التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

عن الخصال الثلاث ، وبديهة إنما تجب على النحو المتقدم إذا حلف وحنث. (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) من الابتذال ، فإن لليمين بالله حرمتها وعظمتها ، قال تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ـ ٢٤٢ البقرة». وفي الحديث : «إن نبي الله موسى أمر أن لا يحلفوا بالله كاذبين ، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). قال الرازي : «المعنى ظاهر». أجل ، ولكن الله سبحانه أراد أن ينبهنا إلى نعمة المعرفة بأحكامه ، كيلا تصدر عن غيرها.

الخمر والميسر الآية ٩٠ ـ ٩٢ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))

اللغة :

الميسر القمار. والأنصاب الأصنام. والأزلام قطع من الخشب على هيئة السهام كان أهل الجاهلية يستقسمون بها ، وتقدم شرحها في الآية ٣ من هذه السورة. والرجس الشيء المستقذر.

١٢١

الإعراب :

من عمل الشيطان متعلق بمحذوف صفة لرجس. وفي الخمر والميسر متعلق بيوقع. وفهل أنتم منتهون أمر من صيغة الاستفهام ، وهو أبلغ من الأمر بصيغة أفعل.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ). تكلمنا مفصلا عن تحريم الخمر والقمار عند تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٢٨. وعن الأنصاب والأزلام عند تفسير الآية ٣ من هذه السورة : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ). ونسب سبحانه شرب الخمر ، ولعب القمار ، وعبادة الأصنام ، والاستقسام بالأزلام ، نسب هذه إلى الشيطان لأنه يحبذها ويغري بها. (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ضمير اجتنبوه يعود إلى الرجس ، وهو أمر بالاجتناب ، والأمر يدل على الوجوب ، بخاصة عند بيان السبب ، وقد بيّن هنا ان سبب وجوب الاجتناب هو الفلاح .. ولو لم يكن من دليل على تحريم الخمرة إلا مساواتها مع عبادة الأصنام لكفى. فكيف إذا عطفنا عليها الآية ٢١٩ من سورة البقرة ، والآية ٣٢ من الاعراف ، والأحاديث المتواترة ، وإجماع المسلمين من عهد الرسول (ص) إلى اليوم ، وإلى آخر يوم.

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ). بعد أن أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ، وقرنهما بعبادة الأصنام ، وجعلهما رجسا من عدو الإنسان ، وبيّن ان اجتنابهما سبيل إلى الفلاح ـ بعد هذا أشار جل ثناؤه الى أن فيهما مفسدتين : إحداهما اجتماعية ، وهي قطع الصلات ، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس. وثانيهما دينية ، وهي الصد عن ذكر الله وعبادته ، ثم طلب سبحانه الانتهاء عن الخمر والميسر بأبلغ تعبير : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). والإسلام يحرص كل الحرص على أن يصل

١٢٢

الإنسان بخالقه وبمجتمعه ، وأن يكون عند الله والناس في مكان الرضا والتكريم.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في ترك الخمر والميسر وغيرهما من المحرمات (وَاحْذَرُوا) ما يصيبكم من عذاب الله إذا خالفتم أمره وأمر رسوله. قال الإمام علي (ع): انصح الناس لنفسه أطوعهم لربه ، وأغشهم لنفسه أعصاهم لربه. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). وقد أداه كاملا ، وأقام الحجة على الناس ، وخرج عن عهدة التبليغ ، ومن خالف فهو وحده المسئول.

اتقوا وآمنوا الآة ٩٣ :

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

المعنى :

اتفق المفسرون على انه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة لرسول الله (ص) : كيف بإخواننا الذين ماتوا ؛ وقد شربوها؟ فنزلت هذه الآية ، وهي تدل بمجموعها على أن من شرب الخمرة قبل بيان حكمها فلا بأس عليه إذا كان من المؤمنين المتقين ، ومن هنا اتفق الفقهاء على ان كل شيء مطلق ، حتى يرد فيه نهي.

وبعد أن اتفق المفسرون على أن هذا المعنى هو المقصود من الآية ، اختلفوا في السبب الموجب لتكرار التقوى ثلاث مرات ، حيث ذكرت أولا مع الايمان والعمل الصالح ، وثانيا مع الايمان فقط ، وثالثا مع الإحسان .. ونقل الرازي

١٢٣

في ذلك خمسة أقوال. وقال صاحب مجمع البيان : المراد بالاتقاء الأول اتقاء شرب الخمر بعد تحريمها ، وبالاتقاء الثاني الدوام على ذلك ، وبالاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي مع ضم الإحسان. وقال بعض المفسرين الجدد : لم تسترح نفسي لشيء من التفاسير ، ولم يفتح الله عليّ بشيء.

