التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

وقال العلامة الحلي المتكلم : كل موجود سوى الله فهو ممكن مستند اليه ، فيكون عالما به ، سواء أكان جزئيا أم كليا ، وسواء أكان موجودا قائما بذاته أم عرضا قائما بغيره ، وسواء أكان في الأعيان أم في الأذهان ، لأن وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضا ، فيستند اليه ، وسواء أكانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي ، أم عدمي ممكن أم ممتنع ، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات ولا من الممتنعات.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ). الوفاة والموت بمعنى واحد في مفهوم العرف ، وهو عدم الحياة ، وتستعمل كل من الكلمتين في النوم مجازا ، لأن الحواس تتعطل عن أعمالها بسببه ، ومنه قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ـ ٤٢ الزمر ، أي ان الله يقطع صلة الأرواح بالأبدان ظاهرا وواقعا حين الموت ، ويمسكها عنده ، ويقطع هذه الصلة ظاهرا لا واقعا حين النوم ، وعند اليقظة ترجع الصلة كما كانت وتبقى إلى الوقت المضروب للموت الحقيقي .. فالنائم ميت وحي في آن واحد ، والمراد بالوفاة في الآية الموت المجازي ، قال الإمام علي (ع) : تخرج الروح عند النوم ، ويبقى شعاعها في الجسد ، وبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح بأسرع من لحظة.

(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ). يريد ما كسبت جوارحكم من أعمال (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ). ضمير فيه يعود إلى النهار ، ومعنى يبعثكم يوقظكم من النوم. وقال المفسرون : إن هذا الكلام دليل على صحة البعث والقيامة ، لأن النوم يشبه الموت ، واليقظة تشبه الحياة بعده. (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر في ليلكم ونهاركم.

والخلاصة ان كل إنسان يموت بانتهاء أجله المكتوب ، ثم يبعثه الله بعد الموت ، تماما كما يوقظه من النوم ، ثم يجزي يوم البعث كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون.

وإذا قال قائل : لما ذا خصت الآية النوم بالليل ، والعمل بالنهار ، مع ان الإنسان قد ينام نهارا ، ويعمل ليلا؟ قلنا له : إن الآية وردت مورد الغالب.

٢٠١

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ). وكفاهم قهرا ان يأتوا إلى هذه الحياة مسيرين ويتركوها مكرهين .. قال الإمام علي (ع) : لا شيء إلا الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها.

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً). وهؤلاء الحفظة من الملائكة ، قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ـ ١٣ الانفطار. ونحن نؤمن بذلك ، لأن الوحي أخبر عنه ، والعقل لا يأباه ، ولم يرد في كلام الله ، ولا في كلام الرسول بيان لصفة الكاتب والكتابة ، والعقل لا يلزم بالبحث والسؤال عنهما ، فندعهما لعلم الله تعالى. أما من شبّه الملائكة الكاتبين برجال البوليس السري ، كما في تفسير المنار والمراغي ، أما هذا التشبيه فهو من قياس الغيب على الشهادة ، والسماء على الأرض ، مع وجود الفارق البعيد.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ). وتجد تفسيره في قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ـ ١١ السجدة ، وهذا أيضا من الغيب الجائز عقلا ، الثابت وحيا ، تماما كالحفظة الكاتبين. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ليقضي فيهم بحكمه (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب ويحكم وينفذ في أقصر أمد ، لأن الحق جلي ، والحكم مبرم ، والجزاء معد ، وكل شيء يتم بمجرد الارادة.

قل من ينجيكم الآة ٦٣ ـ ٦٧ :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً

٢٠٢

وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

اللغة :

المراد بالظلمات هنا الشدائد والأهوال ، يقال لليوم الذي فيه شدة يوم مظلم. ولبس عليه الأمر إذا لم يبينه ، وخلط بعضه ببعض. والشيع الفرق ، وكل فرقة شيعة على حدة. والفقه فهم الشيء بدليله. والمستقر مكان استقرار الشيء أو زمانه.

