التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

فأنكرا ، وقالا ما دفعه إلينا دفعناه إليكم ، وحلفا على ذلك .. وبعد حين رأى أهل الميت ذاك الشيء مع ثالث ، فقالوا : من أين لك هذا؟ قال : اشتريته من فلان وفلان ، أي من المتهمين ، فترافعوا الى النبي (ص) .. وقيل : ان المتهمين حين فوجئا بذلك قالا : اشتريناه منه. فنزل قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا) الخ. والمعنى فان ظهرت أمارات تستدعي الريبة بالمتهمين فالواجب حينئذ أن يقوم رجلان من ورثة الميت ، ويحلفا بالله انهما أصدق من المتهمين ، وأن يقولا في اليمين : وما اعتدينا انّا إذا لمن الظالمين ، وبعد الحلف يحكم على المتهمين.

وتسأل : لقد طال كلام المفسرين وتضارب حول قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) حتى نقل عن بعض القدامى انه قال : هذه أشكل جملة في كتاب الله من حيث التركيب ، فما هو القول الصحيح في تفسيرها؟.

الجواب : ان الذي أوقع المفسرين في الارتباك هو ان ضمير (عليهم) إلى من يعود؟ والذي نراه انه يعود الى ورثة الميت ، لأن ما كان مستحقا عليه من الديون ونحوها يصير بعد موته مستحقا على ورثته ، وعليه يكون المعنى يحلف اثنان من الذين وجب عليهم ما كان واجبا على مورثهم ، والسياق يؤكد هذا ، لأن الآخرين اللذين يقومان مقام المتهمين في اليمين لا بد أن يكونا من ورثة الميت باتفاق المفسرين ولا يجوز أن يكونا من غيرهم بحال ، اذن ، يتعين أن يكون ضمير (عليهم) عائدا اليهم بالذات.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ). ذلك إشارة إلى الحكم السابق ، وقوله : (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا ..) الخ) بيان لعلة الحكم ، أي ان القصد مما شرعناه أن لا يحرّف الشهود شهادتهم ، ويحلفوا اليمين الكاذبة ، أو يمتنعوا عن اليمين بالمرة خوفا أن ترد ـ بعد الحلف ـ على الورثة.

وتسأل : إن الله سبحانه حين بيّن الحكم ثنّى ، وقال : شهادتهما .. ويقسمان. وحين أشار إلى علة الحكم جمع ، وقال : أن يأتوا بالشهادة ، فما هو الوجه؟ الجواب : إن الشهود أربعة ، اثنان يشهدان ابتداء ، واثنان يقومان مقامهما إذا ظهر الإثم على الشاهدين الأولين .. هذا ، إلى أن المفروض في علة الحكم

١٤١

أن تكون عامة تشمل المورد المذكور وغيره.

الرسل ويوم الجمع الآية ١٠٩ ـ ١١١ :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

اللغة :

روح القدس جبريل. والأكمه من ولد أعمى ، ويطلق أيضا على من عمي بعد الولادة. والحواريون جمع حواري ، وهو من أخلص في المودة.

الاعراب :

يوم يجمع (يوم) منصوب بفعل محذوف ، أي اتقوا يوم يجمع. وما ذا كلمة واحدة بمعنى أي شيء ، وهي هنا مجرورة بحرف جر محذوف ، أي بأي شيء أجبتم؟ وإذ قال بدل من يوم يجمع. ويجوز أن يكون على ألف عيسى

١٤٢

فتحة إذا أعرب ابن مريم صفة له ، ويجوز أن يكون عليها ضمة إذا أعرب ابن بدلا من عيسى ، لا وصفا. وفي المهد متعلق بمحذوف حالا من ضمير تكلم ، وكهلا عطف على الحال المحذوف ، أي كائنا في المهد وكهلا. وإن آمنوا (ان) للتفسير بمعنى أي.

المعنى :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ). قال الرازي : «إن عادة الله تعالى جارية في كتابه الكريم انه إذا ذكر أنواعا من الأحكام أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء ، وإما بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم .. ولما ذكر هنا أحكاما من الشريعة اتبعها أولا بوصف أحوال القيامة ، ثم أحوال عيسى».

