التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

وأكثر السنة ، أو الكثير منهم على ان أولي المذكورين في الآية معصومون ، وأيضا يتفقون على ان الدليل على عصمتهم ان الله أوجب اطاعتهم ، تماما كما أوجب اطاعة الله والرسول ، ولكن السنة والشيعة يختلفون في المراد من أولي الأمر المعصومين : هل هم أهل الحل والعقد ، أو هم أهل البيت (ع)؟.

قال السنة : هم أهل الحل والعقد. وقال الشيعة : هم أهل البيت ، لأن العصمة منحة إلهية لا تعرف الا بالنص من الله والرسول ، وقد ثبت النص عنهما على عصمة أهل البيت ، اذن يكون المراد بأولي الأمر أهل البيت دون غيرهم ، وبتعبير ثان ان أولي الأمر في الآية معصومون لوجوب اطاعتهم ، لأن من وجبت اطاعته فهو معصوم .. وأيضا ثبتت عصمة أهل البيت بالنص ، ولم تثبت عصمة غيرهم ، ومن ثبتت عصمته فهو واجب الطاعة ، فالنتيجة الحتمية ان أولي الأمر هم أهل البيت ، وان أهل البيت هم أولو الأمر دون غيرهم .. ومثل ذلك أن يقول لك قائل : استمع للناصح الأمين ، ولا ناصح أمين الا زيد ، فالنتيجة استمع لزيد.

ومما استدل به الشيعة على عدم جواز الرجوع الى أهل الحل والعقد في الأمور الدينية ـ قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ١٨٦ الأعراف». وقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ـ ١٠٦ المائدة». وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ـ ٣٤ التوبة». ومعنى هذا ان الحق لا يعرف بالناس قلّوا أو كثروا ، وانما تعرف الناس بالحق الذي يؤخذ من كتاب الله ، وسنة نبيه ، وحكم العقل البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان.

ـ على الهامش ـ أرسم هذه الكلمات في شهر آذار سنة ١٩٦٨ والانتخابات لمجلس النواب بلبنان قائمة على قدم وساق ، والأكثرية تزدحم على صناديق الاقتراع ، لتنتخب من دفع لها سلفا ثمن الأصوات بعد المزايدة ، أو وعد أصحابها بتلبية أغراضهم وأهوائهم. وسلام على من وصف بعض الانتخابات بقوله : «فصغى رجل لضغنه ـ أي مال مع حقده ـ ومال آخر لصهره ، مع هن وهن» كناية عن أشياء يكره ذكرها. وقال في مناسبة ثانية : «همج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا الى ركن وثيق».

٣٦١

القياس :

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ). قدمنا ان قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يدل بالاتفاق على وجوب التمسك بالكتاب والسنة ، وان قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يدل على وجوب اطاعة أهل بيت النبي (ص) عند الشيعة ، وعلى اطاعة أهل الحل والعقد عند أكثر السنة ، أو الكثير منهم. والآن نتكلم عن قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) الخ) وهل يدل على وجوب العمل بالقياس ، أو هو أجنبي عنه؟. وقبل الجواب عن هذا السؤال نطرح السؤال التالي :

لما ذا أوجب الله سبحانه الرد عند التنازع الى الله والرسول ، دون أولي الأمر مع العلم بأنه أوجب اطاعة الثلاثة؟.

الجواب : لأن التنازع قد يقع في تعيين أولي الأمر أنفسهم ، كما حدث ذلك بالفعل ، حيث قال السنة : هم أهل الحل والعقد. وقال الشيعة : هم أهل البيت ، وعليه يجب الرجوع في هذا التنازع الى كتاب الله ، وسنة الرسول ، ومن أجل هذا استدل الشيعة بآية التطهير وحديث الثقلين وغيره على ان أولي الأمر هم أهل البيت.

ونعود الآن الى دلالة الآية على وجوب العمل بالقياس ، أو عدم دلالتها عليه. والقياس هو إعطاء حكم الواقعة المنصوص عليها شرعا لواقعة أخرى لم ينص الشارع عليها لمشاركة الواقعتين في علة يستنبطها الفقيه من تلقائه وعندياته ـ مثلا ـ نص الشارع على ان الجدة لأم ترث ، ولم ينص على الجدة لأب ، فنورّث الجدة لأب قياسا على الجدة لأم ، لأن كلتيهما جدة ..

قال السنة : ان قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) يدل على صحة العمل بهذا القياس ، لأن «معناه فردوه الى واقعة بيّن الله حكمها ، ولا بد أن يكون المراد فردوها الى واقعة تشبهها».

