التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

الإعراب :

صدره مفعول أول ليجعل ، وضيقا مفعول ثان ، وحرجا صفة لضيق لأنه بمعنى شديد الضيق. ومستقيما حال من صراط ربك ، والعامل فيه هاء التنبيه في هذا أو الاشارة لأنهما بمعنى الفعل. ولهم دار السلام مبتدأ وخبر ، وهو وليهم مثله ، وعند ربهم متعلق بمحذوف حالا من الضمير في لهم.

المعنى :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ). قال الرازي : تمسك أصحابنا ـ يريد السنة الاشاعرة ـ بهذه الآية في بيان ان الضلال والهداية من الله تعالى.

أما أصحابنا فيقولون : لو كان الضلال والهداية من الله لسقط التكليف ، وبطل الحساب والجزاء ، لأنه تعالى أعدل من أن يفعل الشيء ، ويحاسب غيره عليه ، كيف؟. وهو القائل : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أما الآية التي نحن في صدد تفسيرها فلا تدل على دعوى الرازي وأصحابه ، لأنها لم ترد لبيان مصدر الضلال والهداية ، وانه من الله أو من غيره ، وانما وردت لبيان ان الناس فريقان :

الفريق الأول : تتسع صدورهم للحق ، ويتفاعلون معه ، ويطمئنون اليه ، لوعيهم وتجردهم عن الأغراض والأهداف الشخصية ، وتحررهم من التقاليد والأهواء ، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ـ ١٨ الزمر. فقوله هم أولو الألباب يشعر بأن الله هداهم لأنهم من أولي الألباب ، وانه تعالى يمد العبد بهدايته لحكمة في ذات العبد نفسه .. وأيضا هم المعنيون بقوله (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) ـ ١٣ الجن. وقوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) ـ ١٩٣ آل عمران. ولما علم سبحانه الخير من هذا الفريق زادهم الله هدى ، وأمدهم بتوفيقه وعنايته ، قال تعالى : (وَيَزِيدُ

٢٦١

اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) ـ ٧٦ مريم. وقال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد. وهكذا يهتم الأستاذ بتلميذه ويشجعه إذا علم منه الذكاء والنشاط.

الفريق الثاني : لا تتسع صدورهم للحق لجهلهم وضيق أفقهم ، أو لتناقضه مع منافعهم وأرباحهم ، أو عاداتهم وتقاليدهم ، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) ـ ٢٢ الزمر. وقوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ـ ٢ الأنبياء. وقوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ـ ٢٣ الأنفال. فالله سبحانه يعرض عن العبد ، ويوكله الى نفسه إذا لم يعلم الخير منه ، كما يهمل الأستاذ تلميذه بعد اليأس من نجاحه. انظر تفسير الآية ٨٨ من النساء ، فقرة : الإضلال من الله سلبي لا ايجابي ج ٢ ص ٣٩٩.

(كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ). كان الناس فيما مضى يضربون المثل للممتنع بالصعود الى السماء ، حيث لا وسيلة اليه بحال ، والتشبيه في الآية يتفق مع العصر الذي نزلت فيه ، والقصد منه ان فريقا من الناس ـ وهم الفريق الثاني الذي أشرنا اليه ـ يجدون الضيق والعسر لو كلفوا باتباع الحق ، تماما كما لو أمروا بالصعود الى السماء (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). المراد بالرجس هنا العذاب ، لأنه جزاء الكافرين ، والمعنى ان الذين وقعوا في الضيق والحرج من اتباع الحق في الدنيا كذلك غدا يقعون في العذاب الذي هو أشد وأعظم عليهم ضيقا وحرجا من اتباع الحق : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) ـ ٨١ التوبة.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً). هذا إشارة إلى الإسلام الذي تنشرح له وتستريح به صدور الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والإسلام هو الصراط الذي لا وعورة فيه ولا اعوجاج (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). أي أقمنا الدلائل والحجج الواضحة الكافية على صحة الإسلام وصدقه في القرآن وآياته ، وبها ينتفع الذين يعرفون دلائل الحق وبه يعملون (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ). والذين يقيمون في دار الله هذه لا يمسهم السوء ، ولا هم يحزنون ، لأن الله

٢٦٢

كافلهم (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الخيرات والطاعات.

