التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

٦ ـ أن يصادق المسلم الكافر ، لأسباب عادية ، ومألوفة ، كالجوار ، وتلاؤم الأخلاق ، والزمالة في الدرس ، والمشاركة في المهنة ، أو في التجارة ، وما اليها مما لا يمس بالدين .. وهذه الصداقة جائزة أيضا بالإجماع ، لأن مودة الكافر انما تكون حراما إذا استدعت الوقوع في الحرام ، أما إذا لم تكن وسيلة للمعصية فلا تحريم ، بل قد تكون راجحة إذا عادت بالنفع والخير على بلد من البلدان ، أو أي انسان كان ، بل ان الله سبحانه أمر بالحب والالفة والتعاون بين الناس أجمعين من غير نظر الى دينهم وملتهم ، قال سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ـ الممتحنة ٨.

ونحن لا نشك ان في (الكافرين) من هو أحسن سيرة وأنبل خلقا ـ من حيث الصدق والأمانة والوفاء ـ ، أحسن بكثير من الذين نسميهم ويسمون أنفسهم (مسلمين) وان صداقته خير للانسانية والصالح العام من العملاء الخونة الذين يتظاهرون بالدين والإسلام .. وألف صلاة وسلام على من قال : القريب من قربته الأخلاق .. رب قريب أبعد من بعيد ، ورب بعيد أقرب من قريب.

وهذه حقيقة يدركها الإنسان بفطرته وينساق معها بغريزته من غير شعور.

التقية :

يبتدئ تاريخ التقية بتاريخ الإسلام يوم كان هذا الدين ضعيفا .. وبطلها الأول الصحابي الشهير عمار بن ياسر ، حيث أسلم هو وأبوه وأمه ، وعذبوا في سبيل الله ، فاحتملوا الأذى والعذاب من غير شكاة .. مر رسول الله بآل ياسر ، وهم يعذبون ، فلم يزد ياسر على ان قال : الدهر هكذا يا رسول الله. فقال النبي (ص) : صبرا آل ياسر ، فان موعدكم الجنة ، وكان ياسر وامرأته سمية أول شهيدين في الإسلام.

وأكره المشركون عمارا على قول السوء في رسول الله ، فقاله دفعا للضرر

٤١

عن نفسه ، فقال بعض الأصحاب : كفر عمار. فقال النبي : كلا ، ان عمارا يغمره الايمان من قرنه إلى قدمه .. وجاء عمار الى النبي ، وهو يبكي نادما. فمسح النبي عينيه وقال له : لا تبك ان عادوا لك فعد لهم بما قلت. فنزل في عمار قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ـ النحل ١٠٦». ولم يختلف اثنان في أن هذه الآية نزلت في عمار .. وبديهة ان العبرة بعموم اللفظ ، لا بسبب النزول ، واللفظ هنا عام يشمل كل من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.

ثم نزلت الآية ٢٨ من سورة آل عمران التي نحن في صددها تؤكد آية عمار ابن ياسر ، ومثلها الآية ٢٧ من سورة المؤمن : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ). والآية ١١٩ من سورة الانعام : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) .. وكما جاءت الرخصة في كتاب الله بالتقية فقد جاءت أيضا في سنة رسوله ، قال الرازي في تفسيره الكبير ، والسيد رشيد رضا في تفسير المنار ، وغيرهما كثير ، قالوا : ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله ، فقال لأحدهما : أتشهد اني رسول الله؟ قال : نعم. فأطلقه. وقال للثاني : أتشهد اني رسول الله؟ فلم يشهد. فقتله. ولما بلغ رسول الله ذلك قال : أما المقتول فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئا له ، وأما الآخر فقبل الرخصة فلا تبعة عليه.

وجاء في تفسير المنار : «ان البخاري نقل في صحيحه عن عائشة ان رجلا استأذن على رسول الله ، فقال النبي : بئس ابن العشيرة ، ثم اذن له ، ولما دخل ألان له الرسول القول. وبعد أن خرج قالت عائشة للنبي : قلت في هذا الرجل ما قلت ، ثم ألنت له القول؟ فقال : ان من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه. وفي البخاري أيضا في حديث أبي الدرداء : إنّا لنكشر ـ أي نبتسم ـ في وجوه قوم ، وان قلوبنا لتلعنهم».

هذا ، بالاضافة الى أحاديث أخرى تدل بعمومها على جواز التقية مثل حديث : «لا ضرر ولا ضرار». وحديث : «رفع عن أمتي ما اضطروا اليه» .. وهذان الحديثان متواتران عند السنة والشيعة.

