التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

المعنى :

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ). سبق تفسير قوله تعالى في الآية ١٢ من هذه السورة : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً). والآية ١٣ : «فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم». وقال المفسرون : ان الله سبحانه كرر أخذ الميثاق من اليهود ، ونقضهم إياه بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم ـ كرر ذلك تأكيدا لعتوهم وشدة تمردهم .. ونضيف نحن إلى ذلك ان الله جل ثناؤه قد أراد أيضا من هذا التكرار ـ وهو أعلم بما أراد ـ أن يحذر ذراري المسلمين من ذراري اليهود ، حيث سبق في علمه تعالى ان المسلمين سيفترقون إلى طوائف وينقسمون إلى دويلات ، وان اليهود سيستغلون هذا الانقسام لإنشاء دولة لهم في قلب البلاد الإسلامية ، ويكون منها ما كان.

(وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) بينوا لهم طريق الحق والهداية ، ولكن (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ). فهوى النفس وحده هو الآمر الناهي عند اليهود ، ولا جزاء لمن خالفهم ـ وان كان نبيا ـ إلا القتل ان قدروا عليه ، أو التكذيب ان عجزوا عن القتل .. وهذا الوصف لا يختص باليهود ، وان كان الحديث عنهم ، فكل من انخدع لهواه يفعل مثل ما فعلوا ، يهوديا كان ، أو مسلما ، أو نصرانيا.

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ). المراد بالفتنة هنا شدائد الأمور ، كتسلط الأقوياء عليهم بالقتل والتخريب والتشريد ، أي ظن اليهود أنهم لا يغلبون أبدا لأنهم شعب الله المختار بزعمهم .. وقد اعتمدوا على هذا الزعم فيما مضى ، أما اليوم فإنهم يعتمدون على القوى الاستعمارية ، والعناصر الرجعية ، والشركات الاحتكارية ، وعلى إثارة الفتن والخلافات ، ونشر الفساد والانحلال.

(فَعَمُوا وَصَمُّوا). كل من كره شيئا عمي عن محاسنه ، وقد كره اليهود كل شيء إلا ما تهوى أنفسهم ، لذا تعاموا عن منهج الحق ، وتصاموا عن صوت العدل ، فسلط الله عليهم البابليين ، فقتلوا رجالهم ، ونهبوا أموالهم ، وسبوا نساءهم وأطفالهم (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بعد أن تابوا ، لشدة ما أصابهم في أسر بخت نصر من المذلة والمهانة (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ). أي أن الله سبحانه

١٠١

بعد أن أنجاهم من عذاب الأسر عاود كثير منهم الكرة إلى البغي والفساد ، قتلوا زكريا ويحيى ، وكذبوا السيد المسيح (ع) وحاولوا قتله ، وقالوا فيه وفي أمه قولا عظيما ، فسلط الله عليهم الفرس والروم ، وفعلوا بهم ما فعله بخت نصر. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) / ٧١) من سفك الدماء ، وتزييف الحقائق ، وتدبير المؤامرات وتنفيذ الخطط التي يضع تصميمها كل طاغ وباغ .. ان الله سبحانه يعلم ذلك منهم ، وهو مجازيهم عليه بالخزي والخذلان في الدنيا قبل الآخرة.

وهذا الوصف الذي حكاه الله عن اليهود ينطبق تماما على من يتظاهر بالإسلام ، ثم يدور في فلك الذين يساندون إسرائيل ، ويناصرونها على العرب والمسلمين.

دعوة المسيح الى بني اسرائيل الآية ٧٢ ـ ٧٥ :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥))

اللغة :

الصديقة مبالغة في الصدق. والافك الكذب.