وقال الشيعة : ان الآية بعيدة عن القياس ولا تدل على أكثر من وجوب الرجوع الى الكتاب والسنة في المسائل الدينية التي يقع فيها الخلاف بين الفقهاء ، وأقوال الأئمة المعصومين تدخل في السنة ، لأنها روايات عن جدهم رسول الله (ص) ،

٣٦٢

أما طريقتهم فيما لا نص فيه من الكتاب والسنة فهي الرجوع الى حكم العقل البديهي القطعي الذي لا يختلف فيه اثنان ، مثل قبح العقاب بلا بيان ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وليس القياس من هذا الباب ، لأن نتائجه كلها ظنية ، والظن لا يغني عن الحق شيئا (١).

ومما استدل به الشيعة على بطلان القياس ان الأمور العرفية يصح قياس بعضها على بعض ، لأن أسبابها بيد العرف ، أما الأحكام الدينية فلا يصح فيها القياس ، لأن الشرع قد جمع بين المختلفات ، كما في موجبات الوضوء ، حيث سوّى بين النوم والبول ، وفرّق بين المجتمعات ، حيث أوجب قطع يد من سرق درهما ، دون من اغتصب مئات الألوف.

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قال صاحب مجمع البيان : «فما أبين هذا وأوضحه». ونقول : ما ألطف هذا التفسير وأحسنه. (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). أي ان اطاعة الله والرسول ، وإرجاع حكم المختلف فيه الى الكتاب والسنة أحمد عاقبة ومآلا ، هذا إذا فسرنا التأويل في الآية بالمال. وقيل : المراد به التفسير ، وعليه يكون المعنى ان تفسير الله والرسول لما تنازعتم فيه خير وأحسن من تفسيركم ، ومهما يكن ، فان لفظ التأويل يتحمل المعنيين.

يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت الآية ٦٠ ـ ٦٣ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى

__________________

(١) هذا ما عليه العمل اليوم عند علماء الشيعة ، ولكن الموجود في عهد علي أمير المؤمنين لمالك الأشتر ان الرد إلى الله في الآية هو الأخذ بالنص الصريح في كتاب الله ، والرد إلى رسول الله هو الأخذ بسنته التي أجمع المسلمون على نسبتها اليه.

٣٦٣

ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

اللغة :

الزعم في أصل اللغة القول حقا كان أو باطلا ، ثم كثر استعماله في الظن والاعتقاد اللذين يعتقد ببطلانهما ، أو يشك بصدقهما ، ولم يستعمل في القرآن الا في الكذب والباطل ، فمن استعماله في الباطل قوله تعالى : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) ـ ١٣٦ الانعام». ومن استعماله في الكذب قوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) ـ ٧ التغابن». والطاغوت مصدر ، وفيه مبالغة ، والمراد به هنا المبطل. والصدود الإعراض.

الاعراب :

كيف في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي كيف صنيعهم إذا أصابتهم مصيبة. وجملة يريدون حال ، ومثلها جملة وقد أمروا ، وجملة يحلفون. أما جملة ان أردنا الا إحسانا فجواب القسم. وفي أنفسهم متعلق ببليغ ، أي قل لهم قولا يؤثر في نفوسهم.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

٣٦٤

يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). ألم تر الخطاب للنبي (ص) بصيغة الاستفهام ، والمراد به التعجب من حال المنافقين الذين أبطنوا الكفر ، وأظهروا الإسلام والإيمان بالكتب السماوية ، ومحل التعجب انهم كذّبوا أنفسهم بأنفسهم ، حيث رفضوا التحاكم عند أهل الحق ، وانصرفوا عنهم الى أهل الباطل ، مع ان الإسلام يأمرهم بالابتعاد عن الضالين والمبطلين ، ولكن الواقع تغلب على التزييف والتمويه ، وأبطل ما كان يدعون.

قال صاحب مجمع البيان : تخاصم يهودي ومنافق من المسلمين ، فقال اليهودي : أحاكمك الى محمد ، لأنه علم ان محمدا (ص) لا يقبل الرشوة ، ولا يجوز في الحكم. فقال المنافق : بل بيني وبينك كعب الأشراف ـ يهودي ـ لأنه علم ان كعبا يأخذ الرشوة ، ويجور في الحكم.

ورغم علمنا بأن أكثر المفسرين لا يتثبتون في أسباب التنزيل ، وأنهم يتخذون من الحادثة سببا لنزولها ، رغم علمنا هذا فلا نرى مثالا يفسر المعنى المراد من الآية أوضح من هذه الحادثة التي ذكرها صاحب مجمع البيان .. رفض المنافق التحاكم الى الرسول (ص) ، لأنه يكفر به وبدينه ، أما اليهودي فانه يؤمن باليهودية ، ومع ذلك أبى التحاكم عند يهودي مثله ، وطلب التحاكم الى الرسول (ص) ، وهو كافر به وبدينه ، والسر هو المنفعة .. ولا تختص هذه الظاهرة باليهود ، فكل من نال خيرا من دين ، أو مبدأ فلا ينبغي الوثوق به ولا بدينه إلا بعد الابتلاء ، فان كثيرا من الناس يقبضون الألوف ، ويعيشون سعداء ، لا لشيء إلا لثقة الناس بإيمانهم وصلاحهم. وربما كانوا ممن ينطبق عليهم قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) ـ ١١ الحج».

