التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

١
٢

٣
٤

سورة المائدة

مدنية الا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنه نزل في حجة الوداع ، وعدد آياتها ١٢٠.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اوفوا بالعقود الآية ١ ـ ٢ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقاب(٢))

اللغة :

العقود واحدها عقد ، والمراد بها كل التزام جرى بين بالغين عاقلين عن طيب نفس على أي شيء كان ، شريطة ان لا يحرم حلالا ، ولا يحلل حراما.

٥

والبهيمة في اللغة الحيوان الذي لا نطق له لما في صوته من الإبهام ، ولكن العرب لا يستعملون هذه اللفظة في الطير. والأنعام الإبل والبقر والغنم. وشعائر جمع شعيرة ، والشعيرة والعلامة والآية بمعنى واحد ، وشعائر الله علامات دينه ودلائله ومظاهره وآياته. والمراد بالهدي ما يهدى من الانعام الى الكعبة ليذبح هناك. والقلائد جمع قلادة ، وكانوا يقلدون الإبل من الهدي بما يدل عليها ، فلا يتعرض لها أحد. وآمّين أي قاصدين. ولا يجرمنكم أي لا يبعثنكم. والشنآن البغض.

الاعراب :

الا ما يتلى (ما) في محل نصب على الاستثناء المتصل من بهيمة. غير حال من الضمير المجرور في لكم ولا القلائد على حذف مضاف ، أي ولا ذوات القلائد. ولا آمين أيضا على الحذف ، أي ولا قتال آمّين. والبيت مفعول لآمّين. وجملة يبتغون حال من الضمير في آمين. وان صدوكم المصدر المنسبك مفعول لأجله ليجرمنكم. والمصدر المنسبك من ان تعتدوا مجرور بحرف جر محذوف ، والمجرور متعلق بيجرمنكم ، أي لا يبعثنكم شنآن قوم لأجل صدهم إياكم عن المسجد على الاعتداء.

المعنى :

تدور آيات القرآن حول العقيدة ، والعبادة ، والشريعة ، والأخلاق ، والرئاسة الدينية والدنيوية ، والقضاء والجهاد ، وتعرف الآيات الواردة في الشريعة بما فيها العبادة ، تعرف بآيات الأحكام عند الفقهاء ، وتبلغ حوالي خمسمائة آية ، ومنها قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وهذه الجملة على ايجازها عظيمة النفع ، فإنها الأصل والأساس لإجماع المذاهب على وجوب الوفاء بما يقع عليه التراضي بين اثنين ، مع توافر الشروط التي اعتبرها الشرع من البلوغ والعقل في المتعاقدين

٦

وقابلية الشيء المعقود عليه للتملك ، وعدم استلزامه تحليل الحرام ، أو تحريم الحلال ، وما إلى ذلك مما جاء في كتب الفقه ، ومنها الجزء الثالث من فقه الإمام جعفر الصادق.

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ). الانعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز الأهلية والوحشية ، وتقع البهيمة على الانعام وغيرها من الحيوانات التي لا نطق لها ، وعلى هذا تكون اضافة البهيمة الى الانعام من باب اضافة الشيء الى ما هو أخص منه. وبعد أن أحلّ الله أكل الانعام جاء هذا الاستثناء (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). وقد تلا علينا جل ثناؤه صنفين من الانعام : الأول ما أشار اليه بقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). والثاني ما أشار اليه في الآية الثالثة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...). ويأتي الكلام عن هذا الصنف قريبا.

ومعنى (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ان الانعام التي أحل الله لنا أكلها هي الانعام الأهلية ، أو الوحشية التي لم نتصيدها حال الإحرام ، أما المصطادة في هذه الحال ، فأكلها حرام ، لأن كل ما يصطاده المحرم فلا يجوز أكله ، سواء أكان من الانعام ، أم من غيره ، ويأتي التفصيل عند تفسير الآية ٩٧ وما بعدها من هذه السورة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ). وشعائره جل وعز هي أحكام دينه ، ومن أظهرها مناسك الحج والعمرة ، قال تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ـ ٣٢ الحج» ، ومعنى النهي عن تحليل أحكام دين الله ان لا نحرفها ، ونتصرف فيها كما نشاء. (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تحلوا القتال في الشهر الحرام ، والمراد به الأشهر الأربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، لأن الألف واللام في الشهر للاستغراق. (وَلَا الْهَدْيَ) وهو ما يهدى الى بيت الله من الإبل والبقر والغنم ، والمراد ان لا يتعرض أحد لها بغصب أو منع من بلوغها البيت الحرام. (وَلَا الْقَلائِدَ) أي ولا ذوات القلائد فقد كانوا يقلدون الهدي بنعل أو حبل وما اليه ، ليعرف فلا يتعرض له أحد ، وانما ذكر ذوات القلائد بعد الهدي ، مع ان الهدي يقع عليها وعلى غيرها ـ للاهتمام بها ، تماما كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

