التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

وتقديس المبدأ الذي مات عليه صاحب القبر الى الاعتقاد بأنه قوة عليا تجلب النفع ، وتدفع الضر.

(وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً). أي ان عبادة المشركين للأصنام هي في واقعها عبادة الشيطان نفسه ، لأنه هو الذي أمرهم بها فأطاعوا أمره ، ومن أطاع غيره ، وسلك مسالكه فهو عبد مأمور له.

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). النصيب المفروض الحصة الواجبة ، والمعنى ان الشيطان قال لله ، جل وعز : ان لي سهما فيمن خلقتهم لعبادتك ، وقلت عنهم فيما قلت : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ـ ٥٦ الذاريات ، وان هذا السهم فرض واجب لي يطيعني ويعصيك.

وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على ان الشيطان شخص حقيقي ، وانه يخاطب الله بقوة وثقة ، فهل الكلام جار على ظاهره ، أو لا بد من التأويل؟.

الجواب : نقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده ان في كل فرد من أفراد الإنسان استعدادا لعمل الخير والشر ، ولاتباع الحق والباطل ، والى هذا الاستعداد أشار سبحانه بقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ـ ١٠ البلد» ، وان النصيب المفروض للشيطان من الإنسان هو استعداده للشر الذي هو أحد النجدين. وعليه يكون لفظ الشيطان كناية عن هذا الاستعداد.

وفي ص ٢٠ من المجلد الأول تكلمنا عن المراد من الشيطان .. وغير بعيد أن يكون هذا القول الذي جاء على لسان الشيطان (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أن يكون تصويرا لواقع العصاة الذين تغلّب فيهم جانب الاستعداد للشر على جانب الاستعداد للخير ، وليس خطابا حقيقيا مع الله سبحانه.

سياسة الشيطان والعلم الحديث :

وقال قائل : ان فكرة الشيطان سيطرت على عقول الناس يوم كان العلم مجرد كلمات تقال في حلقات الدرس ، وسطور تملأ صفحات الكتب ، ولا تتجاوزها الى العمل الا قليلا ، أما اليوم فقد أصبحت فكرة الشيطان بشتى تفاسيرها خرافة

٤٤١

وأسطورة بعد أن صار العلم مقياسا لكل حقيقة ، وأساسا لكل خطوة يخطوها الإنسان ، وقوة في كل ميدان ، ومعجزة تحرك الحديد ليخرق الأرض آلاف الأمتار ، يفجرها أنهرا من الذهب ، ويطير في الجو الى القمر والمريخ ، يخاطب أهل الأرض من هناك بما يشاهد في رحلته.

الجواب : لا نظن أحدا يهوّن من شأن العلم وفوائده ، وانه قوة وثروة ، وان حاجة الناس اليه تماما كحاجتهم الى الماء والصيام .. ولكن لا أحد يجهل ان العلم تماما كالإنسان فيه استعداد للخير والشر ، وانه حين يوجه الى الخير ينتج الطعام للجائعين ، والكساء للعراة ، والعلاج للمرضى ، وحين يوجه الى الشر يقتل ويدمر .. والشر هو الركيزة الأولى لسياسة الشيطان الذي نعنيه. وقد أصبح العلم اليوم في يد السياسة تتجه به الى الفتك والهدم ، والسيطرة والاستغلال.

وقد تضاعف نصيب الشر أو الشيطان ـ مهما شئت فعبر ـ بتقدم العلم وتطوره. كان أعوان الشر فيما مضى يتسلحون بقوة العضلات ، أما الآن ، وبعد ان بلغ العلم من الجبروت ما بلغ فإن حزب الشيطان يتسلحون بالذرة والصواريخ الموجهة ، وما اليها مما يزلزل الأرض من أعماقها.

وقرأت فيما قرأت ان أمريكا وضعت مخططا لشراء شباب العلم في أي مكان وجدوا أو يوجدون ، وان سمسارها المتجول استطاع في بعض زياراته لبريطانيا أن يعقد صفقة مع سبعمائة عالم للهجرة لأمريكا ، ومعظم هذه العقول يستغلها الساسة الأمريكيون في صنع الأجهزة والآلات لغزو العالم كله ، والسيطرة على مقدراته ، وهؤلاء هم الشيطان عدو الله والإنسان.

أما المدارس العصرية المنتشرة هنا وهناك فأكثرها من نصيب الشيطان ، ولا شيء فيها يمت الى الدين والخلق الكريم بصلة .. وهكذا استجابت العقول الكبيرة والصغيرة في هذا العصر لدعوة الشر والشيطان الذي أعلنها بقوله : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً).