وقال الإمام علي (ع) : الثناء بعد البلاء. وقال ولده الإمام الحسين (ع) : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت عليه معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون. وكان الرسول الأعظم (ص) يقول في السراء : «الحمد لله المنعم المفضل ، ويقول في الضراء : الحمد لله على كل حال». يشير الى انه مؤمن بالله راض بما قدّر ، حتى في هذه الحال ، تماما كالولد البار ، يبقى على إخلاصه لوالده ، حتى في حال تأديبه له.

٣٦٥

قال الإمام علي (ع) : لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على ان يبغضني ما أبغضني. وكان حفيده الإمام زين العابدين (ع) يقول فيما يقول إذا أصابته شدة : يا إلهي أي الحالين أحق بالشكر لك؟ وأي الوقتين أولى بالحمد لك؟ أوقت الصحة التي هنأتني فيها؟ أو وقت العلة التي محصتني بها؟ .. اللهم اجعل مخرجي من علتي الى عفوك ، وسلامتي من هذه الشدة الى فرجك.

(وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً). هذا دليل صريح على ان الشر من الشيطان ، لا من الرحمن .. وكل فكرة تدفع بك الى الشر تسمى شيطانا ، قال تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). وفي الحديث : «إذا قال لك الشيطان : ما أكثر صلاتك! .. فقل له : غفلتي أكثر. وإذا قال لك : ما أكثر حسناتك! .. فقل : سيئاتي أكثر. وإذا قال : ما أكثر من ظلمك! .. فقل : من ظلمته أكثر». وبديهة ان النفس هي التي تصور لصاحبها انه عابد ومحسن ومظلوم ، ولا ينخدع بأباطيلها هذه الا جاهل مغرور.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً). لأنهم لا يؤمنون بالله ولا برسوله ، ولا بشيء الا بالعاجل من أين أتى.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). وأعظم المصائب كلها على المنافقين أن ينكشف أمرهم ، ويفتضح سرهم أمام الملأ ، حيث يعرفون عند الناس بالخيانة والغدر والكذب والمكر والخداع والجبن والهوان.

(ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً). يأتون الرسول خاضعين خانعين يتعللون بالمعاذير ، والله يعلم ، ورسوله يعلم ، والناس يعلمون ان المنافقين لكاذبون ، وانهم يتخذون ايمانهم جنة ووقاية من الخزي والعقوبة.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ). أي تجاهل أمرهم ، فلا تقبل منهم عذرا ، لأنهم يستغلون قبولك هذا في أغراضهم ، ولا تعاقبهم ، لأنهم اعتذروا ولو ظاهرا (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً). كأن يأمرهم النبي (ص) بتقوى الله بأسلوب يشعرون معه بأنهم مخطئون ، وان عليهم أن يحاولوا تطهير أنفسهم بالانابة .. هذا هو مبدأ الإسلام في كل مجرم لا يعاجله بالعقوبة ، ولا يؤيسه

٣٦٦

من العفو ، بل يستنفد معه جميع الطرق الى إصلاحه : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ـ ٤٤ طه». وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) : الفقيه ، كل الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله ، ولم يؤيسهم من روح الله ، ولم يؤمنهم من مكر الله ، ومصدر هذه الحكمة قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ـ ٥٣ الزمر».

وما أرسلنا من رسول الا ليطاع الآية ٦٤ ـ ٧٠ :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

٣٦٧

اللغة :

الشجر معروف ، وشجر الأمر بين القوم ، وتشاجروا تنازعوا وتداخل كلام بعضهم ببعض ، مأخوذ من التفاف أغصان الشجر ، وتشابكها وتداخل بعضها ببعض. والحرج الضيق. والتثبيت التقوية وجعل الشيء ثابتا راسخا. والصديقين جمع صديق مبالغة في الصدق والمداومة عليه.

الاعراب :

من رسول (من) زائدة ، ويؤتى بها بعد النفي في مثل الآية لتأكيد العموم والاستغراق. واللام في ليطاع لام كي ، والمصدر المنسبك من ان المضمرة والفعل مجرور باللام متعلق بأرسلنا على معنى المفعول من أجله. وجملة جاءوك خبر أنهم ، والمصدر المنسبك من ان واسمها وخبرها فاعل لمحذوف ، والتقدير لو حصل مجيئهم. فلا وربك (فلا) أفادت هنا نفي ما سبق ، أي ليس الأمر كما زعموا ، ثم استأنف القسم. ويحكموك منصوب بأن مضمرة بعد حتى. وثم لا يجدوا معطوف على فعل مقدر ، أي فتقضي ثم لا يجدوا. وان اقتلوا (ان) مفسرة بمعنى أي. وقليل بالرفع على انه بدل من ضمير فعلوه ، ويجوز النصب على الاستثناء. وتثبيتا تمييز. واذن سبق اعرابها في الآية ٥٣ من هذه السورة. ورفيقا تمييز على معنى من رفيق ، ويجوز ان يكون حالا ، أي في حال المرافقة. وكفى بالله الباء زائدة ، ولفظ الجلالة فاعل .. وعليما تمييز.