واستنادا إلى كتاب الله ، وسنة نبيّه المتواترة أجمع السنة والشيعة قولا واحدا على جواز التقية ، قال الجصاص ـ من أئمة الحنفية ـ في الجزء الثاني من كتاب

٤٢

أحكام القرآن ص ١٠ طبعة ١٣٤٧ ه‍ ما نصه بالحرف : «الا أن تتقوا منهم تقاة» ، يعني أن تخافوا تلف النفس ، أو بعض الأعضاء ، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها .. وعليه جمهور أهل العلم». ونقل الرازي في تفسيره عن الحسن البصري انه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، وأيضا نقل عن الشافعي انه أجاز التقية وعممها للمسلم إذا خاف من المسلم لما بينهما من الاختلاف فيما يعود الى مسائل الدين.

وقال صاحب تفسير المنار عند تفسير قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ما نصه بالحرف : «من نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك ، لا شارحا للكفر صدرا ، ولا مستحبا للدنيا على الآخرة لا يكون كافرا ، بل يعذر ، كما عذر عمار بن ياسر ، وقال الشيخ مصطفى الزرقا في كتاب الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد مادة ٦٠٠ : «التهديد بالقتل للإكراه على الكفر يبيح للشخص التظاهر به مع اطمئنان قلبه بالإيمان». الى غير ذلك كثير.

وبالاضافة الى كتاب الله ، وسنّة رسوله ، واجماع المسلمين سنّة وشيعة على جواز التقية فإن العقل يحكم بها أيضا ويبررها لقاعدة : «الضرورات تبيح المحظورات».

وبهذا يتبين معنا ان التقية قاعدة شرعية يستند اليها المجتهد الشيعي والسني في استنباط الأحكام ، وان الدليل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وعليه تكون التقية مبدأ اسلاميا عاما تؤمن به جميع المذاهب الإسلامية ، وليست مذهبا خاصا بفريق دون فريق ، ومذهب دون مذهب ، كما يتوهم ـ الا الخوارج ـ وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو إذا كانت التقية جائزة كتابا وسنة وعقلا واجماعا من الشيعة والسنة فلما ذا نسبت الى الشيعة فقط ، حتى ان كثيرا من شيوخ السنة شنعوا على الشيعة ، ونسبوهم الى البدعة من أجلها؟.

الجواب : أما نسبتها الى الشيعة فقط ، أو اشتهار الشيعة بها فقد يكون سببه ان الشيعة اضطروا للعمل بها أكثر من غيرهم بالنظر لما لا قوه من الاضطهاد في

٤٣

العصر الأموي والعصر العباسي ، وما تلاهما (١) ومن أجل اضطرار الشيعة الى الأخذ بالتقية كثيرا أو أكثر من غيرهم اهتم بها فقهاؤهم ، وذكروها في مناسبات شتى في كتب الفقه ، وحددوا مفهومها ، وبينوا قيودها وحدودها ، متى تجوز؟ ومتى لا تجوز .. وخلاصة ما قالوه : انها تجوز لرفع الضرر عن النفس ، ولا تجوز لجلب المنفعة ، ولا لادخال الضرر على الغير.

أما من خصّ التقية بالشيعة فقط ، وشنّع بها عليهم فهو اما جاهل ، واما متحامل ، ومهما يكن ، فلا موضوع اليوم ولا موجب للعمل بالتقية من غير فرق بين السنة والشيعة فتوى وعملا بعد أن ولّى زمن الخوف والاضطهاد.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ). أي ذاته التي تعلم كل شيء ، وتقدر على كل شيء ، وتجازي كل انسان حسب عمله. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ). والمرجع ، وهناك توفى كل نفس ما عملت.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). بعد ان أجاز سبحانه التقية ، ورخّص بها للمضطر قال : ان المعول عند الله على ما في القلوب ، وهو يعلم ما تنطوي عليه ، سواء أسررتم ، أم أعلنتم.

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً). لما كان الله سبحانه عالما بكل شيء ، وقادرا على كل شيء ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ، وعادلا لا يظلم أحدا ، لما كان كذلك نحتم أن يجد كل انسان في ذاك اليوم جزاء عمله.

وقال البعض : ان الإنسان غدا يرى عمله مجسما في تمثال جميل مؤنس ان كان خيرا ، وقبيح موحش ان كان شرا .. ويلاحظ ان العمل من الأمور العرضية التي لا تبقى ، ولا يمكن إعادتها ورؤيتها ، فيتعين أن يكون المراد ان الإنسان يوم القيامة يرى جزاء عمله ، لا عمله بالذات.

__________________

(١) انظر كتابنا «الشيعة والحاكمون» وكتاب «مقاتل الطالبيين». وأول الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .. وستجد في هذه الكتب ألوانا من اضطهاد الحكام للشيعة لا يتصورها العقل.

٤٤

(وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً). الواو للاستئناف ، والمعنى ان من يعصي الله في هذه الحياة يتمنى غدا أن لا يرى جزاء عمله ، بل يتمنى أن يكون بينه وبين ذاك اليوم بعد المشرقين. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). حتى العاصين منهم لأنه كلفهم بما يطيقون ، وحذرهم عاقبة العصيان ، وفتح باب التوبة لمن سوّلت له نفسه ، ولم يبق عذرا لمعتذر.