الاعراب :

جملة تدعونه حال من مفعول ينجيكم. وتضرعا مصدر في موضع الحال ، أي متضرعين. ومن فوقكم متعلق بمحذوف صفة لعذاب. وشيعا حال من مفعول يلبسكم. وكيف مفعول نصرف. وبوكيل الباء زائدة ، ووكيل خبر ليس ، وعليكم متعلق بوكيل. ولكل خبر مقدم ، ومستقر مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً). ظلمات البر والبحر كناية عما يلاقيه الإنسان من الشدائد والآلام في حله وترحاله برا وبحرا ، ونعطف عليهما جوا بعد أن صرنا في عصر الفضاء ، وهو أكثر خطرا من البر والبحر ، والمعنى : سل أيها الرسول المشركين والجاحدين ، سلهم : لمن

٢٠٣

يلجئون في ساعة العسرة ، ويتضرعون في سرهم وعلانيتهم ، هل يلجئون الى الله ، أو إلى من يعبدون من دونه؟.

وقلنا عند تفسير الآية ٤١ من هذه السورة : ان الفطرة تدرك خالقها تلقائيا ، ولكن حجاب التقليد والأهواء يمنع شعاعها عن العيان ، وعند الشدائد يتقشع هذا الحجاب ، وينطق الإنسان بفطرته النقية الصافية. ولا أحد ينجو من هذه الشدائد كائنا من كان ، حتى المعافى يخشى الغوائل ، ويخاف من سوء العاقبة إذا كان عاقلا ، قال الإمام علي (ع) : ما المبتلى الذي اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء.

(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). أي انهم يخلصون لله وحده عند الشدة والخوف ، ويقطعون العهود على أنفسهم أن يوحدوا الله ويشكروه إذا أنجاهم من ظلمات البر والبحر ، فإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا وبغوا ، وقد أثبت العلم ان ضعف الشخصية والارادة يتكيف مع الظروف ، تماما كالماء يتلون بلون الإناء.

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) فكان عليكم أن تعظموا نعمة الله وتشكروها (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ولكنكم بعد أن أنعم عليكم بالنجاة بدلتم نعمة الله كفرا وشركا.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كالصواعق والطوفان (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسوف والزلازل (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أي يخلطكم أو يجعلكم أحزابا متطاحنة لا تقوم لكم معها قائمة ، أو يجعل الواحد منكم في حرب وخصام مع نفسه يرضى مساء عما غضب عليه صباحا ، وبالعكس ، فتضطرب حاله ، ولا يستقيم له أمر (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). أي يقتل بعضكم بعضا (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). ان الله سبحانه يقيم للناس الحجج والدلائل الواضحة على الحق من الحس والعقل والوجدان ، ويضرب الأمثال من هذه بشتى الأساليب ، ليعرفوا الحق فيتبعوه ، والباطل فيجتنبوه ، ومن خالف قامت عليه الحجة ، واستحق العذاب.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ). الخطاب للنبي (ص) ، وضمير به يعود

٢٠٤

إلى القرآن الناطق بالدلائل والبينات ، وبعذاب من كذّب بها (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). بل بشير ونذير يبلغ ما أرسل به ، ويترك أمر الحساب والعقاب لله وحده.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ). يجوز أن يكون المستقر موضع استقرار الشيء ، أو وقت استقراره ، والمعنى ان لكل خبر يخبره الله زمانا أو مكانا بقع فيه من غير خلف (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أوان وقوعه ، وفيه تهديد ووعيد على تكذيب الحق.

حتى يخوضوا في حديث غيره الآية ٦٨ ـ ٧٠ :

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

اللغة :

خاض في الماء دخل فيه ، وخاض في الحديث استرسل في قول الباطل.

٢٠٥

والذكرى تستعمل في التذكر ، وهو المراد من (بَعْدَ الذِّكْرى) وتستعمل في التذكير ، وهو المراد من (وَلكِنْ ذِكْرى). والبسل الحبس والمنع ، يقال شجاع باسل ، أي يمنع نفسه ويحبسها عن خصمه ، وان تبسل نفس ، أي تحبس وترتهن بما كسبت. وان تعدل العدل بمعنى الفداء. والحميم الشديد الحرارة.

الاعراب :

الضمير في غيره يعود إلى معنى الآيات ، وهو القرآن. ومن شيء من زائدة ، وشيء مبتدأ وخبره على الذين ، ومن حسابهم متعلق بمحذوف حالا من شيء ، والتقدير شيء كائنا من حسابهم ، وضمير حسابهم يعود إلى الخائضين الذين دل عليهم يخوضوا ، وذكرى مفعول مطلق ، أي ذكروا تذكيرا. ودينهم مفعول أول لاتخذوا ، ولعبا مفعول ثان. والدنيا صفة الحياة. وتسبك ان وتبسل بمصدر مفعولا من أجله لذكر به. وولي اسم ليس ، ولها خبرها ، ومن دون الله في موضع الحال من ولي. وكل عدل مفعول مطلق ، لأن كلا تعطى ما تضاف اليه. وأولئك الذين أبسلوا مبتدأ وخبر ، وجملة لهم شراب حال من الواو في أبسلوا.

