التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

وجادل النبي أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، وأورد عليهم أنواع الدلائل ، ولم يدع لهم منفذا ، ولكنهم أصروا على الكفر ، ثم دعاهم الى المباهلة ، ولكنهم فضلوا أداء الجزية بصغار على الاعتراف بالحق .. ورغم هذا كله فقد ظل حريصا على أن يؤمنوا ، وهذا شأنه مع كل جاحد ، حتى خاطبه الله تعالى في الآية ١٠٣ من سورة يوسف : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وفي الآية ٣٧ من سورة النحل : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ).

وتأكيدا للحجة على المعاندين ، وإظهارا لحقيقتهم لدى النبي ، والناس أجمعين قال تعالى : يا محمد دع جدالهم ومباهلتهم ، واسلك معهم هذا المنهج الذي يشهد كل ذي لب انه العدل والحق .. بل انه البديهة والضمير والوجدان ، وذلك أن تدعوهم الى ما أقره العقل والكتب السماوية بكاملها ، وهو أن تستووا جميعا في عبادة الله وحده لا شريك له .. لا يعبد بعضكم بعضا ، ولا يعلو بعضكم على بعض ، وهذه هي كلمة سواء.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). أي فإن لم يقبلوا ، حتى هذه البديهة ، وأبوا الا الشرك والعناد فأعرض عنهم ، وقل لهم أنت ومن آمن بك : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). وفي إشهاد الكافرين على اسلام المسلمين فائدتان : الأولى : اشعار الكافرين بعدم المبالاة بهم وبكفرهم ، وان محمدا ومن معه يؤمنون بالحق ، وبه يعملون ، حتى ولو كفر أهل الشرق والغرب.

الفائدة الثانية : الاشارة إلى أن المسلمين يتميزون عن غيرهم بعبادة الله الواحد الأحد ، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، ولا لأحد منهم كائنا من كان سلطة التحليل والتحريم ، وغفران الذنوب ، كما هي الحال عند غيرهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). جادل القرآن أهل الكتاب بالعقل والمنطق ، ثم دعاهم إلى المباهلة ، ثم إلى كلمة سواء ، وهي الإيمان بالله وحده ، ثم استأنف القرآن جدال أهل الكتاب من جديد ، وعاد الى ما كان عليه أولا ، كعادته من التعرض للشيء ، ثم الانتقال إلى غيره ، ثم الرجوع اليه .. عاد الى أهل الكتاب ، وذكر بعض أقوالهم وأبطلها ، ذكر قول اليهود : ان ابراهيم كان يهوديا ،

٨١

وقول النصارى انه كان نصرانيا ، ورد هذا الزعم بالبديهة ، لأن اليهودية حدثت بعد موسى ، وبينه وبين ابراهيم ألف سنة ، والنصرانية حدثت بعد عيسى ، وبينه وبين ابراهيم ألفا سنة ، كما جاء في تفسير روح البيان ، فكيف يكون السابق على دين اللاحق (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

ويذكرنا قول النصارى واليهود بنادرة يتناقلها اللبنانيون ، ويتندرون بها ، وهي أن رجلين تصاحبا صدفة في سفر ، ولما أخذا بالحديث سأل أحدهما صاحبه : هل حججت في مكة المكرمة؟ فقال له : أجل أديت ما عليّ ، والحمد لله. فقال له صاحبه : هل رأيت زمزم هناك؟ قال : نعم ، انها بنت كويّسة .. قال له : ويلك. انها بئر ماء ، وليست بنتا .. قال : اذن حفروها بعد ما أديت الفريضة.

وحكاية المذاهب والفرق التي حدثت بعد الرسول الأعظم (ص) تشبه حجة هذا الرجل الى حد بعيد .. وكل من أخذ دينه عن انسان فهو من هذا النوع إلا إذا ثبت النص عليه من الرسول الأعظم (ص) كثبوت حديث الثقلين الذي أوجب الأخذ والتعبد بكتاب الله وأهل بيت رسول الله ، وساوى بينهما ، وذكرنا ذلك عند تفسير الآية ٣٩ من سورة البقرة.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). قد يتخصص الإنسان بعلم من العلوم ، أو بموضوع من الموضوعات ، وعليه فله أن يجادل فيه ويناقش ، وليس من الضروري أن يكون مصيبا في جميع أقواله وجداله ، وانما المهم أن يكون من أهل المعرفة به ، ولو في الجملة .. اما أن يجادل ويناقش في أمر لا يعرف عنه شيئا ، ويبعد عنه كل البعد ، أما مثل هذا الجدال والنقاش فهو جهل وحماقة.

