التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

اللغة :

النبأ الخبر ذو الشأن العظيم. والنفق حفرة نافذة لها مدخل ومخرج. والسلّم الدرج مأخوذ من السلامة.

الاعراب :

قد نعلم مضارع بمعنى الماضي ، أي قد علمنا. وحتى بمعنى إلى ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور بها ، متعلق بصبروا. وفاعل جاءك محذوف ، والتقدير جاءك نبأ من نبأ المرسلين. وجواب (إِنْ كانَ كَبُرَ) فان استطعت. وجواب (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) محذوف أي فافعل. والموتى الواو للاستئناف والموتى مبتدأ وخبره جملة يبعثهم. ومن ربه متعلق بمحذوف صفة لآية.

المعنى :

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ). الخطاب للنبي (ص) ، وقد للتحقيق ، ونعلم بمعنى علمنا ، وضمير يقولون راجع إلى الذين كذبوا النبي (ص) ، أما الذي يقولون ، بل قالوه بالفعل فهو ما أشار اليه سبحانه في الآية ١٤ من الدخان : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). والآية ٢ من يونس : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) إلى غير ذلك من الآيات.

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). كل من حارب

١٨١

محقا ، لأنه على حق فقد حارب الحق بالذات ، وكل من استخف برسول ، لأنه يحمل رسالة المرسل فقد استخف بمن أرسله ، لا بشخص الرسول .. وكان مشركو مكة يسمون محمدا (ص) الصادق الأمين قبل الرسالة ، ولما جاءهم برسالة الله ، وأقام عليهم الحجة تصدوا لحربه ، وقالوا : ساحر مجنون .. فتكذيبهم له ، والحال هذه ، تكذيب لرسالة الله وآياته ، ولا شيء أدل على ذلك من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ـ ١٠ الفتح.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا). يقول سبحانه لنبيه : ان يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ، وأوذوا في سبيل رسالته ، فصبروا على الإيذاء ، حتى أتاهم النصر ، فاصبر أنت كما صبروا ، والله ينصرك كما نصرهم ..

هذا هو المحور الذي تدور عليه الحياة ، صراع بين الخير والشر ، والحق والباطل ، ومحال أن يناصر الحق مناصر ، ولا يلقى الأذى من أعداء الحق .. وأيضا لا ينتصر الحق إلا إذا وجد أنصارا يصبرون على الجهاد في سبيله ، ويدفعون ثمنه من أنفسهم وأهلهم وأموالهم ، سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ).

ولا أعرف عصرا بلغ فيه المبطلون من القوة كهذا العصر الذي نعيش فيه ، فقد أقاموا في كل بقعة قواعد للحرب ، وأوكارا للتخريب ، وتسلحوا بأشد الأسلحة فتكا ، وأكثرها دمارا ، وسيطروا على مقدرات الشعوب المستضعفة ، والبنوك والمصارف ، والصحف والمطابع ، ودور النشر والتوزيع إلا ما ندر ، حتى وجد المخلص الأمين نفسه معزولا منبوذا لا يستطيع أن ينشر مقالا حرا ، أو يذيع من وسائل الاذاعة كلمة حق ، أما الخائن فأين اتجه يجد الترحيب والإكبار.

(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ). أي لقد قصصنا عليك من قبل ما لاقى الأنبياء من أقوامهم ، وكيف صبروا على التكذيب والأذى ، وان النصر في

١٨٢

النهاية كان لهم على المكذبين ، وهذه السنة تجري عليك ، تماما كما جرت عليهم .. ولا مبدل لكلمات الله.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ). هذه الآية نظير قوله تعالى مخاطبا نبيه الأكرم : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ـ ٨ فاطر ، كل منهما تصور الحرقة والألم الذي كان الرسول الأعظم يعانيه من اعراض المشركين عن دعوته ، وكل منهما يهدف الى التخفيف والتسرية عنه صلى الله عليه وآله .. لاقى النبي من قومه ما يذهب بحلم الحليم ، فصبر واحتسب ، ولم يدع عليهم ، بل دعا لهم ، وقال : اللهم اغفر لقومي ، انهم لا يعلمون ومع ذلك كان يتألم ويتوجع لكفرهم ، فخاطبه الله بهذه الآية ليخفف عنه ، وييأس منهم ، ويصرف النظر عنهم ، ثم ينتظر قليلا ليرى كيف تكون عاقبة المكذبين.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى). قال الرازي : يدل هذا على انه تعالى لا يريد الايمان من الكافر ، بل يريد إبقاءه على الكفر.

