التّفسير الكاشف - ج ٣

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٣

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٢٦

وبهذا يتبين ان قيم الأخلاق في الإسلام تقاس بمدى ما تحققه للإنسان من جلب مصلحة ، أو دفع مفسدة ، ومعنى هذا انها وجدت من أجل الإنسان ، ولم يوجد هو من أجلها ، كي يجب عليه التعبد بها على كل حال. فالقيم الأخلاقية ـ إذن ـ هي التي تحصر تصرفات الإنسان في إطار مصلحته ومصلحة الجماعة ، أو عدم الإضرار به أو بغيره على الأقل.

وتسأل : ما هو الضابط لتمييز النافع من الضار؟.

ونجيب باختصار ان الضابط هو الاحساس والشعور العام بأن هذا ضار ، وذاك نافع ، ومتى انتهى الأمر إلى هذا الاحساس والشعور ينقطع الكلام ، ولا يبقى مجال للسؤال والجواب لأن الشعور العام هو البديهة بالذات.

يؤتون الزكاة وهم راكعون الآة ٥٥ ـ ٥٦ :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

الاعراب :

الذين يقيمون الصلاة صفة للذين آمنوا ، لأنها بمعنى (المصلون). وجملة وهم راكعون حال من واو يؤتون الزكاة.

المعنى :

بعد أن نهى سبحانه عن اتخاذ أعداء الدين أولياء بيّن من الذي يجب اتخاذه

٨١

وليا ، فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ولا يختلف اثنان في المراد بولاية الله والرسول وانها التصرف في شئون المسلمين ، وليس مجرد المحبة والنصرة ، قال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ـ ٦ الأحزاب» ، والولاية في هذه الآية تفسير وبيان للولاية في الآية التي نحن بصددها.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). أي ان الولاية التي لله والرسول ثابتة أيضا لمن جمع بين الزكاة والركوع ، ونقل الطبري عن مجاهد وعتبة بن أبي حكيم وأبي جعفر ان هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، وفي كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري ـ من السنة ـ ما نصه بالحرف : «الآية نازلة في علي باتفاق أكثر المفسرين». وفي تفسير الرازي ما نصه بالحرف أيضا :

«روي عن أبي ذر رضوان الله عليه انه قال : صليت مع رسول الله (ص) يوما صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، وعلي كان راكعا ، فأومأ اليه بخنصره اليمنى ، وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل ، حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي (ص) ، فقال : اللهم ان أخي موسى سألك فقال : رب اشرح لي صدري إلى قوله : وأشركه في أمري ، فأنزلت قرآنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر : فو الله ما أتم النبي (ص) هذه الكلمة ، حتى نزل جبريل ، فقال : يا محمد اقرأ انما وليكم الله ورسوله .. الى آخر الآية».

ولكن الرازي فسر الولاية هنا بمعنى الناصر ، لا بمعنى المتصرف ، وقال الشيعة : إن لفظ الجلالة والرسول ومن جمع بين الزكاة والركوع جاء في آية واحدة ، وولاية الله والرسول معناها التصرف فيجب أيضا أن يكون هذا المعنى بالذات مرادا من ولاية من جمع بين الوصفين ، وإلا لزم أن يكون لفظ الولاية مستعملا في معنيين مختلفين في آن واحد ، وهو غير جائز.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ). هذه الآية نص صريح لا يقبل التأويل بحال على أن المعنى المراد من ولاية الله والرسول

٨٢

والمؤمنين واحد لا اختلاف فيه ، وان من حافظ على هذه الولاية ، ولم يفرق بين الله ورسوله ومن جمع بين الزكاة والركوع فهو من حزب الله الغالب بمنطق الحق وحجته.

اتخذوا دينكم هزوا ولعبا الآة ٥٧ ـ ٥٩ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩))

الاعراب :

(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) متعلق بمحذوف حال من واو (اتَّخَذُوا). والكفار قرئ بالجر عطفا على (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وبالنصب عطفا على (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ). والمصدر المنسبك من (أَنْ آمَنَّا) مفعول تنقمون ، أي تنقمون إيماننا. والمصدر المنسبك من (أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) معطوف على (ما) أي آمنا بما أنزل إلينا وبفسق أكثركم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

٨٣

الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ). مرة ثانية نهى سبحانه عن اتخاذ أعداء الله أولياء ، ولكنه بيّن هنا سبب النهي ، وهو أنهم يتخذون من دين الإسلام ، وصلاة المسلمين مادة للهزء واللعب ، شأن السفيه العاجز عن مجابهة الحجة بمثلها ، ولا يليق بالعاقل أن يوالي السفهاء ، بخاصة الذين يهزءون من دينه وأشرف مقدساته .. وأيضا زاد سبحانه في هذه الآية انه عطف الكفار على أهل الكتاب ، وهو من باب عطف العام على الخاص ، والقرآن يعطف العام على الخاص كهذه الآية ، والخاص على العام كقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ـ ٢٣٨ البقرة». ويعطف النظير على نظيره كقوله : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) ـ ١٧٥ النساء».

