التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

لأنه مضاف الى الايمان ، وهي بمعنى القسم. (وَما يُشْعِرُكُمْ إِنَّمَا) استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ويشعركم خبر. وأول مرة ظرف زمان متعلق بلم يؤمنوا به.

المعنى :

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). قالوا : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيجيبهم الكفار بسب الله جل ثناؤه ، وهذا القول ليس ببعيد ، فكثيرا ما يقع ذلك بين المختلفين في الدين ، ولفظ الآية لا يأباه ، بل روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) : انه سئل عن قول النبي (ص) : ان الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة سوداء في ليلة ظلماء؟. قال : كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله ، فكان المشركون يسبون من يعبد المؤمنون ، فنهى المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين ، فكأنّ المؤمنين قد أشركوا من حيث لا يعلمون .. وقوله تعالى : بغير علم. اشارة إلى جهالة المشركين وسفاهتهم .. وفي الآية دلالة واضحة على ان ما كان ضره أكثر من نفعه فهو محرم ، وان الله لا يطاع من حيث يعصى.

(كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ). المعنى الظاهر من هذه الجملة ان الله سبحانه كما زين للمسلمين أعمالهم كذلك زين لغيرهم أعمالهم ، حتى المشركين .. وليس من شك ان هذا المعنى غير مراد ، لأن الشيطان هو الذي يزين للمشركين والعاصين الشرك والعصيان بنص الآية ٤٣ من الأنعام : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). بالاضافة إلى أن الله سبحانه لا يأمر عبده بالكفر ويزينه اليه ، ثم يعاقبه عليه ، بل العكس هو الصحيح ، قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) ـ ٧ الحجرات.

ومن أجل هذا نرجح حمل الآية على ان الله خلق الإنسان على حال يستحسن معها ما يأتيه من أعمال ، ويجري عليه من عادات ، ووهبه عقلا يميز به بين الأعمال الحسنة والقبيحة ، ولو خلقه على حال يستقبح معها جميع أعماله لما عمل

٢٤١

شيئا .. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) تماما كمعنى قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ـ ٥٣ المؤمنون. وقولنا : كل انسان راض عن عمله.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). اذن ، فليدع المؤمنون سب آلهة المشركين ما دام الله سيعاقبهم عليه.

وتسأل : ان من سب الله أو رسوله يجب قتله ، وهذه الآية تشعر بأن أمره متروك الى حسابه وعذابه يوم القيامة؟.

الجواب : ان هذه الآية نزلت بمكة يوم كان المسلمون ضعافا لم يؤذن لهم بقتال ، لأن القتال كان آنذاك بالنسبة اليهم أشبه بعملية الانتحار ، أما مع قوة الإسلام وسلطانه فيجب تنفيذ حكم الاعدام بالساب ، ولا يجوز وقفه وتعطيله.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها). أيّد الله سبحانه رسوله محمدا (ص) بالأدلة الكافية على نبوته بما لا يدع مجالا للشك عند من يطلب الحق لوجه الحق ، ولكن مشركي قريش اقترحوا على محمد (ص) معجزات خاصة ، وجعلوها شرطا لإيمانهم به ، وأقسموا أغلظ الإيمان أن يصدقوا محمدا إذا استجاب لاقتراحهم ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ). ينزل منها ما تقوم به الحجة على الجميع ، وما زاد فينزله أو يمنعه بحكمته وقضائه .. وتمنى المؤمنون ان يستجيب الله لطلب الكافرين رغبة منهم في سلمهم وايمانهم ، فخاطب الله المؤمنين بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) أي من أين علمتم ان الله سبحانه إذا أنزل الآية المقترحة يترك الكافرون كفرهم وعنادهم؟ وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٣٤ ـ ٣٧ من هذه السورة ، وفي ج ١ ص ١٨٩.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). نقلب أفئدتهم وأبصارهم كناية عن علم الله تعالى بحقيقتهم ، وضمير به يعود الى محمد أو الى القرآن ، والمعنى ان الله يعلم بأن المشركين لا يؤمنون بعد نزول الآية التي اقترحوها ، وانهم يبقون مصرين على ضلالهم الأول الذي كانوا عليه قبل نزول

٢٤٢

الآية المقترحة .. انهم طلاب باطل وضلال ، وليسوا طلاب حق وهداية.