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ). إضلال الشيطان للإنسان أن يزين له الحق باطلا ، والخير شرا ، أو يوهمه انه لا حق ولا خير في الوجود ، ولا جنة ولا نار ، وان الدنيا ملك لمن يحوزها كما قال «نيتشه» .. وفي الحديث : «خلق إبليس

٤٤٢

مزينا ، وليس اليه من الضلالة شيء» أما تمنية الشيطان للإنسان فهو أن يخيل اليه ادراك ما يتمناه من طول الأجل ، والنجاة يوم الحساب والجزاء ، وما الى ذلك من الأماني الكاذبة ، والسعادة الموهومة.

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ). البتك القطع ، يقال : بتكه ، أي قطعه ، والتبتيك للتكثير والمبالغة في البتك. والانعام الإبل والبقر والغنم ، وكان العرب في الجاهلية يقطعون آذان بعض الانعام ، ويوقفونها للأصنام ، ويحرّمونها على أنفسهم ، ويأتي التفصيل ان شاء الله عند تفسير الآية ١٠٣ من سورة المائدة : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

وبعد ان كان الشر أو الشيطان يأمر حزبه في عصر الجاهلية بقطع آذان الانعام وتغيير خلق الله أصبح يأمرهم بإلقاء قنابل النابالم على النساء والأطفال ، والقنبلة الذرية على المدن ك «هيروشيما» و «ناكازاكي» لإفناء خلق الله .. وهذا من (حسنات) سيطرة الساسة على عبقرية العقول ، وجبروت العلم.

(وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) ـ أي يطيعه ـ (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً). حيث يصبح ضحية الأهواء والشهوات ، وأسير الأوهام والخرافات. (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً). حيث سار بهم على طريق التهلكة بعد ان زين لهم انه سبيل النجاة ، فالزاني أو شارب الخمر ـ مثلا ـ يخيل اليه انه يتمتع باللذائذ ، وهو في واقعه يتحمل أعظم المضار دنيا وآخرة.

(وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً). المحيص المخرج والمفر ، والمعنى ان حزب الشيطان من المشركين والمفسدين لا نجاة لهم من عذاب الله .. وبعد ان ذكر سبحانه الوعيد أردفه بالوعد على سنته المعهودة من اقتران الترغيب بالترهيب ، قال عز من قائل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً). وفي هذه الآية ثلاثة تأكيدات : الأول التأبيد الذي دل عليه لفظ (أبدا). والثاني وعد الله حقا. والثالث ومن أصدق. والغرض من هذا التكرار التنبيه الى ان مواعيد الشيطان كاذبة ، وأمانيه فارغة ، وأوامره باطلة ، وان قول الله هو الحق والصدق ، وطاعته هي الخير والسعادة.

٤٤٣

وتسأل : ان الوعد بالجنة في أكثر آياته يقترن الخلود فيها بالتأبيد ، وأكثر آيات الوعد بالنار لا يقترن الخلود فيها بالتأبيد ، فما هو السر؟

الجواب : السر ان الخلود عبارة عن طول المكث ، وقد يكون الى الأبد ، وقد لا يكون .. ومن دخل الجنة فلا يخرج منها ، فناسب ذلك ذكر التأبيد ، أما من يدخل النار فقد ينقطع عذابه ، ويخرج منها ، ولهذا لم يقترن العذاب فيها بالتأبيد إلا في حالات خاصة ، كالشرك وقتل العمد.

من يعمل سوءا يجز به الآة ١٢٣ ـ ١٢٤ :

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤))

اللغة :

النقير النكتة في ظهر النواة ، وبها يضرب المثل في القلة.

الإعراب :

اسم ليس محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي ليس الأمر بأمانيكم. ومن يعمل اسم شرط في محل رفع بالابتداء ، والخبر جملة يجز به. ولا يجد مجزوم عطفا على يجز به وجملة (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) لا محل لها من الاعراب ، لأنها

٤٤٤

كلام مستأنف. ومن يعمل من الصالحات مفعول يعمل محذوف أي شيئا. ومن الصالحات متعلق بمحذوف صفة لشيء. ومن ذكر أو أنثى متعلق بمحذوف حال من الضمير في يعمل. وهو مؤمن مبتدأ وخبر ، والجملة حال ثانية. فأولئك مبتدأ ، والخبر يدخلون الجنة ، والجملة من المبتدأ أو الخبر جواب من يعمل.

