التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها). رأينا لهذه الآية أربعة تفاسير متناقضة ، وأرجحها فيما نرى تفسير الشيخ محمد عبده ، ويتلخص بأن الطمس كناية عن أن الله سبحانه يعمي عليهم السبيل ، بحيث لا يستطيعون التوجه الى مقاصدهم ، تماما كالذين يردّون الى الوراء كلما أرادوا التقدم الى الأمام.

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ). وأصحاب السبت قوم من اليهود حرفوا الدين ، وتعدوا حدود الله ، فخذلهم وانتقم منهم في الدنيا قبل الآخرة ، وتعرضنا لهم في تفسير الآية ٦٥ من سورة البقرة ص ٢٢٠ من المجلد الأول. وفي هذه الآية هدد الله خلفهم بأنهم إذا لم يرتدعوا عن الضلال والإضلال والتحريف فانه تعالى يخذلهم ، كما خذل أسلافهم .. وفي كثير من التفاسير ، ومنها تفسير الرازي ومجمع البيان والبحر المحيط قرأت جملة انقلها بالحرف ، وهي «عندنا انه لا بد من طمس أو مسخ في اليهود قبل قيام الساعة» .. اللهم آمين رب العالمين. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) لا رادّ لحكمه ، ولا ناقض لأمره الذي يقول للشيء كن فيكون .. اللهم عجل هذا الأمر الذي يجعل دينك الأعلى ، وحزبك الأقوى.

ان الله لا يغفر ان يشرك به الآية ٤٨ ـ ٥٠ :

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))

اللغة :

أفترى فلان الكذب اختلقه. الفتيل ما كان في شق النواة ، والنقير النقطة

٣٤١

التي في ظهر النواة ، والقطمير القشرة الرقيقة على النواة ، وكل واحد من هذه يضرب مثلا للشيء التافه الحقير.

الاعراب :

اثما مفعول مطلق لافترى ، لأن الافتراء معناه الإثم ، فهو مثل جلست قعودا. وفتيلا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي لا يظلمون ظلما مقدار فتيل ، وقال صاحب مجمع البيان هو مفعول ثان مثل ظلمته حقه ، وهو اشتباه ، لأن الظلم في مثاله وقع على الحق بالذات ، لا على نظيره ، أما في الآية الكريمة فالمراد به انه لم يقع على نظير الفتيل لا على نفس الفتيل. وكيف محل نصب على الحال ، والعامل فيه يفترون. وجملة يفترون محل نصب مفعول انظر. وكفى به الباء زائدة ، والهاء راجعة الى الافتراء ، وهو مصدر متصيد من يفترون ، والتقدير وكفى الافتراء. واثما تمييز بمعنى من اثم.

المعنى :

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وقبل الشروع بتفسير الآية نمهد بأمرين يتصلان بها اتصالا وثيقا :

١ ـ ينقسم الشرك الى نوعين : شرك في الألوهية ، كمن يعتقد بتعدد الخالق والرازق. وشرك في الطاعة ، كمن يؤمن بإله واحد نظريا ، ولكن يطيع المخلوق في معصية الخالق. والكفر أيضا على نوعين : كفر في الألوهية وجحودها من رأس. وكفر في الطاعة ، كمن يؤمن بإله واحد ، ثم يعصيه تهاونا ، ومنه كفران النعم ، وعدم شكر المنعم. والمراد بالشرك في الآية النوعان الأولان من الشرك والكفر ، أي الايمان بتعدد الآلهة ، وعدم الايمان بشيء إطلاقا.

٢ ـ إذا ورد كلام عام يحكم حكما ايجابيا على عديد من الأفراد ، وورد

٣٤٢

أيضا كلام خاص ينفي حكم الخاص عن بعض الأفراد التي تناولها العام ، وكان الكلامان من مصدر واحد ، ان كان الأمر كذلك وجب حمل العام على الخاص ، أي استثناء ما دل عليه الخاص مما دل عليه العام ، وللتوضيح نضرب هذا المثال : قال تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). فقد دلت الآية على ان كل سارق تقطع يده ، حتى أيام المجاعة ، ثم جاء الحديث الشريف يقول : «لا يقطع السارق في عام مسنت» أي مجاعة ، فوجب ، والحال هذه ، أن نقيد آية السرقة العامة بحديث المجاعة ، والحكم بأن كل سارق يقطع الا أيام المجاعة.

وبعد ان تمهد معنا هذا نقارن بين ثلاث آيات ، ومن نتيجة المقارنة يتضح المراد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ).

جاء في الآية ٥٣ الزمر : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). فلفظ هذه الآية عام ، ومعناها واضح ، وهو ان الله يغفر كل ذنب ، حتى الشرك ، ولكن آية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لفظها خاص ، ومعناها واضح أيضا ، وهو ان الله لا يغفر الشرك ، فوجب استثناء المشرك من آية الزمر جمعا بين الآيتين ، ثم جاءت آية ثالثة تقول : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ـ ٨٢ طه» ، فهذه الآية أخرجت التائب من آية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ) تماما كما أخرجت هي المشرك من آية الزمر.