وأهل الكتاب لهم علم بدينهم الذي اعتقدوا بصحته ، فيكون لجدالهم فيه وجه ، ولو بحسب الظاهر ، أما جدالهم في دين ابراهيم فلا وجه له واقعا ، ولا ظاهرا ، لأنهم لا يعرفون عنه شيئا.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لم يكن يهوديا ، لأن بينه وبين موسى ألف سنة ، ولم يلتق في عقيدته وواقعه بالديانة اليهودية ، لأنها محرفة عما جاء به موسى (ع) ، ولم يكن ابراهيم نصرانيا ،

٨٢

لأن بينه وبين عيسى ألفي سنة ، ولم يلتق بالديانة المسيحية ، لأنها محرفة عما جاء به عيسى (ع) .. وإذا لم يكن ابراهيم مسلما بالمعنى المعروف فإنه في واقعه وإيمانه يلتقي مع الإسلام ، لأنه يؤمن بالله المنزه عن الشريك والشبيه ، وهذا الايمان هو الأصل الأساسي لدين الإسلام ، وبهذا يتبين لنا الجواب عن سؤال من يسأل : ان القرآن أنزل بعد ابراهيم فكيف يكون مسلما؟ وسبق البحث مفصلا في أن جميع الأنبياء كانوا مسلمين عند تفسير الآية ١٩ من هذه السورة.

والحنيف هو المائل عن الأديان الباطلة الى دين الحق ، أما قوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فان فيه تعريضا بالنصارى القائلين : المسيح ابن الله ، وباليهود القائلين : عزير ابن الله ، وبالعرب الذين كانوا يعبدون الأصنام .. وكان ابراهيم موضع إجلال هذه الفرق الثلاث.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). أي ان أحق الناس بالانتساب الى دين ابراهيم الذي يجله الجميع هم الذين استجابوا لدعوته من أمته ، أو يلتقون معه ويلتقي معهم في العقيدة والإيمان ، كمحمد ومن معه. قال الإمام علي (ع) : ان أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به ، ثم تلا الآية ، وقال : ان ولي محمد من أطاع الله ، وان بعدت لحمته ، وان عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) به ، وحده لا شريك له ، ولا يلجئون الى غيره في كشف الضر ، وطلب النفع.

ولا شيء أدل على عظمة الإمام وإخلاصه لله وللحق وتجرده عن الغايات والأهداف الدنيوية من قوله هذا ، وعدم تشبثه بالقرابة ، مع العلم بأنه أقرب الناس لحمة للرسول (ص) ، وما ذاك الا لأنه يستمد عظمته من نفسه وأعماله لا من الأرومات والقرابات ، ولا من التمويه والتغطيات.

وما يضلون الا أنفسهم الآة ٦٩ ـ ٧١ :

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ

٨٣

وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

الإعراب :

لم اللام حرف جر ، وما للاستفهام ، حذفت ألفها للتخفيف ، وفتحت الميم للدلالة على الألف المحذوفة ، ومثلها عمّ يتساءلون ، وفيم تبشرون؟.

الإسلام قوة للاديان السماوية :

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ٦٩). المراد بطائفة من أهل الكتاب جماعة من رؤساء أديانهم .. وتنطبق هذه الآية كل الانطباق على المبشرين المسيحيين .. انهم يحاولون جهد المستطيع أن ينصّروا المسلم ، فإن استعصى عليهم حاولوا تضليله وتشكيكه في الإسلام ، مكتفين أن يكون لا دينيا .. ولكنهم بهذا يسيئون الى أنفسهم ، من حيث لا يشعرون ، لأن ضعف الإسلام كدين يوجه الناس الى الايمان بوجود مدبر حكيم وراء هذا الكون ـ يعني انهزام جميع الأديان ورؤوسها الذين يسيرون في هذا الاتجاه ، ومنهم القائمون على الديانة المسيحية .. وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ).

ولا أدري لما ذا لم يتنبه المفسرون الى هذا المعنى مع وضوحه ، حيث قالوا : ان المراد بإضلال أهل الكتاب لأنفسهم هو عقابهم غدا على محاولتهم إضلال المسلمين. أما الشيخ محمد عبده والرازي فقد فسرا ضلالهم لأنفسهم بأن محاولة إضلال المؤمنين لم تجدهم نفعا ، بل تعود عليهم بالخيبة والفشل ، إذ ما من مسلم

٨٤

يستجيب لهم ، وينخدع بأضاليلهم .. والصحيح ما ذكرناه من ان ضعف الإسلام هو ضعف للاديان السماوية وأهلها.

وعلى أية حال ، فإن الإسلام بأصوله ومبادئه أقوى من أن تهزمه الديانة المسيحية وغيرها من الديانات ، فلقد دخل في دين الإسلام أفواج من الوثنيين وأهل الكتاب عن رضى واقتناع ، وفيهم العلماء والمتنورون ، وما عرفنا واعيا واحدا ترك الإسلام بعد أن اعتنقه وعرف حقيقته.

قال الكونت الفرنسي هنري دي كاستري في كتاب «الإسلام سوانح وخواطر» فصل «الإسلام في الجزائر» ، قال ما نصه بالحرف : «لقد شاهدنا الإسلام يبرهن على قوته وحياته باكتساب الوثنيين في افريقيا ، وتجنيدهم تحت راية القرآن .. وليس من أهل الإسلام من يمرق عنه الى غيره .. ومن الصعب على أحد المسيحيين أن ينصّر مسلما ، والسبب هو إعجاب المسلم كل الاعجاب بكونه من الموحدين».