المعنى :

ترتكز هاتان الآيتان على مبدأ بديهي ، لا يجادل أحد فيه ، ويرتفع بقيمته من مستوى التعديل والتغير بتغير الأزمان والأحوال ، والتخصيص بالنساء أو الرجال ، وهو «الإنسان مجزي بأعماله ان خيرا فخير ، وان شرا فشر» .. وتكرر هذا المعنى بأساليب شتى في كتاب الله ، منها قوله في الآيتين : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ .. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). ومنها : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ـ ٥١ ابراهيم». ومنها : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ـ ٣١ النجم» .. الى كثير من الآيات. وبعد هذا الإجمال نشرع بالتفصيل :

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). قال الجاحدون لمن دعاهم الى الايمان : سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ، ان هذا الا خلق الأولين ، وما نحن بمعذبين. وقال اليهود والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وقال قائل من المسلمين : ان النار خلقت لغير المسلمين .. وهكذا كل أناس فرحون بما يدينون .. فرد الله عليهم جميعا بقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) كائنا من كان ، وليس بين الله وبين أحد نسب ولا سبب إلا الإخلاص والعمل الصالح ، وكفى دليلا على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ). وفي الحديث : ان الله يقول غدا : اليوم أضع نسبكم ، وأرفع نسبي ، أين المتقون؟.

وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : «ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا ، والله مالنا على الله حجة ، ولا معنا من الله براءة ، وانّا لميتون وموقوفون

٤٤٥

ومسؤولون ، من أحب الغلاة فقد أبغضنا ، ومن أبغضهم فقد أحبنا ، الغلاة كفار ، والمفوضة مشركون (١)».

بين الرجل والمرأة :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). ما دام الذكر والأنثى سواء في التكليف والمسئولية تحتم أن يكونا سواء في الجزاء. ومهما قيل في الفرق بين الرجل والمرأة في هذه الحياة فإنه لا فرق إطلاقا بينهما يوم الحق والفصل. فالمقارنة ان صحت بوجه ما فإنها لا تصح بحال من حيث الجزاء على الحسنات والسيئات. وسبق الكلام عن المرأة عند تفسير الآية ٢٢٨ من سورة البقرة ، فقرة «بين الرجل والمرأة» في الشريعة الإسلامية ، المجلد الأول ص ٣٤٣.

وقوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) شرط لدخول الجنة ، كما هو صريح الآية : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وليس شرطا لغيرها من الجزاء والمكافأة على العمل الصالح ، فالكافر إذا عمل الخير لوجه الخير ، لا للشهرة والاتجار ، كافأه الله عليه ، لأنه عادل لا يضيع أجر من أحسن عملا ، كيف وهو القائل : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). وليس من الضروري أن تكون الجنة جزاء المحسن ، فقد يكون الجزاء في الدنيا ، أو في الآخرة بتخفيف العذاب ، أو لا بالجحيم ولا بالنعيم. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٧٦ من سورة آل عمران فقرة «الكافر وعمل الخير» ، وعند تفسير الآية ٣٤ من سورة النساء.

__________________

(١) المفوضة هم الذين قالوا : ان العبد مستقل بأفعاله ، وليس لله فيها صنيع ، على عكس المجبرة الذين قالوا : ان الله يخلق الأفعال في العبد ، وليس للعبد فيها صنع ، أما أهل العدل فقالوا : لا جبر ولا تفويض ، بل بين بين.

٤٤٦

ومن احسن دينا الآة ١٢٥ ـ ١٢٦ :

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

اللغة :

الحنيف المائل عن الزيغ والضلال. والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء ، وهي المحبة.

الإعراب :

دينا تمييز. وممن أسلم متعلق بأحسن ، ولله متعلق بأسلم ، وهو محسن مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الضمير بأسلم. وحنيفا حال من ملة ابراهيم ، وفعيل يستوي فيه التأنيث والتذكير مثل ان رحمة الله قريب من المحسنين.

المعنى :

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). المراد بأسلم استسلم وانقاد ، وبالوجه الذات والنفس ، وبالمحسن فاعل الحسنات وتارك السيئات. والمعنى ان الكامل هو الذي يرجو الله ولا يرجو سواه في كل شيء ، ويسلك السنن التي سنها سبحانه لخلقه في هذه الحياة ، وبهذا وحده يكون العبد قريبا من خالقه ، أما من يذل ويخضع لأرباب الدنيا طمعا فيما لديهم من مال وجاه فما هو من الله في شيء ، حتى ولو قام الليل ، وصام النهار.

٤٤٧

(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). أي اقتدى بإبراهيم (ع) الذي أعرض عن كل ما سوى الله ، وقال لقومه : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ـ ٨٠ الانعام».

وتسأل : لما ذا قال تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، ولم يقل ملة محمد؟.

الجواب : أولا ان ملة ابراهيم ومحمد شيء واحد : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ـ ٦٨ آل عمران».

ثانيا : ان نبوة ابراهيم محل وفاق عند أهل الأديان جميعا ، لا عند المسلمين فحسب ، فالاحتجاج بها على غير المسلمين أقوى وأبلغ .. ان صح التعبير.

(وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً). لقد اختص الله ابراهيم (ع) بمنزلة عظمى تكاد تكون فوق النبوة والرسالة ، قال الإمام جعفر الصادق (ع) : ان الله اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا ، واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، واتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). فهو مالك كل شيء ، ومهيمن على كل شيء ، ومحيط بكل شيء.

وتسأل : ان هذا المعنى قد تكرر كثيرا في كتاب الله ، فما هو السر؟.

الجواب : السر أن يتنبه الإنسان ، ويبقى دائما على ذكر ان الله وحده هو المتصرف بالكون ، وان أمره نافذ فيه ، وانه على صلة دائمة بعلمه وقدرته وحكمته ، ومتى شعرت النفس بهذه الحقيقة عملت على مرضاة خالقها باتباع منهجه ، وطاعة أوامره .. هذا ، الى ان التكرار يأتي لمناسبة تستدعيه ، يدركها المفسرون أحيانا ، وتخفى عليهم حينا ، وهي هنا ان البعض قد يتوهم ان الله اتخذ ابراهيم خليلا على نحو ما نتخذ نحن الأخلاء والأصدقاء .. فدفع سبحانه هذا الوهم بأن الله جل وعلا هو الخالق المالك لكل شيء ، وان ابراهيم عبد تحت سلطان الملك ، ولكنه عبد مصطفى ، لا كسائر العبيد.

٤٤٨

ويستفتونك في النساء الآية ١٢٧ :

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧))

اللغة :

الاستفتاء طلب الفتوى ، والإفتاء اظهار المشكل ، والفتوى والفتيا بمعنى واحد. والقيام يطلق على معان شتى ، والمراد بأن تقوموا هنا العناية والاهتمام.

الإعراب :

الله يفتيكم مبتدأ وخبر ، والجملة محكية بالقول. وما يتلى عليكم (ما) مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي المتلو في الكتاب أيضا يفتيكم في شأن النساء ، والجملة معطوفة على الجملة المحكية ، والمراد بالمتلو في الكتاب الآيات السابقة في أول السورة ، مثل قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى). وفي يتامى النساء متعلق بيتلى ، واضافة اليتامى الى النساء من باب اضافة الشيء الى جنسه ، كساعة ذهب ، أي من ذهب. والمستضعفين معطوف على يتامى النساء. وان تقوموا في محل جر ، أي في أن تقوموا.

المعنى :

ذكر سبحانه في أول هذه السورة طرفا من أحكام المرأة واليتيم ، وعقبه بذكر

٤٤٩

أهل الكتاب والمنافقين والقتال ، ثم عاد الى المرأة واليتيم ، وذكر بعض أحكامها كتكملة لما افتتح به السورة من أحكام الأسرة .. وهذه هي طريقة القرآن ينتقل من شأن الى شأن ، ثم يعود الى الأول بقصد التأثير في القلوب ، وغيره مما تستدعيه الحكمة والرفق بالعباد.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ). أي يطلبون منك يا رسول الله ان تبين لهم أحكام النساء في الإرث والزواج ونحوه. (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) ويدل هذا على ان تشريع الأحكام لله وحده ، وليس للنبي منها الا التبليغ ، وثبت انه كان يسأل عما لم ينزل به وحي فلا يجيب ، حتى ينزل عليه. (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ). أي ان الله يفتيكم في أمر النساء ، وأيضا القرآن يفتيكم في أمرهن.

وتسأل : ان إفتاء القرآن هو إفتاء الله بالذات ، فعطف أحدهما على الآخر عطف للشيء على نفسه؟.

الجواب : المراد بافتاء القرآن هنا ما تقدم بيانه بأول السورة ، وهو قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ). وقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ) الخ. والمراد بافتاء الله سبحانه ما بيّنه هنا مكملا لما سبق ، وبديهة ان العطف يصح مع وجود الفارق بجهة من الجهات ، كاختلاف زمان الشيء الواحد أو مكانه.

(اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ). أي ان الله والقرآن يبينان لكم حكم النساء اللاتي منعتموهن مما فرض لهن من الإرث والصداق .. فلقد كان عرب الجاهلية يظلمون المرأة ، ويعاملونها معاملة السلع والحيوانات. (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ). كان الرجل منهم يضماليتيمة الى نفسه ، فان كانت جميلة نكحها وأكل مالها ، وان كانت دميمة منعها عن الزواج ، حتى تموت وأخذ مالها .. وربما سبّب لها الموت لهذه الغاية. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ). أي ويفتيكم أيضا في شأن الصبيان الصغار الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث ، وكانوا لا يورثون الا من يحمل السلاح ، فنهى سبحانه عن ذلك ، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وهذا تأكيد لما سبق بيانه في أول السورة. (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ).