ويلاحظ بأن هذا هو الظلم بعينه ، والله سبحانه ليس بظلام للعبيد ، والصحيح في معنى هذه الجملة ان الله سبحانه لا يريد أن يلجئ أحدا الى الايمان به ، بل يدع الخيار له بعد أن يقيم الحجة عليه بالدلائل والبينات ، ولو أراد الايمان من عباده بإرادة (كُنْ فَيَكُونُ) ما كفر واحد منهم ، ولكن شاءت حكمته تعالى أن يتدخل في شئون الناس كآمر وناصح ، لا كخالق وقاهر. وسبق التفصيل والتوضيح عند تفسير الآية ٢٦ من سورة البقرة ، فقرة التكوين والتشريع ح ١ ص ٧٢.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ). وكيف يكون الرسول الأعظم من الجاهلين ، وأخلاقه أخلاق القرآن؟. وإنما ساغ هذا الخطاب لأشرف الخلق ، لأنه من خالق الخلق ، لا من النظير والمثيل

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). هذه الآية نظير قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ـ ٨٠ النّمل ، والمعنى ان الذين تحرص على هداهم يا محمد لا يسمعون

١٨٣

منك سماع فهم وتدبر ، لأن حب الدنيا جعلهم كالموتى .. والموتى لا ينبغي أن يخاطبوا بشيء ، بل يتركوا وشأنهم إلى يوم القيامة ، حيث يرون العذاب الذي لا يجدون عنه مهربا.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). وتسأل : كيف قالوا هذا ، مع ان الله قد أنزل على محمد (ص) العديد من الآيات والبينات؟.

الجواب : ان المراد بالآية هنا المعجزة التي اقترحوها ، وجعلوها شرطا لإيمانهم بمحمد (ص) ، ولم يريدوا آية تقنع طالب الحق لوجه الحق ، ولو أرادوها لكانوا في غنى عن قولهم : لو لا نزل عليه آية (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) من النوع الذي اقترحوه ، ولكنه تعالى لا ينزلها تلبية للشهوات والأهواء ، وانما ينزل الآيات على ما تقتضيه حكمته جل وعلا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الله ينزل الآية حسب حكمته ، لا حسب أهواء الناس.

الدواب والطيور الآة ٣٨ ـ ٣٩ :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

اللغة :

الدابة كل ما يدب على الأرض من انسان وحيوان وحشرة. والأمم واحدها أمة ، وهي كل جماعة ذات خصائص واحدة ، والتفريط التقصير.

١٨٤

الاعراب :

و (ما مِنْ دَابَّةٍ مِنْ) زائدة ، و (دَابَّةٍ) مبتدأ ، والخبر (أُمَمٌ) ، و (أَمْثالُكُمْ) صفة ل (أُمَمٌ). (مِنْ شَيْءٍ مِنْ) زائدة و (شَيْءٍ) مفعول مطلق ل (فَرَّطْنا) ، لأنها واقعة موقع المصدر ، وهو التفريط. و (الَّذِينَ كَذَّبُوا) مبتدأ ، و (صُمٌ) خبر مبتدأ محذوف ، ومثله (وَبُكْمٌ) ، والتقدير بعضهم صم ، وبعضهم بكم ، والجملة خبر الذين. (فِي الظُّلُماتِ) متعلق بمحذوف خبرا ثانيا.

المعنى :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ). بيّن سبحانه في هذه الآية ان بيننا وبين الدواب والطيور نوعا من الشبه ، ولكنه لم يصرح بهذا النوع : هل تشبهنا الدواب والطيور في أنها مخلوقة لله ، أو في إيمانها به ، وتسبيحها بحمده ، أو في أنها أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ، كما تعرف الأسر والقبائل ، أو في تدبير معاشها ، وتصريف الأمور وفقا لمصالحها؟

وعلى أية حال ، فقد تفرغ كثير من العلماء لدرس طبائع الحيوانات والحشرات والطيور ، وغرائزها وأعمالها ، ووقفوا على أسرار غريبة تشهد بوجود مدبر حكيم ، نذكر منها على سبيل المثال ان الفيلة تعقد المحاكم للمخالفات التي تقع من بعضها ، وتصدر المحكمة حكمها على الفيل المذنب بالنفي عن الجماعة ليعيش وحيدا في عزلته.