(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). أي بعد أن أصروا على الضلال رغم إقامة الحجة عليهم ندعهم وشأنهم ، حتى يأتي اليوم الذي يلاقون فيه جزاء عملهم ، وقد تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ـ ٨٣ الزخرف.

٢٤٣
٢٤٤

الجزء الثّامن

٢٤٥
٢٤٦

وكلمهم الموتى الآية ١١١ ـ ١١٣ :

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

اللغة :

القبل بضم القاف والباء ، والمراد به هنا المواجهة والمعاينة ، وقيل : هو جمع قبيل بمعنى الجماعة والصنف أي حشرنا عليهم من كل صنف جماعة. والزخرف الزينة. يقال : زخرفه إذا زينه. والغرور الخداع بالباطل. واقترف المال اكتسبه ، والذنب اجترحه.

الإعراب :

قبلا حال من كل شيء ، ولا يلتفت إلى قول النحاة : ان صاحب الحال يجب أن يكون معرفة ، لأن العبرة بصحة المعنى ، لا بالتعليلات النحوية. إلا ان يشاء الله المصدر المنسبك في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، أي ما كانوا ليؤمنوا إلا مع إكراه الله لهم على الايمان. وجعلنا ، متعدية إلى مفعولين : الأول عدوا ، والثاني لكل نبي ، وشياطين بدل من عدو ، وكلمة عدو تطلق على

٢٤٧

المفرد والجمع والمثنى والمذكر والمؤنث. وغرورا مفعول من أجله ليوحي. والهاء في فعلوه عائد إلى زخرف القول. وما يفترون ما بمعنى الذي مفعولا معه لذرهم. والمصدر المنسبك من لتصغى معطوف على غرور ، ومثله ليرضوه وليقترفوا ، أي يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول للغرور بزخرف القول ، والإصغاء اليه والرضا به واقتراف ما هم مقترفون.

طراز من الناس :

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). قلنا في تفسير الآيات السابقة : ان جماعة من المشركين اقترحوا على النبي (ص) أن يأتيهم بآية معينة ، وان المؤمنين تمنوا لو استجاب الله الى طلبهم ، وان الله سبحانه أجاب المؤمنين بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) وبعد هذه الاشارة أوضح جل ثناؤه لنبيه الأكرم بأن هؤلاء المشركين الذين اقترحوا عليك يا محمد ما اقترحوا من الخوارق لا يؤمنون بك بحال ، حتى ولو أنزلنا عليهم الملائكة من السماء ، وأحيينا الموتى وشهدوا لك جميعا بلسان عربي مبين انك نبي مرسل ، بل لو شهد لك الكون بأرضه وسمائه ما صدقوك ولا اتبعوك (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي يلجئهم إلى الايمان بك بالقوة والغلبة.

وتسأل : هل هذا الفرض صحيح ، وهذا الطراز من الناس يمكن أن يوجد ـ بحسب المعتاد ـ؟ وكيف تكذب فئة قليلة الكون بما فيه؟ وهل من المتصور أن يكذّب الإنسان سمعه وبصره ، فيرى الموتى تحيا وتقوم من قبورها الدارسة منذ آلاف السنين ، وهي تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويرى الملائكة تنزل من السماء أفواجا ، تشهد لمحمد بالرسالة ، ويسمع الحيوانات والطيور والأسماك والأشجار والأحجار وجميع الكواكب تنادي بأعلى صوتها : أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ، هل من المتصور أن يوجد انسان يكذّب بجميع هذه الخوارق والمعجزات؟ ان هذا لشيء عجاب.

٢٤٨

الجواب : إن هذا الفرض غير صحيح ، بل هو محال في حق الذين يتأثرون بالحق ودليله ، ويسيرون بوحي من منطق العقل وفطرة الله التي فطر الناس عليها لأن هذه الخوارق دلائل قاطعة لا تبقي مجالا للريب ، أما هذا الفرض في حق الذين تسيطر على جميع مشاعرهم المصالح الخاصة ، ويرونها هي العقل والفطرة والحق والعدل ، أما هذا الفرض في حق هؤلاء فصحيح ، لأن هذا الطراز من الناس موجود بالفعل ، وهم المستعمرون والمحتكرون ، ومن اليهم من الذين يعيشون على السلب والفساد.

