التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

الاعراب :

أكبر صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي سؤالا أكبر. وجهرة أيضا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي رؤية جهرة. وبميثاقهم على حذف مضاف ، أي بنقض ميثاقهم ، والمرور متعلق برفعنا.

المعنى :

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ). المراد بأهل الكتاب هنا يهود المدينة الذين وقفوا من محمد (ص) موقف العدو المتعنت ، وكادوا له الكيد المستمر ، وكانوا أول من ابتلي بهم من أهل الكتاب .. ومن تعنتهم ووقحتهم ما أشار اليه سبحانه في هذه الآية من طلبهم أن ينزل النبي عليهم كتابا من السماء يشهد له ، على أن يروه رأي العين ، وبديهة انهم قالوا ذلك على سبيل التعنت ، لا طلبا للحجة ، لأن ما تقدم من معجزاته كافية وافية في الاقتناع لمن طلب الحق لوجه الحق .. وقد تولى الله تعالى الاجابة عن نبيه ، حيث قال عز من قائل :

(فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ). أي لا غرابة ولا عجب إذا سألوك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فلقد سألوا موسى أكبر وأعظم من ذلك ، سألوه ان يروا الله بالذات ، (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ). سبق تفسير سؤالهم هذا واتخاذهم العجل في سورة البقرة الآية ٥٤ ـ ٥٧ ، المجلد الأول ص ١٠٤. وتكلمنا عن جواز رؤية الله وأقوال المذاهب في ذلك ص ١٠٧.

ومعلوم ان الذين سألوا الرؤية جهرة ، واتخذوا العجل إلها هم اليهود الأولون ، لا يهود المدينة .. ولكن هؤلاء راضون ومؤمنون بكل ما فعل الآباء والأجداد ، ومن هنا صحت النسبة اليهم.

(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً). المراد بالسلطان الحجة الظاهرة ، والبرهان القاطع ، ولكن اليهود يهون عليهم كل شيء ، ولا يكترثون بشيء إلا بواحد

٤٨١

من اثنين : اما المنفعة ، واما القوة ، ومن أجل هذا خوفهم الله سبحانه بالجبل الذي أشار اليه بقوله :

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ). الطور اسم الجبل الذي ناجى موسى عليه ربه ، وفي سورة التين : (وَطُورِ سِينِينَ) قال المفسرون : سينين وسيناء اسمان للموضع الذي فيه الجبل. أمر الله بني إسرائيل على لسان موسى أن يعملوا بالتوراة ، فأبوا ، فرفع الجبل فوقهم تخويفا ، حتى قبلوا. وقوله تعالى (بِمِيثاقِهِمْ) المراد بنقض ميثاقهم الذي قطعوه على أنفسهم بأن يلتزموا بالدين ، ثم رجعوا عنه ، ولولا الجبل لم يعودوا اليه. اذن ، فلا عجب إذا تمردت إسرائيل على الأنظمة الدولية ورفضت قرارات الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، ونقضت جميع العهود والمواثيق مرات وكرات ، ولولا الخوف لم تقف عند حد .. لا عجب ولا غرابة ، انها تنسجم بذلك مع تاريخ أسلافها الذين رفع الله فوق رؤوسهم الطور كي يفوا بالعهد والميثاق.

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً). مر تفسيره في الآية ٥٨ من سورة البقرة ، المجلد الأول ص ١٠٩. (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ). أيضا مر تفسيره في سورة البقرة الآية ٦٦ ، المجلد الأول ص ١٢٠.

فيما نقصهم ميثاقهم الآة ١٥٥ ـ ١٥٩ :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ

٤٨٢

اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))

اللغة :

غلف جمع اغلف ، وهو المغطى بغلاف. والبهتان الكذب الذي يتحير فيه من شدته.

الاعراب :

ما في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، زائدة ، أي فينقضهم ، والمجرور متعلق بمحذوف ، أي لعنّاهم. الا قليلا منصوب على الاستثناء من ضمير يؤمنون ، ويجوز أن يكون صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي ايمانا قليلا ، بمعنى النقص والضعف. وعيسى ابن مريم عطف بيان من المسيح ، والكلمات الثلاث عيسى وابن ومريم بمنزلة الكلمة الواحدة ، مثل لا رجل ظريف في الدار ـ هكذا جاء في مجمع البيان ـ ورسول الله صفة لعيسى. ولفي شك منه (منه) متعلق بمحذوف صفة لشك ، أي لفي شك حادث منه ، ولا يجوز أن يتعلق بشك ، لأنه لا يقال : شككت منه ، وانما يقال : شككت فيه. وما لهم به من علم (ما) نافية ، ومن زائدة وعلم مبتدأ ، وما لهم متعلق بمحذوف خبر. واتباع الظن منصوب على الاستثناء المنقطع. ويقينا منصوب على المصدرية ، أي تيقنوا يقينا ، ويجوز أن يكون صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي قتلا يقينا. وان من أهل الكتاب (ان) نافية ، ومن أهل الكتاب متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير ما أحد كائن من أهل الكتاب.