والغراب إذا أحس بالخطر على الغربان أنذرها بصوت خاص ، أما في حال المرح فإنه يخرج صوتا قريبا من القهقهة.

وتسأل : ما هي الفائدة في قوله تعالى : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) مع ان كلمة طائر بذاتها تدل على ذلك؟.

الجواب : لا فائدة ـ فيما نعلم ـ سوى فصاحة الكلام.

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ). قيل : المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ المشتمل على ما كان ويكون ، وقول ثان : انه كناية عن علم الله بنوايا الإنسان

١٨٥

وأقواله وأفعاله ، وثالث : انه القرآن ، وان الله سبحانه بيّن فيه كل ما يجب بيانه للناس من أصول الدين وفروعه ، وما يتعلق بهما ، واخترنا هذا القول في ج ١ ص ٣٨ فقرة القرآن والعلم الحديث.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). ظاهر الكلام يدل على ان الله يحشر الدواب والطيور يوم القيامة ، تماما كما يحشر الناس ، وكذلك الآية ٥ من التكوير : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ). وقال كثير من العلماء بذلك استنادا الى ظاهر الآيتين ، وإلى حديث : «ان الله يقتص غدا للجماء من القرناء».

ونحن مع ابن عباس الذي قال : المراد بحشر البهائم موتها ، كما ورد في حديث : «من مات فقد قامت قيامته» لأن الحساب والعقاب إنما يكون بعد التكليف ، ومخالفته ، ولا تكليف إلا مع العقل ، ولا عقل للدواب والطيور فلا تكليف ، وبالتالي فلا حشر للحساب ، ولو حوسب الدواب لحوسب الأطفال بطريق أولى.

أما حديث «يقتص للجماء» فهو كناية عن عدل الله تعالى ، وانه لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها .. وإذا كان الله يعاقب القرناء إذا نطحت الجماء فبالأولى أن يحرم علينا ذبح الحيوان .. أما قول من قال : ان الله يعوض غدا الحيوان عن آلامه فهو قول على الله بغير علم.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ). أي انهم كالصم ، لأنهم لا يستمعون إلى دعوة الحق ، وهم كالبكم ، لأنهم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ، وهم في ظلمات التقليد ، وظلمات الشرك والكفر والفسق والآثام. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). تقدم الكلام عن الضلال والهداية عند تفسير الآية ٢٦ من البقرة ، فقرة «الهدى والضلال» ج ١ ص ٧٠ ، والآية ٨٨ من النساء فقرة «الإضلال من الله سلبي لا إيجابي».

قل أرأيتكم الاة ٤٠ ـ ٤٥ :

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ

١٨٦

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

اللغة :

البأساء من البؤس ، وهو المشقة. والبأس الشدة ، والمراد به هنا العذاب. والضراء من الضر ضد النفع. ومبلسون جمع مبلس ، وهو المتحسر الآيس. ودابر القوم آخرهم.

الإعراب :

أرأيتكم الصيغة للاستفهام ، والمعنى اخبروني ، والكاف حرف خطاب لا محل لها من الإعراب ، ومثلها أرأيتك وأ رأيتكما وأ رأيتكن. وغير مفعول تدعون. وكذلك إياه. وإذ ظرف منصوب بتضرعوا. وبغتة حال من فاعل أخذناهم على معنى مباغتين ، ويجوز من المفعول على معنى مبغوتين. فإذا هم مبلسون إذا للمفاجأة ، وهم مبتدأ ومبلسون خبر.

١٨٧

المعنى :

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). أمر الله سبحانه رسوله الكريم أن يقول للمشركين : اخبروني ان أتاكم عذاب الله كالذي نزل بالذين كذبوا رسلهم ، أو جاءكم الموت بسكراته والقيامة بأهوالها ، أتدعون في هذه الحال ما كنتم تعبدون من الأصنام والأوثان التي زعمتم انها تكشف عنكم الخزي والعذاب؟ والقصد من مجموع هذه الآية ان الكافرين يتبرءون غدا مما أشركوا ، ويلجئون إلى الله بعد أن يتبين لهم انه لا حول ولا قوة إلا به وحده لا شريك له.