والذي نحتمله ، والله أعلم ، ان الغرض من هذا التكرار أن يبين الله سبحانه ان المتقي حقا هو من اتقى الله في جميع أطواره وحالاته ، شابا وكهلا وشيخا ، وفي السراء والضراء ، وان من مات على ذلك فهو في أمن وأمان.

لا صيد في الحرم ولا مع الاحرام الآية ٩٤ ـ ٩٦ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

١٢٤

اللغة :

الابتلاء الاختبار. والغيب ما غاب عن الحواس الخمس. والحرم جمع حرام للذكر والأنثى ، تقول : رجل حرام ، وامرأة حرام بمعنى محرم ومحرمة. والنعم الإبل والبقر والضأن. والعدل بفتح العين المساوي للشيء قيمة من غير جنسه ، وبكسرها المساوي له مثلا ، أي من جنسه. والوبال الثقيل المكروه ، ومنه طعام وبيل وماء وبيل. والبحر الماء الكثير بحرا كان أو نهرا أو غديرا أو بئرا أو بركة. والسيارة جماعة المسافرين.

الإعراب :

ليعلم منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك مجرور بها ومتعلق بيبلوكم. وبالغيب في موضع الحال من فاعل يخافه ، أي يخاف الله حال غيابه عن الناس. وأنتم حرم الجملة حال من واو لا تقتلوا. وفجزاء مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي فعليه جزاء. ومثل صفة لجزاء. وهديا حال من الضمير في (به). وبالغ صفة لهدي. وكفارة عطف على جزاء. وطعام بدل من كفارة. وصياما تمييز من عدل ذلك. والمصدر المنسبك من أن يذوق مجرور باللام ، ومتعلق بصيام. ومتاعا مفعول لأجله لأحلّ لكم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ). المراد بشيء من الصيد نوع منه ، وهو صيد البر فقط ، وقوله : تناله أيديكم ورماحكم كناية عن صيده بلا مشقة ، والمعنى إن الله سبحانه حرّم صيد البر في الحرم ، وحال الإحرام ، وهو سهل التناول ، تماما كما حرم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت ، وهي بمرأى منهم (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي إن الله ابتلاكم بتحريم الصيد في هذه الحال ليميز بين من يخافه ويطيعه في السر

١٢٥

كما يطيعه في العلانية ، وبين من يتظاهر بطاعته والخوف منه أمام الناس ، ويعصيه في الخفاء (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي من خالف أمر الله بالصيد بعد هذا البيان وإقامة الحجة ـ استحق عذاب الله وعقابه.

معنى الاختبار من الله :

وتسأل : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فما هو الوجه لقوله تعالى : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ). وقوله : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ)؟

الجواب : إن الله سبحانه لا يختبر عبده ليعلم منه ما لم يكن يعلم .. كلا ، فانه أعلم به من نفسه ، وإنما يمتحنه لأمور :

«منها» : أن يترجم العبد ما هو كامن في نفسه إلى عمل ملموس ، حيث اقتضت حكمته جل ثناؤه أن لا يحاسب الناس على ما يعلمه منهم ، ولا على ما هو كامن في نفوسهم من القوى والغرائز ، وإنما يحاسبهم على ما يقع منهم من أعمال .. إن الغرائز النفسية من حيث هي لا تستدعي حسابا ولا عقابا ، ما دامت كامنة في باطن الإنسان ، ولا يظهر لها أثر يرى بالعين ، أو يسمع بالأذن. قال الإمام علي (ع) : يقول الله : «واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة». ومعنى ذلك إنه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب.

و «منها» : أن يتميز الخبيث من الطيب ، وتظهر حقيقته أمام الناس ، فيعاملونه بما يستحق : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ١٤٠ آل عمران». وكثيرا ما بقع هذا في حياة الناس ـ مثلا ـ أنت تعلم ان زيدا من أهل العلم والمعرفة ، وصادف وجوده بين قوم لا يعرفون منه ما تعرف ، وأردت أن يعلموا مكانه من الوعي والعلم ، فتسأله بمحضر منهم ليتكلم ويعرف .. أو تعلم انه سخيف جاهل ، وهم يظنون انه عالم حكيم ، فتمثل نفس الدور لتظهر لهم سخفه وجهله.