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فيه إشعار بأن من يوالي ويؤاخي من يهزأ بالدين فهو أبعد الناس عن الإيمان ، لأن شبيه الشيء منجذب اليه.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً). تدعو كنائس النصارى أتباعها إلى الصلاة بضرب الناقوس ، وتدعو بيع اليهود أتباعها إلى الصلاة بالنفخ بالبوق ، أما المسلمون فيدعون إلى الصلاة بصوت المؤذن ينادي بالاستجابة إلى الله وحده لا شريك له ، وإلى العمل الصالح الفالح : الله أكبر .. لا إله إلا الله .. حي على الفلاح .. حي على خير العمل .. وكان بعض أهل الكتاب ، وما زالوا يسخرون من هذا الأذان ، وهذه الدعوة .. والأولى أن يسخروا من نواقيسهم وأبواقهم .. على أن المعتدلين من النصارى يستحسنون الأذان ، وبفضلونه على ضرب الأجراس ، قال صاحب المنار :

«سمعنا من بعض النصارى المعتدلين في بلدنا ـ أي لبنان ـ كلمات الثناء على الأذان وتفضيله على الأجراس .. وقد كان جماعة من نصارى طرابلس يصطافون في بلدنا (القلمون) ، فكان النساء والرجال يقفون في النوافذ لاستماع صوت المؤذن ، وكان ندي الصوت .. وكان بعض صبيانهم يحفظون الأذان ، ويقلدون المؤذن تقليد استحسان ، فتغضب والدته وتنهاه ، أما والده فكان يضحك ويسر لأذان ولده ، لأنه كان على حرية وسعة صدر».

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ). قال المفسرون بما فيهم الرازي وصاحب

٨٤

المنار : ان المراد من قوله تعالى (لا يَعْقِلُونَ) انهم لا يدركون حقيقة الإسلام ، ولو أدركوا حقيقته لم يتخذوه هزوا.

أما نحن فنرى انهم قد عقلوا الإسلام ، وأدركوا أهدافه ، وأن الذين حاربوه إنما حاربوه لأنهم أدركوا خطره على منافعهم وامتيازاتهم .. فلقد أدركوا ان الإسلام ثورة على الظلم والاستغلال ، وعلى الفقر والتخلف ، وعلى تقسيم الناس إلى سيد ومسود ، وانه لا فضل لمخلوق على غيره إلا بخدمة الناس ، والعمل لصالحهم ومنافعهم .. هذا هو ذنب الإسلام عندهم ، ومن أجله حاربوه بجميع ما يملكون من وسائل ، حتى الهزء والسخرية.

وتتجلى دعوة الإسلام هذه بأكمل معانيها في نداء المؤذن : الله أكبر .. لا إله إلا الله .. فإن معنى الله أكبر انه لا كبير ولا عظيم إلا هو وحده لا شريك له ، ومعنى لا إله إلا الله : ان المال والجاه والأنساب ليست آلهة تعبد ، ولا قوة يخضع لها ، وإنما الخضوع للحق وحده ، والناس فيه سواء ، وان ما من أحد على وجه الأرض له أن يمس حرية إنسان كائنا من كان .. وكفى بهذا ذنبا للإسلام عند ألد أعداء الإنسان ، ومن أجل عداوتهم هذه ، لا من أجل جهلهم بحقيقة الإسلام وصفهم العليم الحكيم بأنهم قوم لا يعقلون.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ). أجل ، انهم لا يرضون إلا عمن يؤمن بهم وبامتيازهم واستغلالهم .. ان هذا في مقاييسهم قدس الأقداس ، وان كفر بالله ، وجميع الأنبياء والمرسلين .. أما من يكفر بظلمهم وطغيانهم فإنه عندهم شر الأولين والآخرين ، وان كان ولي الأولياء .. ولا شيء أصدق في الدلالة على ذلك من أنهم يتهمون الوطنيين الأحرار منهم ، ويرمونهم بالمروق من الدين ، لا لشيء إلا لأنهم يستنكرون السياسة الاستعمارية ، والتفرقة العنصرية .. ومع هذه التهمة الظالمة يزعمون أنهم حماة الدين ، وحراسه من الإلحاد والملحدين.

وتسأل : ان قولك هذا هو الواقع الذي نراه ونشاهده ، ولكنه لا يصلح تفسيرا للآية ، لأن الظاهر منها انهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون يؤمنون بالله والقرآن والتوراة والإنجيل؟.