الله والفطرة :

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ). بعد أن سألهم : أغير الله تدعون يوم الهول الأكبر قرر الجواب بقوله : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) وهذا هو الجواب الذي تؤمن به وتجيب دنيا وآخرة فطرة الله التي فطر الناس عليها .. وليس معنى فطرة الله ان الإنسان يدرك الخالق تلقائيا ومن غير دليل. كلا ، وإلا لم يكفر أحد بالله ، وإنما معنى هذه الفطرة ان الله أودع في الإنسان غريزة الاستعداد لتفهم الدلائل الدالة على وجوده ، وهذا الاستعداد لا يفارق الإنسان بحال ، ومن كفر فإنما يكفر مقصرا ومتهاونا بالاعراض عن النظر في الدلائل والبينات ، فاستحق العذاب لهذا الإهمال ، إذ لا فرق أبدا في نظر العقل بين من ترك العمل بعلمه متعمدا ، وبين من ترك الحق واتبع الباطل جهلا بهما ، مع قدرته على معرفتهما والتمييز بين الهدى والضلال ، ولكنه ترك تهاونا واستخفافا. أجل قد يحتجب هذا الاستعداد ، وهذا الإدراك الفطري وراء ستار من التقليد والتربية والشهوات ، تماما كما تحتجب الشمس وراء السحاب ، فيخيّل للجاهل المحجوب انه كافر بالله لعدم الدليل ، والدليل كامن في ذاته وفطرته التي فطره الله عليها. ويوم القيامة تزول الحجب الطارئة ، وتظهر الحقيقة واضحة للعيان ، ولا يبقى مجال للشك والإنكار.

(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ). ضمير اليه يعود الى الكشف ، وهو

١٨٨

مصدر متصيد من يكشف ، والمعنى انهم يدعون الله الى كشف العذاب عنهم : (اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ـ ١٢ الدخان ، والله سبحانه يكشف عنهم ان شاء ، وان لم يشأ لم يكشف (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي انكم أيها المشركون تتركون يوم القيامة دعوة الأصنام التي كنتم تعبدونها في الدنيا ، وتدعون الله وحده ، حيث يظهر كل شيء على حقيقته.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ). ان الله سبحانه لا يعاقب عباده إلا بعد أن يرسل اليهم رسولا يرشدهم الى طريق الهداية ، فإن لم يهتدوا منحهم الفرصة ليراجعوا أنفسهم ، وامتحنهم بالبلاء ليتضرعوا ويتوبوا ، ولكنهم أصروا على المعصية ، كما قال تعالى في الآية التالية :

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). يقول جل ثناؤه : انهم لم يتضرعوا حين جاءهم بأسنا في الدنيا ، ولم يتذللوا لله ، وينزلوا عن عنادهم ، بل أصروا على الكفر ، وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من ضلال وفساد.

وتدل هذه الآية على ان الله سبحانه يقبل كل من لجأ اليه ، حتى ولو كان التجاؤه لضغط الشدائد والنوازل .. وهذا هو شأن الكريم والعظيم ، لا يرد سائلا ولا يخيب أملا ، مهما كانت دوافعه.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ). أنذرهم أولا بالقول على لسان الأنبياء وثانيا بالفعل ، حيث امتحنهم بالبلاء والضراء ، ولما أصروا على الكفر والعناد فتح عليهم أبواب الرزق والرخاء لالقاء الحجة والاستدراج بالنعم بعد الامتحان بالنقم ، ولما فرحوا بالرخاء ، وازدادوا بطرا وكبرا ، ولم يأوبوا إلى رشد أخذهم الله بالعذاب ، من حيث لا يحتسبون ، فتحسروا على التفريط ، وآيسوا من النجاة.

والخلاصة ان الله سبحانه عاملهم بالضراء تارة ، وبالسراء أخرى حبا بهدايتهم تماما كما يفعل الوالد الشفوق بولده طلبا لصلاحه .. ولكنهم لم يشكروا الرخاء ، ولم يتعظوا بالبلاء ، فاستأصلهم عن آخرهم ، ولم يبق منهم واحدا ، ليعتبر بهم

١٨٩

من يأتي من بعدهم (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على انعامه على المؤمنين ، ونصرهم على أهل الكفر والفساد.

ان اخذ الله سمعكم وأبصاركم الآة ٤٦ ـ ٤٩ :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

اللغة :

نصرّف الآيات نكررها على وجوه مختلفة. ويصدفون يعرضون.

