التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً). هذه الآية دليل واضح على ان الايمان بالغيب ركن من أركان الإسلام ، وان من لا يؤمن به فليس بمسلم .. وسبق نظير هذه الآية ، مع تفسيرها في المجلد الأول ص ٤٥٥ الآية ٢٨٥ من سورة البقرة.

لا يثبت على كفر ولا ايمان الآة ١٣٧ ـ ١٣٩ :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩))

اللغة :

أصل البشارة الخبر السار الذي يظهر به السرور في بشرة الوجه ، فإذا قال شخص لآخر : بشارة ، أو أبشرك دون أن يذكر شيئا فهم منه على سبيل الإجمال ان هناك شيئا محبوبا ، ولا يستعمل في المكروه إلا مع القرينة ، ومنه قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

الإعراب :

خبر (لَمْ يَكُنِ اللهُ) محذوف ، والتقدير لم يكن الله مريدا لمغفرتهم ، أو للغفران لهم. وجميعا حال من العزة ، أو من ضمير خبر ان المحذوف الذي تعلق به لفظ (لله).

٤٦١

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) قد يؤمن الإنسان بدين من الأديان ، أو بمبدإ من المبادئ ، ويتعصب له ، ويناضل من أجله أهل الأديان والمبادئ الأخرى ، ثم يدرس ويبحث ، فيتبين له مواقع الخطأ فيه ، فينفصل عنه ، وينضم الى صفوف الصالحين الذين كانوا بالأمس من ألد أعدائه .. وعلى هؤلاء أن يقبلوه ويرحبوا به ، وليس من حق أي انسان أن يعيب وينكر عليه هذا العدول بعد ان سلك الطريق الصحيح الذي ظهر له ، بل يجب أن يمدح ويكرم ، لأن الرجوع عن الخطأ فضيلة ، والإصرار عليه رذيلة.

هذا إذا ثبت ودام على إيمانه الجديد ، أما إذا عدل ، وأعاد سيرته الأولى ، ثم عدل ، وأعاد .. وهكذا يفعل مرات وكرات ، أما هذا فيجب نبذه وطرده ، بل يجب أن يعاقب بأقسى العقوبات وأشدها .. وهذا ما التزمت به أهل الأديان ، وأرباب المذاهب السياسية قديما وحديثا ، لأن تقلبه هذا ان دل على شيء فإنما يدل على انه ساخر ماكر ، ومفتر كذاب ، يلج في الفساد والغواية ، ويزداد من الإثم والضلالة كلما دخل وخرج .. وهذا وأمثاله هم المعنيون بقوله تعالى : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بهذا التقلب والتلاعب (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ما داموا متزلزلين يتقلبون بين الكفر والايمان (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) لأنهم أضاعوا السبيل بسوء اختيارهم بعد ان عرفوه وسلكوه.

والخلاصة ان المؤمن هو الذي يثبت على إيمانه مهما تقلبت الظروف ، واختلفت الأحوال ، أما الذي يرتد مرة ومرة فهو أسوأ حالا ممن ثبت على الكفر والإلحاد.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). قال الرازي : استعمل سبحانه البشارة بالعذاب للتهكم ، تماما كما تقول العرب : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف.

ويلاحظ بأن أسلوب القرآن أبعد ما يكون عن التهكم .. والأقرب ان المراد بالبشارة مجرد الاخبار ، وجاز استعمالها في المكروه لوجود القرينة ، كما أسلفنا

٤٦٢

في فقرة اللغة.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). كل منا يريد أن يكون شيئا مذكورا في هذه الحياة ، وقد يحرص بعض الناس أن يشتهر بالطيبة والصلاح ، أو بالفهم والعلم ، ولكن البعض يريد العزة والشهرة بأي شيء كان ، ويبيع دينه من أجلها للشيطان ، ويتخذه وليا يسمع له ويطيع.

وهنا يأتي السؤال في توبيخ واستنكار من رب العزة ، لا من سواه : أيطلب هؤلاء العزة من الشيطان وأوليائه الأدنياء الأذلاء؟ وهل العزة الا بالايمان والتقوى؟ .. لقد أذل الإسلام بعزته جميع الأديان ، فكيف تطلب العزة ممن كفر به؟.