محبة الله الآية ٣١ ـ ٣٢ :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

المعنى :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي). من أحب الله يلزمه حتما أن يحب رسول الله وأهل بيته لحب الرسول لهم ، ومن أحب الرسول يلزمه حتما أن يحب الله ، والتفكيك محال ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ـ النساء ٨٠ ، لأن الرسول هو لسان الله وبيانه .. والعكس صحيح ، أي من نصب العداء للرسول وآله فقد نصب العداء لله من حيث يريد أو لا يريد. فأهل الأديان الأخر الذين يدعون الايمان بالله ، ثم ينصبون العداء لمحمد (ص) هم من أعدى أعداء الله.

وان قال قائل : ان جهلهم بنبوة محمد عذر مبرر. قلنا في جوابه لا عذر إطلاقا لمن اتبع أهواءه ، وقلّد آباءه الا بعد التثبت والنظر الى جميع الدلائل

٤٥

على نبوة محمد ، وما نظر عارف الى هذه الدلائل نظرة عدل وانصاف إلا آمن وأذعن.

ولا معنى لحب الصغير للكبير ، والعبد للسيد إلا الطاعة والمتابعة .. وكل من أحب ما أبغض الله ورسوله ، وأبغض ما أحب الله ورسوله فهو عدو لله ورسوله ، وان خيل اليه انه من المحبين. لأن ما يظن انه حب دون أن يبرز له أثر ملموس فهو مجرد وهم وخيال.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ظاهر هذه الآية ان حقيقة الدين هي طاعة الله والرسول ، وان ترك هذه الطاعة يستلزم الكفر ، بل هو الكفر بالذات ، لأنه قال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ولم يقل : ان الله يمقت العاصين أو يعاقبهم ، أي انه اعتبر سبحانه العصيان كفرا ، لا سببا للمقت والعقاب فقط.

وهذا شيء خطير ومخيف جدا ، حيث لا يبقى واحد على الدين والإسلام إلا النادر النادر .. اللهم إلا ان يراد بالكفر هنا العصيان ، مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ـ ٩٧ آل عمران.

وعلى أية حال ، فنحن مأمورون دينا وشرعا أن نعامل من نطق بالشهادتين معاملة المسلم من حيث الإرث والزواج والطهارة ، وصيانة المال والدم ، وما عدا ذلك متروك الى الله سبحانه ، ولسنا مسؤولين عنه.

أم مريم الآة ٣٣ ـ ٣٧ :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ

٤٦

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

اللغة :

الاصطفاء الاختيار ، والمراد بمحرر هنا الخالص لخدمة الله وعبادته ، ومريم في اللغة العبرية خادم الرب ، والمحراب هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح ، وهو مقصورة في مقدم المعبد يصعد اليها بسلّم ، وعند المسلمين مقام الإمام في المسجد.

الإعراب :

نوح اسم أعجمي ، وفيه علتان توجبان منعه من الصرف ، وهما العلمية والعجمة ، ولكن لما كان ثلاثيا ساكن الوسط كان خفيفا في التلفظ ، ولذا صرف مثل هند ، وعمران ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، ولو كان عربيا لمنع أيضا لزيادة الألف والنون ، وذرية منصوب على انه بدل من آل ابراهيم وآل عمران ، ويجوز أن يكون حالا منهما ، وبعضها من بعض مبتدأ وخبر ، والجملة صفة ذرية ، وإذ ظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر ، ومحرّرا حال

٤٧

من (ما فِي بَطْنِي) وأنثى حال ، ونباتا مفعول مطلق بمعنى إنباتا كي يطابق الفعل ، وهو أنبتها.

المعنى :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ). قال محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط ، قال : «قرأ عبد الله وآل محمد على العالمين». وسواء أصحت هذه القراءة ، أم لم تصح فإن آية التطهير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ـ ٣٣ الأحزاب». ان هذه الآية كافية وافية في الدلالة على اصطفاء الله لآل محمد ، ومنزلتهم وعظمتهم .. ان محمدا (ص) أفضل الأنبياء جميعا ، فآله أيضا أفضل الآل جميعا ، بل ان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل ، أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل ، ولا أذكر لفظ الحديث ، فبالأولى إذا كان العلماء من آله الأطهار بشهادة الله تعالى.

ومهما يكن ، فقد ابتدأ الله سبحانه بذكر آدم ، لأنه أبو البشر الأول ، وثنى بنوح ، وهو أبو البشر الثاني ، لأن جميع سكان الأرض من نسله وحده ، من أولاده الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، حيث قضى الطوفان على جميع الناس إلا نوحا .. واصطفى الله كلا من آدم ونوح بشخصه ، ولذا لم يقترن اسمهما بآل ، أما ابراهيم وعمران فقد اصطفاهما مع الآل .. وكما ان آدم ونوحا هما أبوا البشر فان ابراهيم أبو الأنبياء جميعا بعد نوح ، حيث لا نبي منذ ابراهيم إلا من نسله.