١٠٢

الاعراب؟

ثالث خبر إن. وثلاثة مجرور بالاضافة ، ولا يجوز ثلاثة بالنصب على انه مفعول لثالث ، كما يجوز لك أن تقول : ضارب زيدا على أن يكون زيد مفعولا لضارب ، لا يجوز ذلك في ثلاثة ، إذ يصير المعنى الثالث جعل الثلاثة ثلاثة ، وهذا باطل وغير مراد ، لأن المعنى المراد واحد من ثلاثة ، لا جاعل الثلاثة ثلاثة .. أجل ، إذا قلت : رابع ثلاثة يجوز أن تجر ثلاثة بالاضافة ، وأن تنصبها مفعولا لرابع على معنى جاعل الثلاثة أربعة. ما من إله (من) زائدة. وإله مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي ما إله موجود إلا الله. ولفظ الجلالة بدل من إله ، أو من الضمير في موجود. ليمسن اللام واقعة في جواب قسم محذوف ، ويمسن ساد مسد جواب القسم وجواب ان الشرطية. ومنهم متعلق بمحذوف حالا من الذين. وجملة كانا يأكلان الطعام مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، ولا يصح أن تكون صفة للمسيح وأمه ، لأن كلا منهما جاء في جملة مستقلة ، ولو قال : المسيح وأمه مخلوقان كانا يأكلان لصح إعراب الجملة وصفا. وكيف نبين (كيف) مفعول مطلق لنبين ، لأن المعنى أي بيان نبين ، ولا يجوز أن تكون كيف مفعولا لأنظر ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وأنّى بمعنى كيف ، وهي مفعول مطلق ، والمعنى أي افك يؤفكون.

المعنى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). غالى اليهود في تحقير عيسى وأمه ، وغالى النصارى في تعظيمهما ، حتى ارتفعا بهما إلى مكان الآلهة ، والغلو في نظر الإسلام كفر بشتى صوره وأشكاله. قال الإمام علي (ع) : «سيهلك فيّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق ، وخير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه».

(وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ). المسيح من بني إسرائيل

١٠٣

وأنذر أول من أنذر قومه ، فأمرهم بعبادة الله وحده معترفا بأنه ربه وربهم ، ومنذرا من يشرك بالله بأليم العذاب ، ولكن النصارى أبوا إلا القول بربوية عيسى (ع) ومن جحد بها فقد جحد بخالق الكون في عقيدتهم.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). أنكر سبحانه على النصارى أولا تأليه السيد المسيح (ع) ، ثم أنكر عليهم في هذه الآية جعلهم الله واحدا من ثلاثة ، وقولهم : إن الله هو الأب والمسيح هو الابن ، ثم حل الأب في الابن واتحد به فكوّن روح القدس ، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة هو عين الآخر ، وهو غيره. وتقدم الكلام في ذلك عند تفسير الآية ١٧ من هذه السورة ، والآية ١٧٠ من سورة النساء.

(ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ). سئل الإمام علي (ع) عن التوحيد والعدل ، فقال : التوحيد ان لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتهمه. أي من توحيد الله ان لا تتصوره بوهمك ، لأن كل موهوم محدود والله لا يحد بوهم ، والعدل ان لا تتهم الله بحكمته ، وانه فعل ما لا ينبغي أن يفعل.

(وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). وتسأل : ان (منهم) في الآية تدل بظاهرها ان النصارى فيهم الكافر والمؤمن ، مع العلم بأنهم جميعا يقولون بألوهية عيسى والله سبحانه يقول : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)؟

وأجاب المفسرون بأن (منهم) أخرجت من تاب وأسلم ، وأبقت من أصر على الكفر .. ويلاحظ بأن من أسلم لا يعد منهم ، والصحيح ان النصارى ظلوا على عقيدة التوحيد ، والإيمان بنبوة عيسى أمدا غير قصير ، ثم انقسموا إلى طائفتين : إحداهما تؤمن بالتوحيد ، والأخرى تقول بالتعدد .. وعلى طول الأمد اتفقت كلمة الجميع على التثليث ، وعلى هذا فلفظ (منهم) اخرج الطائفة البائدة التي كانت تؤمن بنبوة عيسى ، لا بألوهيته. وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٧ من هذه السورة.

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ما أوضح هذا الكلام. ورغم هذا الوضوح أبى بعض المفسرين إلا أن يفسره ويقول : «هنا فعل

١٠٤

محذوف ، والتقدير أفلا يسمعون ما قلنا فيتوبون» وهكذا يأتي الشيء جامدا باردا إذا كان في غير محله.

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم ، وقد أظهر الله المعجزات على أيديهم كما أظهرها على يد عيسى ، فالقول بربوبيته من دونهم ترجيح بلا مرجح (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ). وبيّن الله معنى الصديقة بقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ـ ١٢ التحريم».

(كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ). كل من افتقر إلى شيء ، أي شيء ولو إلى مكان أو زمان فهو مخلوق ، لأن الافتقار وصف لازم له ، ولا ينفك عنه بحال ، وإلا كان خالقا غير مخلوق .. كما ان الغنى عن كل شيء وصف لازم للخالق ، ومحال أن ينفك عنه ، وإلا كان مخلوقا .. وبديهة أن من يأكل الطعام فهو في أشد الحاجة اليه .. إذن ، هو مخلوق وليس بخالق .. وغريب أن تخفى هذه البديهة الواضحة على عاقل .. ولهذا المنطق ونصاعته عقّب سبحانه على موقفهم بقوله ـ مستنكرا ـ (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ). ومن هذه الآيات ان المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام ، فكيف يكونان إلهين؟. (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). أي معرضين عن الحق مكذبين له تمردا وعنادا.

لا ملک لکم ضرا ولا نفعا الآة ٧٦ ـ ٨١ :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ

١٠٥

عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

اللغة :

التناهي تفاعل ، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا ، ويستعمل في الكف عن الشيء ، يقال تناهى عن كذا ، أي كف عنه.

الاعراب :

غير الحق صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي لا تغلوا غلوا غير الحق. ومن بني إسرائيل متعلق بمحذوف حالا من الذين كفروا. وبئس ما كانوا (بئس) فعل ماض بمعنى الذم ، و (ما) اسم نكرة بمعنى شيء محل نصب على التمييز. وفاعل بئس مستتر يفسره ما ، أي الشيء شيئا فعلهم ، وقد تصيدنا من يفعلون مصدرا جعلناه المخصوص بالذم. وهو مبتدأ وخبره بئس وما بعدها ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو فعلهم.

المعنى :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). يستعمل القرآن الكريم (ما) فيما لا يعقل ، قال تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى). وفيمن يعقل : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

١٠٦

وفيهما معا : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). ومنه قوله تعالى في هذه الآية (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فإن المراد من (ما) كل ما اتخذ معبودا من المخلوقات فيندرج فيه عيسى ومريم والأصنام .. أجل ، ان استعمال (ما) فيما لا يعقل أكثر من استعمالها فيمن يعقل. على العكس من استعمال (من).

أما وجه الاحتجاج على النصارى بهذه الآية فلأن الإله المعبود هو الذي يملك لعباده ضرا ونفعا ، أما العاجز فمحال أن يكون إلها .. وقد ذكرت الأناجيل ان عيسى الذي يدعون له الألوهية قد أهين وصلب ودفن بعد أن وضعوا اكليل الشوك على رأسه ، ومن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فبالأولى أن لا يملكهما لغيره .. ومن كان هذا شأنه لا يعبده عاقل ، قال ابراهيم (ع) لأبيه : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ـ ٤٢ مريم». وكان لاعرابي صنم يقدسه ويعبده ، وجاءه ذات يوم ليسجد له كعادته فرأى ثعلبا بالقرب منه ، فظن ان الثعلب قصده ليتبرك به ، وحين أراد السجود له رأى قذارة الثعلب على رأسه ، فثاب اليه رشده ، وأخذ يحطم الصنم ، ويقول :

ارب يبول الثعلبان برأسه

لقد ذل من بالت عليه الثعالب

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ). هذا الخطاب موجه بظاهره إلى أهل الكتاب ، وفي واقعه يشمل أهل الأديان جميعا .. والمظهر الأصيل المميز للإسلام انه يحصر النفع والضر بيد الله وحده ، ويضع الإنسان أمام خالقه دون وسائط روحية أو مادية : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ـ ١٢٢ النساء».

(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). المراد بالقوم رؤساء الدين الذين يتاجرون به ، ويحرّفونه كما يشتهون .. وقد وصفهم جل ثناؤه بالضلال في أنفسهم أولا ، وبإضلال أتباعهم ثانيا ، ثم بيّن نوع الضلال والإضلال بأنه انحراف عن قصد السبيل (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). وسواء السبيل هو الاعتدال وترك الغلو في الدين .. وهذا هو الإسلام في واقعه ، دين قويم ، وصراط مستقيم ، وكيلا يقول المسلمون في محمد (ص)

١٠٧

ما قاله النصارى في المسيح (ع) أمر الله نبيه أن يقول للمؤمنين به : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ـ ١١١ الكهف».

ودخل رجل على رسول الله ، فارتجف من هيبته ، فربت على كتفه في حنان وقال : «هوّن عليك ، أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة».