٤٨٣

المعنى :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ). أي لعناهم بسبب نقضهم الميثاق الذي التزموا به ، وأبرموه على أنفسهم ، وهو أن يؤمنوا ويعملوا بما جاءهم به موسى (ع) .. ثم غيّروا وبدّلوا ، وحرّموا ما أحل الله ، وحللوا ما حرم. (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ). وهي الحجج والدلائل على نبوة عيسى ومحمد (ص). (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) كزكريا ويحيى بعد ان قامت الأدلة على نبوّتهما. (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ). أي مغطاة لا يصل اليها شيء من دعوة محمد (ص) ، قالوا هذا للرسول الأعظم تيئيسا له من ايمانهم بنبوته ، واستجابتهم الى دعوته. (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ). جملة معترضة بين المعطوفات ، جاءت للرد على قولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) والمعنى ليست قلوبكم غلفا بطبيعتها ، وانما كفركم بمحمد وتماديكم في الغي والضلال هو الذي جعلها صلدة كالحجارة ، أو أشد قسوة.

وبعد ان بلغت قلوبهم مبلغا لا تنفتح معه للحق بحال أصبحوا كمن خلقهم الله بلا قلوب ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الطبع عليها الى الله سبحانه. (أنظر تفسير الآية ٧ من صورة البقرة ، ج ١ ص ٥٣). (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً). كعبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن عبيد الله وغيرهم. (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً). كرر سبحانه نسبة الكفر الى اليهود ثلاث مرات : الأولى بمناسبة ذكره لجحودهم آيات الله وقتلهم الأنبياء. الثانية بمناسبة قولهم : قلوبنا غلف. الثالثة عند ذكره لقولهم على مريم المنكر الذي لا يقوله الا اليهود الذين تناصرهم أمريكا «المسيحية» وتزودهم بالسلاح ليعتدوا على القدس ، وينتهكوا الشعائر الدينية التي يقدسها المسيحيون والمسلمون ، بخاصة الكنائس ومقابر المسيحيين (١).

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ). وصفوه برسول

__________________

(١) أكتب هذه الكلمات يوم ٢٨ ـ ٤ ـ ١٩٦٨ ، وإسرائيل تعتزم اقامة عرض عسكري كبير في مدينة القدس المحتلة يوم ٢ ـ ٥ ـ ٦٨ ، على الرغم من قرار مجلس الأمن الذي أصدره بالإجماع على الغاء هذا العرض.

٤٨٤

الله تهكما به وبدعوته. (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). لما صمم اليهود على قتل السيد المسيح ألقى الله شبهه على أحد المجرمين المستحقين للقتل ، وقيل : ان هذا المجرم هو يهوذا الذي قاد الحملة ضد عيسى ، فأخذه اليهود ، وعذبوه وصلبوه معتقدين انه السيد المسيح ، وبعد الصلب فقدوا صاحبهم ، فارتبكوا وتحيروا ، وقالوا : ان كان المصلوب عيسى فأين صاحبنا؟ وان كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى؟.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ). اختلف اليهود والنصارى في السيد المسيح (ع) ، ووقفوا منه موقفين متناقضين ، فقال اليهود : هو ابن زنا. وقال النصارى هو ابن الله. وأيضا قال اليهود : صلبناه ، ودفن تحت الأرض الى غير رجعة. وقال النصارى : انه صلب ودفن ، ولكنه قام من تحت التراب ، ورجع الى الدنيا بعد ثلاثة أيام .. فرد الله سبحانه على الجميع بقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ). والظن لا يغني عن الحق شيئا ، والحق اليقين الذي لا ريب فيه هو ما أنبأنا الله به في قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ). هذه هي الحقيقة رفع الى الله تعالى ، لا قتل ولا صلب.

وهنا تتوارد الأسئلة : كيف حصل الرفع؟ ومتى؟ قبل صلب الشبيه ، أو بعده؟ وهل الرفع كان بالروح فقط ، أو بها وبالجسد؟ وهل رفع الى السماء الثانية أو الثالثة ، أو غيرها؟ وما ذا يصنع هناك؟ وهل ينزل قبيل الساعة الى الأرض؟ الى غير ذلك من الأسئلة التي أجاب عنها القصاصون بما يشبه الأساطير.

والقرآن الكريم لم يتعرض لشيء من ذلك من قريب أو بعيد ، وكل ما دلت عليه آياته ان السيد المسيح لم يقتل ولم يصلب ، وان الله رفعه اليه ، وان الذي قتل أو صلب شخص آخر ، تخيل القتلة انه المسيح ، ولا شيء في القرآن أكثر من ذلك ، ونحن لا نخرج عن نصوصه في مثل هذا الموضوع إلا بحديث متواتر .. بل لا نهتم بهذه الأسئلة وأجوبتها ما دمنا غير مسؤولين عنها ، ولا مكلفين بها. وسبق أن تعرضنا لما قيل في المسيح عند تفسير الآية ٥٨ من سورة آل عمران ، فقرة الاختلاف في عيسى.