الاعراب :

من مبتدأ ، وإله خبر ، وغير الله صفة لإله ، وجملة يأتيكم صفة ثانية. والضمير في به يعود إلى معنى المأخوذ ، وهو السمع والبصر. وكيف حال من ضمير نصرّف. وبغتة حال من ضمير أتاكم. ومبشرين ومنذرين حال من المرسلين. وبما كانوا ما مصدرية والمصدر المنسبك مجرور بالباء متعلق بيمسهم.

١٩٠

المعنى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ). الإنسان بسمعه وبصره وقلبه ، فلو زالت هذه عنه لم يكن شيئا مذكورا ، وكان الحيوان خيرا منه .. وليس من شك ان الله قادر على أخذها لأنه خالقها ، والقصد من هذه الإشارة أن يذكر سبحانه الكافرين ان ما يتخذون من دونه آلهة وأولياء لا يدفعون عنهم ضرا ، ولا يجلبون لهم نفعا : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) ـ ١٢ الرعد.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ). أي أقمنا عليهم الحجة تلو الحجة بأساليب شتى ، ليتعظوا ويعتبروا ، وقطعنا لهم كل معذرة ليذعنوا ويؤمنوا ، فما زادتهم الدلائل القاطعة إلا تماديا في الكفر والغي والعناد.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ). مرة ثانية يعظهم الله ويهددهم بإتيان العذاب الذي لا يستطيعون له دفعا ، سواء أجاءهم بغتة ومن حيث لا يحتسبون ، أو جهرة من حيث هم متأهبون له ، مرة ثانية في هذه الآيات يعظهم الله ويهددهم ليتقوا العذاب قبل وقوعه ، ويثوبوا إلى رشدهم ، ولكن قست القلوب ، فلم تمل لحق ولا هداية.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). هذه هي وظيفة الرسول ، يبشر الطائع ، وينذر العاصي ، وهذه الوظيفة على بساطة تحديدها ، ووضوح مفهومها هي من أشق الوظائف ، وأكثرها صعوبة ، لأنها تمس حياة الطغاة مباشرة ، وتعارضهم في مصالحهم ومنافعهم. وتنتهي وظيفة الرسول بثواب من آمن وعمل صالحا ، وعقاب من كفر وكذّب بآيات الله (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). لأن المجرم هو الذي يخاف ويحزن ، أما البريء فهو في أمان واطمئنان. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). الفسق أعم من الكفر ، فكل كافر فاسق ، ولا عكس ، والمراد بالفسق هنا الكفر بدليل قوله تعالى : (كَذَّبُوا بِآياتِنا).

١٩١

ان اتبع الا ما يوحى الى الآة ٥٠ ـ ٥٥ :

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥))

اللغة :

الغداة والغدوة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. والعشي من المغرب إلى العشاء. وفتنا ابتلينا. والسلام من أسماء الله تعالى ، وسلام عليكم تحية بالدعاء لمن تحييه أن يسلم من كل سوء ، ويأمن من كل أذى. والجهالة السفه.

١٩٢

الإعراب :

جملة يريدون حال من الواو في يدعون. ومن شيء من زائدة ، وشيء مبتدأ ، وعليك خبر ، ومن حسابهم حال من شيء ، ومثله : وما من حسابك عليهم من شيء. وفتطردهم منصوب بأن مضمرة لأنه جواب للنفي ، وهو ما عليك. وفتكون مثله لأنه جواب للنهي ، وهو لا تطرد. سلام عليكم مبتدأ وخبر ، والجملة مفعول القول. والمصدر المنسبك من انه من عمل بدل من الرحمة ، أي كتب انه من عمل. وكذلك الكاف بمعنى مثل في محل نصب صفة لمصدر محذوف ، أي نفصل الآيات تفصيلا مثل ذلك.

المعنى :

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ). طلب المشركون من النبي (ص) أن يخبرهم بالغيب ويفجر الينابيع ، ويأتي بالملائكة ، ويرقى إلى السماء ، ويسقطها عليهم ، وما إلى ذلك مما لا يمت إلى موضوع الرسالة بصلة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وأمره النبي أن يقول لهم : انه ليس بإله ، ولا ملك ، وإنما هو بشر يوحى اليه وكفى.