فتحصل معنا من مقارنة الآيات الثلاث ، وعطف بعضها على بعض ان من تاب من الشرك غفر الله له ، لأنه كفّر عن ذنبه ، وان من مات على الشرك فلا نجاة له ، لأنه فوّت الفرصة على نفسه ، ولأن الصفح عنه إغراء بالشرك والخضوع لغير الحق والعدل .. هذا ، الى ان العفو عن المشرك ، معناه ان الله يقول لمن أساء : أحسنت .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) يشعر بأن أي ذنب ـ غير الشرك ـ يرتكبه الإنسان يجوز أن يغفره الله قبل التوبة ، لأن غفران الذنب مع التوبة ثابت بنص الكتاب والسنة ، فيختص قوله : (يَغْفِرُ) بالمؤمن المذنب غير التائب .. وبكلمة ان الآية تدل على ان الصفح عن ذنب المؤمن لا

٣٤٣

ينحصر بالتوبة فقط ، بل قد يصفح الله عن ذنوب المؤمنين ، دون أن يتوبوا؟.

الجواب : اتفق المسلمون على أن من مات على توبة قبل الله منه للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، واختلفوا في المسلم المذنب إذا مات قبل التوبة.

قال الخوارج : هو مخلد في النار ، تماما كالكافر ، سواء أكان ذنبه كبيرا أم صغيرا.

وقالت طائفة من المرجئة : هو في الجنة من غير عقاب ، إذ لا يضر مع الايمان معصية ، ولا ينفع مع الكفر طاعة بزعمهم.

وقال الشيعة والسنة : لا يخلد في النار ، ويترك ذنبه لمشيئة الله ، فإن شاء غفر ، وادخله الجنة منذ اللحظة الأولى ، وان شاء عذّبه بمقدار ما يستحق ، ثم أدخله الجنة.

والذي نراه نحن لا يختلف كثيرا عن قول السنة والشيعة ، ونقرره بهذا الأسلوب : ان الله سبحانه لا يشاء الغفران عبثا ، ومن غير حكمة تستدعيه ، والحكمة الموجبة للغفران لا تنحصر بالتوبة ، فقد تكون الشفاعة ، أو غيرها ، وليس من الضروري أن نعلمها بالتفصيل ، بل يكفي العلم بأن الله حكيم وكفى. وعليه فلا مانع في نظر العقل أن يغفر الله ذنوب المؤمن ، وان لم يتب .. وسبق منا كلام يتعلق بهذا البحث عند تفسير الآية ٨١ من سورة البقرة ، فقرة مرتكب الكبيرة ص ١٣٩ من المجلد الأول.

دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة :

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً). لأنه آمن بالمستحيل. ومن الأدلة على ان الله واحد انه لو وجد إلهان : فلا يخلو : إما أن يكون أحدهما قادرا على تدبير العالم ، واما ان لا يكون ، فان كان قادرا كان وجود الثاني عبثا ، ولزوم ما لا يلزم ، وان لم يكن قادرا فلا يصلح للالوهية ، لعجزه من جهة ، وعدم الفائدة من وجوده من جهة ثانية.

وخير الأدلة كلها ما استدل به سبحانه على وحدانية ذاته بذاته ، حيث

٣٤٤

قال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ـ ٢٢ الأنبياء». أي لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله لما استقامتا ، ولفسد من فيهما وما فيهما ، ولم ينتظم أمر من الأمور. ذلك انه لو وجد إلهان لكان كل منهما قادرا ، ومن شأن القادر أن يكون مريدا ضد ما يريده الآخر ، وعليه فإذا أراد أحدهما خلق شيء ، وأراد الآخر خلافه ، فاما أن يحصل مرادهما معا ، فيلزم اجتماع الوجود والعدم ، وهو محال ، واما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر ، فيكون هذا الآخر عاجزا ومغلوبا على أمره .. وبديهة ان العاجز لا يكون إلها.

وفي الآية ٩١ المؤمنون : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). ومن الأمثلة الشائعة «حصانان لا يربطان على معلف واحد».

وقال علي أمير المؤمنين لولده الحسن (ع) : «واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ورأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته».

وتسأل : هل القول : ان الله واحد ، ولكنه ذو أقانيم ثلاثة : أب وابن وروح القدس هو من باب التوحيد ، أو من باب تعدد الآلهة؟.

الجواب : ان هذا يتوقف على بيان المراد من الأقانيم ، فان أريد منها الصفات كالرحمن والرحيم فهو من التوحيد ، وان أريد منها الشخص فهو من التعدد .. وقال سعيد الخوري الشرتوني في أقرب الموارد : «أقانيم جمع أقنوم ، ومعناه الأصل والشخص». وعلى هذا يكون من تعدد الآلهة ، لا من التوحيد ، ويؤيده ان لفظ الأب والابن ، يستدعيان التعدد والتغاير في الشخص والذات .. بالاضافة الى ان الصور والتماثيل في المعابد الخاصة للسيدة العذراء (ع) تعبر بوضوح عن التعدد ، لأنها تحمل بين يديها طفلا يرمز الى السيد المسيح (ع).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ). قال المفسرون : نزلت هذه الآية في اليهود ، وسواء أكان غرور اليهود هو السبب لنزول هذه الآية ، أو لم يكن فإنها أصدق صورة عن مزاعمهم وادعاءاتهم التي لا مثيل لها في الكذب والافتراء ، مثل قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا.