ويوم محشرهم جميعا الآة ١٢٨ ـ ١٣٢ :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

اللغة :

المعشر مثل القوم جمع أو اسم جمع لا واحد له من لفظه. واستكثر من الشيء أخذ الكثير منه. والمثوى المكان. ويقصون عليكم أي يتلون عليكم.

الإعراب :

يوم مفعول لفعل محذوف ، أي أذكر يوم نحشرهم. وجميعا حال. وخالدين

٢٦٣

حال من ضمير المخاطب في مثواكم. والا ما شاء الله ما في محل نصب بالاستثناء من خالدين. وجملة يقصون في محل رفع صفة لرسل. وذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك. وان لم يكن ان مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، أي لأنه لم يكن. ولكل درجات مبتدأ وخبر ، أي درجات كائنة لكل واحد. ومما عملوا متعلق بمحذوف صفة لدرجات. وربك مبتدأ ، وغافل خبر والباء زائدة اعرابا.

المعنى :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي الانس والجن ، ونقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي استكثرتم من اغوائهم واضلالهم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الضمير في أولياؤهم يعود الى الجن ، أي ان الانس الذين تولوا الجن وأطاعوهم قالوا لله تعالى : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي ان الجن استمتعوا بالانس ، والانس استمتعوا بالجن ، وبيّن الرازي وجه هذا الاستمتاع بقوله :

كان الانس يطيعون الجن ، فصار الجن كالرؤساء .. فهذا استمتاع الجن بالانس ، أما استمتاع الانس بالجن فهو ان الجن كانوا يدلون الانس على أنواع الشهوات والطيبات ، ويسهلونها عليهم.

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) ما زال الكلام للانس الذين أطاعوا الجن ، والمعنى ان استمتاع بعضنا ببعض كان إلى أجل معين ، ووقت محدود ، وهو اليوم الذي كان فيه فراقنا للحياة الدنيا .. وها نحن بين يديك نعترف بذنوبنا ، فاحكم فينا بما تشاء. (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هذا هو الحكم الفاصل ، والجزاء العادل (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يمضي قضاؤه بالناس على أساس الحكمة والعلم.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). لما ذكر سبحانه في الآية المتقدمة ١٢٧ انه هو ولي المؤمنين ذكر هنا ان الكافرين من الجن والإنس

٢٦٤

بعضهم أولياء بعض ، لأنهم شركاء في الكفر والظلم ، ويوم القيامة يكونون شركاء أيضا في العذاب والعقاب.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا). هذا السؤال يوجهه الله سبحانه غدا للأشرار من الجن والإنس ، وهو للتأنيب والتوبيخ ، وليس على وجهه وحقيقته ، لأن الله يعلم وهم يعلمون بأن الله قد أرسل لهم رسلا مبشرين ومنذرين : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ـ ٢٤ فاطر. (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) حيث لا مجال للإنكار في هذا الموقف .. وفي موقف آخر أفسح لهم المجال فكذبوا ، و (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وسبق الكلام عن ذلك في الآية ٢٣ من هذه السورة.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) والمراد انهم هم اغتروا بالحياة الدنيا ، لأن الدنيا ما خبأت شيئا من عظاتها وتقلباتها (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) ذكر سبحانه أولا انهم قالوا شهدنا على أنفسنا ، ثم عقب على ذلك بأنهم شهدوا على أنفسهم ، والقصد من هذا التأكيد الردع والزجر عن الكفر والمعصية ، لأن من حاول أن يقترف ذنبا إذا أيقن انه سيضطر الى الاعتراف به أحجم ولم يقدم ، ان كان عاقلا.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ). ذلك اشارة الى إرسال الرسل ، والمعنى ان الله عادل لا يظلم أحدا ، ولا يعاقب إلا بعد أن يرسل رسولا يأمر وينهى ، فان لم يأتمر العبد وينته أخبره الرسول بما يحل به إذا لم يتب ويرتدع ، فان أصر عاقبه الله بما يستحق (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) فللمسيئين درجات حسب أعمالهم من السخرية بالغمز الى نهب الشعوب أقواتها وإلقاء القنابل الذرية على الألوف ، وللمحسنين درجات وفق أعمالهم من التحية الى الاستشهاد في سبيل الحق والصالح العام (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فكل شيء مسجل كبيرا كان أو صغيرا ، حسنا أو قبيحا.