١٢٦

و «منها» : إن كثيرا من الناس يجهلون حقيقة أنفسهم ، ويقولون : لو سمحت لنا الظروف لكنا كذا وكيت ، فيمنحهم الله الاستطاعة ليلقي الحجة عليهم ، ويعرفهم بحقيقتهم وواقعهم : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ـ ٧٧ التوبة».

وطلب بنو إسرائيل من موسى (ع) أن يجعل لهم يوما للراحة والعبادة ، فجعل الله لهم يوم السبت ، وأخذ عليهم العهد أن لا يفعلوا فيه شيئا ، كما طلبوا .. ولكن ساق اليهم الحيتان في هذا اليوم ، حتى إذا ذهب السبت اختفت الحيتان ، فاحتال بنو إسرائيل لصيدها ونقضوا العهد.

وعلى الوجه الأول ، أي ظهور الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، على هذا يحمل قوله تعالى : ليبلونكم الله .. وقوله : ليعلم الله من يخافه .. وقوله : وليعلم الله الذين آمنوا ، ونحو هذه من الآيات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). اتفق الفقهاء على ان الصيد في الحرم لا يجوز للمحل ولا للمحرم على السواء ، أما خارج الحرم فيجوز للمحل ، دون المحرم ، ولو ذبح المحرم الصيد يصير ميتة ، ويحرم أكله على جميع الناس.

وجاء في كتاب فقه السنة للسيد سابق : ان حد الحرم المكي من جهة الشمال مكان يدعى «التنعيم» وبينه وبين مكة ٦ كيلومترات. ومن الجنوب «أرضاه» وبينها وبين مكة ١٢ كيلومترا. ومن جهة الشرق «الجعرانة» وبينها وبين مكة ١٥ كيلومترا.

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً). إذا قتل المحرم أو المحل في الحرم شيئا من الصيد البري ، وكان للمقتول مثل من الأنعام الأهلية الثلاثة ، وهي الإبل والبقر والضان ، ان كان الأمر كذلك تخير القاتل بين أن يذبح مثل المقتول ويتصدق به ، وبين أن يقوّم المثل بدراهم يشتري بها طعاما ، ثم يتصدق بالطعام على المساكين لكل مسكين مدان ، أي ١٦٠٠ غرام

١٢٧

على التقريب ، وقيل : مد ، وبين أن يصوم يوما عن كل مدّين ، أو عن كل مد على قول. ومعنى قوله : «يحكم به ذوا عدل» أن يشهد اثنان من أهل العدالة بأن هذا الحيوان الأهلي هو مثل الحيوان الوحشي المقتول. ومعنى «هديا بالغ الكعبة» ان يذبح المماثل في جوار الكعبة ، ويفرق لحمه على المساكين. وان لم يوجد المماثل من النعم قوّم المماثل الأهلي من غير النعم ، واشترى بثمنه طعاما ، وتصدق به ، أو صام على التفصيل المتقدم.

(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ان الصيد في الحرم ، أو في حال الإحرام هتك لحرمات الله فعوقب الصائد عليه بالكفارة المذكورة ، ومعنى وبال أمره عاقبة فعله السيء (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من الصيد قبل التحريم (وَمَنْ عادَ) إلى الصيد (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) لإصراره على الذنب.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ). الضمير في طعامه يعود إلى البحر ، لأن فيه ما يؤكل غير الصيد ، ويجوز أن يعود الى الصيد ، ويكون المعنى ان الله سبحانه أحل صيده ، وأحل أكله أيضا.

والمراد بالسيارة المسافرون غير المحرمين (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً). أي ان صيد البحر حلال مطلقا ، أما صيد البر فهو حلال في غير الحرم ، وغير حال الإحرام. قال الإمام جعفر الصادق (ع) : لا تستحلن شيئا من الصيد ـ أي البري ـ وأنت حرام ، ولا أنت حلال في الحرم ، ولا تدلن عليه محلا ، ولا محرما ، فيصطاده ، ولا تشر اليه ، فيستحل من أجلك ، فان فيه فداء لمن تعمده. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). أي اجتهدوا في طاعته وطلب مرضاته ، ليجزيكم يوم الحشر بالإحسان إحسانا.

البيت الحرام الآية ٩٧ ـ ٩٩ :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

١٢٨

وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))

اللغة :

القيام والقوام بمعنى واحد وفعله قام ، والمراد به هنا تأدية العبادة ومناسك الحج. والهدي ما يذبح في الحرم من الأنعام. والقلائد أي ذوات القلائد لأنهم كانوا يقلدون الهدي بما يدل عليه.

