان بث روح اليأس خيانة ، لأنه لا حياة مع اليأس ، وبث روح الأمل مع ترك التحفظ والحذر أيضا خيانة ، لأنه تغرير وتخدير ، وطريق النجاة وسط بين الاثنين ، قال تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) ـ ٥٧ الإسراء. وقال : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ـ ٥٠ الحجر. فالمؤمن العاقل يعمل ، وهو خائف من الله أن لا يقبل منه لخلل في عمله ، وفي الوقت نفسه يرجو النجاح والقبول ، وكل من الخوف والرجاء يدعو إلى التحفظ والإتقان ، (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). فيه إيماء إلى أن من يخاف الله ويرجوه فهو من أهل الإحسان ، وانه تعالى يجازي الإحسان بمثله.

يرسل الرياح بشراً الآية ٥٧ ـ ٥٨ :

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً

٣٤١

ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

اللغة :

بشرا بسكون الشين وأصله بضم الشين بشرا جمع بشير ، ومعناه مبشرات. والمراد بالرحمة هنا المطر. وثقال جمع ثقيل ، والمراد به هنا المثقل ببخار الماء. والبلد الميت أرض لا نبات فيها. والبلد الطيب هو الجيد التربة. والنكد بكسر الكاف كل شيء يخرج بتعسر ومشقة.

الاعراب :

بشرا حال من الرياح أي مبشرات. وأهملت حتى بدخولها على إذا. ونكدا حال من ضمير يخرج.

المعنى :

(هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) لبلد ميت على حذف مضاف أي لحياة بلد ميت ، وضمير به الأولى يعود الى بلد ميت ، وضمير به الثانية يعود الى الماء ، وكل الثمرات المراد به العموم العرفي ، لا العموم الواقعي.

٣٤٢

ان الرياح تهب ، والشمس تبخر ماء البحار ، وترتفع الرياح بهذا البخار إلى العلو ، ثم تجذبه الأرض اليها ، فيتساقط عليها قطرات متراكبة ، كل ذلك وما اليه يأتي وفقا لسنن الطبيعة ، ما في ذلك ريب .. ولكن من هو الذي أوجد هذه الطبيعة ، وأودعها هذه السنن التي تسير على وتيرة واحدة مدى ملايين القرون ، لا تتغير ولا تتبدل؟. هل وجدت الطبيعة عفوا؟. وهل حكمتها القوانين والسنن من البداية الى النهاية صدفة ومن غير سبب؟. اذن ، فبالأولى أن يكون هذا الزعم جزافا ومن غير سبب؟. وكيف ينتج اللانظام نظاما ، واللاوعي وعيا؟.

وبالتالي ، هل لهذه التساؤلات جواب معقول ومقبول إلا وجود خالق قدير ، ومدبر حكيم؟ .. هو الذي أوجد الطبيعة ، وأودعها السنن والقوانين ، واليه ينتهي كل شيء ، ويفتقر كل شيء ، ولا يفتقر الى شيء.

فالرياح والمطر وحياة البلد الميت تنسب إلى سنن الطبيعة مباشرة ، وبالواسطة إلى خالق الطبيعة (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). يقول الجاحدون : كيف نؤمن بالبعث ، وما رأينا واحدا عادت اليه الحياة بعد موته؟ يقولون هذا ، وهم يرون رأي العين حياة الأرض بعد موتها ، ولكنهم ذهلوا ان السبب واحد ، وانه لا فرق إلا في الصورة ، فذكرهم الله بذلك لعلهم ينتفعون بالتذكير ، أو تلزمهم الحجة.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً). بإذن ربه كناية عن عطاء الكثير بيسر وسهولة ، والنكد كناية عن عطاء القليل بعسر وصعوبة ، وأكثر المفسرين ، أو الكثير منهم على ان هذا تمثيل لقلب المؤمن والكافر ، والبر والفاجر بالأرض التي خلق الجميع منها ، ووجه الشبه ان الأرض كلها واحدة من حيث الجنس ، ولكن منها الطيبة إذا شربت الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ومنها القاسية المغلقة تصد وتنأى عن الخير والصلاح ، وإذا أتت بشيء منه فكالذي يساق الى الموت (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ). ان الله يضرب هذه الأمثال وغيرها للجميع ، للخبيث والطيب ، ولكن الطيبين هم الذين ينتفعون بها ويشكرون الله عليها ، أما بالنسبة إلى الخبثاء فإنها حجة قاطعة لأعذارهم وعلاتهم.