وتجدر الاشارة الى ما سبق مرارا من اننا نؤمن بوجود الجن اجمالا ، لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه ، تماما كما هو الشأن بالنسبة الى الملائكة ، أما التفاصيل فما زالت في عالم الغيب.

٢٦٥

وربك الغني الآية ١٣٣ ـ ١٣٥ :

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))

اللغة :

يذهبكم أي يهلككم. والإنشاء الابتداء ، انشأ الله الخلق ، أي ابتدأه. ومكانة الإنسان الحال التي هو عليها.

الإعراب :

كما أنشأكم الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي يستخلفكم استخلافا مثل انشائكم. ان ما توعدون ما اسم ان ولآت خبرها.

المعنى :

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) بعد أن ذكر سبحانه انه يحاسب الناس وفق أعمالهم (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أشار إلى انه غني عن العالمين ، لا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا تضره معصية من عصى ، وان العالم كله بحاجة إلى رحمته لأنه تعالى هو السبب الأول لوجوده (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لأنه غني عنكم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) فيبدل بكم غيركم يكونون أطوع اليه منكم ، ولكنه أمهلكم

٢٦٦

تفضلا منه وكرما (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي كما هان عليه إيجادكم من جيل مضى يهون عليه إيجاد جيل جديد منكم أو من غيركم .. والقصد من هذه الآية أن ينذر جل ثناؤه الكافرين المعاندين بالهلاك والدمار ، تماما كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بعد أن خوّفهم سبحانه من عذاب الدنيا خوّفهم من القيامة وعذابها وانها آتية لا ريب فيها ، ولا مهرب منها إلا اليه وحده.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). بعد أن دعا النبي (ص) عرب الجاهلية إلى الإسلام ، واستجاب له منهم من استجاب ، وعاند من عاند أمره الله جل وعز أن يقول للمعاندين : اعملوا على شاكلتكم التي أنتم عليها ، وأنا عامل بهداية ربي ، وبعد حين تعلمون لمن تكون العاقبة الحسنى ، تماما كما تقول لمن يرفض النصيحة : ابق على طريقتك ، وسترى عاقبة أمرك.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بالكفر ، أو لغيرهم بالعدوان ، ولو أفلح الظالم لكان العادل أسوأ حالا من الظالم ، وكانت ألفاظ القيم ترادف النفاق والرياء.

فقالوا هذا لله الآة ١٣٦ ـ ١٤٠ :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها

٢٦٧

إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

اللغة :

ذرأ أي خلق على وجه الاختراع والإبداع. ويلبسوا يخلطوا. وحجر أي محجور وممنوع.

الإعراب :

ساء ما يحكمون ، ساء فعل ماض ، وما مصدرية ، والمصدر المنسبك فاعل أي قبح حكمهم. وحجر صفة للانعام والحرث ، ويستوي فيه الواحد والكثير ، والذكر والأنثى. وافتراء مفعول لأجله ليذكرون. وما في بطون ما في محل رفع بالابتداء ، وخالصة خبر ، وأنث لفظ خالصة على معنى الانعام ، وذكر لفظ محرم حملا على لفظ ما. واسم يكن ضمير مستتر يعود إلى ما في بطون. وافتراء مفعول لأجله لحرموا.

٢٦٨

المعنى :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ). الواو في جعلوا يعود إلى مشركي العرب ، وذرأ خلق ، والحرث الزرع ، والانعام المواشي ، والنصيب السهم ، والشركاء الأصنام.

ومحصل المعنى ان الله سبحانه بعد أن أبطل في الآيات السابقة عقيدة المشركين بمنطق العقل والفطرة تعرض في هذه الآيات الى بعض ما كان مشركو العرب يزاولونه في أموالهم وأولادهم ، وهذه الآية التي نفسرها تعرضت لشأنهم وتقاليدهم في ثروتهم المالية ، وهي الزرع والماشية ، وكانوا ـ كما في كتب التفسير ـ يعينون شيئا من زرعهم وأنعامهم لله ، ويصرفونه الى الصبيان والمساكين ، وشيئا لأصنامهم ، وينفقونه على سدنة الأصنام وحراسها ، وكانوا يبالغون ويجتهدون في تنمية نصيب الأصنام ، ليأتي نتاجه أكثر وأوفر من نصيب الله ، لأن الله غني ، وفي الأصنام فقر ، وكانوا إذا خالط شيء مما جعلوه لله ما جعلوه للأصنام تركوه لها ، وإذا خالط شيء مما جعلوه للأصنام ما جعلوه لله ردوه الى الأصنام ، وأيضا إذا أصابهم الجدب أكلوا من نصيب الله ، وتركوا نصيب الأصنام .. وهذه الصورة أوضح تفسير للآية الكريمة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) في إيثار أصنامهم على الله تعالى علوا كبيرا.