وبالمناسبة أشير الى هذه النادرة الطريفة : في العشرة الثالثة من هذا القرن ، أعني القرن العشرين ذهب جماعة من المبشرين المسيحيين الى مدينة العمارة بالعراق ؛ وجميع أهلها شيعة مسلمون ، ذهبوا الى هذه المدينة بقصد تحويل أهلها أو البعض منهم الى النصرانية ، وأنشأوا لهذه الغاية مدرسة ومستوصفا في المدينة ، وبثوا الدعايات ، وأقاموا الحفلات ، وبذلوا الأموال الطائلة .. وكان خطيبهم يعتلي المنبر ، ويعدد ، ويردد معجزات السيد المسيح (ع) .. ولكن كلما ذكر معجزة صاح المسلمون بأعلى أصواتهم : صلوات الله على محمد وآل بيت محمد .. ولما تكرر ذلك مرات ومرات ، ولم تجدهم الأموال والمدرسة والمستوصف نفعا يئسوا وعادوا من حيث أتوا خائبين خاسرين.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ). المراد بآيات الله هنا الدلائل على نبوة محمد (ص) وصدق القرآن ، وسمو تعاليم الإسلام : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). المراد بالحق هنا ما استبان لأهل الكتاب من صدق الإسلام ونبيه .. وقد كان بعض أهل الكتاب ، وما زالوا يدسون ويكيدون للمسلمين ودينهم ، وينسبون الى نبيهم وإليهم والى قرآنهم الأكاذيب والافتراء .. من ذلك على سبيل المثال : «ان محمدا كان

٨٥

يدعو الناس الى عبادته في صورة وثن من ذهب ، وانه كان يضرب بالطبل والزمر ، وانه مختل الأعصاب مضطرب العقل» الى غير هذه الألفاظ التي تدل على الحقد والضعة والخساسة(١).

وقال الدكتور زكي نجيب محمود في كتاب «أيام في أمريكا» : انه حضر في الولايات المتحدة تمثيلية كلها سخرية من القرآن ، وازدراء للإسلام ، واستخفاف وتحقير لمحمد (ص) .. هذه هي بلاد النور والحضارة ، والتي تزعم انها تحمل شعار الدين ، وتلقي قنابلها على المستضعفين باسم محاربة الإلحاد.

آمنوا وجه النهار اكفروا آخره الآة ٧٢ ـ ٧٤ :

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

الاعراب :

وجه النهار منصوب على الظرفية متعلق بآمنوا ، وآخره ظرف متعلق باكفروا.

__________________

(١) هذه البذاءات وما اليها جاءت في مقدمة كتاب الإسلام سوانح وخواطر للفرنسي دي كاستري ، نقلها المؤلف من كتب كثيرة ، وضعها الغربيون للشتم والطعن بالإسلام ونبي الإسلام ، ثم فندها ، ورد عليها بالحجة ومنطق الحق .. وصدق الله حيث يقول : ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من ان تأمنه بدينار لا يؤده اليك ٧٥ آل عمران.

٨٦

المعنى :

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). أي يرجع المسلمون عن الإسلام ، وتشير الآية الى خدعة تواطأ عليها جماعة من رؤساء أهل الكتاب ، وخلاصتها أن يظهروا الإسلام أول النهار ، ويرتدوا عنه في آخره عسى أن يقع بعض ضعاف النفوس والعقول من المسلمين في الشك والبلبلة ، ويقول لولا ما ظهر لهم من عدم صدق محمد (ص) لم يكفروا بعد أن آمنوا به ..

وتسأل : هل نفذوا هذه الحيلة التي تواطئوا عليها ، أو ان الله سبحانه أخبر نبيه وفضحهم قبل أن يقدموا على التنفيذ؟

الجواب : ان كل ما دلت عليه الآية انهم قالوا ، أما وقوفهم عند حد القول ، أو تجاوزهم عنه إلى الفعل فقد سكتت عنه ، ونحن أيضا نسكت عما سكت الله عنه .. وعليه فلا وجه لما جاء في كثير من التفاسير انهم صلوا مع النبي صلاة الصبح ، ثم رجعوا آخر النهار ، وصلوا صلاتهم ، ليرى الناس انه قد بدت لهم ضلالة الدين. اللهم الا أن يصح النقل بذلك.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ). كثيرا ما يساء فهم هذه الآية ، ويستشهد بها على انها من كلام الله سبحانه ، لا من كلام اليهود ، بل سمعت أكثر من واحد يلفظ بها (ولا تأمنوا) معتقدا ان الله سبحانه أراد بهذه الآية أن لا نأتمن إلا من كان على ديننا.

والصحيح ان الآية بقية من كلام المعاندين الماكرين من أهل الكتاب .. وقد نقلها الله تعالى حكاية لكلامهم ، أي ان بعض أهل الكتاب قالوا لبعضهم الآخر : آمنوا أول النهار ، واكفروا في آخره ، وقالوا أيضا : (لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ). والمراد من لا تؤمنوا ، الاطمئنان ، لا الأمانة ولا الاعتقاد ، وإلا تعدت بالباء لا باللام ، والمعنى ان بعض أهل الكتاب قال لبعض : لا تطمئنوا لأحد إلا لمن اتبع دينكم ، تماما كقوله تعالى : (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أي يطمئن لهم.