٣٤٣

نوح الآة ٥٩ ـ ٦٤ :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

اللغة :

الملأ من القوم أشرافهم. والفلك بضم الفاء يطلق على السفينة والسفن. وعمين جمع عم ، وهو من عمى البصيرة ، والأعمى من عمى البصر.

الإعراب :

من زائدة ، وإله مبتدأ ، ولكم خبر ، وغيره صفة لإله على المحل. ويا قوم أصلها يا قومي ، حذفت الياء تخفيفا ، وكسرت الميم للدلالة على الياء. ولينذركم منصوب بأن مضمرة ، والمصدر المنسبك متعلق بجاءكم. ومعه متعلق بمحذوف صلة الذين ، أي والذين استقروا معه في الفلك. وعمين صفة لقوم ، وأصله عميين.

٣٤٤

المعنى :

بعد أن قال سبحانه في الآية ٣٥ من هذه السورة : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أشار في هذه الآيات وما بعدها الى قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وأوجز سبحانه قصة نوح هنا أشد الإيجاز ، حيث اكتفى بذكر الحوار بينه وبين قومه ، وإعراضهم عن دعوته ، وكيف عجبوا ان يختار الله رسولا منهم ، وانه سبحانه أغرق المكذبين ونجّى المؤمنين.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ). قال الطبرسي في مجمع البيان : هو نوح ابن ملك بن متوشلخ بن أخنوخ النبي إدريس ، ونوح أول نبي بعد إدريس ، وقيل : انه كان نجارا ، وانه ولد في العام الذي مات فيه آدم .. ونحن لا نعلم لهذا القيل مصدرا.

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). أوجز الرسالة التي حملها إلى قومه من الله ، أوجزها نوح بكلمة : وهي أن يعبدوا الله وحده ، لأنه لا إله سواه ، وان دعوته هذه اليهم إنما هي لإشفاقه عليهم من عذاب يوم القيامة.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). رموه بالضلالة والسفاهة لا لشيء إلا لأنه نهاهم عما ألفوه وورثوه من عبادة الأحجار .. وهكذا كل سفيه وضال يرمي بدائه من سار على طريق الهداية والرشاد.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). رد عليهم بنفي الضلالة عن نفسه ، ووصفها بأشرف الصفات ، وصفها بأنه رسول الله أرسله لينقذهم من الهلاك والضلالة ، وانه ناصح لهم وأمين ، وانه يعلم من الله وحدانيته وعدله ، ومن كانت له هذه الصفات فلا يكون ضالا.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). قال له قومه : ما أنت إلا بشر مثلنا ، ولو أراد الله أن يبعث رسولا لبعثه ملكا ، فرد عليهم بأنه لا عجب أن يرسل الله رجلا إلى قومه لا مصلحة له ولا هدف إلا أن يرشدهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم ، وإنما العجب

٣٤٥

أن يهملهم ويتركهم سدى من غير مرشد ، قال الرازي : هذا الترتيب في غاية الحسن ، فان المقصود من البعثة الإنذار ، والمقصود من الإنذار التقوى ، والمقصود من التقوى الفوز برحمة الله في دار الآخرة.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ). تفتحت أبواب السماء بالماء ، وتفجرت به عيون الأرض ، فأغرق الله الظالمين المكذبين ، ونجّى نوحا ومن معه من المؤمنين ، ويأتي الكلام مفصلا عن نوح وقومه في السورة المسماة باسمه إن شاء الله.

هود الآية ٦٥ ـ ٧٢ :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها

٣٤٦

مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

المعنى :

جاء في تفسير المنار نقلا عن اسحق بن بشر وابن عساكر : ان هودا أول من تكلم بالعربية ، وكان له أربعة أولاد : قحطان ومقحط وقاحط وفالغ ، وهو أبو مضر ، وأما قحطان فأبو اليمن ، ولا نسل لقاحط ومقحط.