والظاهر ان المراد بعمران في قوله : (آل عمران) هو أبو مريم جد عيسى لا أبو موسى الكليم ، لتكراره في الآية الثانية : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) فهو نظير تكرار الاسم في جملتين وردتا في سياق واحد ، نحو أكرم زيدا ان زيدا رجل صالح ، وعلى هذا يكون المراد بآل عمران السيد المسيح وأمه مريم ، وقيل : انه كان لعمران أبي موسى الكليم بنت اسمها مريم أكبر من موسى سنا ، وان بين

٤٨

عمران هذا ، وعمران جد المسيح ألف وثمانمائة سنة. والمراد بقوله تعالى : (عَلَى الْعالَمِينَ) ان الله قد اختار كل واحد ممن ذكرهم ، لأنه كان الصفوة الممتازة في أهل زمانه ، لا في كل زمان.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ). ليس من شك أن نوحا فرع عن آدم ، وابراهيم وآله فرع عن نوح ، وآل عمران فرع عن ابراهيم ، وبيان هذا أشبه بتوضيح الواضح وكلام الله يجب أن يحمل على أحسن المحامل .. اذن ، ما هو القصد من هذا الاخبار؟

الجواب : ليس القصد الاخبار عن ان المتأخر فرع عن المتقدم ، وانما القصد ـ كما هو ظاهر السياق ـ مدحهم والثناء عليهم ، وانهم كانوا أشباها ونظائر في القداسة والفضيلة .. وبعد هذا التمهيد ينتقل الى قصة امرأة عمران أم مريم وجدة عيسى (ع).

وخلاصتها ان قوفاذ بن قبيل الاسرائيلي كان له بنتان : اسم إحداهما حنة ، وتزوجها عمران ، وهو اسرائيلي أيضا ، وأولدها مريم ، واسم الثانية ايشاع ، وتزوجها زكريا ؛ وولدت منه يحيى ، فيحيى بن زكريا ، ومريم ام عيسى هما ابنا خالة ، وليس عيسى ويحيى ابني خالة ، كما هو معروف .. هكذا في مجمع البيان.

ومات عمران ، وحنة حامل ، فنذرت حملها لخدمة بيت المقدس ، وتضرعت خالصة لله أن يتقبل نذرها ، وكان هذا جائزا في دينهم ، ولا يجوز في دين الإسلام ، وكانت تنتظر ذكرا ، لأن النذر للمعابد لم يكن معروفا الا للصبيان ، ولما وضعت أنثى توجهت لله ، وقالت : اني وضعتها أنثى .. واني سميتها مريم ، ومريم في اللغة العبرية بمعنى خادم الرب.

وتقبّل الله نذرها ، وان كان أنثى ، واختلف بنو إسرائيل كل يريد أن يكفل مريم ، ويدير شئونها ، ولما اشتدت الخصومة فيما بينهم اتفقوا على الاقتراع ، فكانت من نصيب زكريا زوج خالتها ، وكان آنذاك رئيس الهيكل اليهودي ، فاهتم بها وتفقّد شئونها ، وكان كلما دخل عليها وجد عندها طعاما ، وعهده بها أن لا يدخل عليها أحد ، فسألها متعجبا : أنّى لك هذا! .. قالت هو من

٤٩

عند الله ـ أي لا بواسطة أحد من الناس ـ ان الله يرزق من يشاء بغير حساب.

وليس من شك ان هذه كرامة لمريم (ع) ، أما من نفى هذه الكرامة ، وقال : ان الطعام الذي رآه عندها زكريا كان من حسنات المؤمنين فهو خلاف ظاهر الآية .. وليست هذه الكرامة بأعظم من ولادة عيسى بلا أب ، فإن كانت تلك محلا للشك والريب فهذه أولى.

ومعنى قوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) انها نشأت على الخلق الكريم ، وطاعة الله وعبادته ، فعن ابن عباس انها لما بلغت التاسعة من عمرها صامت النهار ، وقامت الليل، حتى أربت على الأحبار .. وقيل : لم تجر عليها خطيئة.

فاطمة ومريم :

وحدث مثل هذه الكرامة لسيدة النساء فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فقد جاء في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي عند تفسير قوله تعالى حكاية عن مريم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، جاء في هذا التفسير ما نصه بالحرف :

«جاع النبي (ص) في زمن قحط ، فأهدت له فاطمة رغيفين ولحما .. فأتاها ، وإذا بطبق عندها مملوء خبزا ولحما ، فقال لها : انّى لك هذا؟ قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة بني إسرائيل ، ثم جمع رسول الله عليا والحسنين ، وجمع أهل بيته عليه ، فأكلوا وشبعوا ، وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة على جيرانها».