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ). تقدم ان المراد بالشركاء في الآية السابقة الأصنام ، أما في هذه الآية فالمراد بهم الكهنة وسدنة الأصنام بطبيعة الحال ، لأن الأصنام لا تشعر ولا تنطق ، فكيف تزين وتغري؟. والمعنى ان المشركين كما جعلوا في أموالهم نصيبا لله ، ونصيبا للأصنام كذلك زين لهم السدنة والكهنة ، ومن اليهم من الرؤساء ، زينوا لهم قتل أولادهم.

وتسأل : إن تصرف المشركين في أموالهم وأولادهم على النحو المتقدم كان بوحي من عرف الجاهلية ، ومعلوم ان العرف ، يضعه الناس للناس ، فإذا قتل واحد منهم ابنه خشية الفقر والاملاق ، أو وأد ابنته خوف

٢٦٩

العار ، كما نسب الى قيس بن عاصم ، قلده من هم على شاكلته في السفاهة والجهالة .. اذن ، فما هو الوجه في نسبة ذلك إلى الأصنام ، أو القائمين عليها؟.

الجواب : أجل ان تصرف المشركين كان بوحي من التقاليد ، ولكن السدنة والرؤساء قد زينوا هذه التقاليد وحبذوها ، وهم الناطقون باسم الأصنام فصحت النسبة اليها.

(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) الواو يعود الى الكهنة ومن اليهم ، وضمير هم يعود الى المشركين ، والرد هنا معناه الهلاك ، واللبس الخلط ، واللام للعاقبة والمعنى ان الكهنة زينوا للمشركين أعمالهم ، فكانت نتيجة هذا التزين هلاك المشركين ، وضياعهم عن الحق والدين القويم (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي لو شاء الله أن يمنعهم عن ذلك جبرا وقهرا ما تصرفوا في أموالهم وأولادهم ذاك التصرف القبيح ، ولكنه تركهم وشأنهم بعد أن هداهم النجدين. (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) من اضافة ما يحللون ويحرمون الى الله .. والأمر بتركهم وافتراهم جاء لتهديد المشركين ووعيدهم ، وليس على وجهه وحقيقته ، تماما كالأمر في قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ـ ٤١ فصلت.

ثم ذكر سبحانه في الآية التالية ان المشركين قسموا زرعهم وأنعامهم الى ثلاثة أقسام :

القسم الأول (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ). الحجر الحرام ، أي ان المشركين كانوا يقتطعون قسما من زرعهم وثمارهم وماشيتهم ، ويحرمون التصرف فيه إلا على من يختارون .. ولم يبين سبحانه الذين يختارهم المشركون لهذا القسم ، ولكن بعض المفسرين قالوا : هم الكهنة وخدم الأصنام ، وقال آخرون : هم الرجال دون النساء.

القسم الثاني (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) فلا تركب ، ولا يحمل عليها ، وتقدم ذكرها في الآية ١٠٣ من المائدة.

القسم الثالث (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) في الذبح ، بل يذكرون اسم آلهتهم ، وتقدم التفصيل عند تفسير الآية ١٢١ من هذه السورة (افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي انهم نسبوا هذا التقسيم إلى الله كذبا وافتراء ، والله معاقبهم عليه.

٢٧٠

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). قال الرازي : هذا نوع رابع من أنواع قضاياهم الفاسدة ـ وتقدم ذكر الأقسام الثلاثة في الآية السابقة ـ كانوا يقولون في اجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور ، لا تأكل منه الإناث ، وما ولد ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. سيجزيهم وصفهم ، والمراد الوعيد (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ليكون الزجر واقعا على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ). وأي شيء أكثر سفاهة من أقدام الوالد على ذبح ولده بمديته ، أو دفنه حيا تحت التراب ، وقوله بغير علم تأكيد للسفاهة ، أما خسارتهم في الدنيا فتتمثل في قتل أولادهم ، وفساد حياتهم الاجتماعية ، وخسارتهم في الآخرة أدهى وأمر (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من الأنعام والحرث التي زعموا انها حجر (افْتِراءً عَلَى اللهِ) لأن التحريم منهم وليس منه (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى شيء من الخير والرشاد.

