التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

ما حرم ربكم الآية ١٥١ : ١٥٣ :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

اللغة :

الإملاق الإفلاس ، ومنه الملق والتملق لأن المفلس يتملق لأرباب المال طمعا في العطية. وأشد بضم الشين قال صاحب مجمع البيان : هو جمع شد ، مثل الأشر جمع شر ، والأضر جمع ضر. وأيا كان فان المراد به هنا الإدراك والبلوغ.

الإعراب :

اتل ما حرم ما مفعول اتل. وان لا تشركوا ان مفسرة بمعنى أي

٢٨١

ولا ناهية ، ويجوز أن تكون ان ناصبة ولا نافية ، والمصدر المنسبك بدل من ما حرم. وشيئا مفعول مطلق لتشركوا لأن المراد به الاشراك. وإحسانا مفعول لفعل محذوف أي أحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو أوصيكم بهما إحسانا. وما ظهر منها وما بطن بدل اشتمال من الفواحش. إلا بالحق في موضع الحال ، أي الا محقين. ذلك وصاكم به مبتدأ وخبر. ولو كان ذا قربى اسم كان محذوف أي ولو كان المقول له. (وَأَنَّ هذا) المصدر المنسبك من ان وما بعدها مجرور بلام محذوفة ، والمجرور متعلق باتبعوه. ومستقيما حال من صراطي.

المعنى :

أشار سبحانه في الآيات السابقة الى ان المشركين حللوا وحرموا بالحدس والأهواء ، وانهم نسبوا الشرك اليه جهلا وافتراء ، ورد عليهم بمنطق العقل والفطرة ، وذكر من المحرمات الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله ، وفي هذه الآيات الثلاث ذكر طرفا من المحرمات ، وهي التي لا يختص تحريمها بشريعة من الشرائع السماوية ، وذكر الى جانبها بعض الواجبات كالوفاء بالكيل والميزان ، وبعهد الله واتباع العدل .. وبديهة ان كل ما وجب فعله حرم تركه ، وكل ما حرم فعله وجب تركه ، وأطلق بعض المفسرين على محتويات هذه الآيات الثلاث الوصايا العشر.

الوصايا العشر :

١ ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً). ابتدأ سبحانه بالأصل الأول من العقيدة ، وهو نفي الشرك الذي يقابله ثبوت التوحيد ، واليه ترجع جميع الأصول والفروع ، ومنه تستمد جميع الحقوق والواجبات ، وبه تقبل الطاعات وعمل الخيرات ، ويتلخص معنى التوحيد بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال.

٢ ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). قرن سبحانه الوصية بالوالدين بربوبيته المتفردة

٢٨٢

إشعارا بأن الإحسان اليهما يجب أن يكون فريدا في بابه .. فكأنه قال : لا تشركوا بالله ، ولا تشركوا بالإحسان إلى الوالدين إحسانا. وتكلمنا بشبهه عن البر بالوالدين عند تفسير الآية ٨٣ من سورة البقرة ج ١ ص ١٤١.

٣ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ). بعد ما أوصى الأبناء بالآباء أوصى الآباء بالأبناء. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١٣٧ من هذه السورة.

٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). كل ما تجاوز الحد في القبح فهو فحش ، ومنه الزنا واللواط والظلم والتهتك والتبرج ، والكذب والغيبة والنميمة واللؤم والحسد ، وأعظم الفواحش كلها الإلحاد والشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس المحترمة ، وأكل مال اليتيم ، وإنما أفرد الله هذه بالذكر ، مع انها تدخل في الفواحش للتنبيه إلى انها قد بلغت الغاية والنهاية من القبح والفحش ، سواء اقترفت سرا أم علانية ، وعن ابن عباس ان أهل الجاهلية كانوا يكرهون الزنا علانية ، ويفعلونه سرا ، فنهاهم الله عنه في الحالين.

وعن رسول الله (ص) انه قال : الا أخبركم بأبعدكم مني شبها؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : الفاحش المتفحش البذيء البخيل المختال الحقود الحسود القاسي القلب البعيد عن كل خير يرجى غير مأمون من كل شر يتقى.