٧

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً). أي لا تقاتلوا أحدا قصد بيت الله ، سواء أقصده للعبادة أم التجارة. (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا). لأن الصيد يحرم في حال الإحرام ، وفي ارض الحرم مطلقا ، فإذا لم يكن الإنسان محرما ولا في أرض الحرم فالصيد وأكل المصيد حلال ، لزوال المانع .. والأمر في قوله : (فَاصْطادُوا) للاباحة ، لأنه ورد بعد النهي.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا). في سنة ست للهجرة كان المشركون هم المسيطرين على مكة والبيت الحرام ، وأراد النبي والصحابة أن يزوروا البيت في هذه السنة فصدهم عنه المشركون ، وفي حجة الوداع كانت السيطرة على مكة والبيت للمسلمين ، فنزلت هذه الآية ، ومعناها لا ينبغي لكم أيها المسلمون أن يحملكم بغض المشركين لكم ، أو بغضكم لهم على أن تمنعوهم عن البيت الحرام بعد أن أظهركم الله عليهم ، لأنهم منعوكم من قبل. وقد كان هذا قبل أن تنزل الآية ٢٩ من سورة التوبة : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).

وتسأل : ألم يقل الله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ البقرة ، ١٩٤؟

الجواب : ان هذه الآية نزلت في القصاص ، والمعاملة بالمثل في موارد خاصة ، كالحرب وقطع الأعضاء ، أي من قاتلكم فقاتلوه ، ومن قطع يد غيره تقطع يده ، وما الى ذلك .. أما من منع وصد عن عبادة الله والتجارة والزراعة فلا يجوز أن يمنع هو عن ذلك ، بل يجازى بعقوبة أخرى.

والخلاصة ان جزاء المعتدي قد يكون بالمثل ، وقد يكون بغيره ، وفي سائر الأحوال ينبغي أن يكون الجزاء انتصارا للحق ، لا تشفيا وانتقاما.

الثورة والثورة المضادة :

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). من الألفاظ التي كثر تداولها اليوم على ألسنة المتكلمين ، وأقلام الكتّاب لفظ الثورة والثورة المضادة .. ويعنون بالثورة تعاون المخلصين ونضالهم ضد التخلف والأوضاع

٨

الفاسدة ، ويعنون بالثورة المضادة تكتل الرجعيين والخائنين وتعاونهم على مقاومة كل محاولة لتغيير التقاليد الضارة الفاسدة.

وظاهر الآية الكريمة يخوّل لنا ان نطبق قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) على الثورة المضادة لكل خير وتقدم.

حرمت عليكم الميتة الآة ٣ :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

الإعراب :

الا ما ذكيتم (ما) في محل نصب على الاستثناء المتصل مما تقدم ذكره من الحيوانات على أن يدرك حيا سوى ما لا يقبل التذكية كالخنزير. والمصدر من ان تستقسموا في محل رفع عطفا على الميتة ، أي وحرّم عليكم أن تستقسموا. ودينا حال من الإسلام. وغير حال من الضمير في اضطر.

٩

المعنى :

كل المأكولات والمشروبات على الاباحة الا ما ورد النص بتحريمه خصوصا كالميتة وما اليها ، أو عموما كالأشياء الضارة ، ومنها الخبائث. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) ـ ١٦٨ البقرة». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

وتقدم في الآية الأولى قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وقد تلا علينا صنفين من المحرمات : الأول ما أشار اليه بقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) الخ وسبق تفسيره. الثاني ما ذكره في هذه الآية ؛ وهو عشرة أصناف.

