التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

الإعراب :

لما هنا حرف ، وتقتضي جملتين فعليتين ، وتدل على أن الثانية وجدت عند وجود الجملة الأولى ، ولذا تسمى حرف وجود لوجود ، وبعضهم يسميها حرف وجوب لوجوب ، والمعنى واحد. وإذا هنا حرف مفاجأة وقعت في جواب لما ، ولا تدخل إلا على الجمل الاسمية ، نحو خرجت فإذا أسد بالباب ، وفريق مبتدأ. ومنهم متعلق بمحذوف صفة له. وجملة يخشون خبر. والكاف في كخشية الله بمعنى مثل في موضع نصب صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي يخشون الناس خشية مثل خشية الله. و (أو) بمعنى بل. ومحل أشد الجر عطفا على كخشية الله ، وخشية تمييز. ولو لا هنا للتحضيض ، أي الطلب ، وتدخل على المضارع ، وعلى الماضي إذا كان بمعنى المضارع ، كما في الآية ، أي لولا تؤخرنا. ومتاع خبر لمبتدأ محذوف ، أي ما تستمعون به متاع قليل. وفتيلا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي لا تظلمون ظلما مقدار فتيل.

المعنى :

دعا النبي (ص) أول ما دعا الى الله في مكة ، فقاومه الأقوياء خوفا على مصالحهم ، ونعتوه بالجنون والسحر والكذب ، ولولا حماية عمه أبي طالب له لقضوا على حياته ... وإذا عجزوا عنه فقد نكلوا بمن آمن به ، وكان النبي (ص) يأمرهم بالصبر ، وكف الأيدي لكثرة العدو ، وقلة الناصر .. ولما اشتد إيذاء المشركين وبطشهم بالمؤمنين المستضعفين قالت فئة منهم للرسول (ص) : يا رسول الله إءذن لنا بقتال المشركين. فقال : اني أمرت بالصبر .. وكان (ص) يبث في قلوب صحابته روح الثقة ، والأمل بانتشار الإسلام ، وزوال سلطان البغي.

وبعد أن أمضى بمكة ثلاث عشرة سنة من بدء الدعوة هاجر الى المدينة ، وهاجر معه من استطاع من المسلمين ، ومن جملتهم الذين استأذنوه بقتال مشركي مكة .. ولما كثر عدد المسلمين في المدينة ، وأصبح في مقدورهم الدفاع عن أنفسهم أمرهم الله بجهاد المشركين اتقاء لشرهم ، بعد ان كان قد نهاهم عنه ،

٣٨١

وهم قلة مستضعفون ، لأن حكمته تعالى اقتضت ان تجري الأمور على سننها وأسبابها ، وان لا ينتشر دينه بين الناس الا بالوسائل البشرية ، وان لا يفرض الدين عليهم فرضا بقدرته العلوية ، كما تفرض الأمطار والزوابع.

وحين جد الأمر بالقتال جزع وخاف الذين كان يأخذهم الحماس لقتال المشركين ، ويستعجلونه ، وهم في مكة ، حيث لم يكن مأذونا لهم بالقتال .. وهذا هو شأن الذين يندفعون مع العاطفة من غير تفكير وروية ، يشتدون ويتحمسون للنزال والقتال الى حد الهوس ، حيث يكون الإقدام تهورا وانتحارا ، ويتراجعون جزعا وانهيارا ، حيث تشتد الحاجة الى القتال ، ويكون حتما لا مناص منه.

وليس من الضروري ان يكون هؤلاء من المنافقين أو الشاكين في دينهم .. فقد يكونون منافقين ، وقد يكونون من الضعفاء الذين يخافون الموت ، ويؤثرون الحياة جبنا على الاستشهاد في سبيل الحق .. وقد تعرضت الآية التي نحن في صددها لهذا الفريق من المسلمين ، وحماسهم للقتال في مكة ، ثم خوفهم منه في المدينة .. ومهدنا بما تقدم قبل أن نشرع بتفسير الآية لتوضيح المراد منها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). المراد ب (الذين) من استعجلوا القتال ، وتحمسوا له ، وهم في مكة. وقوله تعالى : قيل لهم الخ اشارة الى أن النبي (ص) كان قد أمرهم بالصبر والكف عن القتال ، والانصراف الى ما أمروا به من اقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لأن هذا هو الموقف الحكيم يوم كانوا في مكة.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) ـ أي العدو ـ (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). المعنى انه لما توافرت أسباب القتال للمسلمين بعد ان هاجروا الى المدينة ، واشتدت اليه الحاجة أمروا به .. ولكن فريقا من الذين كانوا يستعجلون القتال في مكة ، حيث لم يفرض عليهم كرهوه بعد أن فرض عليهم حبا بالحياة ، وجبنا عن مقابلة العدو ، وخشية من نكاله .. وقوله تعالى : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) كناية عن ان الخوف بلغ بهم نهايته.