٥ ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ). الأصل في قتل النفس التحريم ، ولا يحل إلا بسبب موجب ، وهو واحد من أربعة : نصت السنة النبوية على ثلاثة منها ، وهي قوله (ص) : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد ايمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق. ونص الكتاب على السبب الرابع في الآية ٣٣ من سورة المائدة : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا). (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تعرفون قبح الشرك وقتل النفس والفواحش ، وحسن البر بالوالدين.

٦ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). والنهي عن القرب

٢٨٣

منه أبلغ من النهي عنه بالذات ، ويعم جميع وجوه التصرف ، كما ان التي هي أحسن أبلغ من التي هي حسنة ، والمعنى المقصود هو التشدد في شأن أموال كل قاصر عن التصرف في أمواله إلا على الوجه المألوف يتيما كان أو مجنونا أو سفيها أو غائبا أو صغيرا يتولى أبوه شئونه المالية ، وان على أولياء هؤلاء أن يحافظوا على أموال القاصرين ، ويدبروها لمصلحتهم ، ومن هنا ذهب جماعة من كبار الفقهاء الى أن تصرفات الولي في مال القاصر لا تنفذ إلا مع الغبطة والمصلحة ، ونحن على هذا الرأي ، حتى ولو كان الولي أبا أو جدا لأب ، ودليلنا كلمة أحسن. أما حديث : أنت ومالك لأبيك فهو حكم أخلاقي لا شرعي بدليل كلمة انت فان الابن ليس سلعة يملكها الأب.

وتسأل : ان كلمة اليتيم يختص بمن مات أبوه ، وهو صغير ، فكيف جعلتها عامة تشمل كل قاصر؟.

الجواب : نحن نعلم علم اليقين ان السبب المبرر لوجوب التصرف بالتي هي أحسن هو القصور ، وليس اليتم بما هو يتم ، والقصور متحقق في الجميع من غير تفاوت.

(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) وتجد تفسيره في الآية ٥ من النساء : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وتقدم تفسيرها في ج ٢ ص ٢٥٦.

٧ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بعتم أو اشتريتم (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) هذه جملة معترضة ، والقصد منها التنبيه الى ان الوفاء المطلوب بالكيل والميزان هو الوفاء الممكن المعروف بين الناس ، وهم يتسامحون بزيادة ما قل أو نقصانه ، لأن مراعاة الحد العادل فيه نحو من العسر والحرج (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وعلى أية حال ، فإن الأساس في شتى أنواع التجارة هو رضى الطرفين ، سواء أكانت السلعة مما يكال أو يوزن أو يعد أو يذرع ، أو يقدر بالفكر كالكتاب ، أو النظر كالقطعة الفنية.

٨ ـ (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) هذا هو المحك لمن يخاف الله ويخلص له ويشعر أمامه بالمسؤولية ، لا أمام زوجة أو أب أو أم أو ابن

٢٨٤

أو صهر .. لا شيء إلا الحق والعدل ، أما من يتكلم باسم الدين ، ثم يميل به هواه مع قريب أو صديق فما هو من الدين في شيء.

٩ ـ (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا). وكل ما أمر الله به ، ونهى عنه فهو عهد الله ، أما الوفاء به فامتثاله وطاعته (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ولا تغفلون عن طاعة من لا يغفل عنكم.

١٠ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) هذا اشارة إلى كل ما ذكر ، وهو صراط الله المستقيم ، وليس بعده إلا الضياع والضلال (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) كالشرك والإلحاد والأحزاب والأديان الباطلة (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). فأية سبيل غير القرآن والإسلام فهي من وضع الأهواء ، وليس للأهواء حد ولا ضابط ، فإذا اتبعها الناس تفرقوا شيعا وأحزابا متناحرة ، أما إذا اتبعوا جميعا دين الله فتوحدهم العقيدة الحقة ، والإيمان القويم ، وفي الحديث : ان النبي (ص) خط خطا بيده ، وقال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ، وقال : هذه ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو اليه ، ثم قرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سبل الشيطان التي تميل بكم مع الأهواء والشهوات.

ثم آتنا موسى الكتاب الآة ١٥٤ ـ ١٥٧ :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

٢٨٥

وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

الاعراب :

تماما حال بمعنى متمم. ومبارك صفة لكتاب ، والمصدر المنسبك من أن تقولوا مجرور بإضافة مفعول من أجله محذوف ، والتقدير أنزلناه كراهية القول. وإن كنا ان مخففة من الثقيلة مهملة عن العمل. واللام في لغافلين هي اللام الفارقة بين إن المخففة وان النافية. وعن دراستهم متعلق بغافلين.