وللتفكيه ننقل هذه الاسطورة عن بعض التفاسير ، تقول الاسطورة : ان الله

٤٨٥

رفع عيسى اليه ، وكساه حلة من نور ، وأنبت له جناحين من ريش ، ومنعه من الطعام والشراب ، وصيره من الملائكة يطير معهم حول العرش ، وجعل فيه طبيعتين : ناسوتية ، وملائكية ..

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). أي ما أحد من أهل الكتاب الا ويؤمن بعيسى قبل أن يموت ذلك الأحد من أهل الكتاب ، فضمير به يعود على عيسى ، وضمير موته يعود على أحد ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى .. وقد جاء في بعض الروايات ان كل انسان عند ما يعاني سكرة الموت ينكشف له الحق عما كان يعتقده في دار الدنيا ، وهذه الآية تشهد بالصحة لتلك الروايات ، حيث دلت بظاهرها على ان كل كتابي يهوديا كان أو نصرانيا لا بد أن يؤمن ايمانا صحيحا بعيسى بعد سكرة الموت ، فاليهودي الذي كان يقول عن عيسى : انه ساحر وابن فاعلة يعدل عن ذلك ، ويؤمن بأنه نبي مرسل ، وان امه صدّيقة ، والنصراني الذي كان يقول : انه ابن الله ، وثالث ثلاثة يؤمن بأنه عبد من عباد الله المخلصين.

وليس هذا بمحال في نظر العقل ، وقد أخبر به الوحي ، وكل ما أخبر به الوحي ، ولم ينكره العقل وجب التصديق به على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر ، أما من لا يؤمن إلا بما يقع تحت المجهر فلا يصدق ـ قطعا ـ وعليه أن لا يصدق من يقول له : لك عقل وروح ووعي وعاطفة .. لأنها لا تقع تحت المجهر ، ولا تنالها المعدات والآلات بالاختبار والتحليل ، وصدق من قال : من فقد الايمان بالله فقد نفسه.

وتسأل : وأية جدوى من الإخبار بأن الحق ينكشف لأهل الكتاب عند سكرة الموت ، مع العلم أنهم في هذه الحال يعجزون عن ادراك ما فات؟.

الجواب : الغرض من ذلك هو الحث على المبادرة الى تصحيح ايمانهم قبل أن تجتمع عليهم حسرة الفوت وسكرة الموت ، تماما كالغرض من الإخبار عن الجنة والنار.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). يشهد غدا عيسى (ع) على اليهود بأنهم ناصبوه العداء كفرا وعنادا لما جاءهم به من الله ، ويشهد على النصارى

٤٨٦

بأنهم غالوا فيه غلوا تجاوزوا ما أمرهم به من عبادة الله وحده ، (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ـ ١١٧ المائدة .. وكل نبي ، وطليعتهم محمد (ص) ، يشهد على من زاغ وانحرف من أمته عما جاءهم به وبلّغهم إياه. (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) ـ ٨٩ النحل».

فيظلم من الدين هادوا الآة ١٦٠ ـ ١٦٢ :

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

الإعراب :

فبظلمهم وبصدهم متعلقان بحرمنا. وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي صدا كثيرا. وقد نهوا عنه الجملة حال. وفي العلم متعلق «بالراسخون». ومنهم متعلق بمحذوف حال من الضمير في «الراسخون». والمقيمين منصوب بفعل محذوف ، أي أعني أو أمدح المقيمين الصلاة ، وقال قائل : هذا من خطأ الكتّاب. ويرده ان الأئمة والقراء والعلماء لا يقرون أمة محمد (ص) علي الخطأ في غير كتابة القرآن ، فكيف في كتابته؟.

٤٨٧

أجل ، يتجه هذا السؤال : لما ذا نصب المقيمين الصلاة على المدح ، دون غيرها من المعطوفات؟.

ونجيب : قد يكون ذلك لإبراز قيمة الصلاة وعظمتها ، وانها عمود الدين والايمان ، إذا قبلت قبل ما سواها ، وإذا ردت رد سواها. والصلاة مفعول للمقيمين. والمؤتون الزكاة خبر مبتدأ محذوف ، أي وهم المؤتون الزكاة.

المعنى :

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً). ما زال الكلام عن اليهود وقبائحهم ، فقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة وقاحتهم بطلبهم رؤية الله جهرة ، وعبادتهم العجل ، واعتداءهم في السبت ، ونقضهم الميثاق ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وافتراءهم على مريم ، وتبجحهم بقتل المسيح .. وذكر هنا صدهم عن سبيل الله ، وأكلهم الربا والرشوة ، وانه سبحانه بسبب هذه القبائح والفضائح حرم عليهم في الدنيا بعض الطيبات التي كانت حلالا لهم ولغيرهم.