٣٤٥

وقولهم : نحن شعب الله المختار ، أي ان الله لهم وحدهم ، وانه خلق الناس جميعا عبيدا لهم .. ولم يكتفوا بهذا ، حتى دفعهم الجهل والغرور الى القول : ان الله فقير ونحن أغنياء.

أجل ، لا أحد أغنى وأقدر منهم إطلاقا على الاختلاق ، والتمويه ، والتزوير ، فبالأمس القريب أشاعوا وأذاعوا ، وملأوا الشرق والغرب صراخا وعويلا ان العرب يعدون العدة للهجوم عليهم ، في حين كانوا ومن يساندهم من دول الاستعمار يبيتون المكر والغدر ، ويدبرون عملية الاغتيال والهجوم على العرب ، وبعد أن أحكموا الخطة نفذوها على حين غرة ، واقترفوا من المظالم والمآثم ما أنسى الناس أعمال هتلر وجنكيز خان.

هذه صورة مصغرة من مزاعم اليهود ، ذكرناها على سبيل المثال ، لا الحصر والإحصاء .. وهل تحصى مزاعم إسرائيل الكاذبة ، وفضائحها الآثمة؟.

وتسأل : إذا كانت هذه هي حال إسرائيل فكيف استطاعت أن تقيم دولة مضى عليها أكثر من عشرين عاما حتى الآن؟.

الجواب : ان دول الاستعمار هي التي صنعت إسرائيل لحماية مصالحها في الشرق ، وليس لليهود من الدولة الا الاسم ، أما بقاؤها الى اليوم فلبقاء الاستعمار الذي ضرب عليها خيمة من الأوكسجين .. وهو في طريقه الى الزوال ، وان طال الزمن ، وبديهة ان صنيع الشيء يزول بزواله.

وان سألت كيف سلّط الله الطغاة الكافرين على عباده الموحدين تجد الجواب في فقرة «نكسة ٥ حزيران» عند تفسير الآية ١٣٨ من سورة آل عمران.

(بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ). لا من يشهد لنفسه بنفسه ، وبديهة ان الله سبحانه لا يزكي الا من تشهد له أفعاله بالتزكية .. والآية ، وان نزلت في اليهود ، فإنها تشمل كل من يزكي نفسه ، لأن اللفظ عام ، والعبرة بعموم اللفظ ، لا بسبب النزول .. وقد أثبتت التجارب ان ما من أحد يزكي نفسه الا لجهله وغروره ، أو لنقص فيه يحاول إخفاءه ، ولكن بشهادة غير مقبولة ، حتى عند نفسه لأنه يعلم كذبها.

٣٤٦

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بقولهم : نحن شعب الله المختار .. وأبناء الله وأحباؤه. وما إلى ذلك. (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى).

يؤمنون بالجبت والطاغوت الآية ٥١ ـ ٥٢ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢))

اللغة :

الجبت يطلق على معان ، والمراد به هنا معبود غير الله. والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان ، مثل رحموت بمعنى الرحمة.

الإعراب :

سبيلا تمييز ، والعامل فيه أهدى. مثل أحسن منه قولا.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ). وصف الله سبحانه اليهود في الآيات السابقة بالضلال والإضلال والتحريف واللي في الكلام ، وتزكية النفس كذبا وافتراء ، ثم وصفهم في هذه الآية بأنهم (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أي بالأصنام التي يعبدها قريش.

٣٤٧

وتسأل : كيف قال سبحانه عن اليهود انهم (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) مع العلم بأنهم لا يعترفون بأصنام قريش؟.

الجواب : أجل ، ان اليهود لا يعترفون بأصنام قريش بينهم وبين أنفسهم ، ولكنهم اعترفوا بها دجلا ونفاقا ، وتعصبا وعنادا لمحمد (ص) ومن آمن به ، وقالوا لعبدة الأصنام : أنتم أهدى سبيلا من المسلمين .. وكان الأولى باليهود أن يناصروا المسلمين على عبدة الأصنام ، لأن المسلمين أهل كتاب ، ويعترفون بالتوراة على العكس من عبدة الأصنام ، فلما خالف اليهود الحق ووقفوا مع المشركين وصفهم الله تعالى بأنهم كعبدة الأوثان (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ).

وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً). أي ان اليهود قالوا : المشركون أهدى سبيلا من المؤمنين ، فالجواب عن السؤال موجود في الآية نفسها.

وبهذا يتبين ان : (هؤُلاءِ) اشارة الى عبدة الأوثان ، وان اللام في (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) للتعليل ، أي ان اليهود قالوا من أجل إرضاء الذين كفروا ، وهم مشركو قريش ، ولم يقولوا ذلك ايمانا منهم بما قالوا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ). وهم اليهود الذين نافقوا وصدقوا بالأصنام تعصبا وعنادا للمسلمين المصدقين بنبوة أنبيائهم ، كموسى وداود وسليمان ، ويحيى وزكريا.

(وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً). الا أميركا التي سلحت إسرائيل ، وساندتها يوم ٥ حزيران ، ودافعت عنها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن دفاعا لا ينساه كل عربي مخلص ، ولا مسلم مؤمن ، مهما طال الزمن .. ونحن على ما بنا من جراح نؤمن ايمانا لا ريب فيه بأن الله وحده هو الناصر القاهر ، وان العاقبة في النهاية للحق والعدل ، وما على طلابه الا أن يصبروا ولا يتعجلوا الوصول ، ويصمدوا ولا يهابوا سلاح العدو أيا كان .. وبالتالي أن يستفيدوا من التجارب.

٣٤٨

لا يؤمنون الناس نقيرا الآية ٥٣ ـ ٥٥ :

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

اللغة :

النقير نقرة في ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة.

الإعراب :

أم حرف عطف ، وتستعمل في معنيين : الأول المعادلة ، نحو أزيد عندك ام بكر؟ أي أيهما عندك؟ وتسمى المتصلة. المعنى الثاني الاضراب عما قبلها ، نحو انها لإبل أم شاء ، أي بل شاء ، وتسمى منقطعة ، وأم هنا للاضراب بمعنى بل. واذن حرف جواب وجزاء ، وتنصب المضارع بثلاث شروط أن تقع في صدر الكلام ، وان لا يفصل بينها وبين الفعل فاصل ـ ولا يضر الفصل بالقسم ولا النافية ـ وان يكون الفعل للاستقبال لا للحال. وإذا سبقها حرف العطف جاز فيها الإهمال والاعمال ، وهي هنا مهملة لتقدم الفاء عليها ، ويجوز إعمالها. وسعيرا تمييز.

٣٤٩

المعنى :

ما زال الكلام عن اليهود ، فقد وصفهم الله سبحانه في الآية ٤٤ بالضلال والإضلال ، وفي الآية ٤٥ بعدائهم المؤمنين ، وفي الآية ٤٦ بتحريف الكلام واللي فيه ، وفي الآية ٤٩ بتزكيتهم لأنفسهم ، وفي الآية ٥٠ بالافتراء ، وفي الآية ٥١ بالعناد والتعصب ، وتفضيل عبدة الأصنام دجلا ونفاقا على الموحدين ، ثم وصفهم سبحانه بالبخل في هذه الآية :

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً). والمعنى ان اليهود ليس لهم دولة وملك ، ولو كان لهم نصيب من السلطان لاحتكروا جميع الخيرات ، ولم يتركوا لأحد شيئا ، حتى ولو كان مقدار النقير الحقير .. وصدق الله العظيم ، ونبوءة القرآن الكريم ، فقد كانوا ، وما زالوا لا يطيقون نعمة الله على عبد من عباده ، فإن استطاعوا انتزاعها منه بالدس والمؤامرة ، أو بالربا ، أو بالإغراء ببناتهم ونسائهم فعلوا ، وان كان لهم شيء من القوة سلبوا ونهبوا وأجروا الدماء نهرا ، فمن اليوم الذي اغتصبوا فيه أرض فلسطين سنة ١٩٤٨ أخرجوا أهلها من ديارهم بعد أن أقاموا مذابح للنساء والأطفال في أكثر من مكان .. وفي سنة ٦٧ قامت إسرائيل بمساندة الاستعمار بعملية الاغتيال لأجزاء أخرى من البلاد العربية ، وكررت فعلتها الأولى من الذبح والتشريد ، وليس هذا بغريب على تاريخهم وطبيعتهم.

وقد ملك العرب ، وامتد سلطانهم مئات السنين ، وانتشر شرقا وغربا ، وكان اليهود من جملة رعاياهم ، فأقاموا العدل بين الجميع ، وأحسنوا لليهود وغيرهم من أهل الأديان ، حتى قال المنصفون من علماء الغرب كغوستاف لوبون : «ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب» وشهد غيره منهم بمثل شهادته .. ولا بدع (فكل إناء بالذي فيه ينضح) كما قال ابن الصيفي.

ومن المفيد أن ننقل ما ذكره صاحب المنار عند تفسير هذه الآية منذ ٦٠ عاما حين كانت فلسطين في حكم العثمانيين ، قال ما نصه بالحرف :

«وحاصل معنى الآية ان هؤلاء اليهود أصحاب أثرة وشح مطاع يشق عليهم ان ينتفع منهم أحد ، فإذا صار لهم ملك منعوا الناس أدنى النفع وأحقره ،

٣٥٠

فكيف لا يصعب عليهم أن يظهر من العرب نبي يكون لأصحابه ملك يخضع له اليهود ، وهذه الصفة لا تزال غالبة على اليهود ، حتى اليوم ، فإن تم لهم ما يسعون اليه من اقامة دولة بفلسطين يطردون المسلمين والنصارى ، ولا يعطونهم نقيرا .. والدلائل متوفرة على ان القوم يحاولون امتلاك الأرض المقدسة ، وحرمان غيرهم من جميع أسباب الرزق .. وقد ادخروا لذلك مالا كثيرا ، فيجب على العثمانيين أن لا يمكنوا لليهود في فلسطين ، ولا يسهلوا لهم امتلاك أرضها ، وكثرة المهاجرين ، فإن في ذلك خطرا كبيرا ..». وقال صاحب تفسير المنار : «ان الآية لا تثبت ولا تنفي ملك اليهود في فلسطين ، وانما بينت ما تقتضيه طباعهم من العمل في فلسطين وغيرها لو ملكوا».