المعنى :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) حار المفسرون في ثم لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن القرآن ، وهذه الآية تحدثت عن التوراة ، وقد نزلت قبل القرآن ، وثم تدل على التراخي وتأخير ما بعدها عما قبلها زمانا ، فكيف يعطف المتقدم على المتأخر في الزمان؟. وذكر الرازي لذلك ثلاثة وجوه ، وزاد الطبرسي رابعا .. ونحن لا نرى مسوغا للاطالة في ذلك ، لأن الترتيب هنا في القول ، لا في الزمان ، والعطف من باب عطف خبر على خبر ، لا من باب عطف معنى على معنى.

(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) تماما بمعنى متمم ، وعلى هنا بمعنى اللام ، كما هي في قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي لهدايتكم كما في مغني ابن هشام ، والمعنى آتينا موسى الكتاب ، وهو يتمم نقص الذي أحسن الانتفاع به ، كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ـ ٣ المائدة. (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) هذه صفة ثانية لكتاب موسى (ع) وانه يشتمل على جميع الأحكام التي يحتاج اليها ناس ذاك

٢٨٦

العصر. قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ) ـ أي لموسى ـ (فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) ـ ١٤٤ الأعراف. (هُدىً وَرَحْمَةً) وصفان آخران لكتاب موسى. وبالهدى يعرف الناس الحق والخير ، وبالرحمة يحيون حياة طيبة هادئة (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) ضمير يؤمنون يعود إلى بني إسرائيل والمعنى آتينا موسى كتابا جامعا لكل ما ذكرنا من أوصاف ، كي يؤمن قومه بالله وثوابه وعقابه ، ولكنهم أصروا على العناد ، وقالوا فيما قالوا : (يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ـ ٥٥ البقرة. وعلى فرض أن يروا الله جهرة ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ فإنهم يقولون : ما هذا بإله ، لأنه ليس جنيها ولا دولارا.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) هذا إشارة إلى القرآن الكريم ، وهو مبارك لأنه كثير الخير والنفع (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اتبعوا ما أمركم به ، واتقوا ما نهاكم عنه ، كي تشملكم رحمته دنيا وآخرة.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ). الخطاب في أن تقولوا موجه لمشركي العرب ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، وبطائفتين أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، وضمير دراستهم يعود إلى أهل الكتاب ، والمعنى يا معشر العرب لقد أنزلنا القرآن بلسانكم ، وعلى رجل منكم وفيكم ، لئلا تعتذروا عن شرككم بأنه لم ينزل كتاب من السماء بلسانكم ، وإنما نزل على اليهود والنصارى ، ونحن كنا غافلين عن دراسة كتابهم وتعاليمه لا ندري ما فيه ، لأن لسانهم غير لساننا.

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ). في الآية السابقة قال تعالى لمشركي العرب : أنزلنا القرآن بلسان عربي مبين لئلا تقولوا غدا :ان التوراة والإنجيل نزلا بلغة كنا عنها غافلين ، لا نعرف شيئا منها ، وفي هذه الآية قال لهم : أو تقولوا يا معشر العرب : لو نزل الكتاب علينا وبلغتنا لكنا أهدى وأسبق من اليهود والنصارى إلى الإيمان. وبالاختصار ان هذه الآية والتي قبلها أشبه بقول القائل : ان فلانا يملك ثروة كبرى ، وأنا لا أملك شيئا ، ولو ملكت لفعلت كذا وكيت. فرد الله عليهم بجواب قاطع لكل عذر : (فَقَدْ

٢٨٧

جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) والمراد بالبينة القرآن ، وفيه الدلائل والبينات على صدق محمد (ص) ، وفيه أيضا الأحكام والتعاليم التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) أبدا لا أحد أشد لؤما وظلما لنفسه وللناس ممن كفر بالحق والخير ، وسعى في الأرض فسادا بصده عن سبيل الله (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) صدف عن الشيء أعرض عنه ، وآيات الله حججه ودلائله ، والمعنى انه جل ثناؤه أقام البرهان القاطع على وحدانيته وعلى نبوة محمد وصدق ما جاء به من ربه ، ولكن المشركين أعرضوا وأبوا أن يتدبروا تلك الحجج عنادا منهم للحق وأهله ، فاستحقوا بذلك الخزي والعذاب الأليم.