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). معطوف على بظلم من الذين هادوا. وقيل : ان اليهود أول من سنّ الربا وشرّع تحليله ، وتكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية ٢٧٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٣٣. (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ). كالرشوة وغيرها من الوجوه المحرمة ، وقد وصفهم سبحانه في الآية ٤٢ من سورة المائدة بأنهم : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ). أما الطيبات التي حرمها عليهم فهي التي أشار اليها سبحانه بقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ١٤٦ الأنعام.

وإذا قارنا بين سيرة اليهود منذ القديم ، بخاصة في عهد موسى وعيسى ومحمد ، وبين وسائلهم وطرائقهم اليوم لم نجد أي فرق بين يهود الأمس ويهود اليوم ، من حيث الضلال والفساد ، والعداء للانسانية وقيمها ، وعدم الخضوع الا (للطور) يرفع فوق رؤوسهم .. وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان الشر

٤٨٨

طبع أصيل في اليهود ، وجبلة لا تنفك عنهم ، ولا ينفكون عنها ، مهما تغيرت الأزمان ، وتطورت الأحوال ، تماما كما لا ينفك اللدغ عن طبع العقارب ، ونفث السموم عن جبلة الأفاعي ، وإذا وجد في كل انسان استعداد للخير والشر فان طبيعة اليهود متمحضة للشر وحده. وإذا وجد منهم بين الحين والحين من يعرف الحق ، ويعمل به فانه قليل نادر ، والنادر لا ينقض القاعدة ، بل يكرسها ، وقد استثنى سبحانه هذه القلة بقوله :

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). الراسخون في العلم هم العلماء العاملون بعلمهم ، لا المحيطون بما دوّن في الكت ، والمحققون المدققون في أبحاثهم ونظرياتهم ، وان لم يعملوا ـ كما يتوهم ـ. وقد استوحينا هذا المعنى من قول علي أمير المؤمنين (ع) : «العلم يهتف بالعمل ، فان أجابه والا ارتحل عنه».

وتسأل : ان الله سبحانه عطف (المؤمنون) على (الراسخون في العلم) وأخبر انهما معا يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل ، وهذا الإخبار يصح بالنسبة الى الراسخين في العلم من اليهود ، ولا يصح بالنسبة الى المؤمنين بمحمد (ص) ، لأن معناه على هذا ان المؤمنين يؤمنون ، وهو أشبه بقول القائل : الواقفون يقفون ، والنائمون ينامون ، والقرآن منزه عن مثله ، فما هو التأويل؟.

الجواب : ان هذا السؤال أو الإشكال انما يتجه لو فسرنا المؤمنين في الآية بالمؤمنين من صحابة الرسول من غير أهل الكتاب ، كما فعل صاحب مجمع البيان ، ولم يمنعه الرازي وصاحب المنار وأكثر المفسرين .. أما إذا فسرنا المؤمنين باليهود المقلدين للراسخين في العلم منهم فلا يتجه السؤال ، إذا يكون المعنى ان الراسخين في العلم من اليهود والآخذين بأقوالهم من أهل ملتهم يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل ، أولئك يؤمنون استدلالا ، وهؤلاء يؤمنون تقليدا. ونحن نميل الى هذا التفسير : ونرجحه على الأول.

(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ). وقد كثر الكلام حول نصب المقيمين ، حتى روي عن عثمان وعائشة انه لحن ، وأبطل الرازي ذلك بقوله : «ان المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله (ص) فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه». والصحيح انه

٤٨٩

منصوب على المدح ، أي أمدح المقيمين الصلاة ، والغرض الإيماء الى فضل الصلاة وخطرها ، كما ذكرنا في فقرة اللغة. (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي وهم المؤتون الزكاة ، والمعنى ان المصلين الذين يستحقون المدح هم الذين يقرنون اقامة الصلاة بإيتاء الزكاة. (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على (الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ). أما جزاء الجميع فقد أشار اليه بقوله : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).

انا اوحينا اليك الآة ١٦٣ ـ ١٦٦ :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

اللغة :

الزبور الكتاب ، على وزن فعول بمعنى مفعول ، أي مكتوب.

٤٩٠

الاعراب :

كما أوحينا الكاف بمعنى مثل نعت لمفعول مطلق محذوف ، أي وحيا مثل الذي أوحينا. ورسلا الأولى مفعول لفعل محذوف ، تقديره وقصصنا رسلا ، ومثلها رسلا مبشرين ، أي أرسلنا رسلا مبشرين ، ويجوز أن تكون بدلا من رسل المتقدمة. ومبشرين حال من رسل ، ويجوز أن يكون صاحب الحال نكرة في بعض الموارد ، كما في الآية لأنه مفيد. والمصدر المنسبك من لئلا يكون متعلق بالفعل المحذوف ، وهو أرسلنا. وحجة اسم كان ، وللناس متعلق بمحذوف خبرها ، وعلى الله متعلق بمحذوف حالا من حجة. وبعلمه متعلق بمحذوف حالا من هاء أنزله.