والمشهد الذي ذكره هنا سبحانه مشهد رهيب ، يحشر فيه الخلائق للحساب والمحاكمة قبل صدور الحكم بالعفو أو الادانة .. انه تعالى يجمع رسله الذين كان قد فرقهم ووزعهم في محافظاته وأقاليمه وقراه .. وبديهة ان قراه تعالى وأقاليمه غير قرانا وأقاليمنا .. انها الأمم والأجناس والأقوام ، ثم يجابه كل أمة وكل قوم برسولهم ويقول له : ما ذا قال لك هؤلاء؟ .. يريد بهذا السؤال أن يلقي الحجة على عباده ، ويمهد للحكم وحيثياته. ويجيب الأنبياء في هذا المشهد : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ومن علم الغيوب فلا تخفى عليه الظواهر.

وتسأل : إن الأنبياء يعلمون من جحد رسالتهم ، وحاربهم من أجلها في حياتهم ، فما هو الوجه لقولهم : لا علم لنا؟.

الجواب : ليس المراد من قولهم هذا نفي العلم إطلاقا ، بل المراد ان علمهم ليس بشيء في جانب علمه تعالى ، لأنهم يعلمون من أمتهم ما أظهروا وهو يعلم ما أظهروا وأضمروا.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ). بعد أن استجوب سبحانه أنبياءه بكلمة موجزة (ما ذا أُجِبْتُمْ) خص عيسى (ع) من

١٤٣

بينهم بخطاب مطول ومفصل يذكره فيه بنعمته عليه وعلى والدته (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبريل (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) تنزيها لأمك من كل شبهة (وَكَهْلاً) أي ان كلامه في المهد كان مثل كلامه ، وهو كهل (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) قيل المراد به الخط لأن الكتاب مأخوذ من الكتابة (وَالْحِكْمَةَ) الشريعة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي). مر تفسير نظيره في الآية ٤٩ من سورة آل عمران. وكرر سبحانه بإذني أربع مرات للتأكيد على ان الخلق والأحياء والإبراء من الله ، لا من سواه ، وانما أظهر سبحانه هذه الأفعال على يد عيسى (ع) لتكون دليلا على صدقه ونبوته.

عيسى ونبوة الأطفال :

قد يظن أو يموه ان عيسى (ع) نبي صغير .. لأنه تكلم في المهد ، أي في حجر أمه ، وهذا جهل أو تدليس .. لأن عيسى إنما تكلم في المهد تبرئة لأمه من قول الآثمين ، لا لأنه رسول من المرسلين .. وإذا كان الله قد أسقط التكليف الخفيف عن الصبيان فهل يكلفهم بالأحمال والأثقال؟ .. (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ـ ٥ المزمل». ومن يسمع له ويطيع ، وهو في المهد؟. وهل تقوم الحجة لله على عباده بطفل رضيع؟ وأين التعاليم التي بلّغها للناس عن الله ، وهو يلتقم ثدي أمه؟.

إن الأناجيل المعتبرة عند النصارى تنص على ان عيسى بعث في سن الثلاثين ، فقد جاء في إنجيل لوقا الفصل الثالث رقم ٢٣ ما نصه بالحرف : «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة». وفي شروح على الأناجيل المقدسة المطبوعة مع الأناجيل الأربعة في المطبعة الكاثوليكية سنة ١٩٣٨ ص ٥١٩ ما نصبه بالحرف : «ذكر الانجيليّ ان عمر المسيح كان ثلاثين سنة لما ابتدأ حياته العلنية والبشارة بملكوت الله». وفي بعض كتب المسلمين ما يؤيد ذلك.

وغريبة الغرائب أن تقول أناجيل النصارى : إن دعوة عيسى (ع) ابتدأت

١٤٤

في سن الثلاثين ، ثم يقول انتهازي محترف متزلفا إلى وجوه النصارى ، يقول هذا المتزلف : «ان عيسى (ع) نبيء طفلا صغيرا ، على العكس من محمد (ص) الذي بعث بعد الأربعين (١) ويستدل على افترائه هذا بأن عيسى تكلم في المهد بنص القرآن ... متجاهلا أنه إنما تكلم تبرئة لأمه الصديقة الطاهرة ، لا ليبلغ رسالة الله إلى عباده ، وهو متعلق بالثدي.