الأول : الميتة ، وهي كل حيوان أو طير مات من غير تذكية شرعية ، وتختلف التذكية الشرعية باختلاف الحيوان ، فتذكية السمك بإخراجه من الماء حيا ، وتذكية الجراد بالاستيلاء عليه حيا أيضا ، وتذكية الجنين بذكاة أمه ، وتذكية المصيد تكون بالكلب المعلّم ، أو بالسيف أو الرمح أو السهم أو آلة محددة الرأس ، وتذكية الحيوان باستقباله القبلة وقطع أوداجه الأربعة مع ذكر اسم الله عليه. والتفصيل في كتب الفقه ، ومنها الجزء الرابع من فقه الإمام الصادق.

الثاني : الدم المسفوح ، والمراد به الذي يخرج بقوة ودفع ، ويتميز عن اللحم ، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه ، والدم الذي هو كاللحم حلال إذا كان كبدا عند جميع المذاهب ، وحرام إذا كان طحالا عند الشيعة الإمامية خاصة.

الثالث : لحم الخنزير ، وهو حرام بإجماع المسلمين.

الرابع : ما أهل لغير الله ، والإهلال رفع الصوت ، يقال : استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة ، والمراد به هنا ما ذبح على غير ذكر الله. وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم ، ويرفعون أصواتهم باسم اللات والعزى. وتقدم الكلام عن هذه الأصناف الأربعة عند تفسير الآية ١٧٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٦٤.

١٠

الخامس : المنخنقة ، وهي التي تموت اختناقا بيد أو حبل ، أو يدخل رأسها في مضيق ، وما الى ذلك.

السادس : الموقوذة ، وهي التي تضرب بعصا ونحوها ، حتى تموت.

السابع : المتردية ، وهي التي تتردى من مكان عال.

الثامن : النطيحة ، وهي التي تنطحها أخرى ؛ فتموت.

التاسع : ما أكل السبع ، أي ما تبقى من فريسة الحيوان المفترس.

ثم استثنى سبحانه من الأصناف الخمسة الأخيرة ما ندركه حيا ، فانه يحل لنا بالذبح الشرعي ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ). وفي الأخبار : «ان أدنى ما تدرك به الذكاة أن تدركه وتتحرك اذنه أو ذنبه أو تطرف عينه».

العاشر : ما ذبح على النصب ، قال صاحب التسهيل لعلوم التنزيل : «النصب جمع نصاب ، وهي حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها ، ويذبحون عليها ، وليست بالأصنام ، لأن الأصنام مصورة ، والنصب غير مصورة».

وتجدر الاشارة الى ان محرمات الطعام لا تنحصر بهذه الأصناف العشرة التي جاءت في الآية الكريمة ، بل هناك محرمات أخرى ، كالكلب والحيوان المفترس والطير الكاسر كالبازي والنسر والحشرات وبعض أنواع السمك ومحرمات الذبيحة ، وما اليها مما نصت عليه السنة النبوية ، وأجمع عليه الفقهاء ، ولا فرق بين ما جاء النص على تحريمه في الكتاب أو السنة : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ ٧ الحشر». وغير بعيد أن يكون ذكر هذه الأصناف بالخصوص لمناسبة قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ). وبعد أن ذكر سبحانه الأصناف العشرة عطف عليها قوله :

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ). أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهي جمع زلم بضم الزاي وفتحها ، مع فتح اللام ، والزلم قطعة من الخشب على هيئة السهم. وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر يهمه أخذ ثلاثة من الأزلام ، وكتب على واحد منها أمرني ربي ، وعلى ثان نهاني ربي ، وأهمل الثالث ، ثم يغطيها بشيء ، ويدخل يده ويخرج أحدها ، فان كان أمرا فعل ، وان كان نهيا ترك ، وان كان مهملا أعاد ، حتى يخرج الأمر ، أو النهي.