المعنى :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً). الأسباط واحدها سبط ، وسبط الرجل ولد ولده ، والمراد بالأسباط هنا الاثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا ليعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، والزبور الكتاب بمعنى المكتوب ، والمراد بالوحي الى الأسباط الوحي الى الأنبياء منهم ، لا الوحي اليهم جميعا.

وهذه الآية وما بعدها تتصل بالآيات السابقة ، ووجه الصلة ان الله سبحانه حكى فيما تقدم عن أهل الكتاب انهم يؤمنون بفكرة النبوة من حيث هي ، ويعترفون بأن لله رسلا ، ولكنهم لا يعترفون بهم جميعا ، بل يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض ، ومحمد من هذا البعض الذين كفروا بنبوتهم ، وبيّن سبحانه هناك ان من كفر بنبوة واحد من أنبيائه فهو كمن كفر بالله ، وان الايمان الصحيح هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، وملائكته وجميع كتبه ورسله.

ثم قرر سبحانه في الآية التي نفسرها وما بعدها ان من اعترف بمبدإ النبوة من حيث هو ، وآمن بنبوة واحد كائنا من كان يلزمه قهرا ان يؤمن بنبوة

٤٩١

محمد (ص) ، لأن الله سبحانه قد أوحى اليه كما أوحى الى غيره من الأنبياء ، وأظهر على يده المعجزات كما أظهر على يد غيره «وما حصل به الاتفاق لا يكون سببا للافتراق» ومن جزأ وفرق فقد فرق بين الشيء ونفسه.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ). بعد أن ذكر سبحانه جملة من أسماء الرسل في الآية السابقة قال لنبيه الأكرم : وهناك أيضا غير هؤلاء من الرسل قصصنا عليك البعض منهم قبل تنزيل هذه السورة ، والبعض الآخر لم نقصصهم عليك .. وجاء في تفسير المنار ان أجمع الآيات لأسماء الأنبياء الآية ٨٤ من سورة الانعام : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ). ومنهم هود وصالح وشعيب ، وهم من العرب».

قال سبحانه : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) دون أن يشير الى عدد الذين لم يذكرهم لنبيه ، ولكن أهل الفضول أبوا الا الإحصاء ، وهم فيه بين إفراط وتفريط ، فمن قائل : ثلاثمائة وثلاثة عشر. وقائل : ألف ألف وأربعمائة وأربعة وعشرون ألفا. وثالث : ثمانية آلاف نصفهم من بني إسرائيل. ورابع : مائة وأربعة وعشرون ألفا. وكل هذه الأقوال وغيرها رجم بالغيب ، والصحيح ان الله أعلم بعدتهم وهويتهم.

هل الأنبياء كلهم شرقيون؟

وهنا تساؤل يعرض لكل انسان ، وهو : هل الأنبياء كلهم شرقيون ، ولا غربي واحد منهم؟. وإذا كانوا كلهم من الشرق ، فهل فيهم من الصين واليابان والهند ، وما اليها من بلاد الشرق الأقصى؟. ثم على فرض ان جميع الأنبياء شرقيون ، فكيف تجمع بين هذا ، وبين المبدأ القائل : ان الله لا يترك الناس سدى ، وان حكمته ورحمته تقتضي أن يرسل اليهم جميعا رسلا «مبشرين

٤٩٢

ومنذرين» يذكرونهم ويبصرونهم لئلا يكون لهم على الله حجة؟ وهل يقبل هذا المبدأ التخصيص بشعب ، دون شعب ، وبجنس ، دون جنس؟.

الجواب : ان هذا المبدأ الذي يقول : ان الله لا يترك الناس سدى ، وانه لا بد أن يلقي الحجة عليهم قبل الحساب والعقاب هو مبدأ عام لا يقبل التخصيص بأرض شرقية ، ولا غربية ، ولا بجنس أبيض أو أصفر أو أسود .. ولكن الحجة لا تنحصر بوجود النبي بذاته في كل بلد ، وفي كل جيل ، بل تكون به ، أو بكتاب منزل ، أو بشريعة إلهية يقوم عليها نواب عن النبي ، حتى إذا توفاه الله بقيت الحجة من بعده قائمة بين الناس ، قال أمير المؤمنين (ع) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة : «لم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة». والحجة النائب عن النبي ، والمحجة الشريعة التي أتى بها من عند الله ، فكل واحد من هذه الأربعة منفردا أو منضما الى نظيره تقوم به الحجة لله على الناس.