وقال المفسرون : كان قوم هود من ذراري نوح ، وكانوا على دينه ، ولما طل عليهم الأمد لعب بهم الشيطان ، فعبدوا الأصنام ، وأفسدوا في الأرض .. وفي تفسير الطبري ان الإمام عليا (ع) قال لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء ذا أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت؟ قال الرجل : نعم ، يا أمير المؤمنين ، والله انك لتنعته نعت رجل قد رآه. قال الإمام : لا ، ولكني حدثت عنه. قال الرجل : وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال : فيه قبر هود (ع).

وإذا صح هذا الخبر وجب أن تزال القطعة المعلقة على قبر الإمام التي جاء فيها : السلام عليك وعلى جاريك هود وصالح الا ان يكون الجوار في الآخرة ، لا في الدنيا أو نقل جثمان هود بعد وفاة الإمام.

وهذه الآيات التي نزلت في قصة هود موافقة للآيات السابقة التي نزلت في قصة نوح لفظا ومعنى إلا في أشياء نشير اليها فيما يلي :

١ ـ قال نوح لقومه : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). وقال هود لقومه : (أَفَلا تَتَّقُونَ) ذلك انه قبل نوح لم يظهر في العالم مثل ذاك العذاب ، وهو الطوفان ، وكان قوم هود على علم به ، فحذرهم وأمرهم أن يتقوا الله بترك الشرك والإقرار له بالوحدانية.

٢ ـ قال قوم نوح له : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقال قوم هود له :

٣٤٧

(إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأن نوحا كان يصنع الفلك ، حيث لا بحر ولا نهر ، وهذا العمل بظاهره جهل وضلال ، أما هود فلم يفعل شيئا من هذا النوع ، وانما سفّه قومه بعبادتهم الأصنام ، فقابلوه بالمثل ، ونسبوه الى السفاهة.

٣ ـ قال نوح لقومه : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال هود لقومه : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وأراد نوح بالرحمة دفع العذاب عنهم ، وأراد هود بالفلاح الهداية الى الصواب ، والمعنيان متشابكان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

٤ ـ ان الله سبحانه ذكر في هذه الآيات أشياء قالها قوم هود لنبيهم ، ولم يذكر هنا جل ثناؤه أن قوم نوح قالوها لنبيهم ، وهي (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا). عبارة مطروقة يجترها كل جاهل ومقلد (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استعجلوا العذاب استعجال من يهزأ بالناصح الأمين .. وجاء الجواب من الرسول حاسما وسريعا (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) ومعنى وقع هنا وجب ، والمراد بالرجس العذاب ، وبالغضب السبب الموجب للعذاب.

(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). لا وجود للآلهة التي يعبدونها ، وكل ما لا وجود له لا أثر له ، ولا دليل عليه ، وعلى هذا يكون الاسم الذي وضع له كلاما فارغا بلا معنى (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) هذا جواب قولهم : فائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين.

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) الدابر هو الآخر ، وقطع دابر القوم استأصلهم بالهلاك عن آخرهم .. وبيّن سبحانه نوع العذاب الذي أهلك به قوم هود في الآية ٦ وما بعدها من سورة الحاقة : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ).

ويأتي ان شاء الله مزيد بيان لحال هود ، مع قومه في السورة المسماة باسمه.

٣٤٨

صالح الآية ٧٣ ـ ٧٩ :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

اللغة :

البيّنة العلامة الفاصلة بين الحق والباطل. وبوأكم أنزلكم. والعثي مجاوزة الحد. وعقروا الناقة نحروها. والعتو التمرد. والرجفة من الرجف ، وهو الحركة والاضطراب. والجثوم البروك على الركبة ، والمراد به هنا الهلاك.

٣٤٩

الاعراب :

إلى ثمود متعلق بمحذوف ، أي وأرسلنا إلى ثمود ، ومنع ثمود من الصرف للعلمية والتأنيث ، وهي القبيلة. وصالحا بدل من أخاهم. وآية حال من ناقة الله. وتأكل مجزوم جوابا للأمر ، وهو فذروها. فيأخذكم جواب للنهي ، وهو ولا تمسوها ، والناصب ليأخذكم ان مضمرة بعد الفاء. وقصورا مفعول أول لتتخذون ، ومن سهولها مفعول ثان. وتنحتون بمعنى تتخذون ، وعليه تكون الجبال مفعولا أولا ، والبيوت مفعولا ثانيا. ومفسدين حال من الواو في تعثوا. ولمن آمن بدل بعض من للذين استضعفوا باعادة العامل مثل مررت بزيد بأخيك. وجاثمين خبر فأصبحوا ، وفي ديارهم متعلق بجاثمين.