المعنى :

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). مر تفسيره في الآية ١٣٩ من سورة النساء.

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). الخطاب للنبي ظاهرا ، والمقصود غيره واقعا ، لأن النبي معصوم عن المعصية والخطأ والنسيان ، والا لم يكن قوله وفعله وتقريره حجة بالغة ، ودليلا قاطعا ، لا يقبل الجدال والنقاش.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

٢٠٦

أي ليس على المؤمنين المتقين شيء من تبعة الكافرين الذين يخوضون في آيات الله ولكن يذكّرونهم وينهونهم لعلهم يجتنبون الخوض في آياته تعالى.

أما الآية التالية ففيها أمور :

١ ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وذر الأمر موجه ظاهرا للنبي ، وواقعا له ولمن تبعه من المؤمنين ، أمرهم الله سبحانه أن يتركوا معاشرة الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، ولم يأمرهم بإهمالهم وعدم إنذارهم ، لأن قوله تعالى : (وَذَكِّرْ بِهِ) أمر بالإنذار.

وكل من انتسب الى دين من الأديان ، ولم يحترم ويقدس جميع مبادئه وأحكامه فقد اتخذ دينه لعبا ولهوا ، فمن تكسّب بالدين ، أو وصف حكما من أحكامه بما يدعو إلى الهزء والسخرية فهو من المعنيين بقوله تعالى : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً). وليس من شك ان من لا يدين بدين خير ممن ينتسب الى دين يهزأ بأحكامه ومبادئه ، لأن هذا في واقعه قد اتخذ اللعب واللهو بالدين دينا له.

٢ ـ (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ). بعد أن أمر سبحانه النبي والمؤمنين أن لا يعاشروا الذين اتخذوا دينهم لعبا ، أمرهم أن يذكّروا بالقرآن أولئك الذين يخوضون في آيات الله ، ويتلاعبون بالدين كيلا يؤخذوا بما كسبت أيديهم من الجرائم والآثام في يوم لا يجدون فيه فيه ناصرا ينصرهم من دون الله ، ولا شفيعا يشفع لهم عند الله (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها). العدل هنا الفدية ، والمعنى انه كما لا يجد الكافر وليا ولا شفيعا يوم القيامة كذلك لا تقبل منه الفدية بالغة ما بلغت ، قال الرازي : إذا تصور الإنسان كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله.

٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ). أولئك اشارة إلى الذين اتخذوا دينهم لعبا ، وأبسلوا بما كسبوا ، أي صاروا مرتهنين بأعمالهم ، أما قوله : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) فهو بيان للعقاب على كفرهم وعصيانهم.

٢٠٧

قل اندعوا من دون الله الآية ٧١ ـ ٧٣ :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

اللغة :

الأعقاب جمع عقب ، وهو مؤخر الرجل ، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة : نكص أو ارتد على عقبيه. والحيران التائه الذي لا يدري ما يصنع؟. والصور في اللغة القرن ، وقد ثقب الناس قرون الوعول وغيرها ، وجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها.

الإعراب :

كالذي الكاف بمعنى مثل في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي نرد ردا مثل رد الذي استهوته. وحيران حال من ضمير استهوته. وله أصحاب مبتدأ وخبر ، والجملة صفة لحيران. ولنسلم اللام بمعنى كي ، وان مضمرة

٢٠٨

بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور بها متعلق بأمرنا ، والتقدير أمرنا بذلك للإسلام. وان أقيموا الصلاة عطف على لنسلم. ويوم يقول يوم منصوب بمعنى (قَوْلُهُ الْحَقُ). وفاعل كن فيكون ضمير مستتر يعود على الشيء المحذوف ، أي يقول للشيء كن فيكون. وعالم الغيب خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب ، ويجوز أن يكون صفة للذي خلق السموات والأرض.