والمؤمنون الذين عناهم بقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) هم الذين يعتز بهم الإسلام ، لأنهم أعزوه وأعلوا كلمته بجهادهم وتضحياتهم .. وقد تكلمنا مفصلا عن موالاة الكافرين عند تفسير الآية ٢٨ من سورة آل عمران ، فقرة «موالاة المؤمن للكافر».

فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره الآة ١٤٠ ـ ١٤١ :

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ

٤٦٣

الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

اللغة :

التربص الانتظار ، والاستحواذ الغلبة والاستيلاء.

الإعراب :

ان إذا سمعتم (أن) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، أي انه ، والجملة من ان وما بعدها خبر ، والمصدر المنسبك في محل نصب مفعول لنزل ، والتقدير نزل عليكم المنع من مجالستهم عند سماع الكفر منهم ، وجملة يكفر بها حال من آيات الله. وضمير معهم عائد على محذوف ، والتقدير فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين. وإذا ملغاة لتوسطها بين الاسم والخبر. ومثل يوصف بها المذكر والمؤنث والمثنى والجمع ، يقال : هو وهي وهما وهم وهن مثله ، وقد أخبر بها في هذه الآية عن الجمع (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ووصف بها الاثنين في قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا). والذين يتربصون (الذين) صفة للكافرين والمنافقين.

المعنى :

(قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ـ أي من قبل ـ (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). هذه الآية المدنية تذّكر المسلمين بآية نزلت في مكة قبل الهجرة الى المدينة ، وهي قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي

٤٦٤

حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ـ ٦٨ الانعام». أما سبب هذا التذكير فهو ان بعض المسلمين ـ كما جاء في التفاسير ـ كانوا يجلسون في مجالس المشركين بمكة ، وهم يخوضون في ذم محمد (ص) ، ويستهزئون بالقرآن ، والمسلمون ضعاف ، لا يستطيعون الإنكار عليهم .. فنزلت آية الانعام تحذر المسلمين من المشركين ، وتأمرهم أن يعرضوا عنهم وعن مجالسهم حين يسمعون الكفر والاستهزاء بآيات الله.

وتمضي الأيام ، ويهاجر المسلمون الى المدينة ، وفيها يهود ومنافقون أظهروا الإسلام ، وأضمروا الكفر ، وأعاد بعض المسلمين السيرة الأولى ، وجالسوا اليهود والمنافقين بالمدينة ، وهم يخوضون في ذم الإسلام ونبيه ، فنزلت هذه الآية المدنية التي نفسرها ، لتذكر المسلمين بآية الانعام السابقة ، وتأمرهم بمقاطعة الكافرين والمنافقين المستهزئين بآيات الله.

وأيا كان سبب نزول الآية ، أو المخاطب بها فإنها عامة الدلالة على وجوب الاعراض عن كل من يخوض بالباطل ، ولا يختص هذا الوجوب بمن كان يجالس الكافرين في مكة ، والمنافقين في المدينة ، ولا بمن خوطب بهذه الآية بناء على انها موجهة لخاص ، لا لعام. وفي الحديث : الوحدة خير من قرين السوء. وفي ثان : إياكم ومجالسة الموتى ، فقيل : ومن هم الموتى يا رسول الله؟. قال : كل ضال عن الايمان ، جائر في الأحكام. وفي نهج البلاغة : مجالسة أهل الهوى منساة للايمان ، ومحضرة للشيطان.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ). الراضي بالكفر كافر ، وبالإثم آثم ، مهما كان نوعه باتفاق الفقهاء والعلماء ، وقد تواتر الحديث : العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به شركاء .. وبالأولى من رضي بالكفر. وفي نهج البلاغة : الراضي بفعل قوم كالداخل فيه ، وعلى كل داخل إثمان ، إثم العمل به ، وإثم الرضا به.

(إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً). ولنا ان نؤلف من قوله هذا ، وقوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ان نؤلف قياسا منطقيا ، يتألف من مقدمتين ينتجان قضية حتمية بديهية ، ونقول هكذا : كل من رضي بالكفر فهو كافر ، لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ، وكل كافر فهو في جهنم ،

٤٦٥

لقوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ) اذن ، كل من رضي بالكفر فهو كافر.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). ترسم هذه الآية صورة لحال المنافقين إذا وقعت الحرب بين المسلمين والمشركين ، وتتلخص هذه الصورة بأن المنافقين كانوا يخرجون مع المسلمين في حروبهم للدس والتثبيط وتفتيت الصفوف ، وفي الوقت نفسه يتظاهرون بأنهم خرجوا لنصرة المسلمين ، وينتظرون : فان كان الظفر للمسلمين قالوا لهم : كنا معكم ، فنحن وأنتم شركاء في الغنيمة ، وان كان للمشركين قالوا لهم : نحن الطابور الخامس ، فأين الأجر؟. وهكذا يمسكون العصا من وسطها.