الإعراب :

البيت الحرام بدل من الكعبة. وقياما مفعول ثان لجعل. وذلك مبتدأ ، والمصدر المنسبك من لتعلموا متعلق بمحذوف خبر ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولا لفعل محذوف ، أي فعلنا ذلك من أجل اعلامكم.

المعنى :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ). قياما للناس ، أي محلا للعبادة ومناسك الحج ، والشهر الحرام جنس يشمل الأشهر الأربعة ، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وقد حرم سبحانه القتال فيها وفي حرمه إلا دفاعا عن النفس أو المال ، قال تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) ـ ١٩٠ البقرة». وقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ ١٩٣ البقرة».

١٢٩

والهدي ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، والقلائد الهدي الذي وضعت في عنقه علامة تدل على انه للكعبة ، كي لا يتعرض أحد له. وعلى هذا يكون عطف القلائد على الهدي من باب عطف الخاص على العام ، والقصد من ذكر الهدي مع البيت الحرام والأشهر الحرم ان الهدي يجب أن يكون آمنا هو ومن يسوقه ، لأنه قاصد الحرم الشريف ، بل ان الله سبحانه قد أمّن الطيور والحيوانات ، حرمة ما دامت في حرمه إلا الحدأة ـ نوع من الطير ـ والغراب والفأر والعقرب والكلب العقور .. وكل مؤذ في رأينا.

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). بعد أن بيّن سبحانه حرمة الكعبة والأشهر الحرم والهدي أشار إلى أن الحكمة من هذا التشريع ان يعلم الناس ان الله يعلم تفاصيل الأمور في الأرض والسماء ، ومنها التي تصلح الناس في دينهم ودنياهم ، وأية مصلحة أعظم من تأمين الإنسان على حياته وماله ، ولو في وقت من الأوقات ، أو في زمن من الأزمان .. وقد رأينا الدول الكبرى المتطاحنة في هذا العصر تتفق فيما بينها على أن تكون بعض البلاد منطقة محايدة ، لا يجوز للدول المتنازعة أن تشركها في أحلافها العسكرية ، ولا أن تتخذ من أرضها مقرا لقواعدها الحربية ، ولا ممرا لجيوشها المقاتلة.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قرن سبحانه العذاب بالرحمة والمغفرة ليكون العبد خائفا من نقمته ، راجيا لرحمته. لأنه إذا خاف ابتعد عن المعصية ، وإذا رجا اجتهد في الطاعة. قال الرازي ـ ونعم ما قال ـ : «ذكر سبحانه أنه شديد العقاب ، ثم عقب بوصف الرحمة والمغفرة ، وهذا تنبيه على دقيقة ، وهي ان ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة ، والظاهر ان الختم لا يكون الا على الرحمة» .. هذا هو الصحيح.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ولا يطلب منه أكثر من ذلك ، حيث لا عذر بعد البلاغ لمن أهمل وفرط ، أما الحساب والعقاب فعلى الله وحده : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ـ ٤١ الرعد». (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من الأقوال والأفعال (وَما تَكْتُمُونَ). هذا تهديد لمن يسكت عن الحق ، وبالأولى لمن يتاجر به مستترا باسم الدين والوطنية.

١٣٠

كثرة الخبيث الآة ١٠٠ :

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

المعنى :

هذه الآية ترادف قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) ـ ٢٠ الحشر». وكثرة الخبيث ما يملكه من جاه ومال. والعاقل لا يستوي لديه الخبيث والطيب ، وان كثر ماله ، واتسع جاهه ، لأن الجاه والمال لا يجعلان الخبيث طيبا ، ولا الفقر وخمول الذكر يجعلان الطيب خبيثا.

والرجل الخبيث في مقياس الدين من عصى أحكام الله في كتابه وسنة نبيه ، والخبيث في عرف الناس من يخافون من شره ، ولا يأمنونه على أمر من أمورهم ، ولا يصدقونه في قول أو فعل .. وبديهة ان من كانت هذه صفاته فهو خبيث عند الله أيضا ، قال رسول الله : أشرف الايمان أن يأمنك الناس. أما الطيّب فعلى عكس الخبيث في جميع أوصافه.