هذا ما قاله عالم من علماء المسلمين في تفسير هذه الآية : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً). قاله قبل أربعين عاما من قيام دولة إسرائيل بفلسطين ، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على صدق محمد (ص) في نبوته ورسالته ، حيث أخبر بوحي من السماء قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ان اليهود لو ملكوا لكان منهم الذي حدث بالفعل سنة ١٩٤٨ وسنة ١٩٦٧ : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ـ ٢٢ الزمر».

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). هذه صفة أخرى من صفات اليهود وهي الحسد ، والمراد بالناس محمد (ص) ومن معه من المؤمنين : وحسدهم اليهود على ما أفاء الله عليهم من دين الحق ، والتمكين في الأرض .. ولما عجز اليهود عن رد هذه النعمة عن المسلمين تحالفوا ضدهم مع المشركين ، وبثوا الدعايات الكاذبة ضد الإسلام ونبي الإسلام ، وفي النهاية دارت عليهم دائرة السوء ، وطردوا من الحجاز بما كانوا يفعلون.

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً). المراد بالكتاب زبور داود ، وتوراة موسى ، وبالحكمة النبوة والعلم. والمعنى لما ذا تحسدون أيها اليهود محمدا (ص) والعرب على النبوة والتمكين في الأرض؟ فان الله قد وهب من قبل مثل ذلك لأسلافه ، كيوسف وداود وسليمان.

٣٥١

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً). اختلف المفسرون : هل الضمير في (به) يعود الى محمد (ص) أو الى ابراهيم أو الى الكتاب؟. والأرجح الذي يتلائم مع المعنى ، ويساعد عليه الاعتبار انه يعود الى كل نبي آتاه الله الكتاب والحكمة ، ولفظ (كل نبي) وان لم يذكر في الآية صراحة فإنه مفهوم من مجموع الكلام وسياقه .. وعلى أية حال ، فلا خلاف في أن معنى الآية انه لا غرابة ان لا يؤمن هؤلاء وأمثالهم بمحمد (ص) فإن الأنبياء السابقين آمن بهم فريق ، وكفر بهم فريق ، والفريق الكافر كان كثيرا كما قال سبحانه : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ـ ٢٦ الحديد». (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً). أي احتراقا والتهابا لمن صدّ عن الحق.

بدلناهم جلوداً غيرعا الآية ٥٦ ـ ٥٧ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

اللغة :

نصليهم أي نشويهم ، يقال : شاة مصلية ، أي مشوية. ونضج الثمر أو اللحم أدرك وطاب ، والمراد بنضجت هنا احترقت وتلاشت.

الاعراب :

نارا منصوب بنزع الخافض ، أي نصليهم بالنار ، ومثله ظلا ظليلا ، أي

٣٥٢

ندخلهم في ظل ظليل والظليل صفة للظل ، واشتق من لفظه للمبالغة في الوصف ، كقولهم ليل أليل ، وداهية دهياء. وكلما منصوب على الظرف ، لأنه مضاف الى (ما) المصدرية الظرفية ، والعامل فيه بدلناهم.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها). هذه الآية بيان لقوله تعالى في آخر الآية السابقة : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً). والمراد بالآيات هنا كل ما ثبت في الدين بالضرورة ، مثل علم الله وقدرته ، والملائكة والجنة والنار ، وما الى ذلك مما يعود الى أصول الدين ، ومثل وجوب الصوم والصلاة ، وتحريم الزنا والخمر ، وما اليهما من الأحكام الفقهية ، والمسائل الفرعية.

وليس من شك ان الجحود كفر : وهل التشكيك كفر أيضا كالجحود؟. بحثنا ذلك مفصلا في فقرة حكم تارك الإسلام عند تفسير الآية ١١٥ من سورة آل عمران.

وتسأل : ان الله سبحانه عادل ما في ذلك ريب ، فإذا أحرق الجلد الذي عصى فيه صاحبه فقد زال وتلاشى ، فإذا خلق مكانه جلدا جديدا وعذّبه كان هذا تعذيبا لجلد لم يعص الله ، وهو غير جائز عليه عز وجل؟.

وعن الإمام جعفر الصادق (ع) انه أجاب عن هذا السؤال بقوله : ان الجلد هو هو ، وهو غيره ، وضرب لذلك مثلا باللبنة تكسرها ، حتى تصير ترابا ، ثم تصب عليه ماء وتجبله حتى يصير لبنة من جديد ، فتكون هي هي في مادتها ، وهي غيرها في صورتها.