وفي كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ان عليا (ع) استقرض دينارا ليشتري به طعاما لأهله ، فالتقى بالمقداد بن الأسود في حال إزعاج ، ولما سأله الإمام قال : تركت أهلي يبكون جوعا ؛ فآثره بالدينار على نفسه وأهله ، وانطلق الى النبي (ص) ، وصلى خلفه ، وبعد الصلاة قال النبي لعلي : هل عندك شيء تعشينا به؟ وكأن الله قد أوحى اليه أن يتعشّى عند علي ، فأطرق علي لا يحير جوابا ، فأخذ النبي بيده ، وانطلقا الى بيت فاطمة ، وإذا بحفنة من الطعام ،

٥٠

فقال لها علي : أنّى لك هذا؟. قال له النبي : هذا ثواب الدينار ، هذا من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب ، الحمد لله الذي اجراك يا علي مجرى زكريا ، واجراك يا فاطمة مجرى مريم ، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا .. ثم قال محب الدين الطبري : خرّج هذا الحديث الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال.

وجاء في صحيح مسلم ، باب فضائل بنت النبي ، ان رسول الله قال لابنته فاطمة : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة. ونقل السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من أعيان الشيعة ، سيرة الزهراء ، نقل عن صحيح البخاري ان النبي (ص) قال : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وأيضا نقل عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ان الإمام أحمد روى في مسنده عن النبي انه قال : فاطمة سيدة نساء العالمين.

وجاء في كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري بعنوان : ما جاء في سيادتها وأفضليتها ، قال الطبري ما نصه بالحرف : «عاد النبي فاطمة ، وهي مريضة ، فقال لها : كيف تجدينك يا بنية؟ قالت : اني وجعة ، ويزيدني ما لي طعام آكله. فقال : يا بنية أما ترضين انك سيدة نساء العالمين؟. فقالت : يا أبت ، فأين مريم بنت عمران؟. قال : تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ، أما والله لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة». ثم قال الطبري خرّج هذا الحديث أبو عمر ، وخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي ، وبقية البحث عند تفسير الآية ٤٢ من هذه السورة فقرة «من هي سيدة النساء».

زكريا الآة ٣٨ ـ ٤١ :

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ

٥١

أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

اللغة :

هنا اشارة الى القريب ، وهنالك الى البعيد ، وهناك لما بينهما ، والأصل ان يشار بها إلى المكان ، وقد يشار بها إلى الزمان ، ولدن ظرف مكان ، وتستعمل في الزمان ، وهي مبنية ، ولا يدخل عليها من حروف الجر إلا من ، والذرية تطلق على الواحد ، وما فوق ، وسيد القوم رئيسهم ، ويطلق على الشريف والعالم ، على شريطة أن لا يكونا منافقين ، لحديث : «لا تقولوا للمنافق سيدا» (١). والحصر الحبس ، والمراد بالحصور هنا الذي يمنع نفسه عن النساء ، أو عن المعاصي والشهوات ، مع القدرة عليها ، والرمز الاشارة ، والعشي ظرف زمان من الزوال الى الغروب ، والإبكار من الفجر إلى الضحى.

الإعراب :

جملة هو قائم حال من الهاء في نادته ، وجملة يصلي صفة لقائم ، أو حال من الضمير في قائم ، ومصدقا حال من يحيى ، وجملة بلغني الكبر حال ، ومثلها جملة امرأتي عاقر ، وكذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك ، أو صنع

__________________

(١) رأيت هذا في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي.

٥٢

الله كذلك ، والله يفعل ما يشاء مبتدأ وخبر ، ورمزا قائم مقام المفعول المطلق ، أي إلا كلاما رمزا ومثله كثيرا ، أي ذكرا كثيرا.

المعنى :

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً). سبق القول : ان زكريا كان زوجا لخالة مريم ام عيسى ، وانه هو الذي كفلها ، ولم يكن لزكريا ولد ، وحين رأى صلاح مريم ، وما أجرى الله على بدها من الكرامات تحركت في نفسه عاطفة الأبوة ، وحب الذرية ، فاتجه الى الله يدعو ويتضرع اليه أن يحقق رغبته ؛ واستجاب الله سبحانه لدعوته :

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). يحيى اسم سماه الله به قبل أن يولد ، ولم يجعل له من قبل سميا ـ كما في الآية ٧ من سورة مريم ـ وعلى هذا فلا وجه للبحث ان هذا الاسم هل هو عبري أو عربي ، كما في بعض التفاسير .. أجل ، له مصدر في اللغة ، وهو الحياة ، ويتناسب اسمه مع احياء الله سبحانه لعقر أمه. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ). قيل : ان كلمة الله اشارة الى عيسى الذي خلقه الله بكلمة (كن) من غير أب .. ولكن عموم كلمة الله يرجح الحمل على جميع آياته وأحكامه.