٨٥

الجواب : ان ظاهر الآية يدل صراحة على أن الله سبحانه أمر نبيّه الكريم أن يقول لهم: هل لنا من ذنب يستوجب منكم هذا العداء إلا أننا على حق ، وأنتم على باطل ، تماما كما يقول ـ الوطني المخلص لخصمه العميل الخائن ـ هل تنقم مني إلا أني وطني ، وانك عميل؟.

وليس من شك ان هذا المعنى يتفق مع تفسيرنا للآية ، بل هو أظهر مصاديقها وأفرادها. وقد تنبه إلى ذلك صاحب مجمع البيان ، حيث جاء في تفسيره : «معنى الآية هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم ، أي انما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون انّا على حق ، وانكم أقمتم على دينكم لمحبتكم الرياسة ، وكسبكم بها الأموال ـ ثم قال ـ ومعنى فاسقون خارجون عن أمر الله طلبا للرئاسة».

وجعل منهم القردة والخنازيرالآية ٦٠ ـ ٦٣ :

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

٨٦

اللغة :

المثوبة من ثاب اليه إذا رجع ، والمراد بها هنا الجزاء والثواب. والطاغوت من الطغيان. والسحت الدنيء المحرم. والفرق بين الإثم والعدوان ان الإثم هو الجرم ، وقد يكون مع التعدي على الغير ، وقد لا يكون معه تعد على أحد ، أما العدوان فهو الاعتداء على الغير ، والصنع العمل مع الاشعار بالجودة ، يقال : صنع الله لفلان إذا أحسن اليه.

الاعراب :

مثوبة تمييز من شر. ومن لعنه (من) في محل جر بدلا من شر ، أي هل أنبئكم بمن لعنه الله ، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي هو من لعنه الله. وعبد الطاغوت (عبد) فعل ماض معطوف على من لعنه الله ، والتقدير هل أنبئكم بشر الناس من لعنه الله ، ومن عبد الطاغوت. وجملة وقد دخلوا حال من الواو في قالوا. وجملة وهم قد خرجوا حال ثانية. والسحت مفعول لأكلهم. ولو لا أداة تحضيض ، وتختص بالمضارع مثل لو لا تستغفرون. أو ما في معناه نحو لو لا اخرتني.

المعنى :

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ). ذلك إشارة إلى حال المنتقمين ، والمثوبة تستعمل في الجزاء بالخير ، والعقوبة في الجزاء بالشر ، وقد وضعت المثوبة هنا موضع العقوبة من باب تحيتهم السباب ، والمعنى قل يا محمد لأعداء الدين والحق الذين يستهزءون من الإسلام والأذان ، قل لهم : إن كان الإيمان بالله وكتبه شرا يوجب النقمة فأنا أخبركم بشرّ من هذا ، إن كان هذا شرا .. وهو (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وهذه الأوصاف كلها من أوصاف اليهود ، حيث سجل الله عليهم

٨٧

لعنته وغضبه في أكثر من آية ، ووصفهم بعبادة الجبت والطاغوت ، وقال لهم : كونوا قردة خاسئين ، ومن هذه الآيات :

١ ـ الآية ٤٦ من النساء : (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ).

٢ ـ الآية ٩٠ من البقرة : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ).

٣ ـ الآية ٦٥ البقرة : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). وما قال الله لشيء كن إلا كان.

٤ ، الآية ٥١ ـ النساء : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ). وقيل المراد بالطاغوت الشيطان. وقيل : العجل. والصحيح أن كل من أطاع عبدا في معصية الله فهو عبد له.

وقال الرازي : «احتج أصحابنا ـ أي الأشاعرة ـ بهذه الآية على ان الكفر بقضاء من الله ، لأن التقدير وجعل الله منهم من عبد الطاغوت». والصحيح ان عبد معطوف على لعنه الله ، لا على جعل منهم القردة ، وان التقدير هل أنبئكم بشرّ الناس ، أو بشرّ من ذلك من لعنه ومن عبد الطاغوت ، كما قلنا في فقرة (اللغة) ، وعليه فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على أن الكفر من الله ، لا من العبد.

(أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). أولئك إشارة إلى اليهود ظاهرا وتشمل كل من حاد عن الحق واقعا ، ولا يجديه قول لا إله إلا الله محمد رسول الله .. إذ لا إيمان بلا تقوى.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ). كان منافقو اليهود يدخلون على النبي (ص) ، ويقولون له : نحن بك من المؤمنين ، وهم كاذبون في أقوالهم ، وقد عبر سبحانه عن نفاقهم هذا بأنهم دخلوا على النبي بالكفر ، وخرجوا من عنده بالكفر .. ويشعر هذا التعبير بأنهم لو كانوا طلاب حق لخرجوا مؤمنين من عند الرسول بعد أن سمعوا ورأوا البينات والدلائل. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) من الكفر والنفاق ويجازيهم عليه بما يستحقون.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). المسارعة مفاعلة وتومئ إلى التسابق والتنافس في الإثم والعدوان

٨٨

وأكل السحت ، أي الحرام ، وهذه سمة لا تفارق اليهود ، ومن أجلها مقتهم الناس قديما وحديثا ، إلا من يتخذ منهم أداة للشر ، تماما كالسم القاتل .. حتى في الولايات المتحدة وكر الصهاينة يوجد جماعة كثر يناهضون اليهود.