المعنى :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). ثمود قبيلة من العرب سميت باسم جدهم ثمود بن عامر ، وكانت مساكنهم الحجر بكسر الحاء بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) ـ ٨٠ الحجر. وقوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) نظير قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وقوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) ومر التفسير في الآية ٥٩ و ٦٥ من هذه السورة.

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً). قال جماعة من المفسرين : ان قوم صالح سألوه أن يخرج لهم ناقة من الصخرة ، وانه سأل ربه ذلك ، فتمخضت الصخرة كالمرأة يأخذها الطلق ، فولدت ناقة عشراء وبراء .. ونحن نؤمن إجمالا بأن الناقة كانت بينة وآية من الله ، وانها لم تأت بسبب معتاد ، وان الله سبحانه أضافها اليه تعظيما لشأنها .. نؤمن بهذا ولا نزيد شيئا ، حيث لم ينزل به وحي ولا جاء به خبر متواتر عن المعصوم.

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). أمر صالح (ع) قومه أن يتركوا الناقة وشأنها تأكل من أرض الله ، وحذرهم من

٣٥٠

سوء العاقبة ان تعرضوا لها بأذى ، ثم قال لهم : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ). أهلك الله عادا بذنوبهم ، وأورث ثمود أرضهم وديارهم ، فذكرهم صالح بنعمة هذا الاستخلاف ، وأيضا ذكرهم قائلا : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً). ويدل هذا النص على إيجازه ان ثمود كانت تعيش في حضارة عمرانية واضحة المعالم ، وانها كانت في نعمة ورفاهية (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). آلاء الله نعمه ، ومعنى لا تعثوا في الأرض مفسدين لا تسعوا في الأرض فسادا .. بعد أن ذكر صالح قومه بما أسبغ الله عليهم من النعم أمرهم أن يتذكروا ويشكروا نعم الله ، ونهاهم عن الفساد .. وفي ذلك تحذير لهم من بأس الله وعذابه.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ). أصر المترفون من قوم صالح على التمادي في الطغيان ، والتعصب لعبادة الأوثان ، أما المستضعفون فمنهم من آمن ، ومنهم من بقي على الشرك تبعا للمترفين ، فقال هؤلاء لمن آمن من الفقراء المستضعفين :

(أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)؟. سألوا المستضعفين هذا السؤال مستنكرين ومهددين ، أو ساخرين مستهزئين.

(قالُوا) ـ أي المستضعفون ـ (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ). قالوا هذا غير مكترثين بالتهديد والاستهزاء ، لأنهم على يقين من دينهم ، وثقة من أمرهم.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ـ للمؤمنين المستضعفين ـ (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). على الرغم من الدلائل والبينات القاطعة على نبوة صالح ، لأن مصالحهم فوق الأديان السماوية ، والبراهين العقلية ، قال الرازي : هذه الآية من أعظم ما يحتج به على ان الاستكبار انما يتولد من كثرة المال والجاه ، لأن هذه الكثرة هي التي حملتهم على التمرد والإباء والكفر.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ). وكشف هذا العتو عن حقيقتهم وذات أنفسهم ، وانهم لا يكترثون إلا بصالحهم وحده لا شريك له .. وقد تحدوا صالحا باستعجال العذاب (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). ولم يمهلهم سبحانه جزاء لهذا العناد (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

٣٥١

أي هالكين ، والمراد بالرجفة الصاعقة ، قال تعالى : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) ـ ٤٥ الذاريات.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). لما رأى صالح ما حل بقومه من العذاب تولى عنهم كئيبا ، وتبرأ من مصيرهم هذا الذي جلبوه على أنفسهم بالعتو والتمرد.

قال الرازي : قال رسول الله (ص) : يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح ، وأشقى الآخرين قاتلك.

وسنعود إلى النبي صالح (ع) مرة أخرى ان شاء الله.