وقال صاحب مجمع البيان : كان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، وهو أول من صدقه ، وشهد بأن مولده معجزة من الله ، وكان ذلك أقوى الأسباب لإظهار أمر عيسى ، لأن الناس كانوا يثقون بيحيى ، ويقبلون منه ما يقول.

(وسيدا) في العلم والدين ومكارم الأخلاق (وحصورا) يملك زمام نفسه ويمنعها عن الذنوب ، وقيل عن إتيان النساء (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وكل الأنبياء صالحون ، بل معصومون ، والعصمة فوق العدل والصلاح ، وعليه يتعين أن يكون قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) اشارة إلى أن زكريا تحدّر من أصلاب طاهرة ، وأرحام مطهرة .. ويتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية : ان جميع آباء الأنبياء يجب أن يكونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر.

٥٣

ومن الطريف قول بعضهم ـ كما في تفسير الرازي ـ ان من الصالحين اشارة الى «ان ما من نبي إلا وقد عصى ، أو همّ بمعصية غير يحيى فلم يعص ، ولم يهم». وبالاضافة الى أن في هذا القول مسا بمقام محمد (ص) فانه يتنافى وحكم العقل ، لأن النبي انما أرسل لدفع المعاصي ، فإن عصى احتاج الى نبي .. بداهة ان القذارة لا تزال بمثلها .. تعالى الله وأنبياؤه عما يقول الجاهلون.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ). قالوا كان زكريا ، حين قال هذا ، قد أتم ١٢٠ سنة من عمره ، وامرأته ٩٨ ..

وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو ان زكريا سأل ربه أن يهبه ذرية طيبة ، ومعنى هذا انه سأل شيئا ممكنا في اعتقاده ، فكيف عاد واستبعد ذلك عند ما بشرته الملائكة؟

الجواب : لم يكن قوله هذا شكا واستبعادا ، وانما هو استعظام لقدرة الله التي تخطت السنن والعادات ، تماما كما تقول لمن يهب الكثير الثمين من ماله : كيف فعلت ما لم يفعله أحد سواك؟ وأيضا يتضمن هذا الاستعظام والتعجب الشكر لله على هذه النعمة الجليلة التي لم تكن في الحسبان .. وأيضا نستفيد من أصل المعجزة ان على الإنسان أن لا يقيس مشيئة الله بما يراه هو ممكنا أو مستحيلا.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً). لما كان علوق الرحم بالنطفة أمرا خفيا أحب زكريا أن يعلم به حين حدوثه ، ليتلقاه بالشكر منذ اللحظة الأولى ، ولهذا سأل ربه أن يجعل له علامة يعرف بها وقت العلوق ، فقال له تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ). أي ان علامة حدوث العلوق أن يحتبس لسانك ، ويعجز عن النطق مع الناس ثلاثة أيام ، فإذا أردت الكلام لم يتحرك ، وانما تتفاهم معهم بالاشارة ، شأنك في ذلك شأن الأخرس ، ولكن لسانك ينطلق كما تريد حين تتجه الى الله في عبادتك ومناجاتك ، ولذا قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً). وهذه معجزة ثانية تضاف الى حمل العاقر.

٥٤

ونقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده ان الله أمر زكريا أن ينقطع للذكر والتسبيح ثلاثة أيام ، وان اضطر الى خطاب الناس أومأ اليهم إيماء ، وبعد مضي الثلاثة يبشّر أهله بالحمل. والتفسير الأول أظهر وأشهر.

يا مريم ان الله اصطفاك الآة ٤٢ ـ ٤٤ :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

المعنى :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). ذكر أولا أم مريم وحملها ونذرها ، وزكريا الذي كفل مريم ، ثم ذكر مريم ، ورزق الله لها بغير حساب ، ثم ذكر زكريا ودعاءه واستجابته ، والآن يعود الى مريم .. على عادة القرآن ، حيث يستطرد من قضية الى غيرها لمناسبة بين القضيتين ، ثم يعود الى الأولى لغرض في العودة.

والمراد بالاصطفاء الأول قبولها محرّرة لخدمة بيت الله ، وكان ذلك خاصا بالرجال ، أما الاصطفاء الثاني فلولادتها نبيا دون أن يمسها بشر ، وقيل : هو تأكيد للأول. أما التطهير فقال صاحب تفسير المنار ما نصه : «قد فسر الطهر بعدم الحيض. وروي ان السيدة فاطمة الزهراء ما كانت تحيض ، وانها لذلك لقبت بالزهراء».

٥٥

والذي نرجحه ان التطهير شهادة بنزاهة مريم ، وبراءتها من كل شبهة حول ولادتها.