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ). هذا التوبيخ الذي دلت عليه لو لا وبئس موجه في الظاهر لرؤساء الأديان من أهل الكتاب .. وفي الواقع موجه لكل من عرف الحق ، وسكت عنه. ان العالم بالله حقا المخلص له وحده يحتج على المظالم بشتى الوسائل ، وإذا تيقن أن موته في هذه السبيل ينبه الغافلين ، ويردع الظالمين أقدم عليه ، وعبر عن احتجاجه بالاستشهاد ، وتاريخ الشهداء جميعا هو تاريخ الاحتجاج على جرائم الظلم والعدوان.

قالت اليهود يدالله مغلولة الآة ٦٤ ـ ٦٦ :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

٨٩

اللغة :

لليد معان ، منها الجارحة ، أي هذه اليد العادية التي أكتب بها هذه الكلمات ، ومنها النعمة ، تقول لفلان عندي يد اشكرها ، ومنها القدرة ، ومنها الملك. وتستعمل في البذل والإمساك حسبما تنسب اليها ، تقول بسط يده إذا أردت البذل ، وتقول غلّ يده إذا أردت الإمساك. واقامة التوراة والإنجيل العمل بما فيهما. ومقتصدة ، أي معتدلة.

الاعراب :

كيف في محل نصب على الحال ، أي ينفق على أي حال يشاء. وكثيرا مفعول أول ليزيدن ، وطغيانا مفعول ثان. وكلما نصبت على الظرف لأنها مضافة إلى ما المصدرية الظرفية. وفسادا مفعول لأجله ليسعون.

المعنى :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). هذه صورة من الصور العديدة التي يرسمها القرآن لليهود ، ومثلها قولهم : «إن الله فقير ونحن أغنياء» .. وعلى قياسهم ينبغي أن يكونوا هم الآلهة ، والله جلت عظمته (...) وقد تجلت هذه الغطرسة والوقاحة بأقبح معانيها في تحديهم للرأي العام العالمي باحتلال القدس سنة ١٩٦٧.

وفي بعض الروايات ان الذي نطق بكلمة الكفر هذه رجل منهم ، اسمه فنحاص .. وقد تكون الرواية صحيحة ، وصحيح أيضا ان الواحد لا يعبّر عن رأي الطائفة والجماعة ، وان بعض ضعاف المسلمين يقول هذا حين تحاصره المصائب ، ولا يجد له مهربا .. هذا صحيح ، ولكن من اطلع على سيرة اليهود يعلم انهم يقولون هذا بلسان الحال ، وإن لم ينطقوا به بلسان المقال .. إنهم يريدون من الله أن يهب الأرض ومن عليها اليهم وحدهم ، وإلا فهو بخيل مغلول

٩٠

اليد (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا). وبما فعلوا من المسارعة إلى الإثم والعدوان وأكلهم المال الحرام.

الصهاينة تواطئوا مع النازيين :

قال صاحب تفسير المنار : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) هو دعاء من الله عليهم بالبخل وما زالوا أبخل الأمم ، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا درّ عليه ربحا.

وقد كان الربح الوحيد عندهم هو المال ، ومن أجله يحل كل محرم ، أما اليوم فلا ربح أفضل من قتل عربي ، حتى ولو كان طفلا ، والشعار الديني المقدس لهيئاتهم (الخيرية) «ادفع دولارا تقتل عربيا» مسلما أو نصرانيا .. بل إنهم يسخون بأرواحهم رجالا ونساء وأطفالا ليخرجوا الفلسطينيين من ديارهم ويحلّوا محلهم .. وأغرب ما قرأت ان زعماء الصهاينة ، ومنهم وايزمان وموسى شاريت ودافيد بن غوريون تواطئوا مع النازية وزعماء الجستابو على ذبح اليهود والتنكيل بهم لهدفين : الأول دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين. الثاني اصطناع المبررات لقيام دولة إسرائيل. (عن كتاب اطلاق الحمامة ٥ يونيو للمؤلفين : بيليايف وكوبستيشنكو وبريماكوف. ترجمة ماهر عسل).