٣٨٢

والخلاصة ان هذا الفريق من المسلمين تحمس للقتال حين النهي عنه ، لأنه عملية انتحارية ، وتقاعسوا حين الأمر به ، لأن تركه موت وانتحار .. وكان عليهم أن يتحمسوا للقتال عند ما أمروا به ، لا عند ما نهوا عنه.

(وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ). طلبوا المزيد في آجالهم رغبة في متاع الحياة .. وان اتجاههم هذا الى الله بتضرع وأسى ينبئ عن ايمانهم به .. وبديهة ان عصيان أمر الله بالموت لا يدل على الإلحاد ، كما ان اختيار الموت على حياة الذل لا يدل على الإيمان بالله ، فلقد رأينا الكثير من الملحدين يؤثرون الموت أحرارا على الحياة مع الظالمين ، كما رأينا الكثير من المسلمين يوقعون صكوك الاذلال والاستعباد على أنفسهم وقومهم.

(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ). المراد بقليل هنا عدم البقاء ، وسرعة الزوال ، وكل متاع الدنيا الى زوال ، بالاضافة الى انه مشوب بالهموم والمكاره.

(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). الآخرة نهاية المطاف ، والقليل من نعيمها خير من نعم الدنيا مجتمعة ، كما ان القليل من عذابها أعظم من عذاب الدنيا بكامله .. والعاقل هو الذي يؤثر العظيم الدائم ، وان كان مؤجلا على الحقير الزائل وان كان معجلا.

أينما تكونوا يدرككم الموت ٧٨ ـ ٧٩ :

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

٣٨٣

الإعراب :

أينما ظرف لاستغراق الأمكنة ، ومحلها النصب بفعل الشرط ، وهو تكونوا ، وتجزم فعلين لأنها بمعنى ان الشرطية. و (فَما لِهؤُلاءِ) مبتدأ وخبر. ومعنى (ما) هنا الاستفهام مع الإنكار ، نحو أي شيء حصل لك؟. ورسولا حال. وللناس متعلق به ، والمراد بهذا التعليق التعميم ، مثل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) ـ ٢٨ سبأ». وشهيدا تمييز.

المعنى :

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). سبق نظيرها عند تفسير الآية ١٤٥ من سورة آل عمران ، فقرة «الأجل محتوم».

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ). كل ما يراه الإنسان حسنا يقال له حسنة ، ويرادفها لفظ الخير الذي يرغب فيه الإنسان ويتمناه ، وكل ما يراه سيئا يقال له سيئة ، ويرادفها لفظ الشر الذي يبتعد عنه الإنسان ويأباه ، وقد يكون الخير عاما كالخصب والرخاء الذي لا يختص بفرد أو فئة ، وقد يكون خاصا كسعادة المرء ببيته وأسرته ، وكذلك الشر يكون خاصا كشقاء المرء بزوجته وأولاده ، ويكون عاما كالجدب والغلاء ، والمراد بالحسنة في الآية خير الطبيعة الذي يعم الجميع ، كالمطر ونحوه ، وبالسيئة شرها العام الذي يشمل الجميع ، كالقحط وما اليه ، لأن المنافقين والمشركين كانوا ان أصابتهم نعمة كالمطر قالوا : ان الله أكرمنا بها ، وان أصابهم نقمة كالقحط قالوا : هذا بسبب محمد ، تماما كبني إسرائيل الذين أخبر الله عنهم بقوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) ـ ١٣١ الأعراف».

ليس بالإمكان أبدع مما كان :

(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً). هذا رد على

٣٨٤

من نسب الحسنة الى الله ، والسيئة الى رسول الله ، لأنهما معا من الله ، ذلك ان القحط والأمطار ، والزلازل والمعادن ، كل هذه وما اليها من لوازم الطبيعة وآثارها ، والله سبحانه هو الذي خلق الطبيعة وأوجدها ، اذن ، ينسب خير الطبيعة وشرها اليها مباشرة ، والى الله سبحانه بواسطة إيجاده للطبيعة .. فهو جلت عظمته سبب الأسباب.

وتسأل : لما ذا لم يخلق الله الطبيعة من غير شر ، بحيث تكون خيرا خالصا من كل شائبة ، ويريح بهذا عباده من الويلات والمتاعب؟.

وقد طرح هذا السؤال أو الإشكال منذ آلاف السنين ، وحلّه «زرادشت» بوجود إلهين : إله للخير ، وهو «موزد» وإله للشر ، وهو «اهريمن». وقال آخرون : ان الله خلق هذه الطبيعة بما فيها ولها من خير وشر ، ولكنه في الوقت نفسه خلق عقولا تكيّف هذه الطبيعة الى خير الإنسان وصالحه ، ومنها هذه المخترعات التي قربت البعيد ، وسهلت العسير ، وأنشأت السدود لصد الفيضان ، وتنبأت بالعواصف قبل وقوعها. الى ما لا يحصى كثرة. وقال عابد زاهد : ان الشر لا بد منه لعقوبة العصاة والمذنبين .. وهذا الجواب يكذبه العيان والقرآن ، فان الطبيعة لا ترحم مؤمنا ولا ضعيفا ، والزلازل لا تميز بين الطيب والخبيث ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ـ ٢٥ الأنفال». ومنهم من قال : الله يعلم ، ونحن لا نعلم شيئا. وقال الأشاعرة ، هذا السؤال مردود شكلا وأساسا ، لأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات : «لا يسأل عما يفعل».