وتجمل الإشارة إلى أن مريم ليست نبية للإجماع على انه لم تنبّأ امرأة ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ـ ١٠٩ يوسف».

أما كلام الملائكة معها فلا يستدعي أن تكون نبية ، فلقد أوحى الله الى أم موسى ، كما في الآية ٧ من سورة القصص ، ولم يدّع أحد لها النبوة ، وإذا انقطع الوحي بعد محمد (ص) عن الأنبياء ، وغير الأنبياء فقد كان من قبله ينزل على الأنبياء وغير الأنبياء ، والدليل هذه الآية ، وآية : أوحينا الى أم موسى. أما قوله تعالى : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) فنتعرض له قريبا بفقرة مستقلة بعنوان : «من هي سيدة نساء العالمين».

فضل القرآن على النصارى :

سبق القول : ان وفدا من نصارى نجران جاءوا الى المدينة يحاجون رسول الله في نبوته ، ويدعون ألوهية عيسى ، فتلا عليهم الرسول (ص) من أنباء الغيب طرفا من قصة امرأة عمران وزكريا ومريم ، ليثبت لهم انه لا ينطق إلا بوحي من الله ، ثم تلا هذه الآية : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ).

وتلاوة النبي هذه الآية لوفد نجران المسيحي الذي جاء يحاجه ويجادله دليل قاطع على عظمة الإسلام ، وصدق نبيّه الكريم .. ان اليهود لم يتورعوا أن يلصقوا الأكاذيب والافتراءات بمريم ، ويثيروا الشبهات والتهم حول ولادتها .. فكذبهم الله ، وسجل في كتابه الذي يتلوه الملأ أبد الدهر ، سجل فيه نزاهتها وبراءتها ، وقطع الطريق على كل متقول ومزوّر. ولو لم يكن محمد صادقا في رسالته ، واثقا بدعوته لأخفى ذلك عن النصارى الذين لاقى منهم العنت والتكذيب.

لقد أسدى الإسلام بهذه الآية أعظم الأيادي الى النصارى ، ولولاها لسمعوا الكثير من بعض المسلمين عند التخاصم ، كما سمعوا من اليهود في حق مريم الطاهرة .. ولكن المسلم يعلم ان نزاهة السيدة مريم من صلب عقيدته ، وان التهجم

٥٦

عليها كفر وخروج عن دين الإسلام .. ويأتي المزيد في البحث عند تفسير الآية ٨٢ من سورة المائدة : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ). أمرها بالعبادة للإعداد والتهيئة للأمر الخطير ، وهو ولادة عيسى (ع) ، وما من أمر خطير الا سبقته مقدماته التي تمهد لحدوثه ، وكذلك أوصى الله سبحانه عيسى بالصلاة والزكاة ما دام حيا.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ). الخطاب موجه من الله لرسوله ، والمعنى ان ما تتلوه على الناس بعامة ، والنصارى بخاصة ، ووفد بحران بصورة أخص ، كقصة مريم وأمها امرأة عمران ، وقصة زكريا ويحيى ، كل ذلك ، وما اليه لم تقرأه في كتاب ، ولم تسمعه من الحفّاظ ، لأنك أمي في أمة أمية ، وانما هو علم بالغيب ، ووحي من الله .. وهذه حجة لك على خصمك ، وبرهان على صدقك .. وما نقل الرواة ان وفد نجران رد هذه الحجة أو اعترض عليها ، ولو كانت موضع جدال لما سكتوا.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ). القلم معروف ، وهو الذي يكتب به ، وجمعه أقلام ، والمراد بالأقلام هنا السهام التي يضربون بها القرعة ، والمعنى : ان إخبارك إياهم بهذه الحقائق والدقائق عن مريم وزكريا لم تقرأها في كتاب ، ولم تسمعها من الحفاظ ، فلم يبق ـ اذن ـ الا أن تكون قد شاهدتها بنفسك ، مع العلم ان بينك وبينها مئات السنين ، فتعين أن يكون علمك بها وحيا من الله اليك.

أما قصة الاقتراع وإلقاء الأقلام فخلاصتها ان حنة امرأة عمران حين ولدت مريم كانت قد نذرتها لبيت المقدس ، وولدتها بعد أن مات أبوها عمران ، فتنافس عليها الكهنة والأحبار من بني إسرائيل ، وأخيرا اقترعوا فيما بينهم ، فخرج قلم زكريا زوج خالتها ، وعندها تركوها له ، فتكفلها ، وصار وليها والقائم بأمرها.

٥٧

من هي سيدة نساء العالمين؟

سبق ان الله سبحانه خاطب السيدة مريم (ع) بقوله : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). وقد أحدثت هذه الآية اختلافا بين علماء المسلمين : هل مريم بنت عمران أفضل ، أم فاطمة بنت محمد أفضل؟.