المعنى :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) دعا الرسول الأعظم (ص) المشركين الى عبادة الله ، فدعوه بدورهم الى عبادة أصنامهم ، وقيل : اقترحوا عليه أن يعبد معهم آلهتهم ، ويعبدوا معه ربه لقاء عبادته لأصنامهم ، ومهما كان ، فإن الله سبحانه أمره في هذه الآية ان يقول لهم مستنكرا : كيف نترك عبادة الله النافع الضار الى عبادة ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ). الرد على الأعقاب كلمة تقال لمن يرجع القهقرى ، ولا أحد أكثر تأخرا ، ورجوعا إلى الوراء ممن أعرض عن الحق الى الباطل ، وعن التوحيد الى الشرك.

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا). هذا مثال ضربه سبحانه لمن أعرض عن التوحيد الى الشرك أو الإلحاد ، ويتلخص بأن مثل هذا كمثل رجل كان مع قافلة تسير على طريق الأمن والسلامة فتركها ، وهام على وجهه في الفلوات ضالا ، لا يهتدي إلى شيء ، تماما كالذي يتخبطه الشيطان من المس ، فأشفق رفاقه عليه ، ونادوه : هلم إلينا .. هذا هو طريق النجاة ، ولكنه لم يستجب لذهوله وحيرته ، فكانت نهايته الوبال والهلاك.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى). هذا التركيب البياني يفيد ان هدى الله لا يتطرق اليه الشك ، كما يفيد حصر الهداية بالله وحده في كل شيء ، في العقيدة والتشريع والأخلاق والأوضاع .. وأية عقيدة أو فكرة ، أو أي عمل لا يلتقي مع هدى الله فهو جهالة وضلالة (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). هذا من باب

٢٠٩

ذكر الخاص بعد العام ، لأن هدى الله يدخل فيه كل ما أمر الله به ، ونهى عنه ، والقصد من ذكر الإسلام بالخصوص التنبيه الى عظمته (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ). إذ لا هداية ، بل ولا اسلام إلا بها ، فإنها عمود الدين ، ان قبلت قبل ما سواها ، وان ردت رد ما سواها ، واتقوه : الضمير يعود إلى رب العالمين ، وأمر سبحانه بالتقوى بعد الأمر بالصلاة ، لأنه لا صلاة ولا إيمان صحيحا بلا تقوى ، فعبادة الله حقا هي السير على منهاجه ، وطاعته في جميع أحكامه ، لا في بعض دون بعض.

(وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ـ ٢١ ق ، سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بما أعدت لهذا اليوم.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ). الحق هنا إشارة إلى أن للكون قوانين تحكمه ، وسننا يسير عليها باطراد ، تحول دون الفوضى التي لا يستقيم معها شيء على الإطلاق .. وفي هذا دلالة بالغة على وجود من يدبر الأمر ، ويجزي كل نفس بما كسبت.

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ). في الكلام حذف وتقديم وتأخير ، وأصله هكذا : وقوله الحق يوم يقول للشيء كن فيكون ، ومعناه ان قول الله واقع لا محالة ، ويظهر ذلك جليا واضحا للعيان يوم يقول للشيء كن فيكون ، سواء أقال هذا القول يوم بدأ الخلق ، أم يوم يعيده ، وبكلمة : ان قول الله عين فعله في إيجاد الشيء من لا شيء ، وفي إعادته إلى ما كان عليه بعد انحلاله وتفرق أجزائه (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ). والنفخ في الصور كناية عن بعث من في القبور ، ومعنى ملكه لهذا البعث انه هو الذي يعيد الموتى إلى الحياة.

مع أهل التصوف :

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ). الغيب هو الشيء الخفي المستور ، كالملائكة والبعث وما يضمره الإنسان في نفسه ، والشهادة ما كان ظاهرا كالأرض والسماء ، وما

٢١٠

يفعله الإنسان علانية ، وهذا التقسيم صحيح بالنسبة إلى الإنسان ، أما بالنسبة اليه تعالى فلا غيب عنه ، لا في الأرض ولا في السماء.

أجل ، ان أهل التصوف يدعون لأنفسهم الكشف عن الغيب ، قال ابن العربي في الفتوحات المكية ، الباب الثاني وثلاثمائة : إن لأهل الله أعينا يبصرون بها ، وآذانا يسمعون بها ، وقلوبا يعقلون بها ، وألسنة يتكلمون بها غير هذه الأعين والآذان والقلوب والألسنة ؛ فبتلك الأعين يشهدون ، وبتلك الآذان يسمعون ، وبتلك القلوب يعقلون ، وبتلك الألسن يتكلمون ، فكلامهم مصيب .. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وحده لا شريك له في تدبير الخلائق على مقتضى حكمته ، وفي العلم بالخفايا والأسرار .. فليتق الله من يزعم ان له قلبين ولسانين وأربعة أعين ومثلها من الآذان.