المعنى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ). المراد بإذن الله أمره جل وعلا ، وتسأل : ان هذا الاخبار أشبه بتوضيح الواضح ، لأن اضافة الرسول الى الله تدل بذاتها على انه أرسل كي يطاع ، وإلا لم يكن للاضافة معنى ، فما هو القصد ، اذن من هذا البيان؟.

٣٦٨

الجواب : القصد إلقاء الحجة على المنافقين الذين عصوا الرسول ، ورفضوا التحاكم اليه .. ووجه الحجة ان الله سبحانه بيّن للمنافقين وغيرهم في هذه الآية ان معصية الرسول ليست معصية له بالذات ، وانما هي معصية لله ، حيث أبى إلا ان يجري الأمور على سننها : ومن هذه السنن أن يبلغ أحكامه لعباده بواسطة رسول منهم ، وعلى هذا فمن عاند الرسول فيما يبلغه من أحكام الله فقد عاند الله ، والى هذا المعنى يشير قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ). والنتيجة ان المنافقين ، وكل من يعصي الله مستحقون للعقاب لأنهم عصوا الله وخالفوه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً). ظلموا أنفسهم ، حيث عرضوها للعذاب والهلكة بما اقترفوا من ذنوب ، وظلموا الله أيضا بتجاوز حدوده ، وعصيان أوامره ، وظلموا النبي (ص) ، لأنهم رفضوا حكمه ، وارتضوا حكم الطاغوت ، وأظهروا له خلاف ما يضمرون.

وبالرغم من هذا كله فان الله قد فتح لهم باب التوبة ، وما عليهم إلا أن يلجوه ، ويطلبوا المغفرة ، فان فعلوا أدخلهم في رحمته ، وان استنكفوا فلا يجدون من دونه وليا ولا نصيرا.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) يتنافى مع مبدأ الإسلام الذي يرفض فكرة الوسطاء بين الله والناس؟.

الجواب : أجل ، لا واسطة بين الله وعباده ، ولكن فيما يعود الى حقوقه تعالى ، والتعدي عليها ، أما التعدي على حقوق الناس فالأمر اليهم ، والصفح عنها يطلب منهم ، لا من غيرهم .. والمنافقون قد آذوا الرسول ، وتعدوا على حقه فكان لا بد في توبتهم ان يظهروا الندم له ، ويطلبوا الصفح منه ، وكل من أظهرت له خلاف ما تضمر فقد ظلمته ، وتعديت على حقه ، بل لو علمت ان (فلانا) ظن بك وصفا حسنا ، وما هو فيك ، وعاملك وائتمنك على أساسه ، ثم تجاهلت وأغضيت ولم تلفت نظره ، وعلى الأقل تتهرب منه ، إذا كان كذلك فأنت ظالم له.

(حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، لأن جميع الأحكام التي تلّفظ بها محمد

٣٦٩

ليست منه ، وإنما هي من الله وحده ، والنبي لسانه وبيانه.

(ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). المعنى انهم لا يؤمنون ، حتى يعلموا علم اليقين ان حكمك هو حكم الله بالذات ، وان من ردّ عليك فعلى الله يرد .. ومحال أن يشعر المؤمن حقا بالضيق والحرج من حكم يعلم انه من عند الله .. أجل ، قد يريد بينه وبين نفسه أن يكون الأكل مباحا في شهر رمضان ـ مثلا ـ ، ولكنه مع ذلك يصوم ويمتنع عن الأكل خوفا من عذاب الله الذي هو أشد وأشق من الصيام ، وقد تغلبه نفسه على المعصية ، ولكنه يتألم ويتبرم منها ، ويلعنها ، لأنها استثقلت الحق .. وهذا عين الايمان.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ). ان دين الله سعة ويسر ، وخير وصلاح ، فلا يكلف أحدا فوق طاقته ، ولا بغير منفعته دينا ودنيا ، قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـ ٧٨ الحج». وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ـ ٢٤ الأنفال». وعليه فإن الله سبحانه لا يأمر بالخروج من الديار ، ولا بقتل النفس الا ما كان من الاسرائيليين لأمر استحقوا من أجله هذا القتل.

وتسأل : إذا كان الأمر كذلك فلا وجه لقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنه أمر بما لا يطاق؟.

الجواب : ان هذا مجرد فرض ، ولذا جيء ب (لو) التي تدل على امتناع شيء لامتناع غيره ، والغرض من هذا الفرض أن يبين الله سبحانه ان المنافقين لا عذر لهم إطلاقا في العناد والتمرد على أحكامه سبحانه ، حيث لا مشقة فيها ولا إرهاق ، بل هي رحمة لهم ، وسعة عليهم ، ومع هذا عصوا واستنكفوا.