(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). جاء في خطبة من خطب نهج البلاغة : «كان عيسى يتوسد الحجر ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، وكان أدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه».

ومع هذا لم يسلم من اليهود ، فحاولوا قتله ، ووصفوه بالكذب والسحر ، وألصقوا بأمه العار ، لا لشيء إلا لأنه نطق بالحق ، ودعاهم اليه ، وأمرهم به .. ولا يختص هذا باليهود ، فإن كثيرا من الناس ينصبون العداء لمن يرشدهم إلى الخير ، ويتمنى لهم الهداية.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ). يطلق الوحي على معان ، منها الإلهام ، كما في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) ـ ٦٨ النحل». وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) ـ ٧ القصص». وهذا المعنى هو المراد بقوله : (أوحيت الى الحواريين).

وتسأل : لما ذا ذكر الله سبحانه عيسى بنعمه عليه من دون الأنبياء ، مع ان فضله ونعمه عليهم لا يبلغها الإحصاء؟

الجواب : ان الله سبحانه أجمل الخطاب مع الرسل ، وفصله مع عيسى لأن

__________________

(١). أراد هذا المتزلف أن يفضل عيسى على محمد بطرف خفي .. ولكن للذين شاهدوا محمدا عرفوا من هو؟. انظر فقرة بين حورايي محمد وحواريي عيسى عند تفسير الآية التالية ١١٣.

١٤٥

أتباعه غالوا فيه ، أما اتباع غيره فلم يدّعوا الالوهية لنبيهم ، فجاء التفصيل لاقامة الحجة على الغلاة.

مائدة السماء الآية ١١٢ ـ ١١٥ :

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

الإعراب :

إذ قال (إذ) ظرف متعلق بفعل محذوف ، أي أذكر إذ قال. والمصدر المنسبك من أن ينزل مفعول يستطيع. وان صدقتنا (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي انه. ولنا عيد (لنا) متعلق بمحذوف حال. وعيدا خبر تكون ، والجملة في محل نصب صفة لمائدة. لأولنا بدل من لنا. وأعذبه الضمير يعود إلى من يكفر. وعذابا مفعول مطلق بمعنى التعذيب. ولا أعذبه على حذف حرف الجر ، أي لا أعذب به أحدا ، وعليه يكون الضمير عائدا إلى العذاب.

١٤٦

المعنى :

لقد كثر الكلام حول المائدة وطلابها : هل كانوا مؤمنين أو مشككين؟ وهل نزلت المائدة بالفعل ، أو انها لم تنزل ، لأن الحواريين عدلوا عن طلبها بعد أن هددهم الله بقوله : «فمن كفر منكم فاني معذبه عذابا لا أعذبه أحدا». ومع افتراض نزولها فعلى أية حال نزلت؟ وما هي أصنافها وألوانها؟ ثم هل مسخوا بعدها قردة وخنازير ، لأن بعضهم سرق منها؟ .. إلى غير ذلك من القول على الله من غير علم.

ونقف نحن في حديثنا عن هذه الآيات الأربع عند مدلول كلماتها وما يتصل به.

الآية الأولى : (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين). وتومئ هذه الآية إلى أن الحواريين ما كانوا مؤمنين بعيسى عند ما طلبوا منه هذه المائدة ، لأنهم في غنى عنها مع التصديق والتسليم ، والذي يؤكد ذلك قولهم : (هل يستطيع ربك) فانه يشعر بالتشكيك في قدرة الله .. مع ان الآية السابقة قد شهدت لهم بالايمان (وإذ أوحيت إلى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا) .. هذا ، إلى أن لفظ الحواريين يدل بنفسه على إيمانهم بعيسى وإخلاصهم له ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟

وأجاب كثير من المفسرين بأن سؤالهم هذا لا يتنافى مع إيمانهم ، لأن القصد منه الايمان عن طريق الحس والعيان بعد الايمان عن طريق العقل والبرهان ، وبكلمة القصد تقوية الايمان وتثبيته ، تماما كما قال ابراهيم الخليل (ع) : «ولكن ليطمئن قلبي» .. وقد أفصح الحواريون عن هذا القصد بدلالة قوله في الآية الثانية : «وتطمئن قلوبنا» جوابا على قول عيسى لهم : «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين». أما قولهم : «هل يستطيع ربك» فمعناه هل يستجيب ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة السماء.