والذين يستبعدون هذا الفرض لم يتنبهوا إلى واقع هذه الفئة ، وخلطوا بين منطق العقل ، وبين الموجه الأول للمنتفعين والانتهازيين .. ان العقل من حيث هو ليس إلا مرشدا يأمر وينهى ، ولا يصغي اليه إلا من طلب الحق لوجه الحق ، أما الموجه والقائد للمنتفعين فهو النفع الشخصي ، وهو وحده الذي يقودهم في أعمالهم وسلوكهم ، وهو دينهم وعقلهم ، بل كيانهم وحياتهم ، ومن أجل هذا لا يجدي معهم أي منطق إلا منطق القوة الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) .. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ولا ينتبهون إلى أنهم الفئة الباغية التي لا يجدي معها منطق العقل والفطرة ، ولا منطق الدين والانسانية ، ولا شيء إلا القهر والغلبة ، فمن الخطأ والضياع أن يخاطب هؤلاء بلغة العلم والانسانية.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ). شيطان الإنس معروف ، وهو كل من يغري الناس بالباطل ، ويلبسه ثوب الحق .. أما الجن فهو من غيب الله ، ونحن به من المؤمنين اجمالا ، ومن حيث المبدأ ، ولا تعنينا التفاصيل لأننا غير مسؤولين عنها ، تماما كما هو الشأن في الملائكة ، ولا غرابة في عداء الأشرار للأنبياء السابقين واللاحقين ، لأنه من مظاهر العداء بين الخير والشر ، وبين الحق والباطل.

وتسأل : إذا كان الله سبحانه هو الذي جعل للأنبياء أعداء من الأشرار ، كما يظهر من الآية ، فلما ذا يعاقبهم على عدائهم للأنبياء؟ وأيضا كيف أمر باتباع الأنبياء ، ثم جعل لهم أعداء يقاومونهم ، ويغرون الناس بالكفر بهم وبرسالتهم؟.

الجواب : ان الله سبحانه بعث الأنبياء ، وجعل مهمتهم الدعوة إلى التوحيد

٢٤٩

والعدل ، ونبذ الظلم والوثنية ، وهذه المهمة بطبيعتها تستدعي التناقض والصراع بين الأنبياء وبين عبدة الأوثان والمستغلين ، فالله سبحانه سبب البعثة ، والبعثة سبب العداء ، وبهذا الاعتبار نسب العداء اليه مجازا. جل ثناؤه. قال حكاية عن نوح : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) ـ ٥ نوح. فالفرار يستند إلى دعوة نوح ، ودعوته تستند إلى أمر الله. وزيادة في التوضيح نضرب هذا المثال : رجل ترك ثروة لولده ، فسببت له عداوة الحساد ، فيقال مجازا : خلق له والده حسادا.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً). زخرف القول هو الكلام المموّه الكاذب ، ظاهره الرحمة ، وباطنه العذاب ، والمعنى ان الأشرار يوسوس بعضهم الى بعض بالباطل المموه بالحق بقصد الإغراء بعمل القبيح ، ومعاندة الحق وأهله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) ضمير فعلوه يعود الى عملهم القبيح ، أي عداوة الأنبياء ، وايحاء بعضهم الى بعض ، والمعنى ان الله لو أراد أن يمنعهم جبرا وقهرا عن القبح ما كان منهم ذاك العداء ، ولا هذا الإيحاء ، ولكن حكمته اقتضت أن يتركهم وشأنهم ، وأن يكونوا مختارين غير مسيرين ، فيحاسبون على ما يفعلون ، ويعاقبون بما يستحقون (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) من الكذب ، فعليك البلاغ ، وعلينا الحساب والجزاء.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي يوحي الأشرار بعضهم الى بعض زخرف القول ليستمع اليه الكفار (وَلِيَرْضَوْهُ) بعد ان استمعوا اليه ، ويعملوا به بلا بحث وتمحيص. وهاء يرضوه تعود إلى ما عادت اليه هاء ما فعلوه. (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من المعاصي والآثام ، ويتميز المؤمن عن الكافر ، والمخلص عن المنافق.

والخلاصة ان الأبالسة الأشرار يزخرفون القول ليخدعوا به ضعاف النفوس ، ويميلوا اليه ، ويقترفوا الذنوب ، قال أبو حيان الأندلسي : هذا الكلام في غاية البلاغة ، لأنه أولا يكون الخداع ، فيكون الميل ، فيكون الرضا ، فيكون الاقتراف ، وكأن كل واحد مسبّب عما قبله.