ابراهيم مع ابيه وقومه الآية ٧٤ ـ ٧٩ :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

٢١١

اللغة :

ملكوت الله سلطانه وعظمته. وجنه الليل ستره. والأفول غياب الشيء بعد ظهوره. وبزوغ الشيء ابتداء طلوعه. وفطر السموات والأرض أخرجهما الى الوجود على غير مثال سابق. والحنيف المائل عن الضلال.

الإعراب :

وإذ قال ابراهيم ، أي اذكر إذ قال. وآزر بدل من أبيه ، وهو ممنوع من الصرف لوزن الفعل والعجمة أو العلمية. وكذلك الكاف بمعنى مثل في محل نصب مفعولا مطلقا لنري ابراهيم ، أي نري ابراهيم مثل ما رأى أباه وقومه. وليكون الواو للاستئناف ، ويكون منصوبة بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك مجرور باللام ، ومتعلق بفعل محذوف ، والتقدير ولجعله من الموقنين أريناه. وبازغا حال من القمر ، ولا يصح أن يكون مفعولا ثانيا لرأى ، لأن الرؤية هنا بصرية ، وليست قلبية ، ومثله بازعة.

المعنى :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ظاهر الآية يدل صراحة على ان آزر أب حقيقي لإبراهيم الخليل (ع) وانه كان مشركا يعبد الأصنام ، وان ابراهيم نهاه عن الشرك ودعاه إلى التوحيد .. هذا هو مدلول الآية الذي يتبادر إلى فهم العالم والجاهل على السواء ، من غير شرح وتفسير ، ومع هذا فقد أطال المفسرون الكلام واختلفوا : هل آزر أب حقيقي لإبراهيم ، أو أب مجازي؟ وهذا الاختلاف يتفرع عن اختلاف آخر هو : هل جميع آباء محمد (ص) وأجداده يجب أن يكونوا موحدين ، ولا يجوز أن يكون فيهم مشرك واحد ، أو يجوز أن يكون فيهم المشرك والموحد؟ وبعض العلماء ألفوا رسائل خاصة في ذلك.

٢١٢

قال الشيعة : جميع آباء محمد وأجداده موحدون لحديث : ما زلت انتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ، حتى أخرجني الله إلى عالمكم هذا. وقالوا : الأب الحقيقي لإبراهيم اسمه تارح ، وان آزر أخو أبيه ، أو جده لأمه ، وأطلق عليه لفظ الأب مجازا (١). وقال الألوسي في تفسيره : وعلى هذا جم غفير من السنة ، أي انهم يقولون بمقالة الشيعة.

ولكن صاحب تفسير المنار والرازي قالا : ان السنة لا يوافقون الشيعة على رأيهم هذا ، ويجيزون أن يكون في أجداد النبي مشرك أو ملحد .. وظاهر القرآن مع السنة ، بخاصة قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ـ ٤٢ مريم.

وعلى أية حال ، فلا جدوى من هذا النزاع ، وبسط الكلام فيه تكثير له من غير طائل ، لأنه لا يمت إلى عقيدة الإسلام بصلة ، فإن المطلوب من المسلم الإيمان بنبوة محمد (ص) وعصمته ، وأنه سيد الأنبياء وخاتمهم ، أما الإيمان بأن جميع آبائه وأجداده موحدون ، وانه آزر عم ابراهيم لا أبوه ، أما هذا فليس من عقيدة الإسلام في شيء.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). المراد بكذلك ان الله سبحانه كما كشف لإبراهيم عن ضلال قومه في عبادتهم الأصنام فقد كشف له أيضا عن عجائب السموات والأرض ليستدل ببديع نظامهما وغريب صنعهما على وجود الله ووحدانيته وعظمته (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فيؤمن عن حجة ودليل ، وتدل هذه الآية على أمرين :

الأول : ان عقيدة الإسلام تقوم على حرية الرأي والعقل ، لأن الله سبحانه ما أوجب الإيمان به إلا بعد أن أقام الدليل عليه ، ودعاهم الى النظر فيه.