٤٥٠

أي ويفتيكم أيضا أن تقوموا لليتامى بالعدل في أنفسهم وأموالهم ، وان تعطوا كل واحد منهم حقه كاملا أنثى كان ، أو ذكرا ، صغيرا ، أو كبيرا. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) ـ مع اليتامى والنساء ـ (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) يثيبكم عليه.

وخلاصة معنى هذه الآية ان المسلمين طلبوا من النبي أن يبين لهم أحكام النساء ، فقال سبحانه لنبيه : قل لهم : ان الله قد بيّن لكم فيما سبق طرفا من هذه الأحكام ، وهو الآن يبين لكم طرفا آخر منها .. والمهم أن تعدلوا وتعملوا بها ، ثم بيّن سبحانه في الآية التالية حكم المرأة التي خافت النشوز والإعراض من زوجها.

نشوز الزوج الآة ١٢٨ ـ ١٣٠ :

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

اللغة :

النشوز الارتفاع ، ونشوز أحد الزوجين ترفعه عن القيام بالحقوق الزوجية. والشح الافراط في الحرص ، والفرق بينه وبين البخل ان البخل يكون بالمال

٤٥١

خاصة ، أما الشح فيكون به وبغيره ، يقال : هو شحيح بمودتك ، أي حريص على دوامها ، ولا يقال : هو بخيل بمودتك ، كما جاء في مجمع البيان.

الاعراب :

وان امرأة (امرأة) فاعل لفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور ، أي وان خافت امرأة خافت. ومن بعلها متعلق بخافت ، أو بمحذوف حال من (نشوزا). وجناح اسم لا النافية للجنس. والمصدر المنسبك من أن يصلحا مجرور بفي. وأحضرت الأنفس الشح ، أحضرت تتعدى الى مفعولين بواسطة همزة التعدية ، والأنفس نائب فاعل ساد مسد المفعول الأول ، والشح مفعول ثان. وكل الميل قائم مقام المفعول المطلق ، أي لا تميلوا ميلا كل الميل. وقيل : ان كل هي بذاتها مفعول مطلق ، لأن لها حكم ما تضاف اليه. فان كان مصدرا كانت مصدرا ، وان كان ظرفا كانت ظرفا. وفتذروها مضارع مجزوم عطفا على فلا تميلوا. وكالمعلقة الكاف بمعنى مثل في محل نصب على الحال ، وصاحب الحال الهاء في تذروها.

المعنى :

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً). قد يكون النشوز من الزوجة بامتناعها عن فراش الزوج ، أو خروجها من البيت دون اذنه ، وتقدمت الاشارة الى نشوزها عند تفسير الآية ٣٤ من هذه السورة .. وقد يكون النشوز من الزوج بايذائها وعدم الإنفاق عليها أو القسمة لها إذا كان عنده أكثر من زوجة ، وقد تعرضت هذه الآية لخوف الزوجة من نشوز زوجها أو اعراضه عنها ، والمراد بالاعراض جفوته الدالة على كرهه لها ، أما انصرافه الى أشغاله ومشاكله فعليها ان تعذره فيه ، وتصبر عليه ، ما دام غير كاره لها.

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً). إذا خشيت المرأة أن يؤدي نشوز الزوج الى طلاقها ، أو تركها كالمعلقة لا مزوّجة ، ولا مطلقة ، إذا كان

٤٥٢

كذلك فلا بأس عليه ، ولا عليها أن يتفقا فيما بينهما مباشرة ، أو بواسطة أحد الطيبين ، أن يتفقا ويصطلحا على أن تتنازل له عن بعض حقوقها المادية أو الأدبية ، لتبقى في عصمته ، وتحيا معه حياة هادئة.

(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الشقاق والطلاق ، فقد جاء في الحديث : «أبغض الحلال الى الله الطلاق» وتجدر الاشارة الى ان ما تبذله المرأة لزوجها من أجل الألفة أو الطلاق لا يحل إلا إذا كان عن طيب نفس ، قال تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ـ ٤ النساء».

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ). أي ان الشح حاضر دائما في الأنفس ، لا يغيب عنها ، حتى ساعة البذل ، فان اللوعة التي يحس بها الباذل ، ويخفيها عند ما يبذل هي الشح بالذات ، والقصد من قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ان المرأة لا تتنازل عن حقها للرجل بسهولة ، ولا الرجل يتسامح معها من غير عوض ، ويجب أن لا يغيب عنا ان الآية الكريمة تتحدث عن حياة الزوجين مع عدم الوئام والوفاق ، أما مع صلاح الحال ، والتئام الأخلاق فلا موجب للبذل والتصالح ، بل لا يرى أحد الزوجين انه يملك شيئا دون صاحبه ، ما داما كذلك.