وأبلغ ما قرأت في وصف المنافقين ما قاله علي أمير المؤمنين (ع) : «قد أعدوا لكل حق باطلا ، ولكل قائم مائلا ، ولكل باب مفتاحا ، ولكل ليل مصباحا». وهؤلاء موجودون في كل عصر ، وتضاعف عددهم في البلاد العربية يوما بعد يوم منذ ان ظهر فيها الذهب الأسود ، واتخذوا الوطنية شعارا لهم ، تماما كما تظاهر المنافقون بالإسلام في عهد الرسول (ص) .. فان تغلب الأحرار المناضلون على المحتكرين والمستغلين قال لهم منافقو العصر : ألم نكن معكم؟ وان نجا المستغلون بفريستهم قالوا لهم : ألم نمنع عنكم الأحرار؟.

وتسأل : لما ذا عبّر سبحانه عن ظفر المسلمين بالفتح من الله ، حيث قال : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) وعبر عن ظفر الكافرين بالنصيب حيث قال : (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ)؟.

الجواب : ان ظفر المسلمين هو ظفر للحق الذي يدوم ويبقى ما دام أهله متبعين لسنة الله وأمره من أعداد العدة ، فناسب التعبير عنه بفتح من الله ، أما ظفر الباطل فانه مؤقت لا يلبث حتى يزول أمام أهل الحق إذا اجتمعت كلمتهم على جهاده ونضاله .. وقديما قيل : دولة الباطل ساعة ، ودولة الحق الى قيام الساعة.

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). استدل الفقهاء بهذه الآية على ان الله سبحانه لم يشرع حكما يستدعي أية سلطة ، وولاية لغير المسلم على

٤٦٦

المسلم ، وفرعوا على ذلك كثيرا من الأحكام ، منها إذا كان أبو الطفل مسلما ، وامه غير مسلمة فلا حق لها في حضانة الطفل ، لأن الولد يتبع أشرف الأبوين دينا ، ويكون حكمه حكم المسلم ، ومنها ان المسلم لا يجوز له أن يوصي بأولاده الصغار الى غير المسلم ، وان فعل بطلت الوصية. ومنها ان الأب انما تكون له الولاية على أولاده إذا اتحد معهم في الدين ، أما إذا كانوا مسلمين ، والأب غير مسلم فلا ولاية له عليهم. ومنها ان حكم الحاكم غير المسلم لا ينفذ بحق المسلم ، وان كان حقا .. الى غير ذلك من الأحكام.

يخادعون الله وهو خادعهم الآة ١٤٢ ـ ١٤٣ :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

اللغة :

المراد بيخادعون انهم كانوا يظهرون الايمان ، ويضمرون الكفر ، والمراد بخادعهم ان الله مجازيهم بالعقاب على خداعهم هذا. وكسالى جمع كسلان ، وهو المتباطئ المتثاقل. والمذبذب من يتردد بين جانبين ، ويتكرر منه ذلك.

الإعراب :

جملة وهو خادعهم مستأنفة لا محل لها من الاعراب ، كأنّ سائلا يسأل :

٤٦٧

ما هو جزاء المخادعين؟ فأجيب بأن وبال خداعهم يرجع عليهم. كسالى حال من الواو في قاموا. وجملة يراءون حال ثانية. وقليلا نعت لمصدر محذوف ، أي إلا ذكرا قليلا. مذبذبين حال من المنافقين. لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء متعلق بمحذوف حال ، أي غير منسوبين لا الى المؤمنين ولا إلى الكافرين.