٢٥٠

افغير الله ابتغى حكما الآية ١١٤ ـ ١١٧ :

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

اللغة :

الممترين المترددين الشاكين. والمراد بكلمة ربك هنا القرآن أو الإسلام. والخرص بفتح الخاء الكذب ، يقال : تخرص واخترص أي افترى وكذب ، والخراص الكذاب.

الاعراب :

غير مفعول أول لأبتغي ، وحكما مفعول ثان ، لأن معنى أبتغي اتخذ ، وهي تتعدى إلى مفعولين. وصدقا وعدلا مفعول من أجله لتمّت. واعلم من يضل (من) في محل نصب بنزع الخافض ، أي اعلم بمن يسل واعلم بالمهتدين ، ويجوز أن يكون أعلم بمعنى يعلم ؛ ومن مفعول : بل هو الأرجح عندنا.

٢٥١

المعنى :

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً). الحكم بفتح الحاء والكاف هو الحاكم الذي يحكم ويفصل بين الناس ، وتتصل هذه الآية بالصراع والعداء بين النبي والمشركين الذين اقترحوا عليه الخوارق ، والمعنى ان النبي (ص) قال للمشركين انكم تتحكمون في طلب المعجزات ، وتقترحون علي الاقتراحات ، وليس لي أن أتعدى حكم الله ، وقد أنزل عليكم القرآن كافيا وافيا بما تحتاجون من معرفة الحق والحلال والحرام ، مغنيا عن غيره بمبادئه وتعاليمه ، مثبتا لصدقه بأسلوبه المعجز ، وشريعته الخالدة ، وأخباره عن كثير من المغيبات ، فطلبكم المزيد ، والحال هذه ، إن هو إلا عناد ومكابرة.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ). أي ان المنصفين من علماء اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين بصدق القرآن ونبوة محمد (ص). ومر نظيره في الآية ١٤٦ من سورة البقرة ج ١ ص ١٣٣ (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) معنى الامتراء الشك ، وقال كثير من المفسرين : الخطاب للنبي ، والمراد به غيره على طريق التعريض ، أما نحن فنرى ان الخطاب للنبي ، وهو المراد دون غيره ، مع علمنا بأن النبي لا يشك في القرآن ، بل ومحال عليه أن يشك ، وصح توجه الخطاب اليه على عصمته لأنه من الأعلى الى من هو دونه ، من الله لا من سواه. وتقدم ذلك أكثر من مرة.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً). المراد بكلمة الله هنا القرآن أو الإسلام الذي أظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون ، وهذا هو المراد بتمامه ، أما معنى (صِدْقاً وَعَدْلاً) فهو ان القرآن صادق في كل ما قال ، عادل في كل ما حكم وشرع (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لأنها صدق وعدل ، وكل ما هو صدق وعدل فهو من صلب الواقع ، ولا شيء يقال له صدق وحق وعدل إذا لم يكن له أساس واقعي ، وهذا الأساس لا يتغير ولا يتبدل ، أي لا تنفك عنه الآثار والنتائج المترتبة عليه (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون بما يفعلون ويضمرون.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ

٢٥٢

وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). كل من دان بدين فانه يؤمن بصدقه ايمانا مطلقا ، ويتعصب له تعصبا أعمى ، وكل من رأى رأيا فانه يعتقد بصوابه ، وبأن ما عداه وهم وخيال ، وإذا أحصينا جميع الآراء والمعتقدات ، وقسناها بمقياس الله وميزاته جاءت النتيجة ان أكثر الناس يتبعون الظن الخاطئ ، والحدس الكاذب .. ومن أجل هذا أمر الله نبيه ان لا يستمع إلى الناس ولا يقرهم على عاداتهم وتقاليدهم ، وان عليه أن يتبع ما أوحاه الله اليه ، لأنه هو طريق الحق والهداية.

وإذا كان أكثر الناس على خطأ فيما يرون ويدينون فلا وزن ـ اذن ـ لأقوالهم وأحكامهم على هذا بالهداية ، وذاك بالضلال ، وانما الحكم في ذلك لله وحده ، أي لما بينه من الأصول والضوابط في كتابه الحكيم ، وهذا هو المقصود بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). ومن تلك الأصول الإلهية التي يتميز بها المحقون عن المبطلين قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ـ ٣٣ فصلت.