(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ). هذه جملة معترضة خاطب الله بها نبيه قبل أن ينتهي من حكاية أقوال أهل الكتاب ، والقصد من قوله : (الْهُدى هُدَى اللهِ)

٨٧

الرد على محاولة أهل الكتاب المجرمة ، وخديعتهم بإظهار الإسلام ، ثم اظهار الارتداد عنه ، ليشككوا بذلك ضعاف العقول من أتباع الرسول الأعظم (ص) ، القصد الرد عليهم بأن هذه الخديعة لا تجديهم شيئا ، لأن الإسلام هداية من الله لا تزيله ولا تزعزعه المكائد والمصائد .. قال تعالى : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) ـ ٣٧ الزمر».

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ). هذا آخر ما حكاه هنا من كلام أهل الكتاب. وخلاصة المعنى ان رؤوس أهل الكتاب كانوا يعتقدون بينهم وبين أنفسهم بأنه يجوز أن يرسل الله نبيا من غير بني إسرائيل ، وان النبوة ليست وقفا عليهم .. ولكنهم بعد ان جاء محمد (ص) أظهروا أمام الناس ، حسدا وبغيا ، ان كتبهم وديانتهم تحتم أن يكون النبي من بني إسرائيل وحدهم ، دون غيرهم ، أظهروا هذا ، وهم يعلمون بأنهم كاذبون ومعاقبون ، ومحجوجون غدا عند الله ، وخافوا أن يصل علمهم بأنهم كاذبون محجوجون عند الله ، أن يصل الى المسلمين ، فيزدادوا تمسكا بالإسلام ، لذلك قال بعضهم لبعض : إياكم أن تقولوا أمام المسلمين : انّا نحن أهل الكتاب نعتقد بأنه يجوز أن يؤتي الله النبوة لغير اسرائيلي ، أو تقولوا أمام المسلمين : انّا محجوجون غدا ومغلوبون ، لكتماننا الحق ومعاندته.

وبتعبير ثان ان أهل الكتاب ، وبخاصة اليهود ، قد علموا علما أكيدا انهم على ضلال بتكذيبهم محمدا (ص) ، وخافوا أن يخبر المسلمين مخبر منهم بهذه الحقيقة ، فتواصوا بالتستر على ضلالهم ، واظهار ان النبي لا يكون ولن يكون عربيا.

هذا هو خلق اليهود منذ وجدوا ، حتى اليوم ، والى آخر يوم .. يكذبون ويعلمون انهم يكذبون ، ويتخذون ستارا واهيا من التلبيس والتمويه ، ولكن سرعان ما يفتضحون .. وليس القرآن الكتاب الوحيد الذي سجل رذائلهم وجرائمهم فإن كتب الأديان ، وبخاصة الإنجيل ، وكتب التاريخ والصحف والاذاعات كلها تردد وتكرر تاريخهم المجرم الآثم .. وهذا هو السر في اضطهاد الأمم لهم ، والتنكيل بهم من عهد فرعون الى عهد هتلر .. وما استطاعت أمة على وجه

٨٨

الأرض قديما وحديثا ان تحتملهم الا الولايات المتحدة .. لأن شبه الشيء منجذب اليه.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). قال المفسرون : المراد بالفضل هنا خصوص النبوة والرسالة ، وانها بيد الله تعالى يختار لها من هو جدير بها ، وكفؤ لها ، سواء أكان اسرائيليا ، أو عربيا ، وانه سبحانه قد رد بذلك على اليهود الذين أعلنوا بأن الله لا يبعث نبيا الا منهم.

هذا ما قاله أهل التفسير ، واستدلوا بأن السياق يدل عليه ، لأنه بصدد الحديث عن أهل الكتاب ومزاعمهم الكاذبة ، وخدعهم الباطلة.

والذي نراه ان الفضل في الآية باق على عمومه ، وانه يشمل النبوة والحكمة والهداية والإسلام ، وغيره من الفضائل ، وكما يتحقق الرد على اليهود مع ارادة خصوص النبوة من الفضل كذلك يتحقق مع ارادة العموم ، لأن النبوة من جملة أفراد الفضل والفضيلة.

في أهل الكتاب أمين وخائن الآة ٧٥ ـ ٧٦ :

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦))

اللغة :

المراد بالقنطار هنا العدد الكثير ، وبالدينار العدد القليل ، والمراد بالأميين

٨٩

العرب نسبة الى الأم ، أي من لا يقرأ ولا يكتب ، كما خلقته أمه ، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك.