وإذا استنكف المنافقون واضرابهم عن طاعته جل وعلا ، على ما فيها من سهولة ويسر فإن في صحابة الرسول (ص) من لو أمر بقتل نفسه لفعل ، والى هؤلاء أشار تعالى بقوله : (إِلَّا قَلِيلٌ) ومن هذا القليل ياسر وزوجته اللذان استشهدا في التعذيب من أجل الإسلام ، وولدهما عمار الذي قتلته الفئة الباغية يوم صفين ، وكان في مناجاته يخاطب الله ، ويقول : اللهم انك تعلم لو اني أعلم ان مرضاتك

٣٧٠

في ان أضع سيفي هذا في صدري ، وأنحني عليه ، حتى يخرج من ظهري لفعلت.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً). المراد بفعل ما يوعظون به اطاعة الله في أوامره ونواهيه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) ـ ٧١ الأحزاب». والمراد بالتثبت الثبات على الإيمان ، قال الإمام علي (ع) : «فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور الى أجل معلوم». وبهذا فسّر الامام الصادق قوله تعالى : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ـ ٩٨ الانعام».

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً). هذا بيان للخير في قوله سبحانه : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) وكل أجر الله وثوابه عظيم ، وان قل ـ ان صح التعبير ـ فكيف إذا وصفه هو بالعظمة.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). هذه الآية تأكيد للآية السابقة ، وترغيب في الايمان والصلاح الذي يجعل صاحبه رفيقا للنبيين والشهداء والصالحين.

من هم الصديقون؟

قال الشيخ محمد عبده : «الصديقون هم الذين زكت فطرتهم ، حتى أنهم يميزون بين الحق والباطل ، والخير والشر بمجرد عروضه عليهم».

وهذا القول قريب من قول الصوفية بأن الإنسان إذا جاهد نفسه وروّضها أدركت الحق تلقائيا من غير تعلم.

والأليق بالواقع أن نفسر الصديقين بالأئمة المعصومين الكاملين في أنفسهم المكلمين لغيرهم ، لأن الله سبحانه قد جعلهم في المرتبة الثانية من النبيين بلا فاصل ، وهذه المرتبة لن تكون أبدا لمن يجوز عليه الخطأ ، لان من جاز عليه الخطأ لا يكون مكملا لغيره كمالا حقيقيا ، بل يحتاج الى كامل حقيقي يرده عن خطأه ، وهذا الكامل هو المعصوم ، وبتعبير ثان ان الصادق على نوعين :

٣٧١

الأول أن لا يتعمد الكذب ، ولكن يجوز عليه الخطأ والاشتباه ، كمن يخبر بشيء ، وهو يؤمن بصدق ما اخبر ، ثم يتبين ان خبره غير مطابق للواقع ، فيكون هو صادقا في قصده ، وخبره كاذبا .. وهذا كثيرا ما يحدث.

النوع الثاني : ان لا يتعمد الكذب ، ولا يجوز عليه الخطأ ، بحيث لا يخالف قوله الواقع بحال ، وهذا هو المراد بالصديقين ، وبأولي الأمر في الآية ٥٩ من هذه السورة ، وعند تفسير هذه الآية ، فقرة «من هم أولو الأمر» ذكرنا الدليل من الكتاب والسنة على ان أهل البيت (ع) معصومون لا يجوز عليهم الخطأ والاشتباه. وعلى هذا يكون المراد بالصديقين في الآية ٦٩ ، وأولي الأمر في الآية ٥٩ هم أهل البيت.

وأيضا قال الشيخ محمد عبده : «ان المراد بالشهداء هنا أهل العدل والانصاف الذين يؤيدون الحق بالشهادة لأهله بأنهم محقون ، ويشهدون على أهل الباطل بأنهم مبطلون».

وهذا تأويل لظاهر اللفظ من غير دليل. فان المفهوم من الشهداء انهم الذين قتلوا في سبيل الله والحق .. أجل ، جاء في الحديث ان مداد العلماء كدماء الشهداء ، وان من مات دون ماله ، أو تمنى الاستشهاد في سبيل الحق مات شهيدا ، أي له ثواب الشهيد. وبديهة ان الشهيد شيء ، ومن له منزلته شيء آخر.

أما الصالحون فهم الذين صلحت عقائدهم وأعمالهم ، قال الامام علي (ع) : بالايمان يستدل على الصالحات ، وبالصالحات يستدل على الايمان». وليس من شك ان المعرفة بحلال الله وحرامه اجتهادا أو تقليدا شرط أساسي في الصلاح ، لأن الجهل يفسد الاعتقاد والعمل.

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ). أجل ، ان مرضاة الله ، ورفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي السعادة الحقة ، والفضل الدائم ، لا هذا المتاع الزائل.