وبتعبير ثان ان للإله صفات تخصه ، ومنها انه قادر على كل شيء ، عالم بكل شيء ، وأيضا للملك صفات تخصه ، ومنها انه يرقى إلى السماء ، ولا يأكل الطعام ، ولا يمشي في الأسواق ، أما الرسول فهو بشر كسائر الناس ، وإنما يمتاز عنهم بنزول الوحي عليه من ربه ، مبشرا من استجاب له بحسن الثواب ، ومنذرا من أعرض بسوء العقاب ، وليس من موضوع الرسالة واختصاصها أن يتنبأ بالغيب ، ويأتي بالخوارق ، فالخلط بين صفات الله وصفات ملائكته ورسله جهل وعمى.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ). أي فرق بعيد بين الجاهل الضال الذي لا يفرق بين صفات الله وصفات الرسول ، وبين من يعرف ان الرسول بشر

١٩٣

يجري عليه ما يجري على غيره من الناس إلا انه يوحى اليه (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في ان الرسول ليس إلها ولا ملكا ، وانه بشير ونذير ، فتنتصفوا من أنفسكم ، وتؤمنوا بلا إله إلا الله محمد رسول الله؟.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ). الضمير في يعود إلى القرآن الذي تقدمت اليه الإشارة في قوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ). واختلف المفسرون في المراد من قوله : (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) : هل هم المؤمنون ، أو الكافرون بالنظر إلى أن بعضهم كان يتأثر من تخويف النبي وإنذاره ، كما جاء في تفسير الرازي.

وفي رأينا ان النبي (ص) بعد أن أنذر الناس بما تقوم به الحجة عليهم أمره الله سبحانه في هذه الآية أن يستمر ويتابع إنذار المؤمنين بالقرآن ليزدادوا إيمانا وعلما بالدين وأحكامه ، وأيضا أن ينذر به غير المؤمنين ممن ترجى هدايته بمتابعة الانذار وتكراره.

(لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). أي حين تنذرهم يا محمد يستمعون اليك ، وينتفعون بانذارك لهم ، ويدركون انه لا ولي ينصرهم من دون الله ، ولا شفيع يشفع عنده إلا باذنه.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ). الغداة والعشي كناية عن مداومة ذكرهم لله وعبادتهم له ، كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلا ، ووجه الله كناية عن الله ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، وضمير حسابهم وعليهم وتطردهم يعود الى المؤمنين الذين يدعون ربهم ، ومعنى ما عليك من حسابهم ان حسابهم وحساب غيرهم لا يدخل في موضوع النبوة ، ولا هو من شئونها ، وانما حسابهم على الله وحده ، تماما كحسابك أنت يا محمد ، لا فرق بينك وبينهم من هذه الحيثية.

ان المسلم يؤمن إيمانا قاطعا بأن محمدا (ص) أشرف الخلق على الإطلاق ، وفي الوقت نفسه يؤمن بأن عظمة محمد لا تخول له أن يحاسب أحدا ، أو يعاقبه أو يثيبه ، ان الحساب والجزاء لله ومن الله وحده لا شريك له ، وبهذه الفضيلة

١٩٤

امتاز الإسلام عن جميع الأديان ، بنفي السبيل للإنسان على انسان كائنا من كان وبها نعتز نحن المسلمين ونفاخر الاشتراكيين والشيوعيين والقوميين والديمقراطيين ، وجميع أهل الأديان والمذاهب.

وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية ان المترفين من قريش مروا برسول الله (ص) ، وعنده عمار بن ياسر وخباب وبلال وغيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ ألهؤلاء نكون تبعا ، فنحّهم عنك ، حتى نخلوا بك ، ثم إذا انصرفنا فأعدهم إلى مجلسك ان شئت .. وقيل ان النبي (ص) أراد أن يجيبهم إلى ما طلبوا فنزلت الآية.

وظاهر اللفظ لا يأبى ذلك ، بخاصة قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) لهم حيث انهم أولى بمجلسك والاستفادة منك ، وبتعبير ثان ان النبي أراد أن يقرب الأغنياء ليستفيدوا منه ، فقال له الجليل : الفقراء أولى بالاستفادة ، فإن تركت هذا الأولى ظلمت الفقراء المؤمنين من حيث الاستفادة.

وتسأل : الا يتنافى ترك الأولى والأرجح مع العصمة؟.