وجاء في كتاب الأسفار للعظيم الشهير بالملا صدرا ما يتلخص بأنه من المحال ذاتا إيجاد كون لا شر فيه ، فان الكون الطبيعي من حيث هو ، وبموجب وضعه وتكوينه يلزمه حتما ان يكون فيه خير وشر ، وقوة وضعف ، وحنان وعنف ، وإلا استحال وجوده من الأساس ، كما يستحيل على أمهر المتخصصين في فن البناء ان يبني من حبة الرمل حصنا منيعا (١). ذلك ان الطبيعة يستحيل أن توجد وتتكون إلا من عناصر متضادة متباينة ، وهذه العناصر في حركة دائمة بين جذب

__________________

(١) والفلاسفة يعبرون عن هذا وأمثاله بالعجز في المقدور ، لا في القادر.

٣٨٥

ودفع ، وتفاعل مستمر ، ومن هذا التفاعل تتولد الظواهر الطبيعية ، كالزوابع والعواصف ، والحر والبرد ، والمطر والصحو ، وما إلى ذلك من آثار الطبيعة خيرها وشرها ، وعلى هذا يدور الأمر بين اثنين لا ثالث لهما : أما ان لا يوجد الكون من رأس ، واما أن يوجد بخيره وشره ، وهذا هو معنى القول المشهور : «ليس بالإمكان أبدع مما كان». كما انه يتفق تماما مع قول علماء الطبيعة : ان في كل جزء من أجزائها قوة موجبة ، وأخرى سالبة.

وبهذا يتبين معنا ان قول القائل : لما ذا لم يخلق الله الطبيعة من غير شر ، ان هذا أشبه بقول من قال : لما ذا لم يخلق الله نارا ، لا حرارة فيها ، وثلجا ، لا برودة فيه ، وعقلا لا ادراك له ، وحياة لا حراك فيها ، وموتا ، لا جمود فيه .. ان هذا السؤال تعبير ثان عن هذيان المحموم ، وقوله : لما ذا لا يكون الشيء غير نفسه .. وبهذا ندرك السر البليغ العميق في قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً).

والخلاصة انه لا تأثير لمحمد (ص) ، ولا لغيره في شيء من خير الطبيعة وشرها. وقد اشتهر عن الرسول الأعظم انه قال حينما انكسفت الشمس عند موت ولده ابراهيم : الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعين له ، لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وتسأل : ان الله سبحانه أصاف في الآية الأولى كلا من الحسنة والسيئة الى نفسه ، حيث قال : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وفي الآية الثانية أضاف الحسنة اليه ، والسيئة الى العبد ، فما هو وجه الجمع؟

الجواب : قدمنا ان المراد بالحسنة في الآية الأولى خير الطبيعة ، وبالسيئة شرها ، وانهما من ظواهر الطبيعة ، وهي من صنع الله ، فصحت نسبتهما اليه تعالى بهذا الاعتبار. أما المراد بالحسنة في الآية الثانية فهو نجاح المرء في هذه الحياة دينا ودنيا ، والمراد بالسيئة فشله وخذلانه فيهما ، وقد نسب الله سبحانه هذا النجاح المعبر عنه بالحسنة ، نسبه الى نفسه بالنظر الى انه تعالى قد زوّد الإنسان بالصحة والإدراك ، وأمره بالعمل من أجل سعادته في الدارين ، فإن امتثل وعمل وبلغ

٣٨٦

النجاح نسب نجاحه الى الله ، لأنه هو الذي أقدره عليه ، وزوده بأدواته ، وبهذا اللحاظ قال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ).

وأيضا يجوز أن ينسب النجاح الى الإنسان ، لأنه آثر الجد والعمل على الإهمال والكسل .. ولا دلالة في الآية على ان الإنسان لا تأثير له إطلاقا في نجاحه ، أما إذا أهمل وتكاسل ، ولم يصل الى شيء بسبب إهماله وتكاسله فلا ينسب فشله وحرمانه الا اليه ، لأنه هو الذي بلغ بنفسه هذا المبلغ بسوء ما اختار لها من الإهمال. وبهذا الاعتبار قال سبحانه : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). ولا يجوز أن ينسب الفشل الى الله بحال ، لأنه جل وعلا قد أمر الإنسان بالعمل ، وحثه عليه بعد أن زوده بجميع الأدوات والمؤهلات.