المعنى :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ). المراد بخداعهم لله اظهارهم الايمان للرسول مع إضمارهم الكفر ، لأن من خان الرسول فقد خان الله ، قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ـ ١٠ الفتح». والمراد بخداع الله لهم انه تعالى يعاقبهم على خداعهم ونفاقهم ، من باب اطلاق السبب وارادة المسبب ، وقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه العزيز بالتواب والشاكر ، لأنه يقبل من التائب توبته ، ويثيب الشاكر على شكره.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى). وكيف ينشطون لها ، وهم بها كافرون؟. لا يرجون ثوابا على فعلها ، ولا عقابا على تركها ، وإنما أتوا بها صيدا للدنيا ، وطريقا الى الكسب ، قال تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ـ ٤٥ البقرة.»

وتسأل : إذا صلى بدافع التقرب الى الله ، ومع ذلك أحب أن يراه الناس ليحسبوه من الصالحين ، أو ليدفع عنه تهمة التهاون بالدين ، فهل يكون هذا رياء؟.

الجواب : كلا ، ما دام الباعث الأول هو أمر الله ومرضاته ، وما عداه تبع له .. فقد سئل الإمام الصادق (ع) عن الرجل : يعمل الشيء من الخير فيراه انسان ، فيسره ذلك؟. قال : لا بأس ، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن ذلك لذلك. أي إذا لم يكن الفعل لمجرد الاظهار فقط.

(يُراؤُنَ النَّاسَ). لأنهم لا يصلون لله ، بل للصيد والربح. (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً). أي الا حين يراهم الناس ، أما إذا انفردوا فلا يذكرونه

٤٦٨

إطلاقا ، قال الإمام جعفر الصادق (ع) : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده : وينشط إذا كان الناس عنده ، ويحب ان يحمد بما لم يفعل.

هل كل الناس مراؤن؟

وتسأل : ما من أحد يظهر أمام الناس على حقيقته ، ويقول لهم كل ما يعتقد ، ومن الذي يقول لكل واحد ما يعرفه منه؟. ولو قال لعدّ من المجانين ، بل من الذي لا يفعل ويتصرف ـ أحيانا ـ على غير ما يحب ويريد؟. ثم الى أين المفر من عادات المجتمع وقيمه؟.

وهل باستطاعتك إذا التقيت بمن تكره ، وابتدأك بقوله : أنا مشتاق الى رؤيتك. هل باستطاعتك أن تجيبه بأني أكره أن أراك؟ وإذا أجبته بهذا المكروه فهل أنت مصيب في نظر الناس ، بل وفي نظرك أيضا؟. وأخيرا ، هل كل الناس مراؤن منحرفون لأنهم لا يعتقدون بكل ما يقولون ، ولا يؤمنون بكل ما يفعلون؟

الجواب : فرق بين الرياء والمداراة ، فالرياء ان تظهر الصلاح نفاقا وافتراء ، لتقف مع الصالحين ، ولست منهم ، والمداراة ان تكون لطيفا في معاملة الناس ، دون أن تهدف الى شيء الا ان تعيش معهم في وئام ووفاق .. صحيح انك تتصرف ـ أحيانا ـ تبعا لتقاليد المجتمع ، فتهني أو تعزي ، أو تبتسم وتحترم إنسانا مجاملا ، لا مؤمنا ، ولكن هذا تصرف سليم لا غبار عليه ، ولا تعد معه مرائيا ما دمت في فعلك وتصرفك متفقا مع المجتمع .. وأيضا لا يجب عليك إذا صدرت منك خطيئة ـ وأينا المعصوم ـ ان تذيعها وتعلنها على الناس. أجل ، يجب ان لا تبدو لهم قديسا لا خطيئة له.

وصحيح أيضا انك كاذب في قولك لمن تكره : أنا أشوق ، ولكنه كذب في المصلحة وحسن الخلق ، قال تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ـ ٨٣ البقرة». وقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) ـ ٢٤ ابراهيم». وقال : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) ـ ٤٤ طه». وفي الحديث : «الكلمة الطيبة صدقة يثاب بها قائلها بما يثاب به أولو الفضل والإحسان». وفيه

٤٦٩

أيضا : «أمرني ربي بالمداراة ، كما أمرني بالفرائض». وأجمع الفقهاء على ان الكذب واجب إذا توقف عليه حفظ النفس البريئة ، وخلاصها من الهلاك ، وان الصدق حرام في النميمة والغيبة ، فالنمام صادق ، والمغتاب صادق ، ولكنهما مذمومان عند الله والناس (١).