لوط الآية ٨٠ ـ ٨٤ :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

الاعراب :

ولوطا أي وأرسلنا لوطا وهو منصرف لخفته. وجملة ما سبقكم حال من الفاحشة. وشهوة مفعول لأجله لتأتون. وجواب خبر مقدم لكان ، والمصدر المنسبك من ان قالوا اسمها. ومطرا مفعول مطلق.

٣٥٢

المعنى :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ). نقل صاحب تفسير المنار عن كتب الأنساب العربية وسفر التكوين ان لوطا ابن أخي ابراهيم الخليل (ص) وانه ولد في اور الكلدانيين وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة ، وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل ، ثم سافر لوط مع عمه ابراهيم إلى ما بين النهرين ، وهو مكان تحيط به دجلة ، حيث كانت مملكة أشور ، ثم أسكنه ابراهيم في شرقي الأردن.

(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ). يدل على ان قوم لوط أول من ابتدع هذا النوع من الفساد (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ). هذا تفسير للفاحشة ، وان المراد بها هنا اللواط المعبر عنه اليوم بالشذوذ الجنسي ، والفعل الشنيع (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). قد تجاوزتم الحد في كل شيء ، حتى بلغتم إلى هذا الانحراف الذي يمجه الطبع ، وتأباه الفطرة ، ويخالف سنن الحياة.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ). أجل ، ان الطهر والعفاف ذنب عند العاهر الفاجر ، والأمانة جريمة عند العميل الخائن .. أخرجوهم لأنهم يتطهرون .. وهكذا المجتمع القذر يرفض الأطهار والأبرار ، لا لشيء إلا لأنهم يتطهرون ، والعكس صحيح أيضا.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ). المراد بأهله من آمن معه ، سواء أكان من أرحامه ، أو من غيرهم ، وغبر تأتي بمعنى مضى ، وبمعنى بقي ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، أي ان امرأة لوط بقيت مع الهالكين ، ولم يصحبها معه حين سرى بأهله بقطع من الليل فرارا من العذاب ، لأنها كانت منافقة تتآمر على زوجها مع المشركين ، وقيل : ان اسمها واهلة .. وقال تعالى : (مِنَ الْغابِرِينَ) ، ولم يقل من الغابرات تغليبا للرجال على النساء ، لأن الذين أهلكهم الله كانوا من الفئتين.

وهكذا أصاب امرأة لوط من العذاب ما أصاب المشركين لأنها منهم ، ولم يجدها القرب من نبي الله والتصاقها به شيئا. وفي الحديث : المرء مع من أحب.

٣٥٣

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً). بيّن سبحانه العذاب الذي أنزله بهم بأنه نوع من المطر ، ولكنه بالحجارة ، لا بالماء كما جاء في الآية ٨١ من سورة هود : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ويأتي التفصيل في محله ان شاء الله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)؟ انها العذاب الأليم ، والعاقل من اتعظ بغيره.

وتسأل : ان كلا من نوح وهود وصالح دعا قومه الى عبادة الله وحده فيما تقدم من الآيات ، أما لوط فقد دعا قومه في هذه الآيات الى الامتناع عن الفاحشة ، فهل معنى هذا ان قوم لوط كانوا موحدين ، ولكنهم فسقوا بهذا الفعل الشنيع؟.

الجواب : ان قوم لوط كانوا كفارا ، وقد دعاهم الى التوحيد ، ونهاهم عن الكفر والشرك كما نهاهم عن اللواط بدليل قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ـ ١٦٣ الشعراء. وانما اهتم بهذه الرذيلة لأنها كانت فاشية فيهم ، وأدت بهم الى غيرها من القبائح والرذائل ، وحملتهم على التمرد والعناد للحق ، وجرأتهم على تكذيب أنبياء الله ورسله.

وقد أجمعت المذاهب الإسلامية قولا واحدا على تحريم اللواط ، وانه من الكبائر ، واختلفوا في عقوبته ، قال الحنفية : انها التعزير بما يراه الحاكم ، وقالت بقية المذاهب : انها القتل لحديث : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.