فما أرسلنا عليهم حفيظاً الآية ٨٠ ـ ٨٢ :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢))

اللغة :

حفيظا ، أي تحفظ عليهم أعمالهم ، وتحاسبهم عليها. وبرزوا من عندك ، أي خرجوا من عندك. والتبييت كل شيء دبّر بليل ، والمراد به هنا التزوير. والتدبر التأمل والنظر في عواقب الأمور.

٣٨٧

الإعراب :

حفيظا حال ، وصاحبه الكاف في أرسلناك. وطاعة خبر لمبتدأ محذوف ، أي شأننا طاعة ، أو مبتدأ والخبر محذوف ، والتقدير عندنا طاعة. وكفى بالله وكيلا مرّ اعرابه أو اعراب نظيره عند تفسير الآية ٤٤ و ٧٨ من هذه السورة.

المعنى :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). سبق تفسيره في الآية ٥٩ من هذه السورة.

(وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً). ان وظيفة الرسول تحددها كلمة الرسول نفسها ، كما تحدد كلمة الشمس معناها ، أما الحساب والعقاب فإلى الله ، لا الى الرسول : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ـ ٢٦ الغاشية». وتكلمنا عن هذا الموضوع مفصلا عند تفسير الآية ٢٧٠ من سورة البقرة ، المجلد الأول ص ٤٢٢.

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) ـ الطائفة التي أظهرت الطاعة ـ والله يكتب ما يبيتون). ظاهر الآية ان المسلمين بجملتهم أظهروا طاعة الرسول (ص) ولكنهم لم يكونوا جميعا مخلصين فيما أظهروا ، بل منهم فئة منافقة تخادع الرسول ، وتبيت خلاف ما تبديه له من الطاعة .. وهذه الآية رد مفحم لمن ادعى ان جميع الصحابة عدول ، وان مجرد الصحبة للرسول (ص) تعصم صاحبها من كل شبهة.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). الخطاب للنبي (ص) ، والمعنى ان الحكمة تستدعي ان لا تهتك ستر المنافقين ، وتذكرهم بأسمائهم ، وأيضا لا تطمئن اليهم ، وتقبل عليهم إقبالك على المؤمنين المخلصين .. والأيام كفيلة بإظهارهم على حقيقتهم. ومثل هذه الآية الآية ٦٣ من السورة نفسها ، وتقدمت هي وتفسيرها.

٣٨٨

اليهود واعجاز القرآن :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). عند تفسير الآية ٢٣ ـ ٢٥ من سورة البقرة ، المجلد الأول ص ٦٥ ، فقرة «سر الاعجاز في القرآن» تعرضنا لهذا السر على سبيل الإجمال ، لأن التفصيل يستغرق كتابا في حجم هذا المجلد .. وبعد ان مضينا في التفسير اكتشفنا أسرارا لإعجاز القرآن لم يتنبه اليها من سبق من علماء المسلمين ، حتى الذين ألفّوا كتبا خاصة في اعجاز القرآن ، وما كان هذا عن قصور أو تقصير منهم .. حاشا ، ولكن كتاب الله لا تنقضي أسراره وعجائبه : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ـ ١١٠ الكهف».

وقد أصاب من هذه الكلمات كل بقدر ما أسعفه عصره ومواهبه ، فان الزمان عنصر فعال في الكشف عن معاني القرآن وأسراره ، قال ابن عباس : «في القرآن معان سوف يفسرها الزمان». ومن هذه المعاني ما أومأت اليه الآية ٥٣ من هذه السورة : (أَمْ لَهُمْ) ـ أي لليهود ـ (نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً). وذكرنا عند تفسيرها وتفسير الآية ٤٦ من السورة نفسها تنبؤ القرآن بفظائع اليهود وجرائمهم إذا ملكوا ، وبعد نيف وثلاثة عشر قرنا تحقق هذا التنبؤ ، وهذا دليل قاطع على نبوة محمد (ص) وصدق رسالته .. وهذا هو الاعجاز الذي أردناه من قولنا : لم يتنبه اليه العلماء والمفسرون ، لأن اليهود كانوا آنذاك أذلاء محكومين ، لا نصيب لهم من الملك في فلسطين ولا في غيرها.

ومن جملة الأدلة على ان القرآن وحي من الله قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) من هذا الاختلاف عدم التناسق والتناسب في أقوال البشر أسلوبا وتفكيرا ... فما من عالم أو أديب أو أي انسان إلا ويختلف قوة وضعفا في تعبيره وتفكيره ، أما القرآن فهو على مستوى واحد في بلاغة أسلوبه ، وعظمة معانيه.

والسر ان للإنسان ظروفا وحالات تختلف وتتغير من حين الى حين ، بل من لحظة الى لحظة ، وهو تابع لها يتقلب بحسبها ، ولا ينفك تغيره عن تغيرها

٣٨٩

بحال. وفي قوله تعالى : (كَثِيراً) اشارة الى ان تقلّب الإنسان مع ظروفه لا يبلغه الحصر ، وهذا الاختلاف يفسر لنا التفاوت في أسلوب الإنسان وتفكيره ، أما الذات القدسية فإنها هي هي متوحدة في كل شيء أزلا وأبدا ، لا تتبدل بالأحوال ، ولا تتغير بالظروف : «وكيف يجري على الله ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟. اذن ، لتفاوتت ذاته ، وتجزأ كنهه». كما قال الإمام علي (ع). وهذا وحده يفسر لنا التناسق والتناسب في كتاب الله أداء ومضمونا من ألفه الى يائه.