لا ينفع نفسا الا ايمانها الآية ١٥٨ ـ ١٦٠ :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

اللغة :

الشيع جمع واحدها الشيعة ، ومعناها الفرقة ، قال تعالى : ولقد أرسلنا من

٢٨٨

قبلك في شيع الأولين ، أي في فرقهم ، وقال : ثم لننزعن من كل شيعة أي من كل فرقة.

الاعراب :

يوم يأتي يوم منصوب على الظرفية متعلق بلا ينفع. أمثالها صفة لمحذوف أي عشر حسنات أمثالها.

المعنى :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ). الاستفهام هنا للإنكار ، والمراد بينظرون ينتظرون .. بعد أن ذكر سبحانه ان المشركين أعرضوا عن دلائل القرآن ، ورفضوا أن يتدبروها قال في هذه الآية : انهم لا يؤمنون إلا بأحد أمور ثلاثة : الأول مجيء الملائكة. الثاني مجيء الرب. الثالث مجيء بعض الآيات. ولكنه سبحانه لم يبين أي الملائكة الذين يجب أن تأتيهم ، كي يؤمنوا : هل ملائكة الموت أو غيرهم ، ولا بيّن المراد بمجيء الرب : هل مجيئه هو بزعمهم ، أو مجيء أمره ، كما هو الواقع؟ وأيضا لم يبين نوع بعض الآيات : هل الآيات التي اقترحوها ، أو علامات القيامة؟ وقال أكثر المفسرين أو الكثير منهم : ان المراد بالملائكة ملائكة الموت ، وبمجيء الرب مجيء عذابه وانتقامه ، وببعض الآيات أشراط الساعة ، أي أولها والعلامات الدالة عليها .. وهذا التفسير غير بعيد ، لأن الكلام الذي عقب به سبحانه هذه الأمور الثلاثة يشعر بقول المفسرين ويعززه ، وهو قوله تعالى :

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً). يقول عز من قائل : ان التوبة والإيمان عند مجيء أحد هذه الأمور لا يجدي شيئا ، وانما الذي يجدي هو الإيمان والعمل الصالح الذي يكسبه المؤمن قبل أن يلجأ إلجاء إلى ذلك ، إذ لا تكليف حين النزع والاحتضار ، ولا عند اشتراط الساعة ، أو نزول العذاب ، ومع عدم التكليف

٢٨٩

يكون الإيمان وعدمه سواء ، وقوله تعالى : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) يومئ إلى أن الإيمان بالله ينجي صاحبه من الخلود في النار ، لا من عذاب النار ، أما من آمن وعمل صالحا فلا تمسه النار إطلاقا. (قُلِ انْتَظِرُوا) هذه الأمور الثلاثة (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ـ ٣٩ هود.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). الخطاب في لست موجه للنبي (ص). وكما اختلف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كذلك المفسرون صاروا شيعا في تفسير المراد بالذين فرقوا دينهم. قيل : هم المشركون بالنظر إلى أن بعضهم يعبد الأصنام ، وبعضهم الكواكب ، وبعضهم النور والظلام. وقيل : هم أهل الكتاب فاليهود افترقوا إلى الصادوقيين والفريسيين والحسديين (١) أما النصارى فقسموا الكنيسة إلى شرقية وغربية. وقيل : هم الفرق الاسلامية. وقيل : كل أهل الملل والنحل بلا استثناء .. وخير ما قرأته في تفسير هذه الآية ما قاله صاحب تفسير المنار : ان المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل الكتاب ، والمراد ببراءة الرسول منهم تحذير المسلمين من مثل تفرقة أهل الكتاب وفعلهم ليعلموا انهم إذا فعلوا فعل أهل الكتاب فإن محمدا (ص) بريء منهم بطريق أولى.

(إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) فهو وحده يتولى حساب وعقاب من يعمل على التفريق بين عباده ، ويثير العداوة والبغضاء في الدين وغير الدين (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من الاستجابة الى الدساسين المفتنين : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ـ ٣٨ الاعراف.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). كل ما فيه لله رضا وللناس صلاح فهو حسنة ، وكل ما فيه

__________________

(١). من أقوال الفريسيين ان الأموات يرجعون الى هذه الدنيا ليشتركوا في ملك المسيح الذي سيأتي ، ومن أقوال الصادوقيين انه لا حياة بعد الموت إطلاقا لا الى الدنيا ولا الى الآخرة ، ومن أقول الحسديين المساواة بين الناس. الأسفار المقدسة لعلي عبد الواحد وافي.

٢٩٠

سخط لله وفساد للناس فهو سيئة ، والله سبحانه عادل وكريم ، ومن عدله ان يجزي فاعل السيئة بما يعادلها من العذاب ، ومن كرمه أن يعفو ، وان يضاعف لفاعل الحسنة أضعافا تزيد إلى عشرة أمثال ، أو إلى سبعمائة ، أو إلى ما لا يبلغه العد والإحصاء وفقا لنوايا المحسن وصفاته وأوضاعه. انظر تفسير الآية ٢٦١ من سورة البقرة ج ١ ص ٤١٢.

ومن أحاديث النبي (ص) في هذا الباب قوله : ان الله تعالى قال : الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو عفو ، فالويل لمن غلب آحاده أعشاره. وقال : يقول الله : إذا همّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وان لم يفعلها ، فان فعلها فعشر أمثالها ، وان همّ بسيئة فلا تكتبوها ، وان فعلها فسيئة واحدة.

قل اننى هداني ربي الآية ١٦١ ـ ١٦٥ :

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

٢٩١

اللغة :

القيم الذي يقوم بأمر الناس .. والحنيف المائل عن الأديان الباطلة الى دين الحق. والنسك العبادة. والوزر الحمل الثقيل والمراد به هنا الذنب. وخلائف جمع خليفة ، وهو الذي يخلف من قبله. والابتلاء الاختبار.

الاعراب :

دينا بدل من صراط مستقيم على المحل ، لأن كل مجرور لفظا منصوب محلا ، والمعنى هداني صراطا مستقيما ، مثل قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً). وقيما صفة لدين. وملة ابراهيم بدل من دين. وحنيفا حال من ابراهيم. أغير الله غير مفعول أول لأبغي ، وربا مفعول ثان ، لأن أبغي تتضمن معنى اتخذ ، وهي تتعدى إلى مفعولين. ودرجات مجرورة بإلى محذوفة.

المعنى :

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بعد أن ذكّر سبحانه الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا ـ أمر رسوله أن يعلن للمشركين وأهل الكتاب وغيرهم ان الله جل ثناؤه قد هداه بالفطرة الصافية ، والعقل السليم ، والوحي من عنده إلى السبيل الذي يبتعد به عن الباطل ، ويوصله إلى الحق (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الملة الدين ، والحنيف من ترك الأديان الباطلة ، واتبع دين الحق ، والمعنى ان الصراط الذي هدى الله به رسوله محمدا هو دين ابراهيم خليل الرحمن الذي يعظمه أهل الأديان جميعا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بل من أعدى أعداء الشرك وأهله ، وهذا رد على مشركي قريش الذين زعموا انهم على دين ابراهيم.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). موضوع الآية السابقة أصول الدين والعقيدة بقرينة (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وموضوع هذه الآية فروع الدين والشريعة لمكان الصلاة والنسك ، وعطف النسك على الصلاة

٢٩٢

من باب عطف العام على الخاص ، مثل قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) ـ ٨٣ آل عمران. والمحيا والممات هنا كناية عن الثبات والاستمرار ، والمعنى ان عبادة محمد (ص) وجميع ما هو عليه في حياته عقيدة ونية وعملا يتجه به إلى الله وحده ، ولا يحيد عنه حتى الممات.

(لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). هذه الآية توضيح وتأكيد لما تضمنته الآية السابقة من التوحيد والإخلاص .. ومحمد (ص) أول المسلمين من أمته بطبيعة الحال ، لأنه صاحب الدعوة.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا). ومن طلب هذا الرب فأين يجده؟! : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ومن توهم وجها غير وجهه الكريم صدق عليه قول الشاعر :

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أفرس تحتك أو حمار

(وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ). ورب كل شيء واحد لا ضد له ولا ند.