وبهذا نجد تفسير الآية ٣٦ من سورة النحل : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). والآية ٣٥ من سورة فاطر : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ). والآية ٤١ من النساء : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً). فالمراد بالرسول في الآية الأولى ، وبالنذير في الثانية ، وبالشهيد في الثالثة ـ واحد من الأربعة : الرسول بشخصه أو نائبه أو الكتاب المنزل أو الشريعة القائمة ، ومعلوم ان الثلاثة الأخيرة تنتهي الى النبي ، ولهذا صح اسناد الشهادة وما اليها الى النبي.

وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو : لما ذا لم تذكر العقل مع ما ذكرت من الحجج ، مع ان الله يحتج به كما يحتج بالنبي؟.

الجواب : ان العقل حجة ما في ذلك ريب ، ولكنه حجة مستقلة في معرفة وجود الله ، أما فيما عداها كمعرفة اليوم الآخر ، وحلال الله وحرامه فانه يحتاج الى موقظ ومنبه يرشده اليها ، ويرسم له المنهج الصحيح لإدراكها ، فوظيفة العقل في هذا الميدان الذي نحن بصدده هي أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول من موجبات الإيمان ، ودلائل الهدى الى خير الدنيا والآخرة ، ومتى فهم عن الرسول أقر وأذعن من غير تردد.

٤٩٣

وبعد هذا التمهيد الذي لا بد منه لمعرفة موضوعنا نعود الى السؤال : هل كل الأنبياء شرقيون؟ ونجيب : كلا ، وإذا لم تصل إلينا أخبار المرسلين لأمم الغرب ، وبعض أمم الشرق فليس معنى هذا ان الله لم يرسل اليهم أحدا منهم .. وأيضا ليس من الضروري لالقاء الحجة على أهل الغرب أن يكون الرسول منهم وفيهم ، بل قد يكون شرقيا ، ومع ذلك تعم رسالته الشرق والغرب ، ويكون التبليغ بواسطة خلفائه والمندوبين عنه أو عنهم ، كما هو الشأن في محمد (ص) الذي خاطبه الله بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٢٨ سبأ». وبقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ ١٠٧ الأنبياء» وقد أشارت بعض الكتب الدينية الموغلة في القدم الى ان رسالة محمد (ص) عامة وانها رحمة للعالمين ، وفوق ذلك ذكرت اسم أبي لهب بالحرف ونصبه العداء لرسول الله (ص) ، قال عبد الحق فديارتي في كتاب محمد في الأسفار الدينية العالمية :

«ان اسم الرسول العربي مكتوب بلفظه العربي احمد في «السامافيدا» من كتب البراهمة. وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ، ونصها ان أحمد تلقى الشريعة من ربه ، وهي مملوءة بالحكمة .. وان وصف الكعبة ثابت في كتاب «الآثار فافيدا» وانه قد جاء في كتاب «زندافستا» الذي اشتهر باسم الكتاب المقدس في المجوسية ، جاء الإخبار عن نبي يوصف بأنه رحمة للعالمين يدعو الى إله واحد لم يكن له كفؤا أحد ، ويتصدى له عدو يسمى أبو لهب» (١).

ومحال أن يصدر هذا الإخبار من غير الخالق .. انه وحي من الله الى نبي من أنبيائه ، ما في ذلك ريب .. وإلا فمن الذي يتنبأ ويصدق في نبوته انه بعد آلاف السنين أو مئاتها يوجد رجل يسمى أحمد ، ويدعو الى عبادة الواحد الأحد ،

__________________

(١) كتاب محمد في الاسفار العالمية مطبوع باللغة الانكليزية ، ونقل عنه العقاد في كتاب العبقريات الإسلامية تحت عنوان الطوالع والنبوات ، ونقلنا نحن عن العقاد.

٤٩٤

ويتصدى له عدو ، اسمه أبو لهب؟ ... ان في هذا الاخبار دلالة واضحة صادقة على أمرين : الأول صدق محمد في نبوته ، وعموم رسالته. الثاني ان الله سبحانه قد أرسل في القديم البعيد أنبياء لم نسمع بهم ولا بقصصهم. ثم ما يدرينا ان الذين نقرأ أو نسمع عنهم باسم الحكماء كانوا من الأنبياء ، وان تعاليمهم كلها أو جلها قد درست أو حرفت؟.

وبعد ، فان بعثة الأنبياء للشرق والغرب موضوع هام ، ويتسع لكتاب مستقل ، أما هذه المناسبة ، وهي تفسير قوله تعالى : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) فإنها لا تتسع لأكثر مما ذكرنا ، وربما تجاوزنا ، ونرجو الله سبحانه أن يتيح لهذا الموضوع العلمي النافع من يتمتع بالعلم والصبر على البحث والتنقيب.