الأسرار الحربية واذاعتها الآية ٨٣ :

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

اللغة :

الاستنباط الاستخراج ، ويستعمل ـ غالبا ـ في استخراج الحكم من مصدره بالاجتهاد.

الإعراب :

فضل الله مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي لولا فضل الله كائن ، أو كائنان بالنظر الى ان ورحمته معطوفة على فضل الله. وقليلا منصوب على الاستثناء المنقطع من الضمير في لاتبعتم ، وقيل : هو صفة لمفعول مطلق محذوف ، والتقدير اتباعا قليلا.

٣٩٠

المعنى :

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ). كان في صحابة الرسول (ص) ـ كما يكون في أي حزب ومعسكر ـ المخلص والمنافق ، والشجاع والجبان ، والقوي والضعيف في إيمانه ، والعاقل المجرب الذي يرتفع الى مستوى الأحداث ، والجاهل الذي لا يتدبر الأمور ولا يقدر العواقب ، وقد تحدث القرآن عن كل هؤلاء تصريحا تارة ، وتلويحا أخرى.

واتفق المفسرون على ان هذه الآية نزلت فيمن كانوا يسمعون أخبار الأمن والخوف التي كانت تتعلق بقوة المسلمين العسكرية ، فيذيعونها بين الناس ، ثم اختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المذيعين : هل هم المنافقون ، أو البسطاء السذج من ضعفاء المؤمنين؟ فقال كل فريق بما ترجّح عنده .. أما نحن فلم يترجح لدينا ارادة المنافقين ، دون الضعفاء ، ولا الضعفاء ، دون المنافقين ، لأن كل ما أفاده ظاهر الآية ان جماعة من الذين كانوا حول النبي (ص) إذا وصل اليهم خبر من أخبار السلام والأمان ، أو الحرب والعدوان تكلموا به ، وأفشوه بين الناس .. ولا شيء أضر على الأمن الداخلي والخارجي من افشاء الأسرار العسكرية ، بخاصة مع عدم تثبت المذيعين من صدق الخبر ، فإن الكثير من أنباء الحرب يختلقها ويروجها العدو بقصد الاستفادة منها ، واشاعة الفتن والقلاقل في صفوف المسلمين.

(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). ضمير أولي الأمر منهم يعود على المسلمين ، ومن للتبعيض ، أي ان أولي الأمر هم بعض المسلمين ، أما ضمير منهم في يستنبطونه منهم فقد اختلف فيه المفسرون ، فمن قائل : انه يعود على الذين أذاعوا خبر الأمن أو الخوف. وقائل : انه يعود على أولي الأمر ، وهو الأظهر ، ومن للبيان ، لا للتبعيض. والمراد بأولي الأمر من يثق الرسول (ص) بكفاءتهم الدينية والعلمية ، والذين عناهم الله بقوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ـ ٦٣ الأنفال».

والمعنى كان الأولى بالذين أذاعوا ما سمعوه من أخبار الحرب ان يمسكوا عن

٣٩١

الخوض فيما بلغهم ، ويعرضوه على الرسول والأكفاء من أصحابه فهم وحدهم الذين يعرفون أخبار الحرب ومكائدها ، ويستخرجون الأشياء من مصادرها ، ويردونها الى أصولها ، فقوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) معناه ان الأكفاء يعرفون حقيقة الخبر المذاع ، والقصد منه ، لأنهم هم الذين يستخرجون الخفايا والحقائق من منبعها الأول ، ويفعلون ما توجبه الحكمة والمصلحة.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً). المراد بفضل الله ورحمته انزال القرآن ، وبعثة محمد (ص). والمعنى لو لا كتاب الله وسنة نبيه لبقيتم على الكفر والضلال الا قليلا منكم ، مثل قس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو ، ومن اليهم ممن آمن بالله وحده بوحي من فطرته الصافية قبل أن يبعث الله محمدا (ص) ، وهذا النوع من المؤمنين يسمون الحنيفية. والحنيف عند العرب من كان على دين ابراهيم (ع).

لا تكلف نفسك الآية ٨٤ :

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

اللغة :

الحض التحريض على الشيء. والمراد بالتنكيل هنا العقاب والعذاب ، وعسى في كلام الله واجبة التحقق ، وفي كلام غيره متوقعة.

الاعراب :

فقاتل الفاء واقعة في جواب شرط مقدر ، أي ان أردت الفوز فقاتل. ولا

٣٩٢

تكلف مبني للمجهول ، والضمير المستتر نائب فاعل. ونفسك مفعول ثان ، على حذف مضاف ، أي لا تكلف إلا أفعال نفسك ، وبأسا وتنكيلا تمييز.