ولا تزر وازرة وزر أخرى :

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها). كل ما يفعله الإنسان من خير أو شر فهو وليد غرائزه وظروفه وأوضاعه ، ومن نسب فعل الإنسان إلى غيره فهو تماما كمن ينسب الولد إلى غير أمه ، والثمرة إلى غير شجرتها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) المراد بالوزر هنا الذنب ، قال تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي ما يفعلونه من الذنوب والآثام ، وهذه الجملة توضيح وتأكيد للجملة قبلها ، ومعناها ان كل نفس (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) دون ما كسب أو اكتسب غيرها ، وهذا أصل ديني وعقلي لا يمكن نسخه ولا تعديله ، وقد فرع عليه علماء الكلام والفقهاء كثيرا من المسائل والأحكام.

وتسأل : ان هذه الآية تومئ إلى ان الإنسان مسؤول عن نفسه وكفى ، اذن ، أين وجوب الجهاد ، وبذل النصح ، والتعاون على البر والتقوى؟.

الجواب : ان موضوع الآية خاص بالمؤاخذة فقط ، وان الإنسان لا يؤخذ

٢٩٣

بجريرة غيره ، ولا صلة لها بالجهاد والنصح ، ولا بغيرهما من قريب أو بعيد ، لأن عدم المؤاخذة على ذنب الغير شيء ، ووجوب الجهاد وإصلاح الفاسد شيء آخر.

سؤال ثان : لقد اعتاد الناس أن يبذلوا المال والطعام عن أرواح أمواتهم ، وان يقرءوا سورا من القرآن ، ويهدوا اليهم ثوابها ، فهل مثل هذا جائز شرعا؟ وهل ينتفع به الأموات؟ كيف؟ والمفروض ان الأموات لا يعذبون بسيئات الأحياء ، فينبغي أن لا يتنعموا بحسناتهم؟.

الجواب : قلنا : ان كلا من العقل والشرع يأبى أن يؤخذ البريء بجرم المذنب ، وان يشاركه فيما يستحق من العقاب ، أما بالنسبة إلى الثواب فلا مانع في نظر العقل أن يشارك غير المحسن المحسن في الثواب الذي استحقه على عمله ، وقد ورد الشرع بذلك ، فوجب التصديق ، قال رسول الله (ص) : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له .. وقال : من مات وعليه صوم فليصم عنه وليه .. وقال : من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات. وعن الإمام جعفر الصادق (ع) : ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وحين؟.

فهذه الأحاديث وغيرها تدل على ان الميت ينتفع باهداء الثواب على عمل الخير والعقل لا يأبى ذلك إطلاقا ، لأنه يتفق مع فضل الله وكرمه ، ولكن الناس توسعوا كثيرا ، وتجاوزوا الموارد المنصوص عليها ، وقد اتفق الفقهاء على ان كل من أتى بما لا نص فيه بقصد انه راجح شرعا فقد ابتدع في الدين ، وافترى على الله ورسوله .. فالأولى أن يهدى الثواب إلى الميت رجاء أن ينتقى به من غير قصد الرجحان دينا وشرعا.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) دون أن تستندوا إلى عقل أو وحي ، فاعترفتم بما هو معروف عندكم ، لا عند الحق ، وأنكرتم ما هو منكر عند أهوائكم وشهواتكم.

الأرض والبيت :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ

٢٩٤

فِي ما آتاكُمْ) خلق الله سبحانه هذه الأرض ، وجعلها مقرا صالحا لنشأة الإنسان بجوها وتركيبها ، وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، وجهزها بجميع ما يحتاج اليه الإنسان ، حتى وسائل الانس والترفيه ، تماما كالدار التي حوت خيرات كل شيء ، ثم اسكن الإنسان فيها بعد أن زوده بالمؤهلات والاستعداد الكامل للانتفاع بخيرات الأرض وبركاتها ، وشاءت حكمته تعالى أن يتفاوت الناس في تلك المؤهلات ، وأن يكون بعضهم فوق بعض في العقل والعلم وقوة الجسم ، واختط لهم منهجا قويما ليختبر الأقوياء (١) : هل يؤدون شكر هذه النعمة ، ويتجهون بقوتهم ومؤهلاتهم الى صالحهم وصالح إخوانهم من بني الإنسان ، أو يتخذون منها أداة للظلم والاستغلال والتعاظم والتكاثر؟. وقد دلت هذه الآية ان الله سبحانه قد أوجد الإنسان على هذه الأرض للعلم والعمل النافع.