١١

(ذلِكُمْ فِسْقٌ). اشارة الى خصوص الاستقسام بالأزلام دلالة ، والى جميع المحرمات المذكورة حكما ، وبهذا يتبين معنا ان اختلاف المفسرين حول ذلكم : هل هي اشارة الى خصوص الأخير ، أو الى الجميع؟ ان هذا الاختلاف لا جدوى منه ، ما دام حكم الجميع واحدا ، من حيث الفسق ، أي الذنب العظيم.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ). قال كثير من المفسرين : ان المراد باليوم في الآية اليوم الذي نزلت فيه من ذي الحجة في حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة ، وعليه يكون الألف واللام في اليوم للعهد ، وقال صاحب مجمع البيان : اليوم هنا بمعنى الآن ، كما يقول القائل : اليوم قد كبرت ، أي الآن قد كبرت. ومهما يكن فان معنى الآية ان الكفار يئسوا من زوال الإسلام ، أو تحريفه بعد أن تمكن في نفوس أتباعه ، وأخذ طريقه في الانتشار يوما بعد يوم .. اذن ، فلا تخافوا ـ أيها المسلمون ـ من الكافرين ، وخافوا من الله وحده ، وصدق الله العظيم في كل ما يقول : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ـ ٣٣ التوبة».

ومن المفيد بهذه المناسبة أن نقطف جملا من كتاب «الإسلام في القرن العشرين» للعقاد ، قال :

«ان العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة ، وحسب في ابان النشأة والظهور ، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين .. وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال القوة والسطوة ، ولا سيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون .. ان قوة صمود العقيدة الإسلامية في صدر الإسلام عجيبة ، ولكن صمودها الآن أعجب ، لأنها لا تملك الدفاع النافع ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة ، بل لا تملك الدفاع ، ولا اتفاق بين أهلها على الدفاع .. ان قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياستها ، وعن عروش العواهل وتيجانها ، وفي افريقية اليوم مائة مليون مسلم ، لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة ، وقريب من هذا العدد مسلمون

١٢

في السومطرة وبلاد الجاوة ، وقريب منه في الباكستان ، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين».

إكمال الدين وإتمام النعمة :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). اختلف الشيعة وأكثر السنة في تفسير هذه الآية ، ونحن نعرض أقوال الطرفين كناقلين ، لا مؤيدين ، ولا مفندين ، ونترك القارئ وعقله يستفتيه وحده.

قال السنة أو أكثرهم : المراد بالآية ان الله سبحانه أكمل للمسلمين دينهم بتغلبه وإظهاره على الأديان كلها رغم محاربة أهلها ومقاومتهم له وللمسلمين ، وأتم نعمته عليهم بالنص على عقيدته وشريعته أصولا وفروعا ، وأبان جميع ما يحتاجون اليه في أمر دينهم ودنياهم : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ).

وقال الشيعة : يصح تفسير الآية بهذا المعنى إذا لم تقترن بحادثة تفسرها ، وتبين المراد منها ، فإن كثيرا من الآيات تفسرها الحادثة التي اقترنت بزمن نزولها. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ قوله تعالى مخاطبا نبيه الأكرم : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ـ ٣٧ الأحزاب». فلو جردنا هذه الآية عن قصة زيد بن حارثة ، وأخذنا بظاهرها لكان معنى الآية ان رسول الله (ص) يؤثر رضا المخلوق على رضا الخالق .. حاشا من اصطفاه الله لوحيه ورسالته.

ثم قال الشيعة : وهذه الآية اقترنت بحادثة خاصة تفسرها وتبين المراد منها ، واستدلوا على ذلك بما يلي :

أولا : اتفق علماء السنة والشيعة المفسرون منهم والمؤرخون على ان سورة المائدة بجميع آياتها مدنية ، ما عدا هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنها نزلت في مكة ، وفي السنة العاشرة للهجرة ، وهي السنة التي حج فيها رسول الله (ص) حجة الوداع ، لأنه انتقل الى جنان ربه في شهر ربيع الأول سنة احدى عشرة.