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ). قال المفسرون : نهى داود بني إسرائيل عن صيد الحيتان يوم السبت بوحي من الله ، ولما عتوا عن أمره لعنهم ، ودعا عليهم ، فصاروا قردة. أما عيسى فقد طلب منه خمسة آلاف رجل ان ينزل عليهم مائدة من السماء ، فيأكلوا منها ، ويؤمنوا به ، ولما نزلت أكلوا ونكلوا ، فقال عيسى : اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت.

ولا شيء في الآية يومئ إلى هذه التفاصيل ، والمعنى الظاهر ان داود وعيسى لعنا من كفر من بني إسرائيل (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ). وسكت الله سبحانه عن نوع العصيان والاعتداء ، ولم يسكت عنه جهلا ولا نسيانا ، ونحن نسكت عما سكت الله عنه ، وفي الوقت نفسه نؤمن بأن لعنة الله ونقمته تصيب كل من عصى واعتدى ، سواء أكان إسرائيليا ، أو هاشميا.

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). تشعر هذه الآية بأن عمل المنكر لم يكن عملا فرديا في المجتمع اليهودي ، وإنما كان عمل الجماعة كلها ، وان المنكر قد تفشى بينهم ، حتى صار عادة من عاداتهم المألوفة التي اصطلح عليها الكبير والصغير ، ولذا لم يوجد فيهم من يستنكر المنكر ، وينهى عنه.

وعن صحيح مسلم والبخاري ان رسول الله قال : «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟» القذة إحدى ريش السهم.

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا). ضمير منهم يعود إلى اليهود ، والمراد بالذين كفروا ـ هنا ـ مشركو العرب ، وكان كثير من اليهود يقفون مع المشركين ضد النبي (ص) ، ويحرضونهم عليه ، بل كانوا أشد منهم عداوة

١٠٨

له ، مع ان النبي (ص) يؤمن بالله ، وبنبوة موسى (ع) ، وما أنزل اليه من ربه ، والمشركون يعبدون الأوثان ، ولا يؤمنون بموسى ، ولا بكتاب من كتب الله ، فكان الأولى باليهود ، وهذه هي الحال ، أن يقفوا مع المؤمنين ضد الوثنيين ، لا مع الوثنيين ضد المؤمنين.

ولكن اليهود كانوا وما زالوا يعملون على أساس الربح والتجارة ، لا على أساس الدين ، كان يهود المدينة يسيطرون على التجارة الداخلية ، ومشركو العرب يسيطرون على التجارة الخارجية ، فعمل النبي على تحرير الناس من السيطرتين ، فالتقت مصلحة اليهود مع مصلحة المشركين فتكاتفوا معهم وتضامنوا ضد المؤمنين ، تماما كما التقت اليوم مصلحة اليهود مع مصالح أرباب الشركات الاستثمارية من المسيحيين ضد الشعوب والمستعفين .. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ٥١ من هذه السورة.

(لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ). هذه نتيجة فسادهم واعتدائهم ، سخطه وعذابه ، وكل امرئ مجزي بما أسلف ، وقادم على ما قدم ، مسلما كان أو مشركان.

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) ـ موسى ـ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ). ذكر سبحانه في الآية السابقة أن اليهود ، أو الكثير منهم كانوا يتولون المشركين ، ويؤلبونهم على المسلمين ، مع ان المسلمين أقرب اليهم دينا من المشركين. ثم بيّن سبحانه في هذه الآية ان أولئك اليهود لم يؤمنوا بالله ، ولا بموسى ، ولا بما أنزل في التوراة كما يدعون ، ولو صدقوا في دعواهم ما اتخذوا المشركين أولياء من دون المؤمنين ، لأن ذلك محرم في شريعة التوراة ، (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ). أي ان المسألة عندهم ليست مسألة دين وعقيدة ، وإنما هي مسألة مصلحة ومنفعة ، كما قدمنا.

١٠٩
١١٠

الجزء السّابع

١١١
١١٢

عداوة اليهود ومودة النصارى الآة ٨٢ ـ ٨٦ :

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

اللغة :

الفرق بين القسيس والراهب ان القسيس من أهل العلم بدين النصارى وكتبهم. والراهب المنقطع في دير أو صومعة للعبادة ، مع الزهد بالزواج والولد وسائر ملذات الدنيا.