قال الرازي : ذكر الله أمورا سبعة ، وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم ، وهي الخسران ، والسفاهة ، والجهل ، وتحريم ما أحل الله ، والافتراء عليه ، والضلال عن الرشد ، وعدم الاهتداء .. ثم قال الرازي : فثبت انه تعالى ذم الموصوفين بقتل الأولاد وتحريم ما أحله الله تعالى لهم بهذه الصفات السبعة الموجبة لأعظم أنواع الذم ، وذلك نهاية المبالغة.

ونقول للرازي : إذا كان الله قد ذمهم على الضلال بأعظم أنواع الذم ونهايته فكيف تدعي ان الله هو الذي خلق فيهم الضلال؟ وأي منطق يجيز أن يعاقب البريء ويذم على شيء فعله الذي ذمه وعاقبه؟. لقد تكرر ذلك من الرازي في تفسيره الكبير عدة مرات ، منها ما قاله منذ قريب عند تفسير الآية ١٢٥ من هذه السورة.

٢٧١

الإعراب :

معروشات صفة لجنات ، والنخل الزرع أي وثمرة النخل ، وحب الزرع ، ومختلفا حال منهما ، وأكله فاعل مختلفا ، والزيتون والرمان عطف على جنات أي وأنشأ الزيتون والرمان ، ومتشابها حال ، ومن الأنعام حمولة أي وأنشأ من الانعام حمولة ، وثمانية أزواج بدل من حمولة وفرشا ، واثنين بدل بعض من ثمانية ، والذكرين مفعول حرم ، ام كنتم شهداء أم بمعنى بل.

المعنى :

بعد أن بيّن سبحانه في الآيات السابقة ان المشركين حرموا ما حرموا من الزرع والانعام افتراء على الله ـ بيّن في هذه الآيات انه خلق الزرع والانعام ليتنعم الإنسان بها ، قال عز من قائل : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) مرفوعة فروعها على دعائم (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) متروكة على الطبيعة (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) عطف على جنات من باب عطف الخاص على العام (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) فالحبوب على أصناف ، ولكل صنف طعم ، والثمار أشكال ألوان طعما ورائحة ، والبقول كذلك (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أيضا عطف على جنات (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فثمر الرمان يشبه بعضه بعضا ، ولكن منه الحلو ، ومنه الحامض ، وكذلك الليمون ، وثمر الزيتون منه الجيد ومنه الرديء (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) لأنه خلق من أجلكم (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قيل : المراد بحقه الزكاة. وقيل : الصدقة المستحبة ، وكلا القولين خلاف الظاهر ، والمتبادر الى الذهن أن يجمع ولا يترك عرضة للتلف والضياع (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الإسراف تجاوز الحد ، وقد نهى الله عنه ، سواء أكان في الإنفاق على النفس ، أم الإعطاء إلى الغير.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي وأنشأ من الانعام ما يحملكم ويحمل أثقالكم كالإبل والبقر ، وما تذبحونه وتنتفعون بلحمه وصوفه وشعره ووبره (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) كهذه الانعام وغيرها ، واشكروه على نعمه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ

٢٧٢

كلوا من ثمرة الآية ١٤١ ـ ١٤٤ :

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

اللغة :

الجنات البساتين والكروم. والمعروشات التي ترفع فروعها على دعائم ، كالعنب ، وغير المعروشات تترك على الطبيعة كالنخل ، والأكل بضم الهمزة والكاف ما يؤكل. ومتشابه بالنظر ونحوه ، وغير متشابه بالطعم وغيره. والحمولة ما يحمل عليه الأثقال. والفرش ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل والبقر ، أو ما يتخذ الفرش من صوفه وشعره ووبره.