وإذا تواطأ اليهود مع أعدى أعدائهم ، وضحوا بمئات الألوف منهم من أجل دولة إسرائيل فهل يكثر منهم القول : ان الله فقير ونحن أغنياء ، وأن يده مغلولة عن البذل والعطاء؟ وأية غرابة في قولهم : نحن حمامة السلام ، والعرب دعاة الحرب والدمار بعد أن قالوا : ان الله فقير ونحن أغنياء؟. وإذا كانت يد الله مغلولة لأنه لم يهبهم الأرض ومن عليها فبالأولى أن يكون العرب طغاة معتدين ، لأنهم لم يعتذروا لليهود عن التقصير ، وعدم عرفان الجميل .. وليس قولي هذا كلاما شعريا ، أو إحساسا عاطفيا .. ألم يلح اليهود على اعتراف العرب بإسرائيل؟. وأي معنى لهذا الاعتراف في هذا الظرف بالذات إلا الاعتذار وطلب العفو؟.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). المراد باليد هنا عين المراد بيمينه في الآية ٦٧ من

٩١

الزمر : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي بقدرته ، وقال يداه بالتثنية لا بالإفراد لأنها أبلغ شكلا ، وأقوى محتوى (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) بإيجاد السبب الموجب : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ـ ١٥ الملك».

أجل ، قد لا تسعف الظروف أحيانا ، ويخيب المسعى. وقوله : «وإليه النشور» تهديد ووعيد لمن يطلب العيش على حساب غيره.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). المراد بالكثير الرؤساء والمترفون الذين خافوا على مناصبهم من دعوة الحق ، وزادتهم هذه الدعوة حقدا على صاحبها محمد (ص) لأنه كشف عن عوراتهم وسيئاتهم التي منها تحريف كلام الله عن مواضعه ، وأكلهم المال الحرام ، وعدم التناهي عن المنكر .. ومن شأن الدعي الصلف أن يزداد عتوا وفسادا إذا نبه الى عيوبه ومآثمه.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ). قال صاحب تفسير المنار : لا نعرف في التفسير المأثور عن السلف إلا أن الضمير في قوله (بينهم) يرجع إلى اليهود والنصارى في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) .. وفي تفاسير المتأخرين احتمال أن يكون الضمير لليهود وحدهم.

ونحن على رأي السلف أولا : لأنهم أعرف بما يراد من مفردات القرآن والحديث من المتأخرين ، لأنهم أقرب إلى عهد الرسالة ونزول القرآن. ثانيا : لأن العداء بين اليهود والنصارى عداء ذاتي ، فاليهود يعتقدون ان المسيح مشعوذ محتال وابن سفاح ـ نعوذ بالله ـ والنصارى يعتقدون أنه ابنه تعالى الله ، بينما يعتقد المسلمون أنه نبي منزه عن الجهل والمعصية .. ومحال أن يزول العداء بين اليهود والنصارى : ما دامت كل طائفة على عقيدتها ، وقد حاول بابا روما عام ١٩٦٥ أن يقرب بين الطائفتين ، ولكن اليهود ما زالوا مصرين على رأيهم بالسيد المسيح (ع) .. أجل ، ان الأطماع المشتركة قربت ، بل وحدت بين أرباب الشركات لكلتا الطائفتين ، ولكن على أساس تجاري ، لا على أساس ديني.

٩٢

اليهود ونار الحرب :

(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ). إن كلمة الحرب وضعت أول ما وضعت للقتال ، واستعملت في هذا المعنى قرونا طوالا ، وبمرور الزمن تطورت ، حتى أصبحت تدل الآن على ضد السلم والأمن والرخاء ، فأي بلد يخشى على نفسه من احتلال دولة أقوى منه ، أو ارتفعت أسعار المعيشة فيه لقتال في بلد من البلدان فهو في حالة حرب ، وإن لم تسل الدماء على أرضه ، لأنه قد تأثر بذاك القتال ، وأفقده الكثير من أمنه وراحته.

وبعد هذه الإشارة نتساءل : هل المراد بالحرب في الآية خصوص القتال أو ما يشمل الأمن والرخاء؟ ثم إذا كان المقصود هم اليهود كما قال المفسرون فبماذا يجاب عن حرب ٥ حزيران سنة ١٩٦٧ التي أوقد اليهود نارها ، ولم تخمد ، حتى الآن؟

الجواب : أما كلمة الحرب في الآية فإن المراد منها خصوص القتال ، لأن هذه الكلمة لم تحمل غير هذا المعنى يومذاك. أما حرب ٥ حزيران فنجيب عنها بما يلي :

١ ـ اتفق المفسرون على أن المراد باليهود خصوص من كان يهم بالكيد لرسول الله والمسلمين ، فقد جاء في كتب السيرة النبوية إن يهود المدينة تحالفوا مع المشركين ضد النبي وصحابته ، وأن منهم من سعى لتحريض الروم عليهم ، كما ان بعضهم كان يؤوي أعداءهم ويساعدهم.