(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً). هذه دعوة من الله سبحانه الى كل من الزوجين أن يحسن العشرة مع صاحبه ، ويتقي أسباب الخلاف والشقاق.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) العدل بين النساء على نوعين : مقدور كالمساواة في الإنفاق ، وطيب الحديث. وغير مقدور كالمحبة وميل القلب ، بل والجماع أيضا .. فقد ينشط الرجل للواحدة ما لا ينشط للأخرى .. والعدل بين النساء المطلوب هو العدل في الإنفاق ، لأنه مستطاع ، أما العدل في الحب وما اليه مما لا يملكه الإنسان فلا يكلف به ، وبهذا يفرق بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى في أول السورة : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين النساء». قال الإمام جعفر الصادق (ع) : أما قوله : فان خفتم أن لا تعدلوا فانه عنى به النفقة ، وأما قوله : ولن تستطيعوا أن تعدلوا فانه عنى به المودة.

ونحن من الذين يؤمنون ايمانا قاطعا بأنه لا شيء أصعب منالا من العدالة ،

٤٥٣

لأنها في حقيقتها وجوهرها التحرر من سيطرة الشهوات ، كما جاء في بعض الأخبار ان العادل من خالف هواه ، وأطاع مولاه ، ولا يتسنى هذا الا للصفوة.

(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) مع الزوجة المحبوبة ، وتحرموا الأخرى من حقوقها (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) لا مزوجة لها ما للزوجات ، ولا مطلقة تستطيع الزواج بمن تريد.

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). ينبغي قبل كل شيء أن يعمل الزوجان على ازالة أسباب الخلاف والشقاق بينهما ، لأن الصلح خير ، فان تعذر فالطلاق هو الأفضل دفعا لأشد الضررين .. وفضل الله ورزقه يتسع للطرفين اجتمعا أو افترقا .. فقد يسخر للمطلقة رجلا خيرا من الأول ، ويسخر للمطلق امرأة خيرا من الأولى.

والخلاصة ان ما تقدم يدور حول محور واحد هو «فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» والإمساك أفضل ، مع عدم المفسدة ، ومعها فالتسريح هو الأفضل ، فكما خلق الله علاجا ناجحا للأمراض الجسمية فقد خلق دواء منجحا للأمراض الاجتماعية.

ولله ما ف السموات وما ف الآرض الآة ١٣١ ـ ١٣٤ :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ

٤٥٤

بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

الاعراب :

وإياكم معطوف على الذين ، أي وصينا الذين أوتوا الكتاب ووصيناكم. وان اتقوا (ان) للتفسير بمعنى أي مثل كتبت اليه أن أفعل كذا ، أي افعل كذا ، ويجوز أن تكون (ان) مصدرية ، والمصدر المنسبك مجرور بجار محذوف متعلق بوصينا ، والتقدير وصينا بتقوى الله. وكفى فعل ماض ، والباء زائدة ، ولفظ الجلالة فاعل ، ووكيلا حال ، أو تمييز على معنى من وكيل.

المعنى :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). في المجلد الأول ، وفي هذا المجلد أيضا تكلمنا عن التكرار في القرآن بصورة عامة (١) ونتكلم الآن عن تكرار هذه الآية خاصة ، لأنها أكثر الآيات ذكرا وتكرارا في القرآن ، ثم نشير الى تكرارها هنا بصوره أخص ، حيث ذكرت بنصها الحرفي مرتين في آية واحدة ، وأعيدت كذلك مرة ثالثة في الآية التي تليها بلا فاصل.

أما سبب تكرارها بوجه عام فلأن موضوعها الكون الذي يستدل به ، وبما يحويه على وجود الله وصفاته ، كالعلم والقدرة والارادة والحكمة فهو الدليل الجامع لجميع الدلائل والمدلولات بشتى أنواعها .. وعلى هذا يكون ذكر هذه الآية ذكرا للدليل على وجود الله وعظمته.

وأما ذكرها هنا ثلاث مرات فانه للإشارة الى فوائد ثلاث : الأولى قال تعالى

__________________

(١) انظر ص ٩٦ من المجلد الأول ، وتفسير الآية ١١٦ و ١٢٦ من هذه السورة.