٢٧٣

الشيطان) بتحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحله ، وبالإسراف والتبذير (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يأمركم بالسوء والفحشاء وان تقولوا على الله ما لا تعلمون.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ). كلمة الزوج تطلق على كل واحد له قرين ، كأحد الزوجين من الذكر والأنثى ، وأحد النعلين ، ويقال للاثنين معا : زوجان (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى ، وكلمة الضأن تختص بالغنم ما نص أهل اللغة ، ولا تشمل المعز بدليل عطفه على الضأن (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى : والمعز جنس له واحد من لفظه ، وهو ماعز للذكر والأنثى ، ويقال للأنثى : ماعزة ومعزاة (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الذكر من الضأن والذكر من المعز (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) الأنثى من الضأن والأنثى من المعز (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أم حرم الأجنة في بطن الأنثى من الضأن ، وبطن الأنثى من المعز (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لا بحدس وهوى وتقليد. لأن التحريم يحتاج إلى دليل قاطع ، فأين هو؟.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى ، الجمل والناقة ، والإبل اسم جمع كالقوم لا واحد له من لفظه. (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) من الإبل والبقر (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أم الأجنة في بطن الناقة ، وبطن البقرة. (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) زعموا ان الله هو الذي حرّم ما حرموا من الأنعام والحرث ، فقال لهم : ان الشيء لا يثبت إلا بواحد من اثنين : اما بالعيان ، وإما بشهادة الشاهد الصادق ، وأنتم لم تأخذوا التحريم من الله مباشرة ، ولا بواسطة أنبيائه ورسله ، فمن أين أتيتم بهذه الأحكام؟. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) إذا لم تعاينوا ، ولم يشهد لكم شاهد أمين فأنتم ـ اذن ـ مفترون ، والمفتري ظالم آثم ، بل أنتم أظلم من كل ظالم ، لأنكم على الله ، لا على سواه تفترون .. (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يصدهم عن سبيل الله ، وفي الوقت نفسه يزعم انه الهادي الى دين الله ، شأن أكثر المعممين في هذا العصر (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنهم قطعوا كل صلة بينهم وبين الله ، بل حرموا حلاله ، وحللوا حرامه.

٢٧٤

قل لا اجد فيما أوحى الى محرما الآية ١٤٥ ـ ١٤٧ :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

اللغة :

طاعم يطعمه ، أي آكل يأكله. والميتة ما مات حتف أنفه. والدم المسفوح يخرج بدفق كدم العروق ، وغير المسفوح يسح سحا كدم الكبد. والرجس القذر. والإهلال رفع الصوت ، والمراد بأهل لغير الله ذبح باسم غير الله. والباغي من يرتكب الحرام من غير ضرورة ، والعادي من يتجاوز الحد. وحملت ظهورها علقت بها. والحوايا جمع حاوية ، وهي المصارين والأمعاء ، لأنها تحوي الفضلات وقيل : الحوايا كل ما تحويه البطن. وما اختلط بعظم قال الرازي : هو شحم الألية في قول جميع المفسرين. واختلاطه بالعظم هو اتصاله بالعصعص.

الإعراب :

محرما صفة لمفعول محذوف ، أي مطعوما محرما أو طعاما محرما. واسم يكون

٢٧٥

ضمير مستتر ، وميتة خبر ، والتقدير إلا أن يكون المحرم أو المأكول ميتة ، والمصدر المنسبك من أن يكون منصوب على الاستثناء المنقطع ، لأنه مستثنى من غير المحرم. أو فسقا عطف على لحم الخنزير. إلا ما حملت ما في موضع نصب على الاستثناء المنقطع من شحومها. وذلك مفعول جزيناهم.

المعنى :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الرجس القذر ، والفسق الحرام ، بعد أن بيّن سبحانه افتراء المشركين على الله فيما حللوا وحرموا من المأكولات ـ بيّن في هذه الآية المحرمات عند الله سبحانه مما يؤكل ، وهي أربعة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما ذبح على غير اسم الله ، ولا يجوز لأحد أن يتناول منها شيئا إلا المضطر إلى أكلها ، فله ، والحال هذه ، أن يتناول منها ما يدفع به الضرر عن نفسه ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٧٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٦٤. وأجبنا هناك عن سؤال من سأل ان ظاهر الآية يدل على حصر المأكولات المحرمة بهذه الأربعة ، مع انها كثيرة ، وأيضا سبق الكلام عن ذلك بصورة أوسع في أول هذا المجلد عند تفسير الآية ٣ من سورة المائدة.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا). الذين هادوا هم اليهود .. حرّم سبحانه الأصناف المذكورة في الآية السابقة على الناس جميعا اليهود وغير اليهود ، أما المحرم في هذه الآية فيختص باليهود وحدهم بدليل قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا).