الجواب : ان ترك الأولى جائز ، وليس محرما ، حتى يتنافى مع العصمة .. هذا ، إلى أن النبي لم يحاول طرد الفقراء استنكافا من فقرهم ، بل حرصا وطمعا في اسلام الرؤوس ، فنبه سبحانه النبي الى أن الإسلام غني عن هؤلاء المتكبرين الطغاة ، وان لهم يوما يستسلمون فيه أذلاء صاغرين ، كما حدث بالفعل.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا). معنى الفتنة هنا الاختبار ، واختبار الله لعبده أن يظهره للملإ على حقيقته عن طريق أفعاله وأعماله ، كما بينا ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٩٤ من سورة المائدة ، فقرة : معنى الاختبار من الله. واللام في ليقولوا للعاقبة ، أي اختبرنا الأغنياء بالفقراء ، ليشكروا الله على نعمته عليهم ، فآل أمرهم الى التكبر والاستعلاء ، قال الإمام علي (ع) :

«لا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة والاختبار في مواضع الغنى والاقتدار ، وقد قال سبحانه : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ـ ٥٦ المؤمنون. فان الله سبحانه

١٩٥

يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم. ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون (ع) على فرعون ، وعليهما مدارع الصوف ، وبأيديهما العصي ، فشرطا إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه ، فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك ، وهما بما ترون من حال الفقر والذل؟. فهلا القي عليهما اسارة من ذهب؟. ـ إلى قوله ـ : ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالهم.

السلام عليكم ورحمة الله :

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). قال رسول الله (ص) : أدبني ربي فأحسن تأديبي. وأي أدب كأدب خالق السموات والأرض؟. وأية نفس ينمو ويثمر فيها الأدب الإلهي كنفس محمد؟. لقد أدب سبحانه هذه النفس الطيبة الزاكية ، ليؤهلها لرسالته ، رسالة الرحمة للعالمين التي بها وبصاحبها تمت مكارم الأخلاق .. أدّب الله محمدا في العديد من آياته ، ومنها هذه الآية ، وهي تعلّم رسول الله وخير خلق الله كيف يسلك ويعامل الضعفاء والمساكين .. فكان يلقاهم بالبشاشة والترحاب ، ويقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ، ويحبس نفسه معهم ، ما داموا في مجلسه ، حتى يكونوا هم الذين ينصرفون.

وإذا كان النبي مقصود الله بهذا التأديب فنحن مقصودون بالتأسي والاقتداء به ، فلا نكرم أحدا لمال أو جاه أو جنس ولون ، وإنما نكرم ونحترم للدين والخلق الكريم ، قال بعض المفسرين الجدد : كانت الحياة البشرية قبل محمد (ص) في الحضيض ، فرفعها محمد إلى القمة ، وتراجعت الآن عن القمة السامقة ، وانحدرت في نيويورك وواشنطن وشيكاغو ، حيث العصبيات النتنة ، عصبيات الجنس واللون.

أجل ، لا جنس ولا لون ، ولا جاه ولا ثراء ، لا فضل في الإسلام إلا بالتقوى ، وفي هذا المبدأ الإسلامي الإلهي يكمن السر لتواضع المراجع الكبار من

١٩٦

علماء المسلمين .. يصل اليهم الصغير والكبير على السواء ، دون بواب وحجاب ، ويخاطبهم على سجيته بما شاء ، ودون تكلف وتحفظ .. أما البابا ومن اليه من رؤساء الأديان فلا يحلم بمجالسته ومخاطبته إلا وزير وكبير ، على أن يحدّد له من قبل وقت المقابلة وأمدها.

وعودا إلى قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). السلام عليكم ورحمة الله ، هذه هي تحية الإسلام ، دعاء بالنجاة لمن تحييه من كل سوء ، والعيش بأمان واطمئنان ، وبرحمة الله ورضوانه ، إذ لا نجاة ولا أمان مع غضبه جل وعلا ، أما إذا عطفت بركات الله على رحمته فقد دعوت لصاحبك بالرزق الواسع ، والعطاء الجزيل .. وأين مرحبا وصباح الخير ونهارك سعيد من هذه التحية الإلهية الإسلامية؟!. وسبق قوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) في الآية ١٢ من هذه السورة ، وقلنا في تفسيرها : ان رحمته تعالى لا تنفك عن ذاته القدسية ، تماما كقدرته وعلمه.