الإعراب :

يجوز أن تقول : أمنتك بهذا بمعنى وثقت بك فيه ، وان تقول : أمنتك عليه بمعنى جعلتك أمينا عليه ، ويجوز أن تقول : مررت به ، أي ملاصقا ، ومررت عليه ، أي على المكان القريب منه ، وبلى تستعمل كثيرا جوابا عن نفي سابق لتثبته ، وقد تستعمل في ابتداء الكلام ، كما لو قال قائل : أنا من المخلصين ، فتقول له : بلى من جاهد في سبيل الله فهو مخلص ، والمراد بها هنا المعنى الأول.

المعنى :

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ). المراد ان في أهل الكتاب من هو في غاية الأمانة ، حتى لو ائتمنته على الأموال الكثيرة أدى الأمانة ، وفيهم من هو في غاية الخيانة لا يؤتمن على الدينار الواحد .. وذكر الأمانة على المال دون غيره ، لأنه هو المحك الصحيح الذي يميز بين السليم والسقيم.

لا حياة الا للمستميت :

(إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً). الخائن يطلب أكثر من حقه ، ولا يؤدي ما عليه ، أو بعض ما عليه بدافع من نفسه ، لأنه ميت الضمير ، ولا وسيلة لانتزاع الحق منه الا القيام عليه ، كما قال جلت حكمته ، ومعنى القيام على الخائن المغتصب أن تثور عليه ، وتجاهده وتناضله بكل ما لديك من قوة .. وقديما قيل : «الاستقلال يؤخذ ، ولا يعطى».

٩٠

والثورة على الخائن المبطل فرض وحتم ، والا عم الفساد في الأرض .. ان جريمة المظلوم القادر على دفع الظلم عن نفسه ، تماما كجريمة الظالم من حيث ان كلا منهما يمهد لاشاعة الظلم والفساد .. ولو علم الظالم ان بين جوانح المظلوم عاطفة تدفعه الى الاستماتة دون حقه لتحاماه .. وقد دلتنا التجارب انه لا حق في الأمم المتحدة ، ولا في مجلس الأمن الا للقوة ، وانه لا حياة للإنسان في القرن العشرين ، بخاصة الشرقي ، وبوجه أخص العربي الا للمستميت.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ). والمعنى ان أهل الكتاب انما استحلوا أموال العرب لأنهم زعموا بأن الله سبحانه لا يعاقبهم على اغتصابها (١) .. فرد الله افتراءهم هذا بقوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وليس من شك ان من كذب على الله عامدا متعمدا كانت خيانته أعظم ، وجريمته أفحش.

وتسأل : ان كل الطوائف ، وأهل الأديان ، بل والملحدين أيضا فيهم الأمين والخائن والصادق والكاذب .. وكم من ملحد هو أصدق لهجة ، وأوفى ذمة من كثير من الصائمين المصلين .. اذن ما هو الوجه لتخصيص أهل الكتاب بهذا التقسيم؟.

الجواب : أولا سبق ان الله سبحانه قال : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم. ثم قال أيضا : وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا أول النهار ، واكفروا آخره ، وبيّن في هذه الآية ان منهم الخائن والأمين ، ولم ينف هذا التقسيم عن غيرهم ، حتى يرد الاعتراض.

ثانيا : انه من الجائز ان يتوهم متوهم بأن جميع أهل الكتاب خونة ، فدفع الله هذا الوهم بأنهم كسائر الطوائف ، وأهل الأديان فيهم ، وفيهم ...

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). بلى اثبات لما نفاه أهل الكتاب بقولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ). وانهم كاذبون في هذا الزعم .. وبعد ان أثبت سبحانه السبيل على من يستحل أموال الناس أخبر بأن

__________________

(١) لا أدري : هل الدول الغربية التي تنهب مقدرات الشعوب العربية من نسل الذين قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل.

٩١

من يفي بالعهد ، ويتقي المحرمات فهو محبوب عند الله .. وجاء في الحديث عن النبي انه قال : ما من شيء في الجاهلية الا هو تحت قدمي الا الأمانة فإنها مؤداة الى البر والفاجر.

وقال الإمام زين العابدين (ع) : لو ان قاتل أبي الحسين ائتمنني على السيف الذي قتل به أبي لأديته اليه .. وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : ثلاثة لا عذر فيها لأحد : أداء الأمانة الى البر والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا ، أو فاجرين ، والوفاء بالعهد الى البر والفاجر .. ومن هنا اتفق فقهاء الشيعة الإمامية على ان الكافر إذا أعلن الحرب على المسلمين يحل دمه ، ولا تجوز خيانته ، فلو افترض انه كان قد أودع مالا عند مسلم وجب على المسلم أن يرد له أمانته ، مع العلم بأنه يجوز له قتله ، ونهب أمواله غير الأمانة.

لا دين لمن لا عهد له الآة ٧٧ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

المعنى :

قال الرازي في تفسير هذه الآية : «يدخل فيها جميع ما أمر الله به ، ويدخل ما نصب عليه الأدلة ، ويدخل المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ، ويدخل ما يلزم الرجل به نفسه ، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به».

٩٢

وفي الحديث ان رسول الله (ص) ما خطب خطبة الا وقال فيها : «لا ايمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».