وتسأل : كيف تجمع بين هذه الآية ، وبين الآية التي تقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)؟.

الجواب : لا تنافي بين الآيتين ، لأن العلم والعمل النافع عبادة لله ، بل من أفضل العبادات ، وأكمل الطاعات.

(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) ابتلى عباده ليتميز الخبيث من الطيب ، فيعاقب هذا ، ويثيب ذاك (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وليس لرحمته حد ، ولا لعفوه قيد .. أجل ، ان التوبة تجعل العفو جزاء وفاقا ، ويبقى عفو السخاء والكرم ، وعطاء الجود الذي لا موجب له إلا ذاته القدسية ، وهذا هو الدليل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ـ ٣٠ الشورى. أي كثير مما كسبت أيدينا.

اللهم انّا نستغيث بك من أنفسنا ، ونسألك العفو عن أوزارنا.

__________________

(١). عند تفسير الآية ٩٤ من المائدة بينا معنى الاختبار من الله لعباده.

٢٩٥
٢٩٦

سورة الأعراف

٢٩٧
٢٩٨

سورة الأعراف

مكية ، وآياتها ٢٠٥ ، وفي مجمع البيان ان قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ـ إلى قوله ـ (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) نزل بالمدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب أنزل اليك الآة ١ ـ ٣ :

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

اللغة :

الحرج الضيق. والمراد بالذكرى للمؤمنين التذكر النافع لهم مثل هدى للمتقين.

الاعراب :

كتاب خبر لمبتدأ محذوف ، أي هذا كتاب. ولتنذر الفعل منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك متعلق بأنزل ، وذكرى عطف عليه.

٢٩٩

وأولياء مفعول تتبعوا ، ومن دونه متعلق بمحذوف حالا من أولياء. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي تذكرا قليلا ما تذكرون ، وما حرف زائد يؤكد معنى القلة ، وتذكرون أي تتذكرون ، حذفت إحدى التائين للتخفيف.

المعنى :

(المص) هكذا تكتب وتلفظ بأسماء حروفها : ألف. لام. ميم. صاد. ومضى الكلام عن هذه في أول سورة البقرة. (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). الخطاب لمحمد (ص) ، والمراد بالكتاب القرآن ، وبالمؤمنين من ينتفع بالقرآن ، سواء أكان سببا لإيمانه أم لتثبيتهم واستمرارهم على الإيمان ، والمعنى ان الله سبحانه أنزل القرآن إلى النبي (ص) لينذر به الملحدين والمشركين وأهل الأديان الباطلة ، ولينتفع به أصحاب الفطرة السليمة .. وهذه مهمة شاقة يلقى النبي (ص) صعابا جساما من الكافرين الذين يجابههم بالقرآن ، لأنه يستهدف إبطال عقائدهم ، وتغيير تقاليدهم وأوضاعهم التي توارثوها أبا عن جد مئات السنين .. ومن ثم وجد النبي تقاليدهم وأوضاعهم التي توارثوها أبا عن جد مئات السنين .. ومن ثم وجد النبي ضيقا بما يلاقيه من عنادهم ومقاومتهم : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) ـ ٩٧ الحجر. (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ـ ٥ المزمل. وقد أمره الله سبحانه أن يصبر ويمضي يتذكر ويذكر.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). في الآية السابقة أمره الله أن يبلغ ولا يحفل بمقاومة المعاندين ، وفي هذه الآية أمر الناس أن يتابعوا الرسول ، ويعملوا بالقرآن. قال علي المرتضى ع : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا والعكس صحيح أيضا (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) لأنه ليس دون القرآن إلا الضلال والأهواء (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) وتتعظون بمواعظ الله ونصائحه ، لأنكم لا تتورعون عن شيء ولا تخشون العواقب : وإنما يتذكر من يخشى ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فيه إيماء إلى قلة من اتعظ وتذكر منهم.

٣٠٠