هل الرزق صدفة أو قدر؟

وتسأل : إذا كان الخبيث مغضوبا عليه عند الله ، والطيب مرضيا لديه تعالى ، فلما ذا ينجح الخبيث في هذه الحياة ، وينعم بالجاه والثراء ، ويرسب الطيب ، ولا يكاد يتحقق له مطلب ، حتى قال من قال : «هذا الذي ترك الأوهام حائرة»؟

الجواب : إن للحياة سننا وقوانين نجري عليها ، ولا تتخطاها بحال ، لأن تصور الفوضى في الكون يرفضه الحس والمشاهدة .. وهذه السنن والقوانين من

١٣١

صنع الله تعالى ، لأنه هو خالق الطبيعة وما فيها. وبديهة ان قوانين الطبيعة تأبى أن تمطر السماء مالا وصحة وعلما ، وإنما تأتي هذه وأمثالها من طرقها وأسبابها الطبيعية .. فالعلم من التعلم ، والصحة من الغذاء والوقاية ، والمال من العمل ، فمن تعلم علم ، ومن اتقى أسباب الداء سلم ، ومن انتحر مات ، ومن زرع حصد ، سواء أكان طيبا أم خبيثا ، مؤمنا أم كافرا ، فالطيبة أو الايمان لا ينبت قمحا ، ولا يشفي داء ، ولا يجعل الجاهل عالما .. كل هذه وما أشبه تجري على سنن الطبيعة ، وسنن الطبيعة تجري على مشيئة الله ، ما في ذلك ريب ، لأنه هو الذي جعل التعلم سببا للعلم ، والوقاية سببا من أسباب الصحة ، والزراعة سببا للحصاد .. انه خالق كل شيء ، واليه ينتهي كل شيء.

أجل ، ان لكسب المال سبلا وأبوابا كثيرة ، وقد أحل الله بعضا ، وحرم بعضا ، أحل الله سبحانه التجارة والزراعة والصناعة ، وحرّم الربا والغش والرشوة والسلب والنهب والاحتكار والاتجار بالمبادئ فمن يكسب المال من حله ينسب كسبه اليه ، لأنه قد جد واجتهد في طلبه ، وأيضا ينسب إلى الله ، لأنه هو الذي أوجد هذه الأسباب ، وأباحها لكل راغب طيبا كان أو خبيثا ، أما من يكسب المال من غير حله كالربا والسلب فان كسبه ينسب إلى كاسبه ، وإلى الأوضاع التي مهدت له ، ولا ينسب إلى الله ، لأنه تعالى قد حرّم هذه السبل على الطيب والخبيث.

وتقول : هذا صحيح ، ولكنه لا يجيب عن السؤال ، ولا يحل المشكلة .. فلقد رأينا كلا من الطيب والخبيث يسلك الطريق المشروع للرزق ، ويطلبه من السبيل الذي أحله الله ، وأمر به ، ومع ذلك يتسع الرزق على الخبيث ، ويضيق على الطيب ، وربما بذل هذا من الجهد أضعاف ما بذله ذاك ، بل قد يأتي الرزق للخبيث من حيث لا يتوقعه ، ولا يؤهله له استعداده وجهاده .. ويمتنع عن الطيب من حيث يتوقعه ، ويؤهله له جهاده واستعداده.

الجواب : إن بعض الناس يلجئون في تفسير ذلك إلى الصدفة أو الحظ ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عجزهم عن التفسير الصحيح ، وإلا لم يلجئوا إلى ما يخبط خبط عشواء ، ويرمي عن غير قصد وتصميم.

١٣٢

لذلك نعفي نحن الحظ والصدفة من كل المسئوليات والتبعات .. ونؤمن إيمانا قاطعا بأن هناك إرادة عليا قد تدخلت لأسباب نجهلها ، لأن العلم فيها وفي أمثالها لا يزال في مراحل طفولته ، وجهل العلم بها لا يعني انها غير موجودة .. والذي يؤكد إيماننا هذا قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ـ ٧١ النحل». وقوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ـ ٢٧ الرعد». وجاءت هذه الآية بنصها الحرفي أحيانا في سورة الإسراء رقم ٣٠. وفي القصص ٨٢. وفي العنكبوت ٦٢. وفي الروم ٣٧. وفي سبأ ٣٦ و ٣٩. وفي الزمر ٥٢. وفي الشورى ١٢.