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). لم يذكر الله سبحانه موسى مع من ذكر من الأنبياء في الآية ، وأفرد له هذه الجملة ، لأنه تعالى قد خصه بالتكليم من دونهم ، مع العلم ان الجميع قد تلقوا كلامه جل وعلا ، ولكن لتلقي لهذا الكلام صورا ذكرها جلت كلمته في الآية ٥١ من الشورى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) .. اذن تكلم موسى كان من وراء حجاب .. ولكن لا يعلم أحد طبيعة هذا الحجاب ، وكيف تم ، وقد سكت الله عن ذلك ، فنسكت نحن عما سكت الله عنه ، وعلى أية حال فان تخصيص موسى بالتكليم لا ينقص من مكانة سائر الأنبياء ، ولا يدل على انه أفضل وأكمل ، كلا ، فان إرسال الروح الأمين الى خاتم النبيين هو أعلى المراتب وأكملها.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). ان قاعدة لا عقاب بلا بيان كما يعبر الفقهاء ، أو لا عقوبة بلا نص كما يقول أهل الشرائع الوضعية، ان هذه واضحة بذاتها لا تحتاج الى دليل ، بل هي دليل على غيرها .. وحيث ان الله سبحانه لم يترك الإنسان سدى ، بل أمره ونهاه ، ولا بد من إبلاغه الأمر والنهي ، حتى تقوم عليه الحجة لو خالف ، والا كانت الحجة له فيما لا يعرف إلا بالوحي ، وحيث ان الرسل وسطاء بين الله وخلقه في تبليغ أحكامه ووعده ووعيده ، لذلك أرسل الله مبشرين ومنذرين

٤٩٥

لئلا يدع مجالا لاعتذارات وتعللات : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ـ أي من قبل البيان ـ (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) ـ ١٣٤ طه». وتكلمنا عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ج ١ ص ٢٤٧.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً). الشهادة تكون بالأقوال ، وتكون بالأفعال ، كشهادة الكون بوجود المكون وقدرته ، وشهادة البذل بكرم الباذل وجوده ، وشهادة الاقدام بشجاعة المقدم وبأسه ، وهذه الشهادة أدل وأقوى من شهادة الأقوال التي يتطرق اليها الشك والريب.

ومن الشهادة بالأفعال شهادة الله لمحمد (ص) ، حيث زوده بالدلائل والمعجزات على صدقه ، ومنها القرآن الكريم الذي أنزله الله عليه بعلمه ، ومعنى (بعلمه) ان القرآن من علم الله ، لا من علم المخلوقين الذي هو عرضة للأخطاء والأهواء ، أما شهادة الملائكة فإنها تبع لشهادة الله التي تغني عن كل شهادة ، ولذا قال تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

وبعد ، فما من أحد الا ويود لو صدّقه الناس فيما يقول ، ولكن العاقل لا يهتم إطلاقا ان كذّب وردّت عليه أقواله ، ما دام على يقين من صدقه .. وهذا ما تهدف اليه الآية ، فكأن الله سبحانه يقول لنبيه : لا يهمك تكذيب من كذّب بنبوتك ، واعراض من أعرض عن دعوتك ، ما دمت عندي صادقا مصدقا .. فهذه الآية تهدف الى ما تهدف اليه الآية ٨ من فاطر : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

كفوا وصدوا عن سبيل الله الآة ١٦٧ ـ ١٧٠ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨)

٤٩٦

إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

الاعراب :

لم يكن الله ليغفر لهم خبر كان محذوف أي لم يكن مريدا ليغفر لهم ، والا طريق جهنم نصب على الاستثناء المتصل من الطريق التي وقعت نكرة في سياق النفي. خالدين حال. وخيرا خبر كان المحذوفة مع اسمها ، أي يكن الإيمان خيرا ، وقيل مفعول لفعل محذوف ، أي وآتوا خيرا.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً). قال الرازي وغيره من المفسرين : هذه الأوصاف تنطبق على اليهود ، لأنهم كفروا بالإسلام ، وصدوا غيرهم عنه بإلقاء الشبهات في قلوب البسطاء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً). يرى بعض المفسرين ان الآية الأولى مختصة باليهود ، وهذه بالمشركين ، وان اليهود قد صدوا عن الإسلام بإلقاء الشبهات ، وان المشركين صدوا عنه بالظلم ، حيث أعلنوا الحرب على محمد (ص) ، ودارت بينه وبينهم المعارك أكثر من مرة ، ولا يغفر الله لهم ولا لغيرهم ما داموا على الضلال ، ولا يرشدهم في الآخرة الا الى طريق جهنم ، لأنهم في الدنيا سلكوا طريق الضلالة ، وانحرفوا عن طريق الهداية رغم الإنذار والإخطار. وقوله أبدا دليل على خلودهم في النار ، وعدم انقطاع العذاب عنهم ، ولولا لفظ التأبيد لكان لفظ الخلود محتملا للدوام والاستمرار ، ولطول أمد المكث في جهنم.