(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). المراد بالجهالة هنا السفاهة ، أما التوبة فقد عقدنا لها فصلا خاصا بعنوان التوبة والفطرة عند تفسير الآية ١٨ من سورة النساء (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا هو الرب الذي نعبده ، يغفر لمن أناب ، ويرحم العباد ، وكل من رحم الناس وعمل لصالحهم فقد عبد الله في عمله ، وان جحده بلسانه ، وكل من اعتدى على حق من حقوقهم فقد كفر بالله ـ عمليا ـ وإن هلل وكبّر.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ). ذكر سبحانه في كتابه صفات الصالحين ، وأيضا ذكر صفات المجرمين ، ليظهر كل فئة بسماتها .. هذا ، إلى أن معرفة إحدى الفئتين تستدعي معرفة الأخرى ، تماما كالهداية والضلالة.

لا اتبع أهواءكم الآة ٥٦ ـ ٥٨ :

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ

١٩٧

أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

اللغة :

القصص تتبع الأثر ، أو ذكر الخبر ، وهذا المعنى هو المراد هنا. والفصل القضاء والحكم.

الاعراب :

إذا ، معناها الجزاء ، أي ان اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وضمير به يعود إلى ربي. وكذبتم به يجوز أن تكون الواو للاستئناف ، ويجوز للحال على إضمار قد قبل كذبتم ، لأن المقرون بالواو لا يكون حالا إلا مع قد ظاهرة أو مضمرة.

المعنى :

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ). في الآية السابقة أشار سبحانه إلى سبيل المجرمين ، وفي هذه بيّن هذا السبيل ، وانه عبادة غير الله (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). لأن دعوتهم لا مصدر لها إلا الهوى والضلال ، فكيف يتبعها الرسول الأعظم؟. (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ). أي اني أعبد الله عن علم ، وأنتم كفرتم به ، وعبدتم الأصنام عن جهل ، وفي أي منطق يكون العالم تابعا للجاهل ، والمبطل قائدا للمحق.

١٩٨

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ). لما دعاهم رسول الله إلى الايمان قالوا له : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فأمره الله سبحانه أن يقول لهم : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) بل هو عند الله ينزله في الوقت الذي يريد ، ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في تنزيل العذاب وتقديمه وتأخيره ، وفي كل شيء (يَقُصُّ الْحَقَ) أي يقول الحق (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) لا يظلم أحدا في فصله وقضائه.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) باهلاك من ظلم منكم غضبا لله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) يعجل أو يؤجل العذاب على ما تقتضيه حكمته.

وعنده مفاتح العيب الآة ٥٩ ـ ٦٢ :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

اللغة :

مفاتح جمع مفتح بفتح الميم ، وهو المخزن ، وبكسرها المفتاح الذي تفتح

١٩٩

به الأقفال ، ومفاتيح جمع مفتاح. وجرحتم أي كسبتم من جوارح الإنسان ، وهي أعضاؤه التي يكسب بها الأعمال. والأجل المسمى الأمد المعلوم. والمراد بالحفظة الملائكة الذين يحفظون على الإنسان أعماله.

الاعراب :

جملة لا يعلمها إلا هو حال من مفاتح. ومن ورقة من زائدة وورقة فاعل تسقط. إلا في كتاب مبين لا يجوز أن يكون استثناء من وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، إذ يصير المعنى انه تعالى يعلم كل شيء إلا الموجود في كتاب مبين فإنه لا يعلمه ، تماما كما تقول : لا شيء إلا أنا عالم به إلا ما في الصندوق ، وعليه يتعين ان يتعلق في كتاب مبين بخبر محذوف لمبتدأ محذوف ، تقديره إلا هو موجود في كتاب مبين. بالنهار الباء بمعنى في. ومولاهم صفة لله. والحق صفة ثانية.

المعنى :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). مفاتح الغيب خزائنه ، والمعنى ان الله يعلم الكون وما حدث ويحدث فيه كليا كان أو جزئيا ، ماديا كان أو معنويا ، ولا يتقيد علمه تعالى بزمان أو مكان أو بحال دون حال ، لأن علمه. ذاتي لا كسبي ، وليس لذاته زمان ومكان ، ولا هي تتغير بتغير الأحداث والأحوال. وفي الحديث : ان مفاتح الغيب خمس : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ـ ٣٤ لقمان.

وقال الفيلسوف الملا صدرا : إن جميع الأشياء الكلية والجزئية فائضة عنه ، وهو مبدأ لكل موجود عقليا كان أو حسيا ، ذهنيا كان أو عينيا ، وفيضانها عنه لا ينفك عن انكشافها لديه.

٢٠٠