وغير بعيد ان يكون تبديل الجلود كناية عن أليم العذاب وشدته .. وفي جميع الأحوال فان المطلوب منا ان نؤمن بعدل الله وقدرته. أما التفاصيل فغير مسؤولين عنها.

(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ). أي ان السبب الموجب لتبديل الجلود هو احساسهم بالعذاب الدائم. وهذا النوع من العذاب مختص بالجاحد والمشرك ومن تخاف

٣٥٣

الناس من شره ، ونحن نحيا ونموت على شهادة : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وعلى العداء لكل شرير غاشم ، قال أهل العلم بالله : الذين يدخلون النار ، ولا يخرجون منها خمسة : مدعي الربوبية كنمرود وفرعون ، ومن نفى الإله جملة واحدة ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، والمنافق ، وقاتل النفس المحرمة.

وبديهة أن من أظهر أفراد المنافقين من يثير الحروب باسم المحافظة على السلم ، ويستعبد الشعوب باسم صيانة الحرية ، وينهب أقوات العباد باسم العمل على رفع مستوى معيشتهم ، وينشر الفجور والتهتك باسم التطور والتمدن.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الخ تقدم نظيرها مع التفسير في سورة آل عمران الآية ١٥ .. هذا الى أنها واضحة لا تحتاج الى تفسير.

تأدية الأمانة والعدل في الحكم الآية ٥٨ ـ ٥٩ :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

اللغة :

المراد بالتأويل في قوله : واحسن تأويلا المآل والعاقبة ، من آل يؤول إذا رجع. وقيل ، المراد به التفسير.

٣٥٤

الإعراب :

المصدر المنسبك من أن تؤدوا في محل جر بالباء المحذوفة ، والتقدير يأمركم بتأدية الأمانة. وإذا حكمتم معطوف على يأمركم ، والمعنى ويأمركم إذا حكمتم أن تحكموا بالعدل. ونعما نعم فعل ماض ، ومعناها المدح. وما محل نصب على التمييز بمعنى شيئا ، وهي مفسرة للضمير المستتر في نعم ، والتقدير نعم الشيء شيئا. والمخصوص بالمدح محذوف خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير هو تأدية الأمانة والعدل في الحكومات. وجملة يعظكم صفة لما. والجملة من نعم وما بعدها خبر انّ. وذلك مبتدأ. وخير خبر ، وأحسن معطوف على خير. وتأويلا تمييز.

المعنى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها). لقد تضمنت الآيتان وجوب تأدية الأمانة ، والعدل في الحكم ، واطاعة الله والرسول وأولي الأمر .. وقد جاء في الكتاب والسنة العديد من الآيات والروايات في الحث على حفظ الأمانة وأدائها لصاحبها برا كان أو فاجرا ، لأنها حق له بما هو انسان ، لا بما هو صالح أو طالح ، فمن القرآن هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ). ومنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ـ ٢٧ الأنفال». ومن الروايات : «لا ايمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له». ولكن لم يرد في الكتاب والسنة ـ على ما نعلم ـ تحديد لمعنى الأمانة.

والذي نفهمه ان الأمانة هي الوديعة عندك لغيرك .. وعليك أن تحتفظ بها وتحرص عليها ، وان تردها لصاحبها عند طلبها ، كما هي ، فإذا أمسكتها عنه ، أو رددتها ناقصة محرفة فأنت خائن بحكم الكتاب والسنة.

وليس من الضروري أن تكون الأمانة عينا حسية ، كالمال والكتاب ، فقد تكون سرا ، أو نصيحة ، أو عملا .. وأيضا ليس من الضروري أن يكون صاحبها الذي أن تؤديها له شخصا حقيقيا ، فقد يكون الدين أو العلم ، بل قد

٣٥٥

تكون نفسك بالذات صاحبة الأمانة ، وأمانة الدين والعلم ما تعلمه من حلال الله وحرامه ، ومن الخير والشر ، وتتحقق التأدية لهذه الأمانة بأن تعمل بما تعلم ، أما أمانة نفسك عندك فأن تختار ما هو الأصلح لها في دنياها وآخرتها.

وبكلمة ان الأمين هو الذي يؤدي ما عليه كاملا غير منقوص ، سواء أكان الذي فرض هذا الواجب هو الدين ، أو العلم ، أو الوطن ، أو المجتمع ، أو أي شيء آخر .. فليست الأمانة ـ على هذا ـ ذوقا وسليقة يعجبها من الطعام أو الشراب هذا ، لا ذاك ، ومن النساء هذه ، لا تلك ، ولا وصفا يحبب الناس بصاحبه ، كاللطف وخفة الروح ، بل الأمانة عصب الحياة وقوامها الذي لا يستقيم شيء بدونه ، والى هذا المعنى أشار الإمام علي (ع) بقوله : «الأمانات نظام الأمة» أي ان الأمة لا تنتظم شئونها الا إذا أدى كل انسان ما يطلب منه .. وقال :

«من لم يختلف سره وعلانيته ، وفعله ومقالته فقد أدى الأمانة ، وأخلص العبادة .. ومن استهان بالأمانة ، ورتع في الخيانة ، ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد أحل بنفسه في الدنيا الخزي ، وهو في الآخرة أذل وأخزى ، وان أعظم الخيانة خيانة الأمة ، وأفظع الغش غش الأمة». يشير الى القادة اللصوص ، وسوء أثرهم ، وفظاعة خطرهم.