٢ ـ لو سلمنا ـ جدلا ـ ان المراد كل اليهود في كل عصر أخذا بظاهر العموم فان حادثة ٥ حزيران لم تكن حربا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة ، وإنما كانت اغتيالا وغدر جبان ، فحتى ليلة الغدر كانت تؤكد إسرائيل وواشنطن انهما لم تبدءا بالهجوم ، بل وبعد الغدر أذاعت إسرائيل ان العرب هم البادئون ، ثم ظهرت الحقيقة .. على أن حرب ٥ حزيران لم تكن بين العرب واليهود ، وإنما كانت في واقعها بين العرب والولايات المتحدة ، فهي مهندس العدوان ، والآمر به ، ومصدر السلاح والمال ، وصانع الخديعة السياسية ، والمحامي والحارس ، أما إسرائيل فقد مثلت دور الجندي المطيع.

٩٣

قال مؤلفو كتاب اطلاق الحمامة الذي أشرنا اليه منذ قريب : «نشرت الصحف الفرنسية وألمانيا الغربية أن المخابرات الأمريكية سلمت إسرائيل قبل العدوان كل ما تجمع لديها من معلومات بالإضافة إلى الدوسية الخاصة بالشرق الأوسط لدى قيادة الحلف الأطلسي .. وان الذي أصدر الأمر لاسرائيل بالهجوم على العرب باسم الرئيس جونسون هو مستشاره اليهودي الصهيوني «والت روستو» .. وكان الأميرال الأميركي يحمل في جيبه أمرا بتنفيذ الاستعداد للقتال في جميع الوحدات الخاضعة له .. أما عملية ليبرتي سفينة التجسس فقد كانت مدبرة بين الأميركيين والاسرائيليين».

٣ ـ ان نار الحرب التي أوقدتها واشنطن أو عميلتها إسرائيل قد أخمدها الله ما في ذلك ريب .. فلقد اعترف الذين أوقدوها أكثر من مرات ، وأعلنوا بالصحف والاذاعات انها لم تحقق الهدف المطلوب منها ، وهو ضرب القيادة التحررية للعرب ، واستسلامهم دون قيد وشرط ، وبالتالي حل مشكلة إسرائيل من الناحية السياسية .. وفي الوقت نفسه كانت حادثة ٥ حزيران امتحانا قاسيا للعرب ، وتأكيدا لضرورة الإصلاح الجذري ، وتنبيها لهم الى أصدقائهم وأعدائهم .. ولو لم يكن لتلك الحادثة من فائدة إلا افتضاح المتآمرين على بلادهم وأمتهم لكفى.

(ويسعون ـ أي اليهود ـ في الأرض فسادا). لأن أهدافهم الأثيمة محال أن تتحقق إلا بالتخريب وإثارة الفتن ، وقد صرح المسئولون في إسرائيل ان بقاء دولتهم وحياتها رهن بالخلافات القائمة بين زعماء العرب .. فهل من مذكر؟ (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). ومن ثم تكون عاقبتهم إلى وبال ، وإن طال الزمن.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ). هذه دعوة من الله سبحانه لليهود والنصارى أن يتوبوا ويدخلوا في الإسلام ، وإن استجابوا لدعوته صفح عن جميع ذنوبهم ، وإن عظمت ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، كما جاء في الحديث ، وان اتقوا بعد إسلامهم أدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

الرزق وفساد الأوضاع :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ

٩٤

وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).إقامة التوراة والإنجيل العمل بهما ، والمراد بما أنزل اليهم التعاليم التي كانوا يسمعونها من الأنبياء ، وهي المعروفة عند المسلمين بالأحاديث النبوية ، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم كناية عن السعة في الرزق ، تماما كما تقول : فلان غارق في النعم من قرنه إلى قدمه.

وفي معنى هذه الآية آيات كثيرة ، منها الآية ٩٥ من الاعراف : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). والآية ١٢ الرعد : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). والآية ٤١ الروم : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). والآية ٣٠ الشورى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). وترشدنا هذه الآيات إلى أمرين :

١ ـ ان ظهور الفساد ، ومنه الفقر والمرض والجهل ، إنما هو من حكم الأرض ، لا من حكم السماء ، ومن أيدي الناس الذين أماتوا الحق ، وأحيوا الباطل ، لا من قضاء الله وقدره ، وان أية جماعة عرفوا الحق ، وعملوا به عاشوا في سعادة وهناء.