ثانيا : ان النبي بعد أن قضى مناسكه في هذه السنة توجه الى المدينة ، ولما

١٣

بلغ غدير خم ـ وهو مكان في الجحفة تتشعب منه طرق كثيرة ـ أمر مناديه أن ينادي بالصلاة ، فاجتمع الناس قبل أن يتفرقوا ، ويذهب كل في طريقه الى بلده ، فخطبهم وقال فيما قال :

«ان الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، أنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه يقولها ثلاثا ، وفي رواية أربعا .. ثم قال : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. وأحبّ من أحبه ، وأبغض من بغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وادر الحق معه حيث دار. ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

والسنة لا ينكرون هذا الحديث بعد ان تجاوز حد التواتر (١) وسجله الكثير من أئمتهم وعلمائهم ، منهم الإمام ابن حنبل في مسنده ، والنسائي في خصائصه ، والحاكم في مستدركه ، والخوارزمي في مناقبه ، وابن عبد ربه في استيعابه ، والعسقلاني في اصابته ، كما ذكره الترمذي والذهبي وابن حجر وغيرهم ، ولكن الكثير منهم فسروا الولاية بالحب والمودة ، وان المراد من قول الرسول (ص) : من كنت مولاه ـ من أحبني فليحب عليا.

ورد الشيعة هذا التفسير بأن قول النبي : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ـ يدل بصراحة ووضوح على ان نفس الولاية التي ثبتت لمحمد (ص) على المؤمنين هي ثابتة لعلي (ع) ، دون زيادة أو نقصان ، وهذه الولاية هي السلطة الدينية والزمنية ، حتى ولو كان للفظ الولاية ألف معنى ومعنى.

وعلى هذا يكون معنى الآية ان الله سبحانه أكمل الدين في هذا اليوم بالنص على علي بالخلافة.

__________________

(١). نقل الشيعة هذا الحديث عن العديد من مصادر السنة ، ووضع علماؤهم فيه كتبا خاصة ، وآخرهم الشيخ الاميني من علماء النجف الأشرف في هذا العصر ، فقد ألف كتابا أسماء الغدير في ١٢ مجلدا ، تبلغ صفحاتها حوالي خمسة آلاف صفحة ، ذكر فيه رواة الحديث ، وهم ١٢٠ صحابيا ، و ٨٤ تابعا ، و ٣٦٠ إماما وحافظا للحديث ، وفيهم الحنفي والشافعي وغيرهما كل ذلك نقله عن كتب السنة والكتاب معروض للبيع في مكتبات العراق وايران ولبنان.

١٤

وتسأل : ان إكمال الدين بإظهاره على الأديان ، وبيان أحكامه كاملة وافية كما يقول السنة ـ واضح لا يحتاج الى تفسير ، أما إكمال الدين بالنص على خلافة علي فلا بد له من التفسير والإيضاح ، فبأي شيء يفسره الشيعة؟.

قال الشيعة في تفسير ذلك : ان الإكمال حقا لا يتم إلا بوجود السلطة التشريعية والتنفيذية معا ، والأولى وحدها ليست بشيء ما لم تدعمها الثانية ، وقد كان التنفيذ بيد الرسول الأعظم (ص) ، فظن اعداء الإسلام ان السلطة التنفيذية ستذهب بذهاب الرسول ، وبذهابها يذهب الإسلام ... فأقام النبي عليا ليحفظ الشريعة من بعده ، ويقيم الدين كما أقامه الرسول (ص) ، وبهذا لم يبق للكفار أي أمل في ذهاب الإسلام أو ضعفه.

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). مر تفسيره مفصلا في ج ١ ص ٢٦٥ فقرة «المضطر وحكمه» ، الآية ١٧٣ من سورة البقرة.

وما علمتم من الجوارح ملكبين الآة ٤ :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

اللغة :

الجوارح جمع جارح من جرح بمعنى كسب ، ومنه قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) والمراد بالجوارح هنا ما يمكن الاصطياد به من الكلاب والفهود والطيور ، لأنها كواسب لأهلها. ومكلبين أي معلمين الكلاب ونحوها الاصطياد ،

١٥

وانما اطلق لفظ مكلبين على الجوارح المعلمة ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه .. هذا عند غير الشيعة ، أما الشيعة فلا يجيزون الا صيد الكلب ، وفيما يلي التفصيل.

الإعراب :

ما ذا يجوز أن تكون (ما) مبتدأ ، وذا خبر بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون (ما ذا) كلمة واحدة وجملة أحل خبر. وما علمتم على حذف مضاف ، أي وصيد الذي علمتم. ومكلبين حال من ضمير علمتم ، لأنها بمعنى معلمي الكلاب.