الآية الثانية : (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين). يريدون أن يأكلوا ليؤمنوا ويعلموا ، أو يريدون أن يأكلوا ليقوى ويرسخ الايمان في قلوبهم ، والعلم في عقولهم ، كما قدمنا ، ثم

١٤٧

يخبروا من لم يحضر المائدة من قومهم ، فيؤمن الجاحد ، ويطمئن المؤمن ـ وإن لم يأكل.

بين حواري محمد وحواري عيسى :

كان لمحمد (ص) حواريون ، كما كان لعيسى (ع) ، ولأي نبي من الأنبياء ، ولكن صحابة محمد ما سألوه أن يطعمهم من جوع بآياته ومعجزاته كما فعل أصحاب عيسى الذين قالوا له : نريد أن نأكل منها ، ولا أن يؤمنهم من خوف كما فعل أصحاب موسى ، بل قالوا له في بعض معاركه بلسان المقداد بن الأسود : «امض يا رسول الله لما أرادك الله ، فنحن معك ، ولا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا انّا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه».

وكانوا يتساقطون شهداء بين يديه ، وهم يقولون : فزنا ورب الكعبة ، وروى عنهم التاريخ في ذلك ما يشبه الأساطير. قاتل عمارة بن يزيد يوم أحد ، حتى أثخنته الجراح ، ولما أيقن بالموت رمى برأسه على قدمي رسول الله ، ولم يرفعه ، حتى فارق الحياة سعيدا بهذه الخاتمة.

وسقط سعد بن الربيع شهيدا في أحد ، فقال لأحد أصحابه : قل لرسول الله يقول لك سعد بن الربيع : جزاك عنا خير ما جزى نبيا عن أمته ، وابلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : ان ابن الربيع يقول لكم : انه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ، ومنكم عين تطرف.

وكان عمرو بن الجموح أعرج ، وأراد الخروج مع النبي إلى حرب أحد ، فحاول أولاده أن يمنعوه من الخروج ، فاشتكى لرسول الله ، وقال : اني أرجو أن أعرج الليلة إلى الجنة ، فأذن رسول الله له ، وقتل هو وأولاده الأربعة ، وشقيق زوجته ، فجاءت أرملته بعد المعركة ، وحملت زوجها وأخاها وأولادها الأربعة على جمل ، وذهبت بهم إلى المدينة ، فقابلتها النساء يسألنها عن الأخبار.

١٤٨

قالت : أما رسول الله فبخير ، وكل مصيبة بعده تهون. فسألنها : وما هذه الجثث؟ قالت : هؤلاء أولادي وزوجي وأخي أكرمهم الله بالشهادة ، وأحملهم لأدفنهم.

هذه أمثلة نقدمها للدلالة على مدى الفرق بين حواريي محمد ، وحواريي غيره من الأنبياء. ولا نبالغ إذا ما قلنا : ان ما من نبي على الإطلاق ظفر بما ظفر محمد رسول الله (ص) من أصحاب صدقوا ما عاهدوه عليه. أما السر فيكمن في شخصيته ، وعظمة رسالته.

الآية الثالثة : (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين). لما رأى عيسى منهم الإصرار ، وعلم انهم لا يقصدون العنت والتعجيز دعا الله سبحانه بدعاء العبد الخاضع المتضرع لسيده ، مناديا : يا ربنا .. ومنك .. وانت .. الخ دفعا لكل شبهة وتكذيبا لكل زاعم ان لعيسى فيها يدا ، وانها من صنعه ، لا من صنع الواحد الأحد .. والمراد بالآية المعجزة ، وبالعيد الفرحة والسرور.