المعنى :

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ). بعد أن ذكر سبحانه في الآية ٧٧ الذين خافوا من القتال ، وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ، وذكر في الآية ٨١ الذين أظهروا الطاعة ، وأضمروا العصيان ، وقالوا طاعة ، وبيتوا غير الذي قالوا ، وذكر في الآية ٨٣ الذين أذاعوا ما سمعوا من أخبار الحرب وأسرارها بعد هذا كله أمر الله نبيه بالقتال والجهاد ، دفاعا عن الحق ، وان يحرض المسلمين ، ويحثهم على الجهاد معه ، ويحارب بمن يستجيب له ، ويعرض عمن أعرض منهم ، فانه غير مسؤول ، ولا مكلف بأعمال غيره ، وانما هو مكلف بأعمال نفسه فقط. وهذا معنى قوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) وليس معناه قاتل وحدك ان لم يقاتل أحد معك ، كما قيل ، لأن الله قد نهى النبي والمسلمين عن القتال في بدء الدعوة ، وأمرهم بالصبر على إيذاء المشركين لهم حين كانوا بمكة ، لأن القتال كان آنذاك أشبه بالعمليات الانتحارية منه بالجهاد في سبيل الله .. ولم يأمرهم بالجهاد إلا بعد أن هاجروا الى المدينة ، وأصبح بمقدورهم الوقوف في وجه الأعداء ، فكيف يأمر النبي بالقتال منفردا؟ (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا). عسى هنا واجبة التحقق ، لأنها من كلام الله ، والله لا يخلف الميعاد ، والمراد بالذين كفروا صناديد قريش الذين أخرجوا النبي (ص) من مكة ، وجيشوا الجيوش لحربه مرات .. وقد أنجز الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب المشركة وحده.

الشفاعة والتحية الآية ٨٥ ـ ٨٧ :

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً

٣٩٣

سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

اللغة :

الشفاعة مأخوذة من الشفع ، وهو ان يصير الإنسان شفعا لصاحبه ، أي ناصرا له. والكفل الحظ والنصيب. والمقيت بفتح الميم من المقت بمعنى البغض ، وهذا غير مراد هنا. والمقيت بضم الميم بمعنى معطي القوت ، وهذا الإعطاء يستدعي المقدرة ، وعليه يصح أن يطلق المقيت بالضم ، ويراد به المقتدر ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، وقد عدّ المقيت بالضم من أسماء الله تعالى. والحسيب يأتي بمعنى المحاسب على العمل ، وبمعنى الكافي ، وأي المعنيين أردت من الآية صح.

الاعراب :

الله لا إله إلا هو (الله) مبتدأ ، ولا نافية للجنس ، وإله اسمها ، والخبر محذوف ، أي موجود ، وهو بدل من إله على المحل ، لأن اسم (لا) محله الرفع ، والجملة من لا واسمها وخبرها خبر لفظ الجلالة. واللام في ليجمعنكم واقعة في قسم محذوف ، والتقدير والله ليجمعنكم. وحديثا تمييز.

المعنى :

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ

٣٩٤

لَهُ كِفْلٌ مِنْها). يدل سياق الكلام على ان المراد بالشفاعة الحسنة التحريض على القتال ، وبالشفاعة السيئة تثبيط العزائم عنه .. ولكل من المشجع والمثبط جزاء دعوته وآثارها ، فلمن يدعو الى الجهاد نصيب من أجره ، ولمن يدعو الى التخاذل نصيب من وزره .. والمبدأ عام في كل شفاعة خير ، وكل شفاعة سوء ، وفي الحديث : «من سنّ سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها». فالإسلام يبارك كل خير ، سواء أكان سنة يقتدي بها الغير ، أو عملا صدر من ملحد ، أو نية مجردة عن العمل ، فالمهم أن يصدق عليه اسم خير أو فضيلة أو حسن أو طيب أو ما اليه. وتعرضنا لذلك عند تفسير الآية ١٤٤ من سورة آل عمران ، فقرة «لكل امرئ ما نوى» ، وعند تفسير الآية ١٧٨ من السورة نفسها ، فقرة «الكافر وعمل الخير».

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً). أي قادرا على أن يجازي كلا بما يستحق ، فيثيب صاحب الشفاعة الحسنة ، ويعاقب صاحب الشفاعة السيئة ـ أنظر معنى مقيت في فقرة اللغة ـ.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). اتخذ الإسلام كلمة التوحيد شعارا لعقيدته ، وجعل السلام تحيته المختصة به للاشارة الى ان منهاجه في الحياة هو نشر السلام ، ومقاومة العدوان .. بالاضافة الى ان معنى الإسلام التسليم للعدل والإحسان ، والخير والأمان ، وفوق ذلك كله فإن السلام من أسماء الله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ـ ٢٣ الحشر».

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً). يحاسب على عدم رد التحية ، وغيره من ترك المحرمات ، وفعل الواجبات.