التسمية على الذبيحة ١١٨ ـ ١٢١ :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

٢٥٣

الإعراب :

ما لكم ما استفهام مبتدأ ، ولكم متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. والمصدر المنسبك من ألا تأكلوا مجرور بفي محذوفة ، والمجرور متعلق بما تعلق به لكم. وقد فصل الجملة حال من اسم الجلالة. وإلا ما اضطررتم ما في محل نصب بالاستثناء من (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ). وانكم لمشركون على حذف الفاء الواقعة في جواب الشرط أي وان أطعتموهم فإنكم لمشركون.

المعنى :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ). كان العرب في الجاهلية يأكلون الميتة ، ويذكرون على ذبائحهم أسماء ما يعبدون من الأصنام ، فحرم الله ذلك على المسلمين ، وأباح لهم أكل الذبائح ، شريطة أن يذكروا عليها اسم الله لا اسم سواه.

وتسأل : ان جواز الأكل من الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها غير منوط بالإيمان بالله وآياته ، إذ يجوز للكافر أن يأكل منها ، كما ان الايمان بالله غير منوط بالأكل من الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها ، حيث يكون المؤمن مؤمنا وان لم يأكل منها .. وظاهر الآية يشعر بأن الإيمان شرط لحلية الأكل من هذه الذبيحة ، لأن معناها كلوا منها إن كنتم مؤمنين.

الجواب : ان قوله تعالى : ان كنتم بآياته مؤمنين ليس شرطا لحلية الأكل من الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها ، وإنما هو اشارة الى ان من يذكر اسم غير الله على الذبيحة فقد جعل لله شريكا ، لأنه توجه في عمله هذا الى غير الله ، كما كان يفعل مشركو العرب ، وان من ذكر اسم الله على الذبيحة فقد آمن بالله ونفى عنه الشريك ، لأنه توجه اليه وحده.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). يظهر من هذا ان بعض المسلمين قد امتنع عن أكل الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها لشبهة دخلت عليه ، وهي كيف يجوز للإنسان أن يذبح الحيوان بيده ويذكر اسم الله عليه ثم يأكل

٢٥٤

منه ، ولا يجوز له أن يأكل من الحيوان الذي أماته الله حتف أنفه! فأنكر الله ذلك على هؤلاء ، وقال : (ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ). يشير تعالى بقوله : وقد فصل لكم الخ ، يشير الى الآية رقم ١٤٥ من هذه السورة ، ويأتي الكلام عنها ، وإلى الآية ١٧٣ من سورة البقرة ، وتكلمنا في تفسيرها عن المحرمات ، وعن حكم المضطر ج ١ ص ٢٦٤.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). أي يحللون ويحرمون من غير دليل ، ووفقا لشهواتهم ، من ذلك ان مشركي العرب حللوا أكل الميتة وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وسبق الكلام عن ذلك في الآية ٣ من سورة المائدة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) الذين يحللون ويحرمون بأهوائهم وشهواتهم ، وانه سيعاقبهم بما يستحقون.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ). المراد بالإثم فعل الحرام الموجب له ، وظاهره ارتكاب المعصية علانية ، وباطنه ارتكابها سرا ، وقد نهى سبحانه عن اقتراف جميع المعاصي ما ظهر منها ، وما بطن (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) من اتباع الأهواء بغير علم ، ولا يتركون سدى من غير حساب وعقاب.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ). ضمير انه يعود إلى الأكل ، وهو مصدر متصيد من لا تأكلوا ، والفسق المعصية .. بعد أن أحل سبحانه ما ذبح على اسمه تعالى حرم ما لم يذكر اسمه عليه. واستنادا إلى ذلك أجمع الفقهاء ، ما عدا الشافعية على ان الذابح إذا ترك التسمية عامدا حرمت الذبيحة ، تماما كالميتة .. ويكفي مجرد اسم الله ، مثل : الله. الله أكبر. الحمد لله. بسم الله. لا إله إلا الله ، ونحو ذلك. واختلفوا إذا تركت التسمية سهوا. قال الحنفية والجعفرية والحنابلة : لا تحرم الذبيحة. وقال المالكية : تحرم. وقال الشافعية : لو ترك التسمية عمدا لا تحرم الذبيحة ، فبالأولى لو تركها سهوا.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ). المراد بالشياطين هنا أبالسة

٢٥٥

الأنس الذين يموهون الحقائق ، ويزخرفون الأقوال ، يخدعون بها السذج البسطاء .. من ذلك ان بعض المشركين وأبالستهم كانوا يقولون لأتباعهم : اسألوا أصحاب محمد (ص) كيف تأكلون الحيوان الذي قتلتموه وذبحتموه بأيديكم ، ولا تأكلون الحيوان الذي قتله الله وأماته حتف أنفه ، مع ان قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم؟ هذه هي مجادلتهم التي أوحى بها الشياطين لأوليائهم بقصد أن يلقوا الشبهة في قلوب ضعاف المسلمين ، ويفتنوهم عن دينهم.