وتدلنا هذه الآية وهذا الحديث ، وغيرهما كثير من الآيات والأحاديث ، تدلنا ان الإسلام يرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا ، ومن ثم أوجب الوفاء بكل التزام وتعامل يقع مع الغير ، واعتبره تعاملا مع الله والتزاما له بالذات ، حتى ولو كان الطرف الثاني ملحدا ، على شريطة ان لا يتنافى الالتزام مع المبادئ الأخلاقية ، والا وقع باطلا.

وكذلك الحال بالنسبة الى القضاء وفصل الخصومات ، حيث أوجب الإسلام على القاضي أن يصغي الى صوت الضمير وحجة الأخلاق قبل أن يستمع الى أقوال المتخاصمين .. ان النظرية الأخلاقية هي الركيزة الأولى للشريعة الإسلامية بجميع قواعدها وأحكامها ، دون استثناء ، ومن أجل هذا هدد الله الذين ينكثون بالعهد ، ويغدرون بالأمانة بما لم يهدد به أحدا من مرتكبي الكبائر والجرائم ، وذلك حيث يقول عز من قائل : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). أما السر لهذا الحرص الشديد على الوفاء ، والتهديد على مخالفته فهو الحفاظ على المصالح ، وتبادل الثقة بين الناس ، وصيانة الحقوق التي هي أساس الأمن والنظام.

يلوون ألسنتهم بالكتاب الآة ٧٨ :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

٩٣

المعنى :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ). هذه الآية عطف على الآية التي قبلها ، وهي (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ). والليّ معناه عطف الشيء ورده عن الاستقامة الى الاعوجاج ، والمراد به هنا التحريف ، وقد سجل الله على أهل الكتاب انهم حرّفوا كلام الله وسجل ذلك عليهم في العديد من الآيات ، منها : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ـ ٩١ الانعام» ، ومنها : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ ٧٥ البقرة. ومن اطلع على التوراة جزم بأنها افتراء على الله ، حيث نسبت اليه تعالى الأكل والمصارعة ، كما نسبت الى الأنبياء السكر والخمر والزنا ببناتهم.

ثم ان التحريف يتحقق بالتطعيم والتقليم ، كأن يزاد في الكتاب ، أو يحذف منه ، وأيضا يتحقق بتحريف الحركات تحريفا يغير المعنى ، فيجعل الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، وأيضا يتحقق التحريف بالتفسير ، فيفسر ـ مثلا ـ يد الله باليد الحقيقية ، لا باليد المجازية ، وهي القدرة.

واختلف المفسرون في نوع التحريف المراد بهذه الآية على أقوال ، وذهب الشيخ محمد عبده الى أن المراد بالتحريف هنا تحريف التفسير ، وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد منه ، وضرب مثلا على ذلك بلفظ (أبانا الذي في السماء) الذي جاء على لسان السيد المسيح فإن المراد منه رأفة الله ورحمته بعباده ، ولكن بعض الرؤوس فسّره بأن الله أب حقيقي لعيسى (ع).

والذي نميل اليه في تفسير هذه الآية ان ذاك الفريق من أهل الكتاب كان يلوك ألفاظا من عندياته ، ويخترعها من مخيلته ، ويوهم الناس انها من كتاب الله ، كي يعتقدوا بالباطل .. وعلى هذا يكون لفظ الكتاب الأول الوارد في الآية موصوفا بصفة محذوفة ، وهي المزعوم ، ولفظ الكتاب الثاني والثالث موصوفا بصفة محذوفة أيضا ، وهي الحقيقي ، والتقدير يلوون ألسنتهم بالكتاب المزعوم المحرّف لتحسبوا أيها الناس هذا المحرّف المزعوم من الكتاب الحقيقي الأصيل ، وما هو من الكتاب الأصيل في شيء.

٩٤

أما قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فتأكيد لقوله : (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ). وقيل : بل هو من باب عطف العام على الخاص ، لأن الكتاب مختص بالوحي المنزل على النبي ، أما الذي من عند الله فيكون وحيا منزلا على النبي ، ويكون سنة نبوية ، ويكون حكما عقليا.

كونوا ربانيين الآية ٧٩ ـ ٨٠ :

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

اللغة :

ربانيين جمع واحده رباني ، ومعناه المتأله الذي يعلم كتاب الله ، ويعمل به ، ويعلّمه للغير ، قال الإمام علي (ع) : الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، أي يسير على طريق النجاة ، ولا ينجو الا إذا أتقن العلم ، وهمج رعاع.

الإعراب :

يقول بالنصب عطفا على أن يؤتيه ؛ وبما كنتم ما مصدرية ، أي بكونكم ، ولا يأمركم بالنصب عطفا على يقول.

٩٥

المعنى :

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ). ليس من شك ان الذي يختاره الله للكتاب والحكم والنبوة يمتنع عليه أن يدعو الناس لعبادته ، لأن هذا كفر ، والله لا يختار الكافرين ، قال تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

والآية الكريمة رد على من يلصق بالأنبياء والأولياء صفة من صفات الربوبية ، كما انها ـ أي الآية ـ شهادة منه تعالى بتنزيه الأنبياء ، وتبرئتهم من الرضا بالغلو فيهم .. ان النبي يوقن بأنه عبد من عباد الله ، وان الله وحده هو المعبود ، فكيف يعقل أن يدعو الناس لعبادته ، أو عبادة الملائكة .. وانما يأمرهم أن يكونوا ربانيين ، أي عالمين عاملين معلمين.