ومن الدلائل على قداسة الأمانة وعظمتها قول الفقهاء : من أعلن الحرب على الإسلام والمسلمين ، وأباح دماءهم وأموالهم ، لا لشيء الا بغضا بكلمة التوحيد حل ماله ودمه ، ولا تحل أمانته ، قال الإمام زين العابدين (ع) : لو ائتمني قاتل أبي على السيف الذي ذبحه به لما خنته .. وقال رجل للإمام الرضا (ع) : ان يهوديا خانني في ألف درهم ، وحلف ، ثم وقعت له عندي أرباح ، فهل اقتص منه؟. قال الإمام : ان كان ظلمك فلا تظلمه .. وفي رواية ثانية : «ان خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما عبته عليه» ، والسر في ذلك ان الأمانة حق لصاحبها بوصفه إنسانا ، لا بوصفه مسلما ، لا مشركا ، أو طيبا ، لا خبيثا. وسنعود الى الحديث عن الأمانة عند تفسير الآية ٧٢ من سورة الأحزاب : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

٣٥٦

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). بعد أن أوجب سبحانه رد الأمانة الى أهلها عقب بوجوب العدل في الحكم بين الناس ، لأن من لا ينصف الناس من نفسه فلا يحق له أن ينصبها حكما بينهم .. ووجوب العدل لا يختص بالقاضي ، بل يشمل الوالي أيضا ، والوالي العادل هو الذي يهتم بجميع نواحي الحياة ، كالصحة والثقافة والعيش والحرية للجميع .. وقبل كل شيء يجب عليه أن لا يدع منفذا لطامع ـ أجنبيا كان أو من الوطن ـ يسلك منه الى التحكم والسيطرة على شأن من شئون الناس ومقدراتهم .. فلقد أثبتت الأحداث التي مررنا بها ان المصدر الأول والأخير لما أصابنا من ويلات ونكبات هو تسرب اللصوص وغير الاكفاء الى مراكز القوة ، والمناصب العالية.

أما عدل القاضي فيتمثل في مساواته بين الخصمين في كل شيء ، وإعطاء كل ذي حق حقه بصرف النظر عن دينه وعقيدته ، وصداقته وعداوته ، وعظمته وضعته ، وما عرف التاريخ شريعة اهتمت وتشددت في ذلك كالشريعة الاسلامية ، قال رسول الله (ص) : «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين» يشير الى أن مهمة القاضي أصعب المهمات وأدقها ، لأن عليه أن يجاهد نفسه ويكافحها إذا كان الحق على غير ما يهوى .. وقال «القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ، فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق ، فقضى به ، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل ، ورجل علم الحق ، وقضى بخلافه» .. وقد تواتر ان عليا أمير المؤمنين (ع) جلس للمحاكمة بين يدي قاضيه شريح هو ونصراني خاصمه في درع.

(إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ). المراد بالعظة هنا الأمر برد الأمانة ، ولفظ نعم يشعر بأن الله سبحانه لا يأمر إلا بما فيه الخير والصلاح.

من هم أولو الأمر؟

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). لقد كثر الكلام والنقاش حول المراد من أولي الأمر ، وما يعتبر فيهم من صفات ، كما تشبث بها الحكام الأدعياء على وجوب اطاعتهم ، أو السكوت عنهم ـ على

٣٥٧

الأقل ـ وأيضا استدل بها جماعة من الفقهاء على أن مصادر الشريعة وأصولها تنحصر بأربعة ، وهي : كتاب الله لقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ). والسنة النبوية لقوله : وأطيعوا الرسول. والإجماع لقوله : وأولي الأمر منكم. والقياس لقوله : فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ، حيث زعموا ان المعنى قيسوا ما لا نص فيه على نظيره الذي فيه نص من الكتاب والسنة ، ويأتي البيان عن ذلك ، ولا خلاف في ان الكتاب والسنة هما الأصلان الأساسيان للتشريع ، أما الإجماع والقياس فقد اختلفوا في حجيتهما ، وفي دلالة الآية عليهما. وفيما يلي نعرض الجهات التي تضمنتها الآية ، والآراء التي قبلت حولها.

١ ـ لا يختلف اثنان من المسلمين في أن اطاعة الله والرسول انما تكون بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وانهما وسيلتان للتعبير عن شيء واحد ، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ـ ٨٠ النساء». (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ ٧ الحشر». (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ـ ٥ النجم». ومن هنا اتفق المسلمون قولا واحدا على رفض كل ما ينسب الى النبي (ص) إذا تنافى مع مبدأ من مبادئ القرآن وحكم من أحكامه.