واستدل الفقهاء بهذه الآية على وجوب رد السلام ، اما بالمثل ، أي أن تعيد تحية من حياك بالحرف دون زيادة أو نقصان ، واما ان تزيد عليها : ورحمة الله ، وأمثالها. والرد فرض على سبيل العين إذا وجهت التحية الى شخص معين ، وكفاية إذا وجهت الى جماعة ، ان قام به البعض سقط عن الباقين ، والا فالكل ملومون ومؤاخذون .. وفي الحديث : التحية تطوع ، والرد فرض.

٣٩٥

وقال أصحاب أبي حنيفة : المراد بالتحية في الآية الكرامة بالمال ، فمن أهدى اليك شيئا فعليك أن تهديه بمقدار ما أهدى اليك ، أو تزيد. (أحكام القرآن للقاضي أبي بكر الأندلسي).

طرق متنوعة لاثبات المعاد :

اهتم الإسلام اهتماما بالغا بالدعائم الأولى للإسلام ، وإثباتها بشتى الأساليب ، وهذه الدعائم هي : الايمان بالله ، والرسول ، واليوم الآخر .. وفي المجلد الأول عقدنا لكل واحد من هذه الثلاثة فصلا مستقلا ، تكلمنا عن الأول بعنوان التوحيد عند تفسير الآية ٢١ من سورة البقرة ، المجلد الأول ص ٥٩ ، وعن الثاني بعنوان : فأتوا بسورة من مثله عند تفسير الآية ٢٣ ص ٦٤ ، وعن الثالث بعنوان كيف تكفرون بالله عند تفسير الآية ٢٨ ص ٧٤. ومن تتبع آي الذكر الحكيم الواردة في البعث والحشر يجدها على أنواع ، منها :

١ ـ مجرد اخبار عن وقوع يوم القيامة : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ـ ٤٨ ابراهيم».

٢ ـ اخبار مع تأكيد الوقوع بالقسم ونفي الريب ، كهذه الآية : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ). أي والله ليجمعنكم.

٣ ـ الاستدلال على إمكان المعاد بخلق السموات والأرض .. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ـ ٣٣ الأحقاف». وأوضح تفسير لهذه الآية قول من قال : «ومن ركب البحر استقل السواقيا».

٤ ـ الاستدلال بخلق النبات : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) ـ ٩ فاطر».

٥ ـ الاستدلال بخلق النشأة الأولى للإنسان : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ـ ٥١ الاسراء».

٦ ـ الاستدلال بالمشاهدة والعيان ، من ذلك ان الله سبحانه أمات جماعة من بني إسرائيل ثم أحياهم : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ

٣٩٦

جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ـ ٥٦ البقرة».

وأحيا الرجل الاسرائيلي بعد قتله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ـ ٧٣ البقرة».

وأيضا أحيا عزيرا بعد موته : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) ـ ٢٥٩ البقرة».

وأيضا أحيا طيور ابراهيم الأربعة بعد أن قطعها أجزاء : (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) ـ ٢٦٠ البقرة».

وأحيا أهل الكهف بعد أن أماتهم ٣٠٩ سنوات : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ـ ١٩ الكهف».

وصدق الله العظيم : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ـ ٢٧ الزمر».

وهل يتذكر جاهل يقيس من لا يعجزه شيء على من لا يقدر على شيء؟ وكيف يؤمن المنافق بيوم يعز الصادقين ، ويذل المنافقين؟ ولا أدري أي ضرر على المجتمع أو الأفراد من الايمان بيوم يميز الله فيه الخبيث من الطيب ، وبمحكمة يتساوى فيها الجميع أمام الحق والعدالة؟.

فما لكم في المنافقين فئتين الآية ٨٨ ـ ٩٠ :

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

٣٩٧

وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠))

اللغة :

الركس والنكس واحد ، وهو تحوّل الشيء من حال الى حال أردأ منها. والسبيل الطريق ، ويستعمل في الحجة ، تقول : لا سبيل لك عليه ، أي لا حجة لك تعتل بها عليه. والميثاق العهد. وحصرت صدورهم ، أي ضاقت.

الإعراب :

فما لكم الفاء تفريع على ما قبلها من الآيات. و (ما) استفهام انكار. ولكم متعلق بمحذوف خبر ، أي ما حصل لكم. وفئتين حال ، والعامل فيه الخبر المحذوف. وجملة والله أركسهم حال من المنافقين. ومن يضلل (من) اسم شرط محله الرفع بالابتداء ، وخبره جملة جواب الشرط ، والجملة من المبتدأ والخبر حال من الواو في تهدوا. وودوا لو تكفرون (لو) هنا مصدرية ، وتقع كثيرا بعد ود ويود ، ولكنها غير ناصبة ، والمصدر المنسبك منها ومما بعدها مفعول ودوا ، أي ودوا كفركم. وجملة حصرت صدورهم حال من واو جاءوكم ، أي جاءوكم وقد حصرت صدورهم. ولو شاء الله (لو) للامتناع. واللام في لسلطهم واقعة في جواب لو ، ومثلها اللام في فلقاتلوكم ، لأن المعطوف على الجواب جواب.