فقال سبحانه لهؤلاء الضعاف من المسلمين : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). أي من استمع إلى المشركين ، وأحل أكل الميتة كما أحلوها فهو مشرك مثلهم. وهذا الحكم لا يختص بأكل لحم الميتة ، فكل من جحد حكما شرعيا ، عالما بثبوته فهو كافر.

او من كان ميتاً الآة ١٢٢ ـ ١٢٤ :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

٢٥٦

اللغة :

القرية المكان الذي يجتمع فيه الناس قلّوا أو كثروا ، ولكن كثر استعمالها في البلد الصغير فتغلبت عليه. والصغار بفتح الصاد للذل والهوان.

الإعراب :

أو من من بمعنى الذي مبتدأ ، وخبره كمن. ومثله مبتدأ وخبره في الظلمات ، والجملة صلة كمن. ليس بخارج منها الجملة حال من الضمير في مثله. وأكابر مفعول أول لجعلنا. وفي كل قرية متعلق بمحذوف مفعولا ثانيا ، ومجرميها مجرور باضافة أكابر. الله أعلم حيث يجعل رسالته أعلم هنا بمعنى يعلم ، لأن التفاضل بين الله وغيره محال ، ومعنى حيث موضع الرسالة ، أي محمد (ص) ، وعليه تكون حيث في محل نصب مفعولا به لأعلم ، والمعنى ان الله يعلم ان محمدا أهل لرسالته.

المعنى :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها). هذا مثل ضربه الله تعالى للمقارنة بين المؤمن والكافر ، وتوضيحه ان المقارنة بينهما تماما كالمقارنة بين الموت والحياة ، والنور والظلام ، فالكافر ميت ، فإذا آمن بعث من جديد وعادت اليه الحياة ، وإيمانه نور يمشي به في حياته على بصيرة من أمره ، ومن بقي على الكفر والشرك فهو كمن يتخبط في الظلمات ، يسير على غير هدى ، ولا يصل إلى خير مدى حياته كلها.

المسئولية والسائل الأعلى :

قد يقول القائل : ان الآية شبهت الإيمان بالحياة ، والكفر بالموت ، مع أن

٢٥٧

الكافرين والملحدين في هذا العصر أكثر ثراء ورفاهية من المؤمنين والعابدين؟.

الجواب : ليس المراد بالحياة في هذه الآية أن يعيش الإنسان في النعيم والرفاهية ، فيأكل طيبا ، ويلبس ثمينا ، ويشرب سائغا .. ان الرفاهية لا تناط بالكفر ولا بالإيمان ، والا كان المؤمنون سواء في الشرق والغرب من حيث الحضارة والرفاهية ، وكذلك الملحدون والكافرون ، ان للرفاهية أسبابا وملابسات لا تمت إلى الإيمان والكفر بسبب .. وانما المراد بالحياة في الآية الايمان والشعور الديني الذي يدفع بصاحبه الى القيام بالواجب كإنسان مسؤول عن سلوكه ، يحاسب عليه ويكافأ على إحسانه بالثواب ، وإساءته بالعقاب.

ولو كان الإنسان غير مسؤول عن شيء لكانت الشرائع والقوانين ألفاظا بلا معان .. ومتى سلمنا بأن الإنسان مسؤول ، ولا يترك سدى يلزمنا حتما أن نسلم بأنه مسؤول أمام من لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .. ولو كان هذا السائل مسؤولا لوجب وجود سائل له ، وهكذا إلى ما لا نهاية.

ومن كفر بوجود السائل الأعلى الذي يسأل ولا يسأل فقد كفر بالمسؤولية ونفاها من الأساس ، لأنه لا مسؤولية من غير سائل ، ومن كفر بالمسؤولية فقد كفر بالحياة الاجتماعية.