ولكن ليس معنى يبسط الرزق ، ويفضل في الرزق ، انه تعالى يمطر من السماء مالا على من يشاء .. كلا ، بل يبسط الرزق من طريقه المعروف المألوف ، ويقدر أيضا عن هذا الطريق ، فيمهده ويوسعه على بعض ، ويجعله عسيرا ضيقا على البعض الآخر .. ولكن لا علاقة بين الضيق في الرزق ، وبين الخبث ومعصية الله ، فلقد كان الرسول الأعظم (ص) يربط على بطنه حجر المجاعة ، وقال موسى : «ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير» .. وأيضا لا علاقة بين السعة في الرزق ، وبين الطيبة وطاعة الله ، فقد نادى فرعون في قومه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ، أم ـ أي بل ـ أنا خير من هذا الذي هو مهين ـ يشير إلى موسى ـ ولا يكاد يبين ، فلولا ألقي عليه اسورة من ذهب ـ ٥٣ الزخرف.

وعلى هذا ، فمن قال أو يقول : إن الله أغنى فلانا لأنه طيب فانه يتكلم بمنطق فرعون ، ويزن بميزان الشيطان .. لقد شاءت حكمته جل ثناؤه أن يثيب على الحسنة ، ويعاقب على السيئة في الدار الباقية ، لا في هذه الدار الفانية ، إن هذه دار أعمال ، وتلك لنقاش الحساب عليها .. هذا ، إلى أن كثرة الخبيث قد تكون وبالا عليه ، وسببا لشدة عذابه وعقابه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ـ ٣ الحجر». (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ـ ١٢ محمد».

والخلاصة ان الرزق يستند الى أمرين : السعي وارادة الله معا ، فمن ترك

١٣٣

السعي عاش كلا على الناس ، ومن سعى رزقه الله من سعيه ان شاء كثيرا ، وان شاء قليلا ، وتكمن هذه الحقيقة في فطرة الإنسان ، ويمارسها تلقائيا ، ودون أن يلتفت اليها .. فالتاجر يسأل الله سبحانه أن يرزقه برواج بضاعته واقبال الناس عليها ، والفلاح يسأله أن ينزل الغيث على زرعه ، ولا يسأله أن ينبت له الزرع بلا غيث ، وها أنا أدعو الله لولدي بالتوفيق في دراسته والنجاح في امتحانه ، ولا أدعوه أن يلهم الجامعة لتقدم له الشهادة بلا دراسة وامتحان .. وفي الأمثال «من سعى رعى» وربما خاب المسعى وطاش السهم .. ومع ذلك ينبغي إحكام التخطيط ، ومضاعفة الجهد ، لأن مضاعفة الجهد ، وإتقان العمل ، والصبر على المشاق سبب لمشيئة النجاح منه جل وعلا.

لا تسألوا عن أشياء الآية ١٠١ ـ ١٠٢ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

الإعراب :

قال أبو البقاء : الأصل في أشياء عند الخليل وسيبويه شيئاء بهمزتين بينهما ألف ، وهي فعلاء من لفظ شيء ، وهمزتها الثانية للتأنيث ، وهي مفردة في اللفظ ، ومعناها الجمع ، مثل قصباء وطرفاء ، ولأجل همزة التأنيث منعت من الصرف ، ثم ان الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة قدمت ، فجعلت قبل الشين كراهية وجود همزتين بينهما ألف ، فصارت أشياء.

ونحن لا نؤمن بالتعليلات النحوية والصرفية ، ولا نقلد أهل التفسير فيما يقولون ..

١٣٤

ولكن قد يرغب بعض القراء في معرفة ما قاله النحاة في أشياء ، فروينا له ما روي عنهم .. والصحيح عندنا ان أشياء ممنوعة من الصرف لأنها وردت كذلك في كتاب الله وعلى لسان العرب .. ومن المفيد أن نشير الى أن كلمة شيء تطلق على المذكر والمؤنث ، وانها تجمع أيضا على أشاوى وأشايا وأشياوات.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). ان قوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا) يومئ الى أن بعض الصحابة كانوا يلحفون في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها ، وربما أدى الجواب عنها الى ما يسوء السائلين. وفي رواية : ان رجلا قال للنبي (ص) : من أبي؟ قال له : أبوك فلان. فقال آخر : يا رسول الله أبن أبي؟. قال : في النار. فنزلت الآية. وفي رواية ثانية : ان النبي قال : كتب الله عليكم الحج ، فحجوا ، فقالوا : أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت. فأعادوا السؤال ، فقال : لا. ولو قلت : نعم لوجبت. فنزلت الآية. وهذه الرواية أرجح من تلك لقوله تعالى :

(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ). أي لا تتكلفوا السؤال عن أشياء الا بعد أن ينزل فيها القرآن ، فمتى ابتدأكم ، واقتضى الأمر الشرح والتوضيح سألتم النبي (ص) فيبدي لكم ما سألتم عنه. وبهذا يتضح ترجيح رواية السؤال عن الحج في سبب النزول على رواية السؤال عن آباء الصحابة وسلفهم ، لأن القرآن يبتدأ النزول بالعقيدة والشريعة ، ولا يبتدئ بآباء الصحابة وسلفهم. وفي الحديث : «ان الله حدد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ، ولكن رحمة منه بكم فاقبلوها ، ولا تبحثوا عنها».