وبعد ، فان الرياء المحرم هو ان يتظاهر المرء أمام الناس بما ليس فيه ، فيريهم الخير والصلاح من نفسه ، ليحظى عندهم بمكان الصالحين الخيرين ، وهو من الأشرار المفسدين.

(مذبذبين). يتظاهرون تارة مع المسلمين ، وتارة مع الكافرين ، وهم في الواقع (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ). بل الى منافعهم ومطامعهم .. يقبلون كل يد تقبض على منفعتهم ، أو على شيء منها ، قذرة كانت اليد ، أو طاهرة.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً). أي ان الله سبحانه قد تخلى عنهم ، وأوكلهم الى أنفسهم لعنادهم وتمردهم على الحق ، ومن كان هذا شأنه فلن يؤوب الى رشد. ولا بد من التنبيه الى ان حكمة الله تعالى تستدعي ان لا يتخلى عن عبده ، تماما كما لا تتخلى الوالدة عن وليدها ، الا إذا كان العبد هو السبب الموجب لتخلي الله عنه لولوجه في العصيان والتمرد ، كما تتخلى الأم عن ابنها لغلوه في العقوق. وتقدم هذا النص القرآني بالحرف في الآية ٨٨ من هذه السورة ، وتكلمنا عنها هناك مفصلا ، فقرة «الإضلال من الله سلبي لا ايجابي» ، كما بسطنا القول في أقسام الهدى والضلال عند تفسير الآية ٢٦ من سورة البقرة ، المجلد الأول ص ٧٠.

لا تتخذوا الكافرين أولياء الآة ١٤٤ ـ ١٤٧ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ

__________________

(١) نصوص الكتاب والسنة تقوم على أساس العمل بما فيه مصلحة ، وترك ما فيه مفسدة ، فحيث تكون المصلحة يكون الأمر ، وحيث تكون المفسدة يكون النهي ، ومن هنا جاز الكذب مع المصلحة ، وحرم الصدق مع المفسدة المترتبة على الغيبة والنميمة.

٤٧٠

أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

اللغة :

السلطان الحجة. والدرك بسكون الراء وفتحها عبارة عن الطبقة أو الدرجة من الجانب الأسفل من الشيء. وتشعر هذه الآية ان دار العذاب طبقات بعضها أسفل من بعض. وشاكرا ، أي يجازي على الشكر ، كما بينا في الآية السابقة.

الاعراب :

من النار متعلق بمحذوف حالا من الدرك. والذين تابوا (الذين) في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في (لهم). وما يفعل الله (ما) استفهام في موضع نصب بيفعل.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ). تقدمت هذه الآية مع تفسيرها في سورة آل عمران الآية ٣٠ ، فقرة أقسام الأولياء وموالاة المؤمن للكافر.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً). السلطان الحجة ، وكل من

٤٧١

لم يكن على بينة من دينه ، أو زاغ عن طريق الهداية بعد أن استبان له فقد جعل لله الحجة البالغة من نفسه على نفسه .. اللهم انّا نعترف بأنك لا تعاقب إلا بعد قيام الحجة ، وأيضا نقر ونعترف بقيام الحجة علينا ، بل نهتز ونرتجف خوفا من بطشك ، ونعوذ منه بعفوك وكرمك .. اذن لا داعي لأن توقفنا بين يديك للمحاكمة والحساب ، والتحقيق والتدقيق.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً). لأن العقوبة على قدر الجريمة ، ولا جريمة أعظم من النفاق الذي جمع بين الكفر والكذب ، وكلاهما من أمهات الرذائل.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). بعد ان هدد وتوعد سبحانه المنافقين بأشد العقوبات أرشدهم الى التوبة ، طريق الخلاص والنجاة ، فهي وحدها النصير والشفيع اليه تعالى .. وهي في يدهم وطوع ارادتهم ، فمن قصر وتوانى فلومه على نفسه .. وهذه حجة أخرى على كل مذنب يضيفها جل وعز الى حججه البالغة التي لا يبلغها عد ولا حصر ..