٣٧٢

خذوا حذركم الآية ٧١ ـ ٧٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

اللغة :

للنفر معان كثيرة ، والمراد به هنا الخروج للحرب. والثبات بضم الثاء جمع ثبة. وهي الجماعة المنفردة ، والتبطئة من الإبطاء ، والمراد بها هنا الحمل على البطء والتأخر. والمراد بالشهيد الحاضر.

الإعراب :

ثبات حال من الواو في (انفروا) ومثله جميعا. واللام في (لمن) للابتداء دخلت على اسم ان واللام في (ليبطئن) جواب قسم محذوف ، أي اقسم ان منكم لمن ليبطئن ، والقسم وجوابه صلة لمن. وكأن للتشبيه ، وهي مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، أي كأنه. وجملة لم يكن خبر ، وجملة كأن مع اسمها وخبرها لا محل لها من الإعراب ، لأنها معترضة بين قوله تعالى : (لَيَقُولَنَّ) ومفعول القول ، وهو (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ). ويا للتنبيه ، وليست للنداء ، والمنادى محذوف ، كما قيل. وفأفوز منصوب بأن مضمرة بعد

٣٧٣

الفاء ، والمصدر المنسبك معطوف على مصدر متصيد من معنى ليتني كنت معهم ، أي ليت كان لي الحضور معهم فأفوز.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ). هذه الآية من آيات الحث على الجهاد ، وسبق منها كثير ، وما يأتي أكثر ، ولكن هذه الآية توجب النفير العام ، وحشد الأمة كلها الى الحرب ، ان أحوج الحال .. وان دل هذا الاهتمام على شيء فإنما يدل على ما كان للإسلام من أعداء ، يدبرون له المكائد والمصائد ، وما للمسلمين من خصوم يناصبونهم ويفتنونهم عن دينهم .. والى اليوم يقاسي الإسلام والمسلمون الكثير من أهل الكفر والطغيان ، فمن الطبيعي ـ اذن ـ ان يحث الله سبحانه المسلمين على الحذر والتعرف على قوة العدو والاستعداد له بسلاح أمضى وأقوى.

(فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً). انفروا أمر بالخروج للحرب ، وثبات أي فصائل وفرقا من الجنود المتخصصين للقتال ، وجميعا أي جيشا وشعبا ، حسبما تقتضيه الحال. والقصد هو الاستعداد لمجابهة العدو ، وحشد جميع الطاقات والقدرات ، واستنفاد كل وسيلة لردعه عن البغي والعدوان ، حتى ولو أدى الدفاع الى تطوع الأمة كلها للحرب كبارا وصغارا ، رجالا ونساء. قال العلامة الحلي في التذكرة : «لو أحوج الحال الى الاستعانة بالنساء

وجب».

الحرب بين الأمس واليوم :

كانت الحرب فيما مضى بالرجال ، وتعبئة الجنود والكتائب ، أما اليوم فقد أصبح العلم قوة في كل ميدان ، وحوّل السيف والرمح ، وغيرهما من أدوات الحرب الى صواريخ موجهة ، وقاذفات القنابل ، وغواصات نووية ، ودبابات برمائية ، وحاملات طائرات ، وغازات سامة ، ومخترعات للتجسس جوا وبرا

٣٧٤

وبحرا (١) .. الى ما لا يعلمه إلا الله والراسخون في علم التخريب والتدمير.

ولم يكتف تجار الحروب بتوجيه العلم ، وعبقرية العلماء الى اختراع آلات الخراب والدمار ، حتى أنشأوا معاهد للتخصص بعمليات التخريب ، وتدبير المؤامرات والانقلابات ، وإيقاظ الفتن والأحقاد ، واشاعة الفوضى والجرائم ، ووضع الخطط لانتشار الخوف والرعب وانهيار الأعصاب ، والاستخفاف بالأخلاق والقيم ، والايمان بالأساطير والخرافات .. الى كل ما يمهد لسيطرة القوي على الضعيف ، وعبودية المتخلف للمتقدم.

هذا هو نوع السلاح الذي يحاربنا به عدو الدين والانسانية .. فبأي شيء نتقي شره وعدوانه؟. أبالسباب والشتائم ، أو بالندب والبكاء ، أو بالمشاحنات والخلافات؟ لا شيء ـ ونحن الآن على ما نحن ـ الا ان نعرف من هو عدونا؟ وما هي مقدرته؟. ونحذر منه ومن أساليبه وألاعيبه ، ولا نطمئن اليه في شيء ، وأن نتعلم من أخطائنا ، ونتحرر من الخونة ، ونعمل جاهدين يدا واحدة على تقويتنا في شتى الميادين ، وبهذا نستطيع أن نقف في وجه العدو .. وعلى الأقل لا يصل بنا الأمر الى الحد الذي وصلنا اليه الآن.