الآية الرابعة : (قال الله اني منزلها عليكم فمن كفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين). استجاب سبحانه لتضرع عيسى ليزداد أصحابه ثقة به ، وإيمانا بنبوته ، وتلزمهم الحجة إذا خالفوا ، ويستحقوا أشد العقاب الذي لا يعاقب الله به أحدا ممن جحد وكفر ، لأنهم هم الذين اقترحوا المائدة ، وطلبوها بالذات ، ومن استجيب الى طلبه تقوم عليه الحجة وتنقطع منه كل معذرة إذا خالف ونكص.

عيسى والناس الآية ١١٦ ـ ١١٨ :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ

١٤٩

لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

اللغة :

تستعمل النفس في معان ، منها ما به حياة الإنسان والحيوان ، وهي التي عناها الله بقوله : «كل نفس ذائقة الموت». ومنها ذات الشيء ، مثل هذا هو نفسه. ومنها الغيب ، تقول : انا أعلم نفس فلان ، أي غيبه ، وهذا هو المقصود من النفس في الآية ، أي تعلم ما أخفيه في نفسي ، ولا أعلم ما تخفيه من علومك.

الإعراب :

اتخذوني تتعدى الى مفعولين ، لأنها بمعنى صيروني ، والمفعول الأول الياء ، والثاني إلهين ، وأمي مفعول معه. ومن دون الله متعلق بمحذوف صفة لإلهين. وقال صاحب مجمع البيان : من زائدة هنا. وهذا اشتباه لأن من تزاد بعد النفي ، ولا نفي هنا. والمصدر المنسبك من ان أقول اسم يكون ، ولي متعلق بمحذوف خبرا ليكون. وبحق الباء زائدة وحق خبر ليس ، واسمها ضمير مستتر يعود الى ما. والمصدر المنسبك من ان اعبدوا الله بدل من ضمير (به). ولا يجوز أن تكون (ان) هنا مفسرة لأن حروف القول قد صرح بها. وأنت ضمير فصل لا محل له من الإعراب.

١٥٠

المعنى :

(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله). ان الله سبحانه لم يقصد بهذا السؤال عيسى بالذات ، لأنه يعلم ما قال عيسى للناس ، وإنما قصد به اقامة الحجة على من ادعى لعيسى وأمه هذه الدعوى الكافرة (قال سبحانك) أنت منزه عن الشريك (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) لأنه نبي ، والنبي معصوم عن الزلل ، وقد بعث لمحاربة الشرك ، والدعوة إلى التوحيد ، فكيف يدعي الألوهية لنفسه ، ويدعو الناس لعبادته.

(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). استشهد على براءته من شركهم بعلم الله ، وكفى به شاهدا.

(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم). جاء في إنجيل متى الفصل الرابع ما نصه بالحرف :

«حينئذ خرج يسوع الى البرية من الروح ليجرب من إبليس ، فصام أربعين يوما وأربعين ليلة ، وأخيرا جاع فدنا اليه المجرب ـ أي إبليس ـ قائلا ان كنت ابن الرب فمر أن تصير هذه الحجارة خبزا ، فأجاب قائلا مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ، حينئذ أخذه إبليس الى المدينة المقدسة وأقامه على جناح الهيكل وقال له : ان كنت ابن الله فألق بنفسك إلى أسفل لأنه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فتحملك على أيديها لئلا تصدم بحجر رجلك فقال له يسوع : مكتوب أيضا لا تجرّب الرب إلهك ، فأخذه إبليس أيضا الى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ، وقال له : أعطيك هذه كلها ان خررت ساجدا لي ، حينئذ قال له يسوع : اذهب يا شيطان».

هل يصوم الإله؟ ولمن يصوم؟ وهل يجوع ، وهو الرزاق؟ وكيف يجربه إبليس ، وهو علّام الغيوب؟ وكيف استطاع حمله ينتقل به من جبل الى جبل وهو خالقه ، وخالق الكون بكامله؟.

١٥١

(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). جاء في بعض التفاسير ان قول عيسى (ع) لله جل وعز : (ان تعذبهم فإنهم عبادك) يومئ إلى أن عيسى طلب لهم من الله المغفرة بتأدب ورجاء ، لأن قوله : فإنهم عبادك ، يتضمن هذا الطلب ، تماما كما تقول لمن أراد القسوة على ولده : انه ولدك. أي ارفق به .. ولكن بعض المتزمتين أبى إلا أن يتمحل ويقول : «ان المعنى ان تغفر لهم بالتوبة».