المعنى :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ). الطيب ضد الخبيث ، والخبيث ما نص الشارع على تحريمه بالخصوص كالميتة ولحم الخنزير ، أو بالعموم ، وهو ما فيه ضرر وفساد بجهة من الجهات. وقد ذكر سبحانه هذه الجملة بلفظها أو معناها في ١٥ مكانا من كتابه العزيز.

(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ). واتفقت كلمة المذاهب على ان صيد الكلب يحل أكله بالشروط الآتية ، واختلفت في صيد غيره كالفهد والصقر وما أشبه إذا كان معلما يفقه ما يفقهه الكلب ، قال الشيعة : لا يحل. وقال غيرهم : يحل. واستدل الشيعة بأن لفظ مكلبين خاص بصيد الكلب المعلم ، ومهما يكن ، فلا يحل صيد الجوارح إلا مع توافر الشروط التالية :

١ ـ أن يكون الجارح معلما إذا أمره صاحبه يأتمر ، وإذا زجره ينزجر. وهذا هو معنى قوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ).

٢ ـ ان يرسله صاحبه بقصد الصيد ، فلو انطلق من تلقائه ، وأتى بالصيد مقتولا فلا يحل.

٣ ـ أن يكون الصائد مسلما عند الشيعة.

١٦

٤ ـ أن يسمي الصائد عند إرسال الجارح ، فيقول : اذهب على اسم الله ، وما أشبه ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ).

٥ ـ أن يدرك الجارح الصيد حيا ، وان يسند الموت الى جرحه ، فلو أدركه ميتا لم يحلّ ، وكذا إذا أدركه حيا ، ولكن مات بسبب آخر غير الجارح.

طهارة أهل الكتاب الآة ٥ :

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

اللغة :

للاحصان معان أربعة : الإسلام والتزوج والحرية والعفة ، وهي المقصودة هنا. والسفاح الزنا ، والمراد به هنا الجهر به ، لأنّ قوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) المراد به الزنا بالسر ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى.

الاعراب :

والمحصنات معطوف على الطيبات ، وإذا ظرف متضمن معنى الشرط متعلق بأحل. ومحصنين حال من الواو في آتيتموهن. وغير مسافحين (غير) صفة

١٧

لمحصنين ، ويجوز أن تكون حالا ، وان كان صاحب الحال نكرة ، ما دام المعنى ظاهرا.

المعنى :

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ). اختلف السنة والشيعة في المعنى المراد بطعام أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، فقال السنة : المراد به ذبائحهم ، نقل هذا عنهم صاحب تفسير المنار ، وهذه عبارته بالحرف: «فسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح ، لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل».

وذهب أكثر فقهاء الشيعة الى نجاسة أهل الكتاب ، وحرموا طعامهم وشرابهم ، حتى الخبز والماء الذي باشروه ، وفسروا الطعام في الآية بالحبوب.

أما نحن فنرى طهارة أهل الكتاب (١) ، وقد صرحنا بذلك مع الدليل في الجزء الأول من فقه الإمام جعفر الصادق ، وعلى هذا كثير من المراجع الكبار ، منهم السيد الحكيم والسيد الخوئي الذي أسرّ برأيه لمن يثق به. أما قول من قال : الكتابي متنجس لا نجس فهو تلاعب بالألفاظ ، لأن الأشياء في الشريعة على قسمين : طاهر ونجس ، ولا ثالث .. أجل قد تعرض النجاسة للطاهر ، ثم تزول بالتطهير ، ولو كانت لازمة له لكان نجسا ، لا متنجسا.

أما تفسير الطعام بالحبوب خاصة فبعيد كل البعد عن فصاحة القرآن وبلاغته ، فقد استعمل الطعام لصيد البحر ، ولا حبوب في البحر ، قال تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ) ـ ٩٦ المائدة». واستعمله في الماء ، وبين الماء والحبوب ما بين السائل والجامد ، قال عز من قائل : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) ـ ٢٤٩ البقرة». واستعمله في شتى المأكولات : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) ـ ٥٣ الأحزاب». وهل يجرؤ واحد على تفسيره بإذا أكلتم الشعير ـ مثلا ـ فانتشروا؟ .. وإذا تجرأ على مثل هذا التفسير فمن أي نوع

__________________

(١). وأخيرا أفتى بطهارتهم السيد الحكيم المرجع الكبير للطائفة الاسلامية الشيعية.