الإعراب :

عداوة تمييز ، ومثلها مودة. واليهود مفعول ثان لتجدن. وجملة تفيض حال من أعينهم ، ولا يصح أن تكون مفعولا ثانيا لترى ، لأن ترى هنا من

١١٣

رؤية العين لا تعمل إلا في مفعول واحد. وما لنا مبتدأ وخبر. وجملة لا نؤمن حال من ضمير الخبر المحذوف الذي تعلق (لنا) به. وما جاءنا (ما) في محل جر عطفا على لفظ الجلالة. والمصدر المنسبك من أن يدخلنا مجرور بفي محذوفة ، أي في أن يدخلنا ، والمجرور متعلق بنطمع.

المعنى :

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا). أي إن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين .. وكثيرا ما يستشهد بهذه الآية على أن دين النصارى أقرب إلى الإسلام من دين اليهود .. وهذا خطأ إن أريد دين اليهود والنصارى قبل التحريف ، لأن الدين عند الله وأنبيائه واحد من حيث العقيدة وأصولها ، وان أريد دينهما بعد التحريف فهما فيه سواء : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ـ ١٩ آل عمران».

والصحيح ان عداوة اليهود والمشركين تتصل اتصالا وثيقا بالتصادم بين طبيعة الدعوة الإسلامية ، وطبيعة النظام الذي كان سائدا في جزيرة العرب أول البعثة .. كان هذا النظام يقوم على أساس التسابق لاقتناء المال والعبيد عن طريق السلب والنهب ، والربا والغش ، وما إليه من أسباب القهر والمكر ، وقد انعكست طبيعة هذا النظام على الكبار من مشركي مكة الذين كانوا يسيطرون على التجارة الخارجية ، كما انعكست على زعماء اليهود في المدينة الذين كانوا يسيطرون على الصناعة والتجارة الداخلية.

وانطلقت دعوة محمد (ص) تنادي بالعدل ، وترفض الظلم والاستغلال بشتى صوره وأشكاله ، وتصدت للمستغلين من اليهود والمشركين بالذات ، وعلى هذا الصعيد التقت مصلحة الطرفين ، وتحالفوا على ما بينهما من التباعد في الدين والعقيدة ، تحالفوا وتكاتفوا يدا واحدة على حرب محمد (ص) العدو المشترك .. وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا).

١١٤

وبتعبير أوضح ان عداوة اليهود والمشركين للمسلمين كانت بدافع دنيوي ، لا بدافع ديني ، ولكن تستر اليهود باسم الدين رياء ونفاقا ، تماما كما يفعل اليوم أصحاب الكسب غير المشروع .. هذا ، إلى أن كلا من اليهود والمشركين يشتركون في العصبية الجنسية ، والحمية القومية .. ولكن مشركي العرب كانوا على جاهليتهم أرق قلبا ، وأكرم يدا ، وأكثر حرية في الفكر ، ومن هنا آمن أكثرهم برسول الله (ص) ، وما آمن به من اليهود إلا قليل.

من هم أقرب مودة للمسلمين؟

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى). يتخذ البعض من هذه الآية وما بعدها مادة للتمويه بأن القرآن الكريم يرجح أحد المعسكرين المتطاحنين ـ في أيامنا هذه ـ على المعسكر الآخر .. وهذا ما يدعونا إلى أن نشرح هذه الآيات الأربع ، ونوضحها بما لا يترك مجالا لاستغلال الانتهازيين والمنحرفين.

ان من تأمل هذه الآيات لا يعتريه أدنى ريب بأنها متكاملة يتمم بعضها بعضا ، وانه لا يصح بحال أن تفسر واحدة منها مستقلة عن أخواتها ، وانها صريحة واضحة في ان الله سبحانه لم يفاضل بين النصارى على وجه العموم ، وبين غيرهم من الطوائف في البعد أو القرب من المسلمين ، وإنما أراد سبحانه فئة خاصة من النصارى بدليل انه تعالى لم يقف عند القول : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) بل عقبه بقوله :

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ). ومعنى هذا ان من النصارى من عرفوا الإسلام ، ودخلوا فيه طوعا ، وعن قناعة وإيمان ، والتاريخ يثبت ذلك ، كما شهد التاريخ أيضا بالأحقاد الصليبية على الإسلام والمسلمين ، وبإبادتهم من الأندلس ، وبفظائع الايطاليين في طرابلس الغرب ، والفرنسيين في الجزائر وتونس والمغرب وسورية ، وبفظائع الانكليز في مصر والعراق والسودان وغيرها .. واليوم تتحالف الولايات المتحدة مع اليهود على إبادة شعب فلسطين ، وتسلح هؤلاء