وعقدنا فصلا خاصا للتوبة والتائبين بعنوان التوبة والفطرة عند تفسير الآية ١٨ من هذه السورة. وقد أطال المفسرون الكلام في بيان الفرق بين معطوفات هذه الآية ، وهي أصلحوا واعتصموا وأخلصوا .. والذي نراه ان لفظ التوبة يتضمن هذه الأوصاف بكاملها ، ولا نجد فرقا جوهريا بينها ، وانما نص عليها واكدها للاشارة الى ما كان عليه المنافقون من التردد والتمرد ، وان الله سبحانه لا يقبل توبتهم ، ولا يجعلهم في عداد المؤمنين إلا إذا ثبتوا واستمروا على التوبة ، وانهم إذا ارتدوا بعد التوبة ، وفعلوا كما يفعلون فإنهم يضيفون الارتداد الى كفرهم وافترائهم وذبذبتهم ، ولا جزاء للارتداد الا القتل في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة.

الله والإمام زين العابدين :

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ). أبدا .. انه غني عن كل شيء في ذاته وصفاته ،

٤٧٢

والا لم يكن خالقا ، وانما يحاسب ويعاقب جزاء وفاقا .. ولا غنى لمخلوق عنه في وجوده وبقائه ، وجميع حركاته وسكناته ، وإلا لم يكن مخلوقا .. والآن تعال معي ـ أيها القارئ ـ لنستمع بخشوع وإجلال الى هذه النفحات من الإمام زين العابدين :

«اللهم اني امرؤ حقير ، وخطري يسير ، وليس عذابي مما يزيد في ملكك مثقال ذرة ، ولو ان عذابي مما يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه ، وأحببت أن يكون ذلك لك ، ولكن سلطانك أعظم ، وملكك أدوم من أن تزيده طاعة المطيعين ، أو تنقصه معصية المذنبين».

ليست هذه المناجاة رموزا تومئ الى الوجد والشوق لجمال القدس وجلاله ، كما يفعل الصوفية ، ولا مجرد صلاة وخوف من عذاب الله ، وان دل عليه ظاهر الكلام ، وانما هي توجيه لكل قوي يريد البطش بالضعفاء الذين لا حول لهم معه ولا طول .. وان الأولى والأليق بقدرته مع ضعفهم هو العفو والصفح ، وليس التعذيب والتنكيل .. ان القوة لا تكون فضيلة وكمالا الا مع الإعطاء والتفضل. ان الحاجة أو الشراسة هي الدافع والباعث على التنكيل بمن لا يجد مهربا من القوي الا اليه .. والقوي الكامل غني عن المستضعفين ، منزه عما يشين.

وبعد ، فان العفو خير ، ونحن بحاجة اليه ، والله قادر عليه ، ولا أحد أولى به منه ، فعفوه ـ اذن ـ كائن لا محالة .. نقول هذا ، ونحن من أخشى عباد الله لله.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً). يعلم من أطاع وشكر ، ويوفيه أجور المطيعين الشاكرين .. آمنا بالله وحده ، مبتهلين اليه سبحانه ان يوفقنا لشكره وطاعته.

٤٧٣
٤٧٤

الجزء السّادس

٤٧٥
٤٧٦

لاكرامة لظالم الآة ١٤٨ ـ ١٤٩ :

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

الإعراب :

بالسوء متعلق بالجهر ومن القول متعلق بمحذوف حال من السوء. ومن ظلم استثناء منقطع ، على معنى ولكن من ظلمه ظالم فله أن يجهر بالشكوى من ظلمه. ويجوز أن يكون استثناء متصلا على تقدير حذف مضاف ، أي الا جهر من ظلم ، وهو الأرجح.

المعنى :

قال تعالى في تحريم الغيبة : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ـ ١٢ الحجرات». ومما قاله في تحريم الظلم : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ ٤٤ الاعراف». وقال في الآية التي نفسرها : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ). وإذا عطفنا هذه على آية الغيبة يكون المعنى لا يذكر بعضكم بعضا بالعيوب والسيئات إلا من كان مظلوما فله أن يعلن ظلامته ، ويجهر بسيئات من ظلمه.

ومعنى الظلم معروف ، اما الغيبة المحرمة فقد حددها الفقهاء بأن تذكر غيرك بما يكره في حال غيابه عنك ، كهتك عرضه والتفكه به واضحاك الناس منه ، سواء أكان ذلك بما هو فيه ، أم كان كذبا وافتراء .. واستثنوا من تحريم الغيبة الظالم لغيره ، والظالم لنفسه بتجاهره بالفسق وعدم مبالاته بما يقول ، ويقال له ، وفي مكاسب الشيخ الأنصاري ان موارد الاستثناء لا تنحصر في عدد ، لأن الغيبة

٤٧٧

انما تحرم إذا لم يكن في التشهير مصلحة أقوى وإلا وجب الإعلان والتشهير تغليبا لأقوى المصلحتين ، «كما هي الحال في كل معصية من حقوق الله وحقوق الإنسان ، وقد نبه على ذلك أكثر من واحد».