ونجيب هذا القائل بأن المغفرة مع التوبة لا تحتاج إلى شفاعة ووساطة ، لأن الله قد كتبها على نفسه لكل تائب .. ثم أي مانع يمنع عيسى ومحمدا أن يطلبا من الله الرحمة والمغفرة لعباده ، فقد طلبها ابراهيم من قبل لمن عصاه : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ ٣٦ ابراهيم». هذا ، إلى أن العفو عن المسيء حسن على كل حال : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ـ ٣٢ الزخرف».

صدق الصادقين الآة ١١٩ ـ ١٢٠ :

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

الاعراب :

هذا مبتدأ ، ويوم خبر ، والجملة مفعول قال ، وجملة ينفع مجرورة باضافة يوم ، ويجوز نصب يوم على انه ظرف متعلق بمحذوف ، والمحذوف خبر هذا ، والتقدير هذا واقع يوم ينفع.

١٥٢

المعنى :

(قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا). بعد أن حكى عن عيسى انه قال لقومه : (اعبدوا الله ربي وربكم) ، بعد هذا عقب بالثناء على الصادقين بوجه العموم ، وان من صدق في هذه الحياة ينتفع بصدقه في الحياة الثانية ، ويجازى بجنات تجري من تحتها الأنهار ، وفي هذا التعقيب شهادة منه تعالى بصدق عيسى في أقواله وأفعاله ، وانه أدى رسالة ربه على وجهها الأكمل ، وان من كفر وأشرك فعليه وحده تقع التبعة والمسئولية.

(رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم). ورضى الله عن عبده جنات ونعيم ، ومقام كريم ، ورضى العبد عن ربه أن يفرح بما آتاه الله من فضله. قال الرازي : «في رضى الله أسرار عجيبة تخرس الأقلام عن مثلها ، جعلنا الله من أهلها». ولن يكون أحد من أهلها إلا بعد أن يدفع الثمن ، والثمن أن يكون شعار المشتري «لا إله إلا الله» في كل شيء ، أي أن لا يغضبه في شيء ، حتى ولو قرض بالمقاريض ، ونشر بالمناشير ، تماما كما قال سيد الكونين : إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، وكما قال سبطه الحسين الشهيد : رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين. (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير. ومن كانت له هذه المقدرة ، وهذا الملك أعطى من يرضى عنه بغير حساب.

١٥٣
١٥٤

سورة الأنعام

١٥٥
١٥٦

سورة الأنعام ١٦٥

آية مكية ، ما عدا بضع آيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

خلق السموات والأرض الآة ١ ـ ٣ :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

اللغة :

للعدل معان شتى ، تختلف باختلاف الموارد ، تقول : عدل القاضي في حكمه ، أي لم يظلم المحكوم عليه ، وعدلت الشيء فاعتدل ، أي قومته فاستقام ، وعدلت عنه ، أي أعرضت ، وعدلت به غيره ، أي جعلته مساويا له ، وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى : (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ). والأجل الوقت المضروب. وقضاء الأجل انتهاؤه ، والمرية والامتراء الشك.

١٥٧

الإعراب :

خلقكم من طين على حذف مضاف ، أي خلق أصلكم ، وأجل مبتدأ ، ومسمى صفة له. وعنده متعلق بمحذوف خبرا للمبتدإ. وهو مبتدأ أول ، والله مبتدأ ثان ، وجملة يعلم خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منه ومن خبره خبر المبتدأ الأول. وفي السموات والأرض متعلق بيعلم.

المعنى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ). هذه الآيات الثلاث من الآيات الكونية الدالة على وحدانيته وعظمته ، وتشير الآية الأولى الى خلق السموات والأرض ، والظلمات والنور ، والثانية الى خلق الإنسان وبعثه بعد الموت ، والثالثة إلى علم الله واحاطته بكل شيء.