(عَفَا اللهُ عَنْها). أي عن مسائلكم السابقة ، فلا تعودوا إلى مثلها. وقيل : عفا الله عنها ، أي أمسك وكف عن ذكر الأشياء التي سألتم عنها ، فكفوا أنتم ، ولا تتكلفوا السؤال عنها ، وكل من التفسيرين محتمل ، لا يأباه ظاهر

١٣٥

اللفظ. (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) يصفح عن المخطئ إذا رجع عن خطأه.

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ). بعد أن نهاهم سبحانه عن السؤال عن أشياء هم في غنى عنها ضرب لهم مثلا بمن كان قبلهم ، سألوا وشددوا على أنفسهم بالسؤال ، ولما بيّن الله لهم كرهوا وتمردوا فاستحقوا العذاب ، ولو تركوا السؤال لكان خيرا لهم .. وقد أطال المفسرون الكلام في بيان المراد من القوم الذين سألوا ثم أصبحوا كافرين بسبب السؤال ، ولكن الآية أبهمت ولم تبين .. ومع ذلك لنا أن نقول : إن القوم الذين سألوا وكفروا هم بنو إسرائيل لقوله تعالى حكاية عنهم : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ـ ١٥٢ النساء».

لا بحيرة ولا سائبه الآية ١٠٣ ـ ١٠٥ :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

الاعراب :

من بحيرة (من) زائدة ، وبحيرة مفعول جعل التي هي بمعنى شرع.

١٣٦

وحسبنا مبتدأ ، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي كافينا ، والخبر (ما وَجَدْنا). و (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَيْكُمْ) اسم فعل بمعنى احفظوا ، وأنفسكم مفعول.

المعنى :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ). البحيرة بفتح الباء الناقة المشقوقة الأذن ، وكان أهل الجاهلية يفعلون بها ذلك إذا أنتجت عشرة أبطن ، وقيل : خمسة ، ويدعونها لا ينتفع بها أحد. والسائبة الناقة ينذرونها للآلهة ، ويتركونها ترعى حيث تشاء ، لا قيد لها ، ولا راعي عليها ، تماما كالبحيرة. والوصيلة الشاة تلد ذكرا وأنثى معا ، وقد كان من عادتهم إذا ولدت ذكرا يجعلونه للآلهة ، وإذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدتهما معا لم يذبحوا الذكر ، ويقولون : وصلت أخاها. والحامي الفحل يولد منه عشرة أبطن فيدعونه لا يمنع من ماء ولا مرعى ، ويقولون : حمى ظهره.

وقد بيّن سبحانه أن ذلك ليس من دينه في شيء ، وان الفحل والناقة والشاة يفعلون بها ما يفعلون تبقى على الحل ، كما كانت من قبل ، ولا تحرم بهذه الأباطيل والأساطير.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). كان أهل الجاهلية يعترفون بوجود الخالق بدليل انهم نسبوا اليه تحريم الحامي والسائبة والبحيرة والوصيلة ، ومع ذلك فقد نعتهم الله بالكفر ، لأنهم نسبوا اليه التحريم كذبا وافتراء. وعليه فكل من نسب إلى الله ما لا دليل عليه من كتابه أو سنة نبيه فهو كافر ، شريطة أن يتعمد النسبة مع علمه بعدم الدليل ، ويسمى هذا بلسان أهل الشرع بدعة ، وفي الحديث : «كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار». والحق ان هذا الافتراض بعيد الوقوع ، ومن الذي ينسب إلى الله حكما من الأحكام ، مع علمه بعدم الدليل عليه؟ .. أجل ، قد يظن الشيء دليلا ، وما هو بدليل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا

١٣٧

عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). قال الرازي : «المعنى معلوم ، وهو رد على أصحاب التقليد». وتكلمنا مفصلا عن التقليد عند تفسير الآية ١٧٠ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٩.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ذكر الرازي ثمانية أوجه لتفسير هذه الآية ، وكتب بعض المفسرين الجدد ٣٣ صفحة عند تفسيرها .. والذي دعا هذين ، وغيرهما من المفسرين إلى التطويل والتأويل هو ان الأمر بالمعروف واجب ، وظاهر الآية يدل على عدم وجوبه ، وان على المرء أن يهتم بنفسه لنفسه ، أما غيرها من الأنفس فصاحبها وحده هو المسئول عنها ، ولا يجب على أحد ردعه ولا إرشاده.