لقد سحق شعب فيتنام الأعزل رؤوس الأمريكيين ، على رغم ما يحشدونه من قوى ، وينفقونه من ملايين الدولارات. وقبل فيتنام تحررت كوبا من امريكا ، وهي أقوى دول العالم على الإطلاق .. والآن تأسر كوريا الشمالية سفينة التجسّس بيبلو ، ولا تستطيع أمريكا أن تبدي حراكا .. والسر ـ فيما نعتقد ـ ان هذه الشعوب قد وعت مصالحها ونظمت صفوفها ، وتلافت أخطاءها ، فضربت على أيدي الخونة ، وأبعدتهم عن القيادة ومركز القوة ، وآمنت بحقها ومبادئها ، واستهانت بالحياة في سبيلها. ولا يمكن لقوى العالم مجتمعة أن تقهر شعبا منظما واعيا فيتناميا كان ، أو عربيا ، والفرق في الأوضاع ، لا في الطباع ، وفي الوعي والصلابة فيما يؤمن ويعتقد.

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ). يشير سبحانه الى الطابور الخامس الذي يندس

__________________

(١) يدور الآن ٤٠ قمرا صناعيا حول الأرض بحجة بحوث الفضاء ، ومهمتها في الواقع التجسس ، ولامريكا وحدها ٣٠ سفينة للتجسس ، وألفا محطة على الأرض للغاية نفسها.

٣٧٥

في صفوف الطيبين بقصد التخريب والتثبيط عن مقاومة العدو.

وتسأل : ان (منكم) خطاب للمؤمنين ، والمنافقون أبعد الناس عن الايمان ، فكيف ساغ جعلهم من المؤمنين؟.

الجواب : لأنهم معدودون من المؤمنين في الظاهر ، ويعاملون معاملتهم ، تماما كمن يحمل جنسية بلد ، وهو عميل لمن يستعمره ويستغله ، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان.

(فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً). هذا القول حكاية لحال المنافق الذي كان يفرح ويغتبط إذا هزم المسلمون في معركة لم يشهدها معهم .. وكل من فرح بسلامته من البلاء الذي أصاب إخوانه في سبيل الله ، والجهاد لإعلاء كلمة الدين فهو منافق.

وتسأل : ان قوله : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ) اقرار منه بوجود الله ، فكيف ساغ جعله من المنافقين؟.

الجواب : انه نافق بإظهار الإسلام والإيمان بمحمد (ص) ، وإضمار الكفر بنبوته ، وهذا لا يتنافى مع الإقرار بالخالق ، فما كل من آمن بالله آمن بمحمد (ص) ، وقد أخبر الله ان من الناس من يؤمن به ، وفي الوقت نفسه يؤمن بغيره ، أو بمن يقربه اليه زلفى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ـ ١٠٦ يوسف».

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً). بعد أن أخبر سبحانه ان المنافق يفرح بتخلفه عن المسلمين إذا هزموا ونكبوا أخبر انه يندم على ترك الغزو معهم إذا انتصروا وغنموا .. وبديهة ان من هذا شأنه فليس من المسلمين في شيء ، ولو كان مسلما كما يدعي ، ويظهر المودة بينه وبين المسلمين لشعر بأن خيرهم خيره ، وشرهم شره ، واشتهر الحديث عن رسول الله (ص) : ان المسلمين كأعضاء الجسم الواحد ، وكالبنيان يشد بعضه بعضا ، وان من لم يهتم بأمورهم فليس منهم.

٣٧٦

الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة الآية ٧٤ ـ ٧٦ :

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

اللغة :

يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، أي يبيعونها بالآخرة ، كما في قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٠٢ بقرة».

الإعراب :

ومن يقاتل (من) اسم شرط في موضع رفع على الابتداء ، وخبرها جواب الشرط ، وهو فسوف نؤتيه و (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) عطف على فليقاتل. وما لكم مبتدأ وخبر. وجملة لا تقاتلون حال ، أي ما لكم تاركين القتال. والمستضعفين عطف على سبيل الله بحذف مضاف ، والتقدير وفي خلاص المستضعفين من الكفار. والذين عطف بيان للرجال والنساء والوالدان. والظالم صفة للقرية. وأهلها فاعل لظالم ، وجاز وصف المؤنث ، وهو قرية بالمذكر ، وهو الظالم.

٣٧٧

لأن الوصف إذا كان عاملا عمل الفعل يلحظ في تذكيره وتأنيثه الاسم المعمول له ، وأهلها مذكر ، لا مؤنث.

المعنى :

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ). يشرون ، أي يبيعون. واحسن ما قيل عند تفسير هذه الآية ما يلي :

«ان الإسلام لا يقاتل على الأرض ، ولا للاستيلاء على السكان ، لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات ، والأسواق للمنتجات ، أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات ، انه لا يقاتل لمجد شخص ، ولا لمجد بيت ، أو طبقة ، أو دولة ، أو أمة ، أو جنس ، انما يقاتل في سبيل الله. لإعلاء كلمة الله في الأرض ، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة ، ولتمتيع البشرية بهذا المنهج ، وعدله المطلق بين الناس ، مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يتمتع بها».