الثاني : ان الدليل الذي أقامه على وجوده ميسور وسهل على جميع الافهام

__________________

(١). لقد تواتر ان عبد المطلب جد النبي (ص) حلف إذا رزق عشرة بنين أن يضحي بواحد منهم ، وان السهم خرج على عبد الله أبي محمد (ص) ، وهذا يتنافى مع القول : ان جميع أجداد النبي كانوا على دين ابراهيم.

٢١٣

لا يحتاج الى جهد ، ولا إلى علم وفلسفة ، فيكفي أن ينظر الإنسان إلى عجائب الكون والنظام الذي يحكمه ليهتدي إلى خالقه وصانعه المبدع.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي). كان قوم ابراهيم يعبدون الكواكب من دون الله ، فأراد أن يستدرجهم إلى الحق ، ويلفتهم الى منطق العقل والفطرة برفق ولين ، فانتظر حتى جن عليه الليل ، وستر الأرض بظلامه ، ورأى كوكبا مما يعبدون ، فقال محاكاة لزعمهم : هذا ربي. فاطمأنوا اليه ، ولما أفل الكوكب وغاب تحت الأفق أيقظ عقولهم ، ولفت نظرهم إلى أن الآلهة لا تتقلب وتتغير ، ولا يحجبها شيء.

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ) استدراجا لهم واستهواء لقلوبهم : (هذا رَبِّي) لأنه أسطع نورا وأكبر حجما من الأول (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ، يشير إلى أنه غير مطمئن النفس لهذه الكواكب ، وانه لم يهتد بعد الى الطريق ، وطلب من الله أن ينقذه من هذه الحيرة.

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). لقد مضت التجربة الأولى والثانية والثالثة ، وبقي الشك كما كان ، اذن ، لا بد من البراءة من عبادة الكواكب ، لأنها لا تستأهل العبادة ، ولا تستحق الإكبار ، وبعد أن أعلن البراءة من آلهتهم توجه بقلبه إلى خالق الكون ، وقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذه هي النتيجة الحتمية للنظرة الفاحصة ، والتفكير الحنيف في أي شيء من أشياء هذا الكون ، نظرة واحدة لا غير بتجرد وتدبر إلى أية صورة من صور هذا العالم تؤدي حتما إلى اليقين الجازم بأن الله وحده هو فاطر السموات والأرض.

اتحاجوني في الله الآية ٨٠ ـ ٨٣ :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ

٢١٤

بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

اللغة :

تطلق الحجة على الدليل المثبت للحق ، وتطلق على ما يحتج به المدعي على اثبات دعواه ، أما المحاجّة فهي المجادلة والمبالغة في اقامة الحجة. والسلطان البرهان. ولم يلبسوا لم يخلطوا.

الاعراب :

ما تشركون به ضمير به يعود إلى الله. وتسبك ان يشاء ربي بمصدر في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، أي لا أخاف إلا مشيئة الله. وعلما تمييز. وكيف تكون خبرا للمبتدإ إذا وقعت قبل ما لا يستغنى عنه نحو كيف أنت ، وحالا أو مفعولا مطلقا إذا كانت قبل ما يستغنى عنه ، كما في الآية ، وعليه يكون محلها النصب على انها مفعول مطلق على معنى أي خوف أخاف ، أو حال أي على أي حال أخاف والذين آمنوا مبتدأ أول ، وأولئك مبتدأ ثان ، والأمن مبتدأ ثالث ، ولهم خبره ، وهو مع خبره خبر الثاني ، وهذا مع خبره خبر الأول. وتلك حجتنا مبتدأ وخبر. وجملة آتيناها حال. ودرجات مجرورة بإلى محذوفة.

٢١٥

المعنى :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) بعد أن أورد ابراهيم (ع) على قومه الحجة الدامغة من منطق العقل والفطرة ، وأثبت به فساد عبادتهم للأوثان والكواكب ، بعد هذا أوردوا عليه حججهم الواهية ، وقالوا له فيما قالوا : (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) وخوفوه من بطش آلهتهم به ، فأجابهم ابراهيم (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ). أي ما هذا الحجاج في الله ، وقد هداني إلى معرفته من نفسي ومن الكون ، وتقدم في الآية ٧١ (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) الذي لا يتطرق اليه الشك ، وان ما عداه جهالة وضلالة.