١١٥

القراصنة بأحدث الأسلحة فيعتدون ، ثم يزعمون انهم المعتدى عليهم فتدعم الولايات المتحدة هذا الزعم ، وتذب عنه بحماس في مجلس الأمن وهيئة الأمم ، ويهاجم اليهود ويبطشون ، ثم يدعون انهم معرضون للبطش والهجوم ، وتقول الولايات المتحدة : نعم هذا هو الصدق والعدل .. فهل بعد هذا ، وكثير غير هذا يقال : ان النصارى ، كل النصارى أقرب الناس مودة للمسلمين؟. ان مثل هذا لا يفوه به إلا جاهل أو مضلل ، ثم ما ذا يصنع هذا المضلل بقوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ). ان الحق الذي جاءهم وآمنوا به هو الذي بشر به عيسى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ـ ٦ الصف». ويؤكد هذا ، وينفي عنه كل ريب قوله تعالى بلا فاصل : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ). فشهادة الله لهذه الفئة من النصارى بالإحسان وجزاؤها بالجنان ـ دليل قاطع على إسلامها ، وانها هي وحدها المقصودة بوصف الإحسان والثواب عليه.

أما النصارى الذين أنكروا الحق بعد أن عرفوه ، أو أعرضوا عنه ، دون أن ينظروا إلى دلائله وبيناته ، أما هؤلاء فقد هددهم الله سبحانه وتوعدهم بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). وتسأل : ان قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) الخ يشمل كل من كفر وكذّب فما هو وجه التخصيص بالنصارى؟.

الجواب : ان سياق الكلام يدل على ان الله سبحانه بعد أن وعد من آمن من النصارى بالجنة توعد من أصر على الكفر منهم بالنار ، وأطلق اللفظ ليشمل التهديد كل من خالف الحق وعانده ، وهذا لا يتنافى مع ما قلناه.

والخلاصة ان هذه الآيات صريحة في ان المقصود منها فئة خاصة من النصارى وهم الذين عرفوا الحق ، وآسوا به ، وان الله سبحانه قد أدخلهم الجنة بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم ، وإذا افترضنا ـ جدلا ـ ان قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) الخ) يشمل كل من قالوا إنا نصارى ، إذا افترضنا هذا فيجب أن نصرف الآية عن ظاهرها ، ونخصصها بمن آمن منهم لأمرين :

الأول : إن الله سبحانه ذكر في العديد من آياته أن النصارى جعلوا لله

١١٦

شركاء ، وكتموا اسم محمد (ص) عن علم ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم آلهة من دون الله ، ثم نهى جل ثناؤه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، وقال : «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء». وإذا عطفنا هذه الآية وما اليها على قوله : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) يكون المعنى ان النصارى (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) كما جاء في الآية ٦٧ من سورة المائدة.

الثاني : إن أهل التفاسير قالوا : إن الآيات التي نحن بصددها نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، وكان نصرانيا ، لأن النبي (ص) لما رأى ما حل بأصحابه من أذى المشركين في بدء الدعوة أمرهم بالهجرة إلى الحبشة ، وقال لهم : إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، فذهبوا اليه ، وكان من بينهم جعفر بن أبي طالب ، فوجدوا عند النجاشي الأمان ، وحسن الجوار ، وكان ذلك في السنة الخامسة من مبعث الرسول (ص).

وقد تواترت الأخبار ان النجاشي وبطانته من رجال الدين والدنيا أسلموا على يد جعفر بن أبي طالب بعد أن تلا عليهم آيات من الذكر الحكيم ، وذكر محاسن الإسلام. وان أعينهم فاضت من الدمع عند ما سمعوا آيات الله.

وبعد ، فإن من يستشهد بقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) على أن النصرانية والنصارى بوجه عام أقرب من غيرهم إلى الإسلام والمسلمين ، ويسكت عن الآيات المتممة لهذه الآية ، ان من يفعل هذا فهو جاهل بكتاب الله ، أو مراء يتزلف إلى النصارى على حساب الإسلام والقرآن ، أو خائن يسمم أفكار السذج من المسلمين ليصدقوا مزاعم أعداء الدين الذين يناصرون إسرائيل ويباركون عدوانها على العرب والمسلمين.