والصحيح في تفسير الآية ان على المرء أن يأمر بالمعروف ، فان نفع أمره فذاك هو المطلوب ، وإلا فقد أدى الآمر ما عليه ، ولا يضره ضلال من ضل ، والمسئول بعد الآمر هو الضال ، وليس الآمر .. وهذا التفسير يؤكد وجوب الأمر بالمعروف ولا ينفيه.

في اثبات الوصية الآية ١٠٦ ـ ١٠٨ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ

١٣٨

لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

اللغة :

ضربتم في الأرض سافرتم. وتحبسونهما تمنعونهما من الهرب. وارتبتم شككتم في صدقهما. وعثر على الشيء اطلع عليه.

الإعراب :

شهادة مبتدأ ، وخبره اثنان على حذف مضاف ، أي شهادة بينكم شهادة اثنين. وذوا عدل صفة لاثنين. ومنكم متعلق بمحذوف صفة للعدلين. ولا نشتري به الضمير في (به) يعود الى القسم بالله ، وجملة لا نشتري جواب يقسمان بالله. وجواب ان ارتبتم محذوف ، والتقدير ان ارتبتم فاحبسوهما. ولو كان ذا قربى اسم كان محذوف ، وجواب لو محذوف ، والتقدير ولو كان المشهود له ذا قربى لم نشتر به ثمنا. فآخران خبر لمبتدأ محذوف ، أي فشاهدان آخران ، أو فاعل لفعل محذوف ، أي فليشهد آخران. والأوليان تثنية الأولى بمعنى الأحق أي الأحقان بالميت ، وهما أي الأوليان فاعل استحق ، وقيل : خبر لمبتدأ محذوف ، أي هما الأوليان. والمصدر المنسبك من أن يأتوا مجرور بإلى محذوفة متعلق بأدنى. وعلى وجهها متعلق بمحذوف حالا من الشهادة.

المعنى :

هذه الآيات الثلاث من آيات الأحكام ، وتدخل في باب الوصية والشهادة ،

١٣٩

وفيها الأحكام التالية :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ). يريد جلت عظمته ان من أحس بدنو أجله ، وأراد أن يوصي بما أحب استحضر عدلين من المسلمين ، وأشهدهما على وصيته .. وتجدر الاشارة إلى أن الوصية مستحبة ، ولا تجب إلا على من كان عليه حقوق لله أو للناس ، وظهرت له دلائل الموت ، وخاف ضياعها من بعده.

٢ ـ (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ). قال الشيعة الإمامية والحنابلة : إذا أوصى رجل مسلم في السفر ، ولم يكن أحد من المسلمين عنده فله أن يشهد اثنين من أهل الكتاب ، على أن يستحلفا بعد الصلاة بين جمع من الناس إنهما ما خانا ، ولا كتما ، ولا اشتريا بشهادتهما ولا بقسمهما ثمنا قليلا ، وعندها تقبل شهادتهما كما تقبل من المسلمين ، وتجب عليهما اليمين مع الشك في صدقهما ، أما الأمين فلا يمين عليه. لقوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ).

هذا ما أفتى به الإمامية والحنابلة معتمدين على هذه الآية ، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم بحال ، وأولوا الآية بمعنى آخر ، وقال المالكية والشافعية : لا تقبل شهادة غير المسلمين إطلاقا ، ولو كانت من بعضهم على بعض. (المغني باب الشهادات).

٣ ـ (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ). جاء في صحاح الشيعة والسنة ان هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا في سفر للتجارة ، أحدهم مسلم والآخران من النصارى ، وفي الطريق تمرض المسلم ، وأحس بدنو أجله ، فكتب وصيته وذكر فيها كل ما يحمل معه ، ودسها في بعض متاعه ، دون أن يعلم صاحباه بذلك ، ثم أوصى اليهما أن يدفعا متاعه الى أهله ، ولما مات أخذا شيئا منه ، ودفعا الباقي الى أهله.

ولما عثر أهله على وصيته رأوا فيها ذكر الشيء الذي أخذاه ، فسألوهما

١٤٠