وأباحت الحكومة الانكليزية اللواط ، وأقره مجلس العموم البريطاني سنة ١٩٦٧ ونقلت جريدة الأهرام تاريخ ٦ ـ ٩ ـ ١٩٦٧ عن التايمز اللندنية ان جماعة من كبار الشخصيات في انكلترا أقاموا احتفالا عاما ابتهاجا بإباحة اللواط ، وتعاطوا فيه هذه العملية أمام المئات من المتفرجين .. وليس من شك ان وجود السيدات والآنسات في هذا الحفل يزيد من بهجته وروعته.

٣٥٤

شعيب الآية ٨٥ ـ ٨٧ :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

اللغة :

الكيل تقدير الشيء بالمكيال. والوزن تقديره بالميزان. والمساحة تقديره بالمتر والذراع. والبخس النقص. والعوج بفتح العين يكون فيما يرى كالعود والحائط ، وبكسر العين يكون فيما لا يرى كالدين وما اليه.

الإعراب :

إلى مدين متعلق بفعل محذوف أي وأرسلنا إلى مدين ، ومدين مجرور بالفتح للتعريف والتأنيث ، وشعيبا بدل من أخاهم. ولا تبخسوا يتعدى إلى مفعولين : الأول الناس ، والثاني أشياءهم. وجملة توعدون حال من واو لا تقعدوا. ومن آمن مفعول به لتصدون. وضمير تبغونها يعود إلى سبيل الله.

٣٥٥

المعنى :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). مر نظيره في الآية ٥٩ من هذه السورة. وشعيب من أنبياء العرب كهود وصالح ، وأهل مدين عرب ، وكانوا يسكنون أرض معان من أطراف الشام.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). البينة كل ما يتبين به الحق ، سواء أكان برهانا عقليا ، أم معجزة خارقة للعادة ، وليس من شك ان شعيبا قد جاء قومه بمعجزة تدل على نبوته ، والا كان متنبئا ، لا نبيا. ولا نص في القرآن يدل على نوع هذه المعجزة ، فتعيينها بالذات كما في بعض التفاسير قول على الله بغير علم.

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ). ويومئ هذا النص إلى انهم كانوا يسيئون المعاملة في البيع والشراء ، وان ذلك كان فاشيا فيهم ، ولذلك أمرهم بايفاء الكيل والميزان بعد أن أمرهم بتوحيد الله ، ثم أمرهم بالعدل وعدم البخس في جميع الحقوق مادية كانت كالمبيعات ، أو معنوية كالعلم والأخلاق ، فلا يصفون العالم بالجهل ، والأمين بالخيانة.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها). مر تفسيره في الآية ٥٦ من هذه السورة ، فقرة الله أصلح الأرض والإنسان أفسدها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ذلك إشارة إلى الخمسة المتقدمة ، وهي عبادة الله ، والوفاء بالكيل والوزن وعدم البخس والإفساد.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً). هذا بيان وتفسير لقوله : ولا تفسدوا في الأرض لأن معناه دعوا الناس وشأنهم ، ولا تلقوا عليهم الشبهات ، ولا تتوعدوهم وتهددوهم ان أرادوا الإيمان بالله ورسوله ، ولا تمنعوا من آمن أن يقيم شعائر الدين ، وتصدوه عن طريق الله القويم ، وتحاولوا أن تحملوا الناس على سلوك الطريق العوجاء التي تسيرون عليها .. وأوضح تفسير لهذه الآية وأوجزه ما روي عن ابن عباس انهم كانوا يقعدون على الطريق ، ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ، ويقولون لهم انه كذاب ، فلا يفتننكم عن دينكم.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ). جعلهم الله أغنياء بعد أن كانوا فقراء ،

٣٥٦

وأقوياء بعد أن كانوا ضعفاء ، وكثيرين بعد أن كانوا أقلاء ، فوجبت عليهم الطاعة والشكر لله (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي وإلا أصابكم ما أصاب من أفسد الأرض مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط.

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا). آمن بشعيب جماعة ، وكفر به آخرون ، فدعا الجميع إلى التعايش السلمي ، وان تترك كل طائفة وشأنها ، ولا يتعرض أحد لأحد بأذى ، سواء اختار الكفر ، أم الإيمان ، ثم تنتظر الطائفتان الى ان يحكم الله بينهما (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). ولا رد لهذا المنطق ، وبأي شيء ترد من يقول لك : انتظر فيك حكم الله؟.

٣٥٧
٣٥٨

الجزء التّاسع

٣٥٩
٣٦٠