٣٩٨

المعنى :

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ). نزلت هذه الآيات في خصوص المنافقين الذين بقوا في دار الكفر ، ولم يهاجروا الى المدينة بدليل قوله تعالى : (حَتَّى يُهاجِرُوا) لأن الهجرة انما تكون من دار الكفر الى دار الإسلام ، وقبل فتح مكة كانت المدينة هي الدار الوحيدة للإسلام .. وظاهر هذه الآيات صريح في أن حكم من نافق ، وبقي في دار الكفر غير حكم من نافق وهو مقيم في دار الإسلام ، لأن الله سبحانه أمر بقتل أولئك وأسرهم ، دون هؤلاء .. وقبل أن ينزل هذا الأمر من السماء اختلف الصحابة ، وانقسموا فئتين في حكم المنافقين الذين بقوا في دار الكفر : فئة ترى مقاطعتهم وعدم الاستعانة بهم في شيء ، بل وإعلان الحرب عليهم ، تماما كمن جاهر بالشرك وعداء المسلمين. وفئة ترى التساهل والتسامح ، وان يعاملوا معاملة المسلمين.

ويظهر ان النبي (ص) سكت عن هذا الخلاف ، حتى حسمه الله بقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي لا ينبغي أن تختلفوا في أمرهم ، بل عليكم أن تجمعوا قولا واحدا على عدم التساهل معهم بحال ، وبيّن سبحانه السبب الموجب بقوله : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي رد حكمهم الى حكم الكفار المحاربين من جواز قتلهم وسبيهم ، لأنهم كالكافر المحارب ، أو أشد ضررا بسبب بقائهم في دار الشرك الذي لا يستفيد منه إلا عدو الإسلام والمسلمين.

الإضلال من الله سلبي لا ايجابي :

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ). هذا يشعر بأن الفئة المتسامحة من المسلمين كانت تأمل أن يعود هؤلاء المنافقون الى الهداية ، فقطع الله أملهم بقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً). وتسأل : لقد أخبر أولا ، عظمت كلمته ، انه أركس أولئك المنافقين بسبب كسبهم وسوء اختيارهم للبقاء في دار الكفر .. ثم قال سبحانه : انه هو الذي أضلهم .. فأضاف اضلالهم اليه بعد ان أضافه اليهم ، فما هو وجه الجمع؟.

٣٩٩

الجواب : ليس المراد بمن أضل الله ويضلل الله خلق الإضلال فيهم .. كلا ، وانما المراد ان من حاد عن طريق الحق والهداية بإرادته ، وسلك طريق الباطل والضلال باختياره فإن الله يعرض عنه ، ويدعه وشأنه .. وليس من شك ان من أوكله الله الى نفسه لا يجد سبيلا الا الضلال ، والجور عن القصد ، وهذا المعنى ينسجم مع قوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) كل الانسجام.

وبتعبير أوضح : كل من سلك طريق الحق فإن الله يشمله بعنايته ، ويرعاه بتوفيقه : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ـ ٢٨ النحل». وهذه العناية من الله بالمتقين تسمى هداية وتوفيقا وولاية ووكالة من الله ، وما الى ذلك .. وكل من سلك طريق الباطل فإن الله يعرض عنه ، ولا يرده الى الهداية قسرا ، ويلجئه اليها إلجاء. وهذا الإعراض منه تعالى يسمى اضلالا وخذلانا واركاسا ، وما اليه .. وبكلمة واحدة ان الإضلال من الله معناه سلبي ، لا ايجابي ، ومعنى الهداية منه ايجابي بنحو من اللطف والتدبير.

ولا بد من التنبيه الى ان حكمة الله سبحانه تستدعي ان يلطف بعبده ، ولا يتخلى عنه ، تماما كما لا تتخلى الوالدة عن وليدها الا إذا كان العبد هو السبب الموجب لتخلي الله عنه لولوجه في العصيان والتمرد كما تتخلى الأم عن ابنها الذي أوغل في العقوق.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً). كل انسان يود أن يكون جميع الناس على شاكلته. وسبق تفسيره في المجلد الأول ص ١٧٣ الآية ١٠٩ من سورة البقرة.

(فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ). بعد أن هاجر رسول الله (ص) الى المدينة أوجب سبحانه الهجرة اليها على كل من أسلم إلا إذا عجز عنها ، أو أذن له الرسول لبقاء لمصلحة تعود على المسلمين .. ومن الآيات التي حث الله بها على الهجرة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) ـ ٧٢ الأنفال». والسر ـ كما يبدو لنا ـ ان المسلمين كانوا قلة قبل فتح مكة ، فإذا تفرقوا هنا وهناك ضعفوا وطمع بهم العدو ، وإذا اجتمعوا في مكان واحد حول الرسول الأعظم (ص)

٤٠٠