٤٥٥

في الآية السابقة : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فناسب الاستدلال على هذه السعة بأن له ما في السموات والأرض. الثانية قال : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو غني عمن كفر لأن له ما في السموات وما في الأرض. الثالثة : قال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ). والمراد انه قادر على افناء من يعصي ، وإيجاد من يطيع ، لأن له ما في السموات وما في الأرض .. وعلى هذا فكل مرة من المرات الثلاث لها سبب موجب ، ومقرونة بفائدة جديدة.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). أي ان ثواب الدنيا والآخرة يمكن تحققهما والحصول عليهما ، مع الايمان والتقوى ، ومن ظن ان ثواب الدنيا لا يجتمع مع التقوى فهو مخطئ ، لأن ما من شيء يحقق للإنسان سعادته وكرامته في هذه الحياة إلا ويقره الدين ، بل يأمر به ، ويحث عليه بشرط واحد ، هو أن لا تكون سعادته شقاء لغيره ، وكرامته امتهانا لسواه .. اذن لا تصادم أبدا بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة ، وانما التضاد والتصادم بين الظلم وثواب الآخرة ، بين الغش والخداع والسلب والنهب ، وبين مرضاة الله ونعيمه وجنانه.

كونوا قوامين بالقسط الآة ١٣٥ ـ ١٣٦ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ

٤٥٦

يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

اللغة :

القسط بكسر القاف العدل ، ومثله الأقساط. واللي المطل ، يقال : لوى فلان دين فلان ، أي مطله ، وفي الحديث : «ليّ الواجد ظلم» أي مطل الغني جور.

الإعراب :

شهداء خبر ثان لكونوا ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير قوامين ، لأن قوّام اسم فاعل. وعلى أنفسكم متعلق بمحذوف ، أي ولو شهدتم على أنفسكم. ان يكن غنيا اسم كان محذوف ، أي ان يكن المشهود عليه غنيا. وقال : أولى بهما ، ولم يقل أولى به ، مع ان الضمير يفرد ولا يثنى إذا عطف بأو لأن العطف هنا جرى على المعنى ، لا على اللفظ ، أي الله أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، لأن كل ذلك منه تعالى. وان تعدلوا يجوز أن يكون المصدر مجرورا باضافة مفعول من أجله محذوف ، والتقدير فلا تتبعوا الهوى كراهية العدل ، فكأنهم حرفوا الشهادة بغضا بالعدل فنهاهم الله عن ذلك ، ويجوز أن يكون المصدر مجرورا بلام محذوفة ، أي لأن تعذلوا ، والمعنى اتركوا متابعة الهوى كي تصيروا موصوفين بصفة العدل.

بين الدين وأهل الدين :

ما رأيت آية في كتاب الله تتصل بالدين الا وأحسست بالبعد والتفاوت بين

٤٥٧

الدين كما حدده الله في كتابه ، والدين كما نمارسه في سلوكنا .. نحن نتحدث عن الدين ، وندعو اليه على انه من الله ، وانه ليس لنا من أمره شيء ، واننا عبيد له ، تماما كما نحن عبيد لله .. هذا ما أعلمناه وجهرنا به .. ولكن بين الدين كما أعلمناه ودعونا اليه ، وبين سلوكنا الذي وصفناه بالدين ـ بون شاسع ، وتضاد واضح .. وان دل هذا على شيء فإنما يدل على انّا في حقيقة الأمر والواقع منافقون ، سواء أشعرنا بذلك ، أم لم نشعر.

ولو فسرنا الدين بأن الله فوّض تشريع الحلال والحرام الى الهيئة الدينية ، كما يزعم بعض أهل الأديان ، لكان بينه وبين سلوكنا شيء من الانسجام ، اما ان نقول : ان الدين لله ، ومن الله ، ثم لا ننسجم معه في سلوكنا فهو النفاق بعينه.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). وفي الآية ١٥٢ من سورة الانعام : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) ومعناه ان الدين حاكم علينا وعلى آبائنا وأبنائنا ، وانه إذا تصادمت المصلحة الشخصية مع الدين فعلينا ان نؤثر الدين ، ولو أدى ذلك الى ذهاب النفس والنفيس ، تماما كما فعل سيد الشهداء الحسين بن علي (ع) .. ولو قارن واحد من الناس هذه الحقيقة القرآنية مع سلوكنا لأنتهي الى اننا نؤثر مصالحنا ومصالح ذوينا على الدين ، وإذا حقق ودقق في البحث آمن بأن المصدر الأول والأخير للدين عندنا هو المصلحة والمنفعة ، لا كتاب الله ، ولا سنة رسول الله.

هذا هو واقعنا ، أو واقع أكثرنا ، أو واقع الكثير منا .. ولكن لا نشعر بهذا الواقع ، ولا ننتبه اليه ، لأن الأنانية قد طغت على عقولنا ، وفصلتنا عن واقعنا وعن أنفسنا ، وأعمتنا عن الحق ، وأوهمتنا ان دين الله هو مصلحتنا بالذات ، وما عداها فليس بشيء.