وفي الحديث ان رجلا قال لرسول الله (ص) : أنسجد لك؟. فقال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله. وقال له آخر : أتريد أن نعبدك ، ونتخذك إلها؟. فقال : معاذ الله!. ما بذلك أمرت ، ولا اليه دعوت .. أما حكاية إحراق الإمام علي في النار من نسب اليه الربوبية فأشهر من أن تذكر .. وكل من دعا الناس الى عبادته فهو كافر ، وكل من دعاهم الى تعظيمه بقصد التعاظم والاستعلاء فهو فاسق.

وتسأل : لقد تضمنت الآية ثلاثة ألفاظ : الكتاب والحكم والنبوة ، وكل لفظ منها واضح المعنى لا يحتاج الى تفسير لو كان بمفرده ، لكنها إذا اجتمعت في كلام واحد ، وعطف بعضها على بعض فإنها تحتاج الى تفسير ، لأن معانيها متداخلة ، بخاصة إيتاء الكتاب والنبوة ، مع العلم بأن العطف يقتضي التغاير .. فما وجه الفرق بين هذه الكلمات الثلاث الذي سوغ عطف بعضها على بعض؟.

الجواب : المراد بالكتاب الكتاب المنزل من الله ، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، والمراد بالحكم العلم والسنة النبوية ، قال تعالى عن يحيى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ـ ١١ مريم» ، أما النبوة فمعناها معروف ، وهي وان كانت تستلزم معرفة الكتاب والسنة ، ولكن معرفتهما لا تستلزم النبوة ، فكل نبي عالم بالكتاب

٩٦

والسنة ، وليس كل عالم بالكتاب والسنة نبيا. ونظير هذه الآية قوله تعالى مشيرا الى الأنبياء (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ـ ٨٩ الانعام.»

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). أي ان النبي يقول للناس : «كونوا عالمين بكتاب الله ، عاملين به ، معلّمين إياه لغيركم». قال الشيخ محمد عبده : «أفادت هذه الآية ان الإنسان يكون ربانيا بعلم الكتاب وتعليمه للناس ونشره ، ومن المقرر ان التقرب الى الله لا يكون بالعلم وحده ، بل لا بد معه من العمل».

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً). أي ان النبي لا يأمر ، ولن يأمر أحدا بأن يتخذ معبودا غير الله .. كيف؟. (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). هم مسلمون ، لأنهم آمنوا بالنبي ، وأخذوا بأقواله .. وكل من آمن بنبي من أنبياء الله في أي عصر من العصور فهو مسلم باصطلاح القرآن. وسبق التفصيل عند تفسير الآية ١٩ من هذه السورة.

ومن تتبع آيات القرآن ، والسنة النبوية يجد ان من أبرز المظاهر الأصيلة التي تميز بها الإسلام عن غيره من الأديان هي التأكيد على انه لا يجوز بحال أن تنسب صفة الألوهية الى مخلوق نبيا كان أو ملكا أو وليا .. والسر في التكرار والتأكيد ان الإنسان ميّال بفطرته الى الغلو ، كما نشاهد ذلك في بعض أهل الأديان .. وعلى الرغم من هذا التأكيد فقد وجد غلاة بين المسلمين .. وان كثيرا من مسلمي اليوم ـ ونحن في القرن العشرين ـ ينسبون الى بعض الموتى ما لا تجوز نسبته الا الى الله وحده لا شريك له.

تضامن الأنبياء الآية ٨١ ـ ٨٣ :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ

٩٧

وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))

اللغة :

الميثاق العهد المؤكد ، ومثله الإصر.

الإعراب :

لما آتيتكم يجوز كسر اللام على أنها حرف جر ، وما مصدرية ، والمعنى أخذ الله ميثاقهم لأجل ايتائه إياهم الكتاب والحكمة ، ويجوز أن تكون اللام مفتوحة على انها للابتداء ، ويعبر عنها بلام التوطئة أيضا ، وما شرط في محل نصب على انها مفعول لآتيتكم ، ثم جاءكم معطوف على آتيتكم ، ولتؤمنن اللام جواب لقسم محذوف ، وتؤمنن سادّ مسد جواب القسم ، وجواب الشرط ، وهو لفظة ما كما قال الزمخشري ، وطوعا وكرها قائمتان مقام المفعول المطلق ، أي أسلم إسلاما طوعا ، ويجوز أن يكونا بمعنى الحال ، أي طائعين ومكرهين.