أما التخويف من آلهتهم فقد أجاب عنه بقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) من دون الله ، لأنه لا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ولا يسمع (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) وذلك بأن يسقط الله صنما على رأسي يشجه ، أو كسفا من شهب الكواكب يحرقني .. اذن ، فيجب أن أخاف من الله وحده ، لا من الأصنام والكواكب. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا أخاف أن يصيبني مكروه من غير علمه وارادته (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ان آلهتكم ليست بشيء ، وان الله وحده هو الضار النافع ، لأنه خالق كل شيء.

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً). المراد بما أشركتم الأوثان والكواكب التي يعبدون ، والمراد باشركتم بالله جعلهم لله شركاء ، والمعنى أتريدونني أن أخاف آلهتكم المخلوقة العاجزة ، وأنتم لا تخافون زعمكم وجعلكم لله شركاء .. هذا الزعم الذي هو افتراء محض ، لا حجة له ، ولا دليل عليه! .. وبتعبير أوضح ان ابراهيم قال لهم : أتخوفونني مما لا حول له ولا قوة ، وتأمنون أنتم ، وقد افتريتم واعتديتم على من له القوة والعزة جميعا! ..(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الفريق الذي يؤمن بالله القوي العزيز ، ويكفر بالشريك الضعيف ، أو الفريق الذي يؤمن بالضعيف الذليل ، ويكفر بالقوي العزيز! ..

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). هذا بيان للفريق الناجي من الفريقين ، وانهم الذين أخلصوا لله في إيمانهم ولم يخلطوا

٢١٦

بهذا الايمان شركا في عقيدة ، ولا في طاعة هوى مخلوق كائنا من كان. هؤلاء وحدهم هم الآمنون المهتدون.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ). أي ان تلك الحجج الدامغة التي أفحم بها ابراهيم قومه ـ نحن ألهمناه إياها .. وفي هذه الآية دلالة واضحة على ان الأنبياء ، ومن اهتدى بهديهم من العلماء هم لسان الله وبيانه ، وان الراد عليهم راد على الله بالذات ، كما جاء في الحديث. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) تجد تفسيره في قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ـ ١١ المجادلة. فالسبب لرفعة الإنسان عند الله هو الايمان والعلم ، ولكل منهما درجات ، رفيع وأرفع ، وقد بلغ ابراهيم (ع) أرفعها ، حتى صار للرحمن خليلا (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) حكيم منزه عن العبث والشهوة ، عليم بما يستحقه كل انسان من المراتب والدرجات.

ووهبنا له اسحق ويعقوب الآية ٨٤ ـ ٩٠ :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

٢١٧

فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

الإعراب :

كلا هدينا كلا مفعول هدينا. ونوحا مثله. وضمير ذريته يعود إلى نوح ، لأنه أقرب ذكرا من ابراهيم ، ولأن من جملة الأنبياء الآتية أسماؤهم لوط ، وهو ابن أخي ابراهيم ، وليس من ذريته. وداود مفعول لفعل محذوف ، أي ومن ذريته هدينا داود وسليمان الخ. وكذلك بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف ، أي ونجزي جزاء مثل ذلك. وكل من الصالحين مبتدأ وخبر ، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب. وكلا مفعول لفضلنا. ومن آبائهم عطف على كلا ، أي وفضلنا كلا من آبائهم. والباء في بكافرين زائدة ، وكافرين خبر ليسوا. وبهداهم متعلق باقتده ، والهاء في اقتده للوقف ، وتسمى هاء السكت.

المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآيات ١٨ نبيا بما فيهم ابراهيم ، وأشار إلى بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، ووصف الجميع بالإحسان والصلاح والهداية ، وانه تعالى منّ على الأنبياء المذكورين بالحكمة والنبوة ، ومنّ على بعضهم بتنزيل الكتاب ، والقصد من ذلك أن يحتج محمد (ص) على العرب بأن جدهم ابراهيم وكثيرا من أبنائه كانوا موحدين ، وأيضا أن يتخذ الرسول الأعظم ممن تقدمه من الأنبياء قدوة في الدعوة إلى الله ، والصبر على الأذى في سبيلها. هذا ملخص ما تضمنته الآيات السبع ، وهي واضحة لا تحتاج إلى التطويل في البيان والشرح ، ولكن

٢١٨

بعض المفسرين أبى إلا التطويل ، فخرج عن موضوع التفسير إلى ما لا يمت اليه ولا إلى الحياة بصلة.