٢ ـ ان التعبير في الآيات الكريمة بقوم وبالناس يدل على ان الشقاء يستند إلى فساد الأوضاع ، وان مجرد صلاح فرد من الأفراد لا يجدي شيئا ما دام بين قوم فاسدين ، بل يجر صلاحه عليه البلاء والشقاء ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ـ ٢٥ الأنفال» ، أي ان الآثار السيئة لمجتمع سيء تعم جميع أفراده الصالح والطالح .. وليس من شك ان الشعب الكسول الخانع الخاضع للعسف والجور لا بد أن يعيش أفراده في الذل والهوان. وعلى هذا يكون المراد بالإيمان الموجب للرزق هو الإيمان بالله مع العمل بجميع أحكامه ومبادئه ، لا إقامة الصلاة فقط ، بل وأداء الزكاة ، وجهاد المستقلين والمحتكرين ، وإقامة العدل في كل شيء ، وليس من شك ان العدل متى عم وساد صلحت الأوضاع ، وذهب الفقر والشقاء ، وهذا ما يهدف اليه القرآن.

لقد كشف الإسلام عن الصلة الوثيقة بين فساد الأوضاع ، وبين التخلف وآلام الانسانية بشتى أنواعها ، وسبق إلى معرفة هذه الحقيقة كل عالم من علماء الاجتماع ، وكل قائد من قادة الاشتراكية والديمقراطية وغيرها .. وإذا كان لدى

٩٥

هؤلاء شيء يذكر فعن الإسلام أخذوا ، ومنه اقتبسوا .. ولكن ما الحيلة فيمن ينفر من كل ما يمت إلى الدين بسبب ، لا لشيء إلا لأن اسمه دين.

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ). الضمير في منهم يعود إلى أهل الكتاب المذكورين في الآية صراحة ، وهم اليهود والنصارى ، والمراد بالأمة الجماعة ، ومعنى مقتصدة معتدلة ، والذين أطلق الله عليهم وصف الاعتدال هم من اعتنق الإسلام من اليهود والنصارى بعد أن ظهرت لهم دلائل الحق ، وبينات الصدق. وقد ذكر أهل التاريخ والسير أسماء كثيرة لمن أسلم من أهل الكتاب ، أما الذين أصروا على الكفر بعد أن استبان لهم الحق فهم المقصودون بقوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ).

وبلغ ما أنزل اليك الآية ٦٧ :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))

المعنى :

يدل ظاهر الآية على ان هناك أمرا هاما نزل على النبي (ص) ، وقد أمره الله بتبليغه إلى الناس ، فضاق النبي به ذرعا ، لأنه ثقيل على أنفسهم ، فتريث يتحين الظروف والمناسبات تجنبا للاصطدام مع المنحرفين .. ولكن الله سبحانه حثه على التبليغ حالا ، ودون أن يحسب حسابا لأي اعتبار ، والله سبحانه يتولى حمايته وعصمته من كل مكروه.

وتسأل ؛ إن قوله تعالى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) لا يفيد شيئا يحسن السكوت عليه ، حيث جعل جواب الشرط عين فعله ، تماما مثل قول القائل : إن لم تفعل فما فعلت ، وإن لم تبلغ فما بلغت .. فما هو الوجه؟

٩٦

الجواب : إن قوله تعالى : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) يشعر بأن هذا الأمر الذي تريث النبي (ص) في تبليغه خوفا من الناس قد بلغ من الأهمية حدا يوازي تبليغه تبليغ الرسالة كلها ، بحيث إذا ترك تبليغه فكأنما ترك تبليغ جميع الأحكام ، تماما كما تقول لمن كان قد أحسن اليك : إذا لم تفعل هذا فما أنت بمحسن إليّ إطلاقا ، وعليه يكون المعنى إن لم تبلغ هذا الأمر فكأنك لم تؤد شيئا من رسالتي ، وجازيتك جزاء من كتم جميع أحكامها.

سؤال ثان : ما هو هذا الأمر الذي بلغ من العظمة هذا المبلغ ، حتى أناط الله تبليغ الرسالة جميعا بتبليغه ، وجعل الرسول يتوقف أو يتربث في تبليغه ، وهو الحريص على أن يصدع بأمر الله مهما كانت النتائج؟

الجواب : بعد أن اتفق المفسرون الشيعة منهم والسنة على تفسير الآية بالمعنى الذي ذكرناه ، بعد أن اتفقوا على هذا اختلفوا في تعيين هذا الأمر الذي تريث النبي (ص) في تبليغه ، والذي لم يذكره الله صراحة.