أولا : (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) بجميع أجزائه ، دون استثناء ، وقال الطبري في تفسيره : ذو الظفر من البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع ـ يريد منفرج الأصابع ـ كالإبل والنعام والأوز والبط.

٢٧٦

ثانيا : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما). لم يحرم على اليهود جميع أجزاء البقر والغنم ، بل اللحم الأبيض ، دون اللحم الأحمر ، بل استثنى من شحوم البقر والغنم ثلاثة أصناف : الأول ما أشار اليه بقوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) وهو الشحم الملتصق بالظهر. الثاني : (أَوِ الْحَوايا) وهي المصارين والأمعاء ، والمراد ان الشحوم الملتصة بها غير محرمة. (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الألية في قول جميع المفسرين على عهدة الرازي ، أما العظم الذي اختلط به شحم الألية فهو العصعص.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) هذا بيان لسبب حرمان اليهود من هذه الطيبات ، وانه جزاء على جرائمهم التي لا يبلغها الإحصاء ، ومنها قتل الأنبياء ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وقولهم : الله فقير ، ويده مغلولة .. وفي تفسير الآية ٩٣ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١١٤ ما يتصل بقوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). أي ان كذبوك يا محمد فلا تؤيسهم من رحمة الله ، وقل لهم : ان الله بقبلكم ويصفح عنكم ان تبتم وأنبتم ، كما انه ينتقم منكم إذا أصررتم على ما أنتم عليه ، وفي هذه الآية وعد ووعيد ، رضا الله وغضبه ، رضاه عمن التجأ اليه طالبا المغفرة ، وغضبه على من أصر على التمرد والعناد : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ـ ٧ ابراهيم.

لو شاء الله ما أشركنا الآية ١٤٨ ـ ١٥٠ :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ

٢٧٧

تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

الإعراب :

ولا آباؤنا عطف على ضمير أشركنا. ومن شيء من زائدة ، وشيء مفعول حرمنا. وهلم معناها الدعاء كتعال ، وهي هنا متضمنة معنى الحضور أي احضروا شهداءكم. قال أبو البقاء : للعرب في هلم لغتان : إحداهما أن تكون بلفظ واحد للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، فتكون اسم فعل ، وبنيت لوقوعها موقع فعل الأمر. اللغة الثانية أن تصرف ، فيقال : هلما وهلمي وهلممن وهلموا ، فتكون فعلا.

المعنى :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ). الذين يتقبلون النصح ، ويتبعون أحسن القول قليلون جدا ، وأقل منهم من يرون عيوب أنفسهم ويعترفون بها .. فإن الأكثرية الغالبة يرون عيوبهم فضائل ، وسيئاتهم حسنات : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ١٢ يونس. فإن عجزوا عن تحسين قبائحهم تبرأوا منها ، وأحالوها إلى مشيئة الله ، أو إلى أي مصدر آخر .. والله سبحانه منزه عما يصفون .. انه يأمرهم وينهاهم ، ويجعل لهم الخيار فيما يفعلون ويتركون ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة وما لأحد على غيره من سلطان ، حتى الشيطان يقول : لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ

٢٧٨

إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ ٢٢ إبراهيم.

وفي الآية التي نحن بصددها حكى سبحانه ادعاء المشركين ان شركهم وشرك آبائهم ، وتحريم ما حرموا من الحرث والانعام إنما كان بمشيئة الله وأمره ، ولو شاء أن لا يشركوا لمنعهم عن الشرك (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي لقد كذّب مشركو العرب بمحمد (ص) الذي نهاهم عن الشرك والافتراء على الله ، تماما كما كذّب من كان قبلهم بأنبياء الله ورسله ، ولم يصدقوهم إلا بعد أن نزل بهم العذاب جزاء على تكذيبهم.