وعلى هذا تجوز شرعا الاضرابات والمظاهرات ضد حكام الجور ، بل قد تجب إذا انحصر الطريق في رفع الظلم بها ، على شريطة ان لا تؤدي الى الشغب والإضرار بالغير ، لأن الله سبحانه لا يطاع من حيث يعصى ، فالإسلام يرعى للإنسان قداسته وكرامته ، حتى يعتدي على كرامة غيره ، وعندها ترتفع عنه وعن كرامته الصيانة والحصانة ، ويحل هتكه واذلاله.

وتجدر الاشارة الى ان الظلم لا يختص بحكام الجور وأعوانهم ، فأي انسان اعتدى على غيره بفعل أو قول ، أو منعه حقه ، أو مطله به فهو ظالم ، قال رسول الله (ص) : ليّ الواجد ظلم. وفي حديث آخر : الواجد يحل عرضه. والواجد هو الذي لا يفي بالدين مع قدرته على الوفاء .. وروى أهل البيت عن جدهم (ص) : «من عامل الناس ، فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ـ فهو ممن كملت مروءته ، ووجبت اخوته ، وحرمت غيبته». حتى الكاذب والمخلف بوعده لا حرمة له .. وهكذا يحفظ الإسلام حقوق الفرد ما دام قائما بحقوق الانسانية التي تتمثل فيه وفي غيره ، ومتى هانت عليه كان أهلا للاحتقار والهوان.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ). هذا ترغيب في الخير سرا وعلانية. (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً). أجل ، يحسن العفو عن المسيء ، ولكن حين يكون العفو عنه خيرا له ، ولا ضرر فيه على المجتمع ، أما إذا كان وسيلة الى تشجيع المسيء على الاساءة والى انتشار الفساد فان العقاب هو المتعين ، والا اختل النظام ، وساد الأشرار ، واستحالت الحياة ، قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ). وقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض الآة ١٥٠ ـ ١٥٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ

٤٧٨

وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

الاعراب :

ذلك تستعمل بمعنى الافراد والتثنية والجمع ، وقد استعملت هنا في التثنية ، حيث أشير بها الى الإيمان ببعض ، والكفر ببعض. وحقا نصب على المصدرية ، أي يحق حقا ، أو حقّ حقا.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). آمن اليهود بموسى والتوراة ، وكفروا بعيسى ومحمد ، وآمن النصارى بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن ، وآمن المسلمون بالجميع ، لأن الإيمان في نظر الإسلام وحدة لا تتجزأ ، ولا سبيل عنده إطلاقا الى التفكيك والتفريق بين عناصره ، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته وجميع رسله وكتبه ، ومن كفر بواحد منها فحكمه يوم القيامة حكم من كفر بالجميع.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً). أي بين الكفر والايمان ، مع انه لا واسطة بينهما ، حتى المشكك يعد مع الكفار .. وإذا سأل سائل عن حكم الجاهل بنبوة نبي من الأنبياء أحلناه على تفسير الآية ١١٥ من سورة آل عمران ، فقرة «حكم تارك الإسلام».

٤٧٩

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا). وان آمنوا ببعض ، لأن الإيمان بالجميع وحدة لا تتجزأ.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ). وهؤلاء هم المسلمون أتباع محمد بن عبد الله الذي أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء ، وقال : الأنبياء جميعهم اخوة ، دينهم واحد ، وأممهم شتى. وفي رواية ثانية : الأنبياء بنو علّات. وسبق الكلام مفصلا عن ذلك عند تفسير الآية ١٣٦ من هذه السورة ، والآية ٢٨٥ من سورة البقرة ، المجلد الأول صفحة ٤٥٥.

فقالوا أرنا الله جهرة الآة ١٥٣ ـ ١٥٤ :

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤))

اللغة :

لا تعدوا بإسكان العين وتخفيف الدال بمعنى تجاوز الحد ، والمراد به هنا عدم العمل يوم السبت ، وقريء بتشديد الدال بمعنى لا تعتدوا من الاعتداء.

٤٨٠