بين النبي والمصلح :

لا فرق بين النبي والمصلح من حيث الصدق في النية ، والإخلاص في العمل ، ويفترق النبي عن المصلح بأن النبي لا يخطئ ، لأنه يقول ويفعل بوحي من الله ، أما المصلح فيعتمد على نظره واجتهاده ، والمجتهد يخطئ ويصيب ، ومن ثم

٩٨

أمكن الاختلاف بين المصلحين في الاجتهاد ووجهة النظر ، وصح نفي المسئولية عن المخطئ ، أما الاختلاف بين الأنبياء فمحال ، لأنهم جميعا يعتمدون على مصدر واحد ، وهو الوحي الذي يوجه الجميع ، فالأنبياء أشبه بموظفي الدولة لتبليغ أوامرها الى الرعايا والمواطنين.

ويترتب على هذا ان الله إذا بعث نبيين الى أمة واحدة ، وفي عصر واحد فإنهما يكونان متفقين في كل شيء ، كما حدث لموسى وهارون (ع) ، وإذا اختلف زمن الأنبياء وتعدد فإنهم متفقون جميعا ، من حيث الفكرة والمبدأ ، بخاصة في الأصول الأساسية ، كالإيمان بالله واليوم الآخر ، وان كان هناك من اختلاف فإنما هو في الشكل ، وفي الأحكام العملية التي تستدعيها بعض الظروف والملابسات .. حتى هذه يعترف جميع الأنبياء بأنها صدق وحق ، وضرورية في حينها ، وعليه فلا اختلاف بين الأنبياء إطلاقا .. ومن أجل هذا صدّق كل نبي ما جاء به الآخر متقدما عليه كان أو متأخرا عنه.

وتسأل : من الممكن أن يصدّق اللاحق السابق ، بل ان ذلك واقع بالفعل ، فها نحن نؤمن بنبوة عيسى ومحمد (ص) .. وآمن ابراهيم بما جاء به نوح ، وموسى بما جاء به الاثنان ، وعيسى بما جاء به الثلاثة ، وآمن محمد (ص) بالجميع .. ان هذا معقول جدا ، ولكن كيف يعقل ان يؤمن السابق بمن لم يوجد بعد؟. الجواب : ان الله سبحانه يوحي إلى النبي السابق بأنه سيرسل بعده نبيا اسمه وصفاته كذا ، وان على السابق أن ينوّه باللاحق ، ويبلّغ الجيل الذي هو فيه من أمته ، حتى يبلغ الجيل الذي يليه ، وهكذا فإذا أتى اللاحق وجد السبيل ممهدا لتصديقه والايمان برسالته .. ذكرنا هذه الفقرة تمهيدا وتيسيرا لفهم الآيات التالية.

المعنى :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ). المفهوم من دلالة السياق ان المراد بالنبيين هنا الأنبياء والأمم التابعة لهم ، لا الأنبياء وحدهم ، والمراد بالرسول خصوص

٩٩

محمد (ص) كما في الآية ١٠١ من سورة البقرة : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

والمعنى ان الله سبحانه بعد أن بيّن للأنبياء ، والأمم التابعة لهم الدين أصولا وفروعا أخذ عليهم جميعا عهدا بأن يؤمنوا بمحمد (ص) ويناصروه ، كما انه هو بدوره يصدّق من سبقه من الأنبياء ، وما تركوه من الكتب ، كالتوراة والإنجيل.

ثم ان أخذ الله سبحانه الميثاق من الأنبياء انما يكون بطريق الوحي اليهم ، أما أخذه تعالى الميثاق من الأمم التابعة للأنبياء فيكون بواسطة الأنبياء ، أي ان كل نبي يأخذ الميثاق من علماء أمته أن يؤمنوا بمحمد ويناصروه ، وبتعبير أدق ان أخذ الميثاق على المتبوع يلزمه حتما أخذه على التابع ، وإذا وجب على النبي أن يؤمن بمحمد وجب ذلك على اتباعه بطريق أولى ، ومعنى ايمان الأنبياء بمحمد ومناصرته ، أن يعتقدوا بأنه آت من بعدهم ، وأن يبشروا بذلك ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ـ ٦ الصف». وقال الإمام علي (ع) : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد (ص) وأمره أن يأخذ العهد على قومه فيه ، بأن يؤمنوا به ، ويناصروه إذا أدركوا زمانه.

ومعنى ايمان أمم الأنبياء بمحمد (ص) ومناصرتهم له ان يصدقه علماؤهم ورؤساء أديانهم ، ويعلنوا لمن يثق بهم ان محمد بن عبد الله هو النبي الذي بشر به الأنبياء ، وجاء اسمه في الكتب السماوية ، بحيث ينطبق عليهم قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ـ ١٥٧ الاعراف». ولا يحرفون كلام الله كفرا وعنادا له ولمحمد (ص) ، كما أخبر عنهم سبحانه في الآية ٧٥ من سورة البقرة : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

(قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا). الاستفهام هنا للتقرير والتوكيد ، والإصر الميثاق ، والمعنى ان الله قال للأمم بلسان أنبيائهم : أأقررتم بمحمد وقبلتم العهد؟ قالت الأمم : نعم ، أقررنا بوجوب الإيمان به وبمناصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه ، والمراد بالأمم رؤساء الأديان وعلماؤهم العارفون بالكتب

١٠٠