١٨

يكون؟ .. بل استعمل سبحانه الطعام في اللحم : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) ـ ١٤٥ الانعام».

ومن أجل هذا نقول بأن ذبائح أهل الكتاب حلال ، مع العلم بتوافر الشرائط من الاستقبال والتسمية وقطع الأوداج الأربعة ، وهذا هو الفرق بين ذبيحة الكتابي ، وذبيحة المسلم ، فذبيحة الأول تحرم الا إذا علمت بأنه استقبل وسمى وقطع الأوداج الأربعة مع استقرار الحياة في الحيوان قبل الذبح ، وذبيحة الثاني تحل الا إذا علمت بأنه أخل بما أوجبه الشرع. وصرحنا بذلك مع الدليل في الجزء الرابع من فقه الإمام جعفر الصادق ، وفيه روايات صحيحة عن أهل البيت (ع). وعمل بها الشهيد الثاني والصدوق وابن أبي عقيل وابن الجنيد. قال صاحب مجمع البيان عند تفسير هذه الآية : «عن أكثر المفسرين ، وأكثر الفقهاء ان المراد بالطعام في الآية ذبائح أهل الكتاب ، وبه قال جماعة من أصحابنا» أي من علماء الشيعة الذين يعتد بأقوالهم.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ). المراد بالاحصان في الألفاظ الثلاث العفة ، وبالاجور المهور ، والمسافحون هم الذين يرتكبون الزنا جهرا ، ومتخذو الأخدان يرتكبونه سرا ، وقيّد إتيان الأجور بعدم الزنا المشار اليه بمحصنين غير مسافحين ـ للاشعار بأن ما يدفعه الرجل للمرأة من المال يجب أن يكون مهرا للنكاح الشرعي ، لا أجرا للسفاح ، ومحصل المعنى ان الله قد أحل نكاح العفيفات المسلمات والكتابيات ، وعلى من ينكحهن أن يدفع لهن ما جرى عليه الاتفاق من المال مهرا شرعيا ، لا بدلا عن الزنا.

واتفق فقهاء المذاهب على أن المسلم لا يحل له أن يتزوج بمن لا تدين بشيء إطلاقا ، ولا بمن تعبد الأوثان والنيران ، وما اليها ، واختلفوا في زواج الكتابية ، أي النصرانية واليهودية ، فقال أصحاب المذاهب الأربعة السنية : يجوز ، واستدلوا بهذه الآية ، واختلف فقهاء الشيعة بين مجيز ومانع ومفصل بين الزواج الدائم والمنقطع ، فأجاز الثاني ، ومنع الأول.

١٩

ونحن مع القائلين بالجواز مطلقا ، ومستندنا أولا : الأدلة الدالة على اباحة الزواج بوجه عام. ثانيا : قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). ثالثا : الروايات الكثيرة عن أهل البيت (ع) ، وذكرها صاحب الوسائل والجواهر ، ووصفها هذا بالمستفيضة ، أي بلغت حدا من الكثرة يقرب من التواتر ، ونقلنا بعضها في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق.

وتسأل : وما أنت صانع بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ). وقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)؟

الجواب : المشركات غير الكتابيات بدليل عطف المشركين على أهل الكتاب في الآية الاولى من سورة البينة : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). أما قوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فغير صريح في الزواج ، لأن الإمساك بالعصم كما يكنى به عن الزواج يكنى به عن غير الزواج أيضا ، قال صاحب المسالك : «ان الآية ليست صريحة في ارادة النكاح ، ولا فيما هو أعم منه».

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ). بعد أن ذكر سبحانه طرفا من أحكامه وحلاله وحرامه قال : من سمع وأطاع فهو المؤمن حقا ، وعمله مقبول ، وعليّ أجره وثوابه ، ومن جحد أحكامي وشريعتي فهو الكافر الخاسر ، فالمراد بالإيمان هنا نفس الأحكام التي يجب الايمان بها ، من باب اطلاق المصدر على المفعول ، كاطلاق الخلق على المخلوق ، والأكل على المأكول ، أما الإحباط فقد تكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية ٢١٧ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٢٦.

الوضوء والتيمم الآة ٦ ـ ٧ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ

٢٠