وتجدر الإشارة إلى أن أسماء الأنبياء المذكورين في الآيات لم تأت على حسب الترتيب في الزمان أو الفضل ، كما انهم ذكروا على سبيل المثال ، دون الحصر.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) الضمير في (لَهُ) يعود الى ابراهيم ، واسحق ابنه لصلبه مباشرة ، وامه سارة ، ويعقوب ابن اسحق ، وابن الابن ابن ، قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ـ ٧١ هود. (كُلًّا هَدَيْنا) من اسحق ويعقوب (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) لأنه أقدم من ابراهيم ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير عائد الى نوح لأنه أقرب في الذكر ، وقيل : إلى ابراهيم. (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) أي وهدينا هؤلاء كما هدينا نوحا واسحق ويعقوب (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لأن الله سبحانه يجزي المحسن بالحسنى ، نبيا كان أو غير نبي ، كما يجزي المسيء بعمله أبيض كان أو أسود.

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) وهؤلاء أيضا ممن هداهم الله (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وكل من استغل مواهبه لخيره وخير الناس فهو صالح ، ومصلح أيضا.

الحسن والحسين ابنا رسول الله :

قال الرازي في تفسير هذه الآية : انها تدل على ان الحسن والحسين من ذرية رسول الله (ص) لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية ابراهيم ، مع انه لا ينتسب الى ابراهيم إلا بالأم ، فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله ، وان انتسبا اليه بالأم .. ويقال : ان أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج ابن يوسف.

وقال صاحب تفسير المنار : أقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا : ان ابني هذا سيد يعني الحسن ، ولفظ ابني لا يجري عند العرب على أولاد البنات ، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا :

٢١٩

وكل ولد آدم فان عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فاني أنا أبوهم وعصبتهم وقد جرى الناس على هذا ، فيقولون في أولاد فاطمة أولاد رسول الله (ص) وأبناؤه وعترته وأهل بيته.

ومعنى هذا الكلام ان ولد فاطمة (ع) ليسوا أبناء رسول الله (ص) لغة ، ولكنهم أبناؤه شرعا لقول الرسول : أنا أبوهم وعصبتهم وأيضا هم أبناؤه عرفا ، لأن الناس قد جروا على القول : ان ولد فاطمة هم أولاد رسول الله وابناؤه وعترته وأهل بيته .. وقد أجمع علماء السنة والشيعة قولا واحدا على ان الشرع في مداليل الألفاظ مقدم على العرف واللغة ، وان العرف مقدم على اللغة ، لأن الحكيم يخاطب الناس بما يتبادر الى افهامهم ، لا بما هو مسطور في قواميس اللغة ، فإذا أوردت كلمة في آية أو رواية ، ووجدنا لمعناها تفسيرا خاصا في كتاب الله أو السنة النبوية فتحمل الكلمة على هذا المعنى الخاص ، ويسمى بالمعنى الشرعي ، ويهمل المعنى اللغوي والعرفي ، وإذا لم نجد لها تفسيرا في الكتاب والسنة فتحمل على ما يفهمه الناس منها ، ويسمى بالمعنى العرفي ، فإن لم يفهم الناس منها معنى معينا فتحمل على المعنى الموجود في قواميس اللغة.

وعلى هذا يأتي المعنى الشرعي في الدرجة الأولى ، والعرفي في الثانية ، واللغوي في الثالثة ، وقد ثبت شرعا وعرفا ان الحسن والحسين ابنا رسول الله فيتعين ذلك ، وتهمل اللغة ، لأنها محكومة بالشرع والعرف.

أما السر في ان الحسن والحسين ابنا رسول الله ، مع انهما ليسا من أبنائه لغة ، أما هذا السر فيجده الباحث في صفات الحسنين وشمائلهما ، انها عين صفات الرسول الأعظم وشمائله .. وحسب الباحث من سيرة الحسن ان معاوية بن أبي سفيان لم يسعه الملك الذي كان فيه ، وفي الحسن عرق ينبض ، وحسب الباحث من سيرة الحسين ان يزيد بن معاوية ضاقت به الدنيا مع وجود الحسين ، كما ضاقت بأبيه معاوية من قبل ، مع وجود الحسن.

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً) هديناهم أيضا (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) في زمانه (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) من ، هنا للتبعيض ، أي وفضلنا البعض من كل صنف من هؤلاء ، لأن من ذرياتهم وإخوانهم كانوا

٢٢٠