أقول هذا ، لا حقدا على أحد ، ولا بدافع الحاجة والحرمان .. فاني بفضل الله في غنى عن خلقه .. ولكن هذا ما أحسه في أعماقي ، ويحس به كثيرون غيري من العارفين المنصفين ، ولا بد لهذا الاحساس من واقع يعكسه ـ فيما

٤٥٨

أعتقد ـ كما اعتقد انه لا دواء لهذا الداء إلا أن نتهم أنفسنا ، ونعتقد انّا عاديون كغيرنا ، لنا ميول وأهواء يجب أن نحذرها ونخالفها .. أقول هذا ، وأنا على علم بأنه صرخة في واد ، لأنه شكوى من أنفسنا لأنفسنا التي هي أعدى أعدائنا.

(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما). في كل فرد من أفراد الإنسان استعداد لتقبل الخير والشر ، وهو في الوقت نفسه مفطور على تخير الأول دون الثاني ، بحيث لو خلي وفطرته لفعل ما يعتقد انه خير ، ولا ينحرف عنه إلا لعلة خارجة عن ذاته وفطرته .. ومما استدل به علماء الكلام على هذه الحقيقة ان العاقل لو خيّر بين ان يصدق ويعطى دينارا ، وبين أن يكذب ويعطى دينارا ، ولا ضرر عليه فيهما لاختار الصدق على الكذب.

اذن ، العاقل لا يكذب إلا لعلة ، كالخوف أو الطمع ، أو هوى مع قريب ، أو كراهة لعدو ، أو رحمة بفقير ، أو مجاملة لغني ، وما الى ذلك .. وقد نهى سبحانه عن الامتناع من الشهادة على الغني خوفا أو طمعا أو مجاملة ، وعن الامتناع منها على الفقير لفقره ومسكنته ، وقال ، عظم من قال : (إِنْ يَكُنْ) ـ المشهود عليه ـ (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما). أي أنه أرحم بالفقير منا ، وأعرف بمصلحته ومصلحة الغني ، وما علينا نحن إلا أن نقول الحق ، سواء أكان لهما ، أم عليهما.

ولم يذكر سبحانه من الدوافع الموجبة للزيغ والانحراف إلا مجاملة الغني ، والرحمة بالفقير .. ولكن السبب عام ، فالحق يجب أن يقال في كل موطن ، والعدل يجب أن يتبع حتى مع أعداء الدين.

(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا). أي لكي تعدلوا ، والمعنى على هذا انكم تصيرون من أهل العدل بترك الهوى ومخالفته. وقيل : التقدير كراهة ان تعدلوا ، أي انكم تتبعون الهوى كرها بالعدل ، وان الله نهاهم عن ذلك. والأول أقرب.

٤٥٩

العدالة :

واختلف الفقهاء في معنى العدالة ، وأطالوا الكلام ، فمنهم من قال : انها ظاهر الإسلام ، مع عدم ظهور الفسق. وقال آخر : انها ملكة راسخة في النفس تبعث على فعل الواجب ، وترك المحرم. وثالث : انها الستر والعفاف. ورابع انها ترك الكبائر ، مع عدم الإصرار على الصغائر.

وفي قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) إيماء الى أن العدالة هي مخالفة الهوى. ووصف علي أمير المؤمنين (ع) أخا له في الله فيما وصف انه «كان إذا بدهه ـ أي فجأه ـ أمران نظر أيهما أقرب الى الهوى فخالفه». وقال : «كان أول عدله نفي الهوى عن نفسه».

وقال حفيده الإمام جعفر الصادق (ع) : اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه.

(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً). الليّ هو المطل والتسويف ، والمعنى لا تسوفوا في أداء الشهادة ، ولا تعرضوا عنها .. ثم هدد وتوعد بأن من يفعل ذلك يعلم به الله ، ويعاقبه عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ). قد يؤمن الإنسان بالخالق المكون ، وينكر النبوة والكتب السماوية ، وقد يعترف بنبوة بعض الأنبياء دون بعض ، وببعض الكتب دون بعض ، أو ينكر وجود الملائكة ، أو اليوم الآخر. وقد بينت هذه الآية أركان الايمان التي يجب أن يعترف بها كل من ترك الشرك والإلحاد ، ويؤمن بها ككل لا يتجزأ ، وهي الايمان بالله وجميع رسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر.

وعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا هم الذين تركوا الشرك والإلحاد ، وبآمنوا الثانية الايمان الحقيقي ، لا الدوام والثبات على الايمان كما قال المفسرون ، وبرسوله محمد (ص) ، وبالكتاب الذي نزل على رسوله القرآن ، وبالكتاب الذي أنزل من قبل كل كتاب سماوي نزل قبل بعثة الرسول الأعظم (ص).

٤٦٠