٤٩٧

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ). المراد بالرسول محمد (ص) ، والنداء عام لكل انسان في كل زمان ومكان ، لأن الإيمان برسالة محمد ودعوته ايمان بالحق ، ووجوب الايمان بالحق لا يختص بفرد ، دون فرد ، ولا بوقت دون وقت ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) يشعر بأن الإسلام لا يقر أي سلطان الا سلطان الحق ، فمن أعطاه الطاعة فهو عند الله من المقربين ، ومن عصى (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). لا تخفى عليه طاعة من أطاع ، ولا معصية من عصى ، وقضت حكمته ان يجازي كلا بما يستحقه من الثواب والعقاب.

لا تغلوا في دينكم الآة ١٧١ ـ ١٧٣ :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

٤٩٨

اللغة :

الغلو مجاوزة الحد. والاستنكاف الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا. والاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي عليه.

الإعراب :

المسيح مبتدأ. وعيسى عطف بيان. ورسول الله خبر. وكلمته عطف على الرسول. وجملة ألقاها حال. وثلاثة خبر لمبتدأ محذوف ، أي آلهتنا ثلاثة. وخيرا مفعول لفعل محذوف ، أي وقولوا خيرا. والمصدر المنسبك من أن يكون مجرور بمن محذوفه ، والمجرور متعلق بسبحانه ، وجميعا حال من ضمير فسيحشرهم.

المعنى :

لا نعرف دينا أكّد وتشدد في عقيدة التوحيد كالإسلام ، فلا شبيه ولا ند لله ، ولا حلول ولا اتحاد (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا هو الأساس الذي ترتكز عليه عقيدة الإسلام ، ومن الطريف قول من قال : «إذا كان الله قادرا على كل شيء فينبغي أن يكون قادرا على أن يخلق إلها مثله؟ .. ووجه الطرافة أو الغرابة في هذا القول انه يجمع بين صفة الخالق والمخلوق ، والعابد والمعبود في ذات واحدة ، وبديهة ان المخلوق لا يكون إلها خالقا .. اللهم الا عند من قال : ان في المسيح طبيعتين : لاهوتية وناسوتية. وتكلمنا عما قيل في السيد المسيح عند تفسير الآية ٥٨ من سورة آل عمران ، وعن التوحيد ونفي الشريك والأقانيم الثلاثة عند تفسير الآية ٥٠ من سورة النساء التي ما زلنا معها في التفسير ، وتكلمنا عن الغلو عند تفسير الآية ١٢٨ من سورة آل عمران ، ونعود ثانية الى هذا الموضوع لقوله تعالى :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ). قال كل من اليهود والنصارى قولا تجاوزوا فيه الحق .. فاليهود أنزلوه الى الحضيض ،

٤٩٩

والنصارى رفعوه الى الالوهية ، وقال المسلمون فيه ما قاله القرآن ، وهو قول وسط بين القولين ، وكان الخطاب في الآيات السابقة موجها الى اليهود ، وهو في هذه الآيات موجه الى النصارى بدليل قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) وهذا هو الغلو في الدين ، والقول على الله بالباطل ، لأنه تعالى منزه عن الشريك والشبيه ، والحلول والاتحاد ، والولد والصاحبة.

القرآن والمبشرون بالتثليث :

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). هذه هي حقيقة عيسى ، وبها قال المسلمون .. رسول الله ، وكفى تماما كإبراهيم وموسى ومحمد وسائر الأنبياء .. ووقفنا مع المبشرين بالمسيحية في مكان سابق من هذا التفسير ، ونقف معهم الآن عند تفسير هذه الآية ، لأن لهم قصة معها ، ستعرفها مما يلي ، ونبدأ الحديث بالسؤال ، كعادتنا في ارادة الإيضاح ، ليمضي القارئ معنا الى النهاية من غير سأم أو ملل.

سؤال : كيف يكون عيسى كغيره من الأنبياء ، وقد ولدوا جميعا من آبائهم ، وولد هو من غير أب خارقا لما هو مألوف ومعروف؟.

وتولى سبحانه بنفسه الاجابة عن هذا السؤال ، وأوجزه بهذا الإيجاز الرائع : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). ومعناه بضرب من الشرح والتفصيل ان قول النصارى : ولد عيسى من غير أب قول صحيح ، وصحيح أيضا قولهم : ان هذا يخالف المألوف .. ولكن الخطأ الجسيم في قولهم : ان هذه المخالفة دليل على ربوبية عيسى .. ووجه الخطأ انه لا ملازمة بين عدم الابوة ، وبين وجود الربوبية ، وإلا فانه يلزم ان يكون آدم ربا ، بل هو أولى بالربوبية من عيسى ـ على منطقهم ـ لأنه خلق من غير أب وأم ، وعيسى تولد من امه مريم .. هذا ، الى ان خرق العادات ليس بعزيز ، فقد كانت النار بردا وسلاما على ابراهيم ، فينبغي أن يكون ربا ، لأن ما حصل مخالف للمألوف.

ثم هل يكثر على من خلق الكون العجيب من لا شيء ، خلقه بكلمة واحدة ، وهي (كن فيكون) ، هل يكثر عليه أن يخلق بهذه الكلمة رجلا من غير

٥٠٠