قال الشيعة : إن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، وان هذا الأمر الهام هو ولايته على الناس ، وان النبي (ص) تريث في التبليغ لا خوفا على نفسه ، كلا ، فلقد جابه صناديد قريش بما هو أعظم ، فسفه أحلامهم ، وسب آلهتهم ، وعاب أمواتهم ، وهم الأشداء الأقوياء ، وأهل العصبية الجاهلية .. أقدم النبي على هذا ، ولم يخش فيه لومة لائم يوم لا حول للإسلام ولا طول ، فكيف يخشى من تبليغ حكم من الأحكام بعد أن أصبح في حصن حصين من جيش الإسلام ومناعته؟ وإنما خاف النبي (ص) إذا نص على علي بالخلافة أن يتهم بالمحاباة والتحيز لصهره وابن عمه ، وأن يتخذ المنافقون والكافرون من هذا النص مادة للدعاية ضد النبي (ص) والتشكيك في نبوته وعصمته .. وبديهة ان مثل هذه الدعاية يتقبلها البسطاء والسذج.

هذا ملخص ما قاله الشيعة ، واستدلوا عليه بأحاديث رواها السنة في ذلك ، ونقل بعضها الرازي وصاحب تفسير المنار.

أما السنة فقد اختلفوا فيما بينهم ، فمن قائل : إن النبي سكت عن بعض الأحكام التي تتعلق باليهود ، ومن قائل : إن الحكم الذي سكت النبي عنه يتصل

٩٧

بقصة زيد وزينب بنت جحش ، وقال جماعة من السنة ان الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب ، لا في خلافته ، ونقل هذا القول الرازي وصاحب تفسير المنار.

قال الرازي : «العاشر ـ أي القول العاشر ـ : نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب ، ولما نزلت هذه الآية أخذ النبي بيد علي ، وقال : «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي».

صاحب المنار وأهل البيت :

وقال صاحب تفسير المنار : «أما حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فقد رواه أحمد في مسنده ، والترمذي ، والنسائي ، والضياء في المختار ، وابن ماجة ، وحسّنه بعضهم ، وصححه الذهبي بهذا اللفظ ، ووثّق سند من زاد فيه : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه الخ» ، وفي رواية انه خطب الناس ، فذكر أصول الدين ، ووصى بأهل بيته ، فقال : «إني قد تركت فيكم الثّقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، الله مولاي ، وأنا ولي كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي وقال ـ الحديث ـ أي من كنت مولاه فعلي مولاه.

ثم أطال صاحب تفسير المنار الكلام ، وقال فيما قال : المراد بالولاية في الحديث ولاية النصرة والمودة (١) .. ولكنه أتبع هذا التفسير بقوله : «إن مثل هذا الجدل فرق بين المسلمين ، وأوقع بينهم العداوة والبغضاء ، وما دامت عصبية المذاهب غالبة على الجماهير فلا رجاء في تحريهم الحق في مسائل الخلاف». هذا صحيح يقره كل عاقل ، ولو لا التعصب للباطل لم يقع الخلاف بين المسلمين ،

__________________

(١). انظر تفسير الآية ٥٥ من هذه السورة.

٩٨

وعلى افتراض حصوله فإنه لا يستمر هذا الأمد الطويل ، ولم تؤلف عشرات الكتب في مسألة واحدة.

ثم قال صاحب تفسير المنار : «أما حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فنحن نهتدي به ، ونوالي عليا المرتضى ، ونوالي من والاهم ، ونعادي من عاداهم ، ونعد ذلك كموالاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونؤمن بأن عترته (ص) لا تجتمع على مفارقة الكتاب الذي أنزله الله عليه ، وأن الكتاب والعترة خليفتا الرسول ، فقد صح الحديث بذلك في غير قصة الغدير ، فإذا أجمعوا على أمر قبلناه واتبعناه ، وإذا تنازعوا في أمر رددناه إلى الله والرسول».

اقامة التوراة والانجيل الآة ٦٨ ـ ٦٩ :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

الإعراب :

الصابئون مبتدأ والخبر محذوف ، أي والصابئون كذلك ، ومثله : «فاني وقيار بها لغريب» أي اني لغريب ، وقيار كذلك ، أو غريب ، والنصارى عطف على الصابئين. من آمن بالله بدل بعض من كل ما تقدم من الأصناف.

٩٩

المعنى :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من دين الحق ، ولا تنفعكم هذه المظاهر الدينية (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إلخ .. تقدم تفسيره في الآية ٦٤ من هذه السورة).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) إلخ .. تقدم تفسيره في الآية ٦٢ من سورة البقرة ج ١ ص ١١٦ وما بعدها.

ميثاق بني اسرائيل الآية ٧٠ ـ ٧١ :

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))

اللغة :

المراد بالفتنة هنا العقوبة.

الإعراب :

لقد اللام واقعة في جواب القسم المحذوف ، أي والله لقد. ولا تكون تامة. وفتنة فاعل ، والمصدر المنسبك من أن وما بعدها مفعول حسبوا ، أي حسبوا عدم الفتنة. وكثير بدل من واو عموا وصموا.

١٠٠