وتقول : أجل ، ان الإنسان مسؤول ، ولكن ليس من الضروري أن يكون السائل هو الله ، فللناس أن يختاروا هيئة منهم يكون الإنسان مسؤولا أمامها .. ونسأل بدورنا : إذا أخطأت هذه الهيئة فمن يسألها ويحاسبها ، وان قيل : الوجدان ، قلنا : أولا الوجدان أمر معنوي لا عيني. وثانيا : ان الوجدان مشاع يدعيه كل واحد ، فلما ذا يترك هذا لوجدانه دون ذاك؟ اذن ، لا سائل غير مسؤول إلا الله وحده ، فمن آمن بالله وألزم نفسه بشريعته وأحكامه فقد سار على بصيرة من أمره في عقيدته وسلوكه وإلا كان مثله كمن يمشي في الظلمات ليس بخارج منها.

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). أي مثل ما زيّن للمؤمنين أعمالهم أيضا زيّن للمشركين أعمالهم ، والفرق أن تزيين أولئك انعكاس عن الواقع ، وتزيين هؤلاء وهم وخيال.

٢٥٨

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها). المراد بالقرية كل مجتمع من الناس قلّ أو كثر ، والمعنى انه كما وجد في مجتمعك يا محمد رؤوس للاجرام تمكر وتنصب العداء لدين الله كذلك وجد في المجتمعات السابقة ، ويوجد في اللاحقة أيضا رؤساء يمكرون بأمتهم ، ويقفون موقف العداء للحق وأهله.

وتسأل : ظاهر الآية يدل على ان الله سبحانه هو الذي جعل أكابر المجرمين يجرمون ويمكرون بأهل الحق ، مع العلم بأنه تعالى ينهى عن المكر والإجرام ، ويعاقب عليهما ، فما هو التأويل؟.

الجواب : ان القصد من هذه النسبة اليه جل ثناؤه هو الاشارة إلى أن مشيئة الله قضت بأن تقوم السنن الاجتماعية على أساس التناقض بين المحقين والمبطلين ، بين أرباب السلطان المعتدين ، وبين الناس المعتدى عليهم ، ولا مفر من هذا التناقض والصراع إلا بالقضاء على المجرمين ، ولا بد أن يتم ذلك ، وتعلو كلمة الحق على أيدي دعاة العدل والصلاح ، مهما تضخم الباطل واستطال ، وقد سجل سبحانه ذلك في كتابه ، حيث قال عز من قائل : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ـ ٤٣ فاطر. ان هذا التكرار تأكيد قاطع بأن العاقبة للمتقين على المجرمين ، مهما طال الزمن ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ). اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على قولين : الأول ان أكابر المجرمين من العرب اقترحوا على محمد (ص) أن يأتيهم من المعجزات مثل ما أوتي موسى من فلق البحر ، وعيسى من إحياء الموتى. القول الثاني : انهم قالوا له : لن نؤمن حتى ينزل علينا الوحي كما نزل على الأنبياء. وقال الرازي : هذا القول مشهور بين المفسرين. ونحن نرجحه على الأول لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث رد سبحانه على أكابر المجرمين بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). بالاضافة إلى أن طلبهم أن ينزل الله الوحي عليهم يتلاءم مع حسدهم لرسول الله.

٢٥٩

قال تعالى في الآية ٥٤ من سورة النساء : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وفي مجمع البيان وغيره ، ان الوليد بن المغيرة قال للنبي (ص) : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا.

ومعنى قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) واضح ، وهو انه تعالى يختار لرسالته من يصلح لها من خلقه ، ومحمد أكرم خلق الله وأشرفهم.

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) لأنهم استعلوا وتعاظموا ، فاستحقوا الجزاء بالاحتقار والاذلال ، وفي بعض الروايات : ان المتكبرين يحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم جزاء على تعاظمهم في الدنيا (وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ). فالصغار جزاء التكبر ، والعذاب جزاء المكر والخداع ، وبكلمة ان الله سبحانه يعامل أرباب النوايا الخبيثة ، والأهداف الفاسدة بعكس ما يقصدون ويهدفون.

يشرح صدره للاسلام الآة ١٢٥ ـ ١٢٧ :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))

اللغة :

الحرج أضيق الضيق. ودار السلام هي دار السلامة من المنغصات والكروب ، والمراد بها هنا الجنة. والولي من يتولى الأمور.

٢٦٠