وبعد أن حكى سبحانه ادعاء المشركين وانه في الكذب كادعاء أسلافهم أمر رسوله ان يرد عليهم بسؤال يخرسهم ، ويبطل ادعاءهم ، وهو (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) المراد بالعلم هنا الدليل ، وهو من باب اطلاق المسبب على السبب ، لأن الدليل سبب لحصول العلم ، والقصد من هذا السؤال اظهار عجزهم وكذبهم ، لأن معناه لقد زعمتم أيها المشركون ان الشرك كان برضا من الله ، فمن الذي قال هذا؟. ومن أين علمتم بمشيئته تعالى؟. انها من غيبه ، ولا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ، والرسول لم يقل هذا لكم ولا لغيركم ـ اذن ـ كيف تحيلونه على الله جل ذكره؟.

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ). ونحن لا نشك أبدا بأن أكابر المجرمين يعلمون انهم يخرصون ويكذبون فيما قالوا ، وانما قالوا عنادا للحق الذي يزهق أباطيلهم ، ويقضي على أغراضهم ومكاسبهم العدوانية.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) بيّن سبحانه في الآية السابقة ان المشركين لا حجة لهم على ما يدعون سوى الظن والتخرص ، وفي هذه الآية بيّن ان الحجة القاطعة هي لله وحده عليهم وعلى غيرهم ، ومعنى بالغة انها قد بلغت من القوة ما تقطع بها كل عذر (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). في المجلد الأول ص ٧٢ ذكرنا ان لله إرادتين : ارادة الخلق والتكوين ، وهي عبارة عن قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وارادة الطلب والتشريع ، وهي عبارة عن أمره ونهيه ، وانه سبحانه يخلق الكون بإرادته التكوينية ولا يتدخل ـ ان صح التعبير ـ بهذه الارادة في شئون الناس

٢٧٩

الاجتماعية ، بل بإرادة التشريع والإرشاد ، وبهذا يتضح معنى قوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد أن يتدخل في شئونكم الاجتماعية بإرادة (كُنْ فَيَكُونُ) لآمنتم جميعا ، ولكنه لا يفعل ، لأنه لو فعل لبطل التكليف ، وانتفى الثواب والعقاب.

وبتقرير ثان ادعى المشركون ان شركهم كان بمشيئة الله ، فأبطل سبحانه دعواهم هذه بأنها من غير دليل ، لأن الله لا يتدخل في شئون عباده بإرادة التكوين سلبا ولا إيجابا .. ولو سلّم ـ جدلا ـ انه يتدخل بهذه الارادة التي تلجئ الإنسان إلجاء ، لو افترض هذا لألجأهم سبحانه إلى الإيمان بوحدانيته بطبيعة الحال ، ولم يلجئهم إلى عصيانه والكفر به وجعل الشريك له.

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا). افترى المشركون على الله الكذب في تحريم ما حرموا من الحرث والأنعام ، وأيضا افتروا عليه في نسبة شركهم اليه ، فأمر نبيه محمدا في الآية الأولى أن يقول لهم : هل عندكم دليل على ما تدعون ، فتخرجوه لنا؟. ثم أمره في الآية الثانية أن يقول لهم : ان الدليل القاطع لكل شبهة ملك لله ، لا لكم ، ثم أمره في هذه الآية أن يقول لهم : أروني من يشهد بأن الله أوحى اليه مباشرة ، أو بواسطة نبي من أنبيائه انه تعالى حرم ما حرمتم أيها المشركون ، لأن الشهادة الحقة يشترط فيها العلم القاطع للشك والاحتمال ، ولا وسيلة للعلم بحرام الله وحلاله إلا الوحي ، فأحضروا من يشهد به (فَإِنْ شَهِدُوا) على سبيل الفرض (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) هذا النهي كناية عن كذبهم في شهادتهم ، لأن النبي محال أن يشهد مع المشركين .. والكناية أبلغ من التصريح.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ). بعد أن حكم الله عليهم بالكذب والافتراء بيّن علة حكمه بأمور ثلاثة : الأول انهم يتبعون الأهواء والشهوات ، وعبّر عن ذلك بقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) لأن النبي محال أن يتبع من كذّب بنبوته. الثاني انهم (لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ومن لا يؤمن بالآخرة لا يخشى عاقبة الكذب. الثالث انهم (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له عدلا يشاركه في الخلق ، ومن يشرك بالله فلا تقبل له شهادة ، لأنه قد ارتكب أقبح القبائح.

٢٨٠