ومعنى الحمد الثناء ، وقوله تعالى : الحمد لله يريد به التعليم ، أي قولوا يا عبادي الحمد لله ، والثناء على الله حسن على كل حال ، حتى عند الضراء ، لأنه أهل للتقديس والتعظيم .. فان أصابتك مصيبة ، وقلت عندها : الحمد لله فإنك تعبر بذلك عن صبرك على الشدائد ، وإيمانك القوي الراسخ الذي لا يزعزعه شيء ، ويتأكد حسن الحمد ورجحانه عند السراء ودفع البلاء ، لأنه شكر لله على ما أسبغ وأنعم.

ووصف الله سبحانه نفسه بخالق السموات والأرض والظلمات والنور لينبه العقول إلى أنه لا شريك له في الخلق والألوهية ، فيكون هو وحده الجدير بالحمد والإخلاص له في العبودية (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ). ومحل التعجب والغرابة ان هذا الكون العجيب بأرضه وسمائه ، وهذه البينات الواضحة ، والدلائل القاطعة لم تخترق ذاك الظلام الكثيف على عقل المشرك وقلبه الذي أعماه عن الحق ، وصور له ان لله مساويا في استحقاق الحمد والعبادة.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ). أي خلق أصلكم ، وهو آدم ، وآدم من تراب وماء ، أو خلق مادة كل فرد من البشر من طين ، لأنه من لحم ودم ،

١٥٨

وهما من النبات ولحم الحيوان المتولد من النبات ، والنبات من الطين (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). للقضاء معان ، منها الحكم والأمر : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر .. ومنها الإخبار والإنهاء : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي انهينا. ومنها الحتم الذي لا مفر منه : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا المعنى هو المراد هنا.

والله سبحانه قضى لكل فرد من عباده أجلين : أحدهما ينتهي بموته ، وبعده يعرف كم عاش. وثانيهما لإعادته وبعثه بعد الموت ، وعلم هذا عند الله وحده ، ولا يطلع عليه أحدا من خلقه ، كما دلت على ذلك كلمة عنده. (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). أي تشكّون ، والمعنى : أبعد ان قامت الدلالة على قدرة الله في الخلق الكبير ، وهو الكون ، وفي الخلق الصغير ، وهو خلق الإنسان وموته وبعثه ، أبعد هذا تشكون في وجود الله ووحدانيته وعظمته! .. وخير تفسير لهذه الجملة قول علي أمير المؤمنين (ع) : عجبت لمن شك في الله ، وهو يرى خلق الله ، وعجبت لمن نسي الموت ، وهو يرى الموت ، وعجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ). ذكر سبحانه في الآية الأولى انه خالق السموات والأرض ، والنتيجة الحتمية لهذا انه موجود في السموات والأرض ، ومعنى وجوده فيهما وجود آثاره ، وذكر في الآية الثانية انه خالق الإنسان ومميته ومعيده ، واللازم القهري لذلك انه يحيط علما بسره وجهره ، وما يكسبه من إيمان وكفر ، وإخلاص ونفاق ، وأقوال وأفعال تعود عليه بالخير أو الشر.

الجحود بآيات الله الآة ٤ ـ ٦ :

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)

١٥٩

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

اللغة :

جاء في تفسير الرازي : قال بعضهم : القرن ستون سنة. وقال آخرون : سبعون. وقال قوم : ثمانون. والأقرب انه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان ، بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل : انقضى القرن ، والدليل قول الرسول الأعظم (ص) : خير القرون قرني. والتمكين في الشيء جعله متمكنا من التصرف فيه. وأرسلنا السماء ، أي المطر بالنظر إلى انه ينزل من السماء ، والمدرار الغزير.

الاعراب :

من آية من زائدة ، وآية فاعل. ومن آيات متعلق بمحذوف صفة لآية. وكم استفهام في موضع نصب بأهلكنا. ومن قبلهم بيان لها. وجملة مكنّاهم في محل جر صفة لقرن الذي معناه الجماعة. ومدرار حال من السماء.

المعنى :

أصول العقيدة ثلاثة : التوحيد والنبوة والبعث ، والآيات الثلاث السابقة تعرضت للتوحيد ودلائله ، وتعرضت هذه الآيات إلى النبوة ، وحال المكذبين بها. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). المراد بالآية هنا الحجة القاطعة على وجود الله ووحدانيته ، وعلى البعث ونبوة محمد ، والمعنى

١٦٠