ذهب جماعة الى أن خير النساء أربع ، وأحجموا عن المفاضلة بينهن ، لحديث : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد». وهذا الحديث مذكور في صحاح السنة ، ورأيته في تفسير الطبري والرازي والبحر المحيط ، وروح البيان والمراغي وصاحب المنار.

وقال آخرون : مريم أفضل للظاهر (نِساءِ الْعالَمِينَ).

وقال الشيعة وشيوخ من السنة : ان فاطمة أفضل ، وننقل هذا القول عن جماعة من شيوخ السنة ، استنادا الى تفسير البحر المحيط لأبي حيان الاندلسي عند تفسيره لآية : (اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). قال ما نصه بالحرف : «قال بعض شيوخنا : والذي اجتمعت عليه من العلماء انهم ينقلون عن أشياخهم ان فاطمة أفضل نساء المتقدمات والمتأخرات ، لأنها بضعة من رسول الله».

ومما استدل به القائلون بأفضلية فاطمة (ع) ما تواتر عن أبيها من طريق السنة والشيعة : «فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها اغضبني». أما قوله تعالى لمريم : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) فالمراد به عالم زمانها ، لا كل زمان ، وهذا التعبير معروف ومألوف ، يقال : فلان أشعر الناس ، أو أعلمهم ، ويراد بذلك انه أشعر أو أعلم أهل زمانه ، أو أبناء أمته ، ونظيره كثير في القرآن ، ومنه قوله تعالى عن بني إسرائيل : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ـ ١٥ الجاثية». ولا يختلف اثنان بأن المراد عالم زمانهم ، فكذلك تفضيل مريم التي هي من بني إسرائيل .. ومنه قوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) ـ ٨٦ الانعام» : ولا قائل بأن لوطا أفضل من عيسى ، أو مساويا له في الفضل ، ولا إسماعيل أفضل من أبيه. ومنه : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ـ ٢٣ النمل. أي كل شيء في زمانها.

٥٨

ونعود الى النسوة الأربع ، وهن آسية ومريم وخديجة وفاطمة اللائي ورد الحديث بأنهن خير النساء ، ونقول : لو نظرنا إليهن صارفين النظر عن نصوص الكتاب والسنة لألفينا ان كل واحدة منهن تختص بفضيلة دون غيرها من الصالحات الباقيات

فآسية امرأة فرعون آمنت بالله مخلصة له لائذة به وحده ، وهي في بيت شر العباد ، ورأس الكفر والإلحاد ، وقد جاهرت بإيمانها منكرة على فرعون كفره وفساده ، متحدية ظلمه وطغيانه ، فأوتد لها الأوتاد ، حتى قضت شهيدة الحق والايمان ، ولم تكن هذه الكرامة لواحدة من الثلاث.

أما السيدة مريم فقد كرّمها بولادة السيد المسيح من غير أب ، وما عرفت هذه الكرامة لامرأة على وجه الأرض.

أما السيدة خديجة فإنها أول من آمن وصدّق رسول الله ، وصلّت هي وعلي ابن أبي طالب مع الرسول الأعظم (ص) أول صلاة أقيمت في الإسلام ، وهي أول من بذل الأموال لنصرة هذا الدين .. ولولا أموالها ، وحماية أبي طالب لمحمد (ص) لقضي على الإسلام في مهده ، ولم يكن له عين ولا أثر .. ولم تكن هذه الكرامة لغيرها من نساء العالمين.

أما فاطمة فإنها بضعة من رسول الله ، بل هي نفسه خلقا وخلقا ومنطقا وصلاحا وتقى ، يرضيه ما يرضيها ، ويؤذيها ما يؤذيه ، وهي أم الحسنين سيدي شباب أهل الجنة ، وعقيلة سيد الكونين بعد رسول الله ، ولم تكن هذه الكرامة لأمها خديجة ، ولا لآسية ولا مريم.

أما التفاضل بين هذه الكرامات فإنه تماما كالتفاضل بين الورد والياسمين ، وثنتين من الحور العين .. لكن يكفي أن تكون لفاطمة الزهراء واحدة من خصال أبيها ، حتى ترجح على نساء العالمين قاطبة من الأولين والآخرين ، فكيف إذا كانت بضعة منه؟ انه أفضل الأنبياء ، وهي بضعة منه فتثبت لها الأفضلية. وفي الجزء الخامس من صحيح البخاري ، باب مناقب قرابة رسول الله عن أبيها انه قال : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. وإذا كانت فاطمة بضعة من الرسول

٥٩

فان بعلها عليا هو نفس رسول الله ، والدليل قوله تعالى : (أَنْفُسَنا) ، في آية المباهلة ٦١ آل عمران.

ملحوظة : هذا البحث معطوف على البحث السابق عند تفسير الآية ٣٧ من هذه السورة ، فقرة «فاطمة ومريم» .. فإن كلا منها متمم للآخر.

يا مريم ان الله يبشرك الآة ٤٥ ـ ٥١ :

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

٦٠