وتمنيت ، وأنا أقرأ قوله ، (لا يقاتل الإسلام ليجد الخامات للصناعات) ان يعطف عليه هذه الجملة : ولا ليشحم المعامل والفبارك بدماء الأحرار والنساء والأطفال.

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). كل من ناصر الحق لوجه الحق ، وامتثالا لأمر الله وحده فهو مشكور ومأجور ، سواء انتصر وغنم ، أو غلب وهزم .. واتفق المؤرخون على اختلاف نزعاتهم ان السر في انتشار الإسلام هو عقيدة النبي (ص) والصحابة بأنهم الرابحون على كل حال ، مقتولين أو قاتلين ، فإن تكن الأولى فالمصير الى الجنة ، وان تكن الثانية فقد علت كلمة الحق ، وهذا ما يبغون .. بالاضافة الى اعتقادهم بأن أجلهم إذا جاء لا يستأخرون ساعة ، ولا يستقدمون .. ومتى بلغ معتقد المرء هذا المبلغ لم يقف في وجهه حاجز.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ).

٣٧٨

هاجر النبي (ص) من مكة الى المدينة ، وهاجر معه من استطاع من المسلمين ، وبقي فيها من عجز عن الهجرة ، وفيهم رجال ونساء وأطفال ، وكانوا يلقون من المشركين أذى شديدا من أجل دينهم ، ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، ولا يجدون معينا ، ومن أجل هذا وصفهم سبحانه بالمستضعفين ، ولما تقطعت بهم الأسباب لجأوا الى الله ، وهم يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ـ أي مكة ـ : (الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).

وقد جعل الله من محنة المستضعفين سبيلا لحث المسلمين على الجهاد لخلاص إخوانهم في الدين.

وبقي جماعة من المستضعفين بمكة الى عام الفتح ، حيث دخل الرسول المسجد الحرام منتصرا ، واستسلم صناديد الشرك ، وتحطمت الأصنام ، وعلت كلمة الإسلام ، ومنّ الله على الذين استضعفوا في مكة ، وصاروا أعز أهلها.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ). أمر سبحانه المؤمنين في الآية ٧١ أن ينفروا ويخرجوا للحرب سرايا أو كافة ، وفي الآية ٧٤ أمرهم بالقتال في سبيل الله ، وفي الآية ٧٥ بالحث على خلاص المستضعفين .. وقسم في هذه الآية المقاتلين الى مؤمنين يقاتلون من أجل الحق والعدل ، والى كافرين يقاتلون من أجل السيطرة والسلب والنهب ، وهؤلاء هم أولياء الشيطان .. وقد أمر الله المؤمنين بجهادهم ، وإعلان الحرب عليهم ، وعدم مهادنتهم بحال ، لأن قتالهم خير وصلاح للانسانية ، ومهادنتهم شر وفساد.

والخلاصة ان الآيات التي أشرنا اليها وغيرها الواردة في القتال كلها تهدف الى شيء واحد ، الى الصلابة والثبات في جهاد المبطلين والمستغلين ، ولا تختلف آيات الجهاد إلا بالاسلوب والتعبير .. «عباراتنا شتى وحسنك واحد».

(فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). وتسأل : ان المعنى الظاهر من هذه الآية ان المحقين ينتصرون دائما على أهل الباطل .. والعكس هو الواقع في أغلب الأحيان ، فما هو السر؟.

وسبق نظير هذا السؤال مع جوابه مفصلا عند تفسير الآية ١٣٧ من سورة

٣٧٩

آل عمران ، فقرة نكسة حزيران ، ونجيب هنا بأسلوب آخر ، استوحيناه من خطبة للإمام (ع) في نهج البلاغة بعنوان «من خطبة له عليه السلام في المكاييل والموازين». وخلاصة الجواب ان الحشرة السامة لا تحيا وتنمو إلا في القذارة والأوساخ .. وهكذا الشيطان لا يجد منفذا لكيده إلا حيث يفسد المجتمع ، فهنا تقوى عدته ، وتمتلئ شباكه ، ويظهر من قول الامام ان مهمة إبليس تنجح ، حيث يكون في المجتمع فقراء بائسون ، وأغنياء متمردون ، وهذا ما قاله بالحرف : «هذا أوان فيه قويت عدة الشيطان ، وعمت مكيدته ، وأمكنت ـ أي سهلت ـ فريسته ، اضرب بطرفك ، حيث شئت من الناس ، فهل تبصر الا فقيرا يكابد فقرا ، أو غنيا بدّل نعمة الله كفرا ، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا ، أو متمردا كأنّ باذنه عن السمع وقرا ، أين خياركم وصلحاؤكم؟. وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم ، والمتنزهون في مذاهبهم ـ الى ان قال ـ أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ، وتكونوا أعز أوليائه عنده .. لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به».

كفوا أيديكم وأقيموالصلاة الآية ٧٧ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧))

٣٨٠