لا تحرموا الطيبات الآة ٨٧ ـ ٨٨ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا

١١٧

إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

الإعراب :

حلالا حال من (ما) ، أو صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي رزقا حلالا.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ). قالوا : إن هذه الآية نزلت في قوم من الصحابة غلب عليهم الخوف من الله ، فحرموا على أنفسهم النساء وطيبات الطعام واللباس ، وانقطعوا إلى قيام الليل ، وصيام النهار. فدعاهم رسول الله (ص) وتلا عليهم الآية ، وقال : أما أنا فأقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني. وقوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يشعر بأن تحريم الحلال ، تماما كتحليل الحرام ، كل منهما ظلم واعتداء.

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً). تقدم تفسيره في الآية ١٦٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٨.

اللغو في الإيمان الأة ٨٩ :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ

١١٨

أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

اللغة :

اللغو في اللغة ما لا يعتد به ، ولغو اليمين الحلف من غير قصد ، كما لو سبق اللسان بقول : لا والله ، وبلى والله. وعقد الإيمان قصدها. والكفارة من الكفر بفتح الكاف ، وهو الستر والتغطية ، ثم استعملت الكفارة في الأعمال التي تكفّر الذنوب ، أي تغطيها وتخفيها. والمراد بالطعام الأوسط الأغلب من المأكول.

الإعراب :

الضمير في كفارته يعود إلى (ما) في قوله (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ). وكذلك (الكاف) بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي يبين الله لكم تبيانا مثل ذلك ، وذلك مجرور بالاضافة.

المعنى :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ). يمين اللغو هي ان ينطلق اللسان بها من غير قصد ، مثل قولك : لا والله. لمن سألك : هل رأيت فلانا؟. أو قولك : بلى والله. لمن قال لك : لا تريد كذا وكيت .. وهذه لا عقاب عليها ، ولا كفارة لها ان خالفت الواقع لقوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ). ولازم ذلك ان قائلها لا يعد كاذبا فيها ، وليس لأحد أن يقول : حلفت بالله

١١٩

كاذبا إذا تبين العكس. وبكلمة ان هذه لا يترتب عليها شيء من آثار اليمين لأنها ليست منها في شيء إلا في الصورة ، ومع ذلك فإن الأولى تركها مع التنبيه وعدم الغفلة.

(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ). أي ان اليمين الشرعية التي يجب الوفاء بها ، ويؤاخذ الحالف على حنثها هي التي يحلفها البالغ العاقل عن قصد وتصميم ، وارادة واختيار.

واتفقوا على ان اليمين تتم وتنعقد إذا كان الحلف بالله ، أو باسم من أسمائه الحسنى ، كالخالق والرازق. وقال الشيعة الإمامية وأبو حنيفة : لا تنعقد اليمين بالمصحف والنبي والكعبة ، وما اليها ، لحديث : «من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر». وقال الشافعي ومالك وابن حنبل : تنعقد بالمصحف. وتفرّد ابن حنبل بأنها تنعقد بالنبي أيضا.

(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). إذا حلف وحنث ، أي فعل ما حلف على تركه ، أو ترك ما حلف على فعله ، إذا كان كذلك وجبت عليه الكفارة مخيرا بين خصال ثلاث :

الأولى : أن يطعم عشرة مساكين وجبة واحدة لكل واحد بالجمع بينهم ، أو التفريق ، على أن تكون الوجبة من الطعام الغالب الذي يأكله هو وأهله ، ويجوز أن يعطي المسكين مدا من الطعام بدلا من الوجبة ، والمراد بالمسكين الفقير الذي تحل له الزكاة ، والمد أكثر من ٨٠٠ غرام بقليل.

الثانية : أن يكسو عشرة مساكين ، ويجزي كل ما يسمى كسوة في العرف ، لأن الشرع ورد بها مطلقا ، فتحمل على المعنى المعروف من غير فرق بين الجديد والعتيق ، ما لم يكن الثوب باليا أو ممزقا.

الثالثة : أن يعتق عبدا ، ولا عبيد اليوم.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ). أي فإن عجز عن الخصال الثلاث المتقدمة صام ثلاثة أيام ، وإن عجز عن الصوم استغفر الله ورجا عفوه. (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ). ذلك إشارة إلى الطعام والكسوة والعتق والصوم بعد العجز

١٢٠