وتسأل : لما ذا كرر لفظ الاطاعة عند ذكر الرسول ، ولم يكررها عند ذكر أولي الأمر؟.

الجواب : للتنبيه على ان اطاعة الرسول أصل بذاته ، تماما كإطاعة الله ، ومن هنا كان قول كل منهما مصدرا من مصادر الشريعة ، وليس كذلك اطاعة أولي الأمر .. انها فرع وتبع لاطاعة الله والرسول ، ان اولي الأمر رواة عن الرسول.

٢ ـ ان لفظ منكم يدل بوضوح على ان حاكم المسلمين يجب أن يكون منهم ، ولا يجوز إطلاقا ان يكون من غيرهم ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ـ ١٤١ النساء».

٣ ـ اختلفوا في المراد من أولي الأمر بعد اتفاقهم على شرط الإسلام ، فمن قائل : انهم الخلفاء الراشدون. وقائل : انهم قادة الجيش. وقال ثالث : هم علماء الدين. وقال الشيخ محمد عبده : هم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند ، وسائر الزعماء الذين يرجع اليهم الناس في الحاجات والمصالح ، فإذا اتفق

٣٥٨

هؤلاء على أمر وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء وألا يخالفوا أمر الله ، ولا سنة رسوله ، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه.

وقال الشيعة الإمامية : ان الله سبحانه عطف بالواو اطاعة أولي الأمر على اطاعة الرسول بدون قيد ، والعطف بالواو يقتضي الجمع والمشاركة في الحكم ، ومعنى هذا ان اطاعة أولي الأمر هي اطاعة الرسول ، وان أمرهم هو أمره .. وليس من شك ان هذه المرتبة السامية لا تكون الا لمن اتصف بما يؤهله لهذا الطاعة ، ولا شيء يؤهله لها الا العصمة عن الخطأ والمعصية ، فهي وحدها التي تجعل طاعته وطاعة الرسول سواء ، وقد اعترف الرازي بفكرة العصمة صراحة ، وقال : ان أولي الأمر الذين تجب اطاعتهم لا بد أن يكونوا معصومين ، والرازي ـ كما هو معروف ـ من كبار علماء السنة وفلاسفتهم ومفسريهم ، وهذا ما قاله بالحرف :

«اعلم ان قوله (أولي الأمر) يدل عندنا على ان اجماع الأمة حجة ، والدليل على ذلك ان الله تعالى أمر بالطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ ، كان بتقدير اقدامه على الخطأ مع ان الله قد أمر بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل الخطأ ، مع العلم بأن متابعة المخطئ منهي عنها .. فثبت ان المقصود من أولي الأمر المذكورين في الآية لا بد أن يكون معصوما».

وهذا عين ما قاله الشيعة في تفسير هذه الآية ، والخلاف بينهم وبين السنة في التطبيق وتعيين المعصوم ، فالسنة يقولون : العصمة للأمة ، وفسروا الأمة بأهل الحل والعقد ، وقال كثير منهم : يكفي بعض أهل الحل والعقد .. وقال الشيعة : ان المراد بأولي الأمر أهل البيت ، وهم المعصومون والمطهرون من الرجس والدنس ، ففكرة العصمة ـ اذن ـ ليست خاصة بالشيعة ، ولم يتفردوا بالقول بها ، بل هي عند السنة ، كما هي عند الشيعة ، والفرق انما هو في التطبيق وتعيين المعصوم ، كما قلنا ، فالحملة على الشيعة من أجل القول بالعصمة ، دون غيرهم ، لا مبرر لها الا التعصب ، وبث روح الشقاق والتفرقة.

واستدل الشيعة على عصمة أهل البيت بأن العصمة منحة إلهية يختص الله بها

٣٥٩

من ارتضى من عباده ، ومحال أن تحصل العصمة بالاكتساب ، مهما اجتهد الإنسان ، وجاهد ، كما هو شأن سائر الصفات ، كالعدالة والايمان ، وما اليهما. وعليه ينحصر الطريق الى معرفة العصمة بالوحي فقط ، وقد ثبت النص كتابا وسنة على عصمة أهل البيت (ع) ، من ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ـ ٣٣ الأحزاب».

ومن ذلك قول الرسول الأعظم (ص) : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني». رواه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح ، وصححه أيضا الذهبي في تلخيص المستدرك ، وفي الكتاب المذكور قال النبي «ص» : علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لن يفترقا ، حتى يردا علي الحوض. وروى الترمذي في مسنده والحاكم في مستدركه وابن حجر في صواعقه عن الرسول الأعظم «ص» انه قال : اللهم أدر الحق مع علي كيف دار. وأيضا روى الامام ابن حنبل والترمذي والحاكم وابن حجر قوله «ص» : اني قد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، واشتهر عن النبي «ص» : انما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا. الى عشرات الأحاديث ، وكلها مدوّنة في كتب السنة وصحاحهم ، ومروية بأسانيدهم ، وقد جمعها ووضع لها علماء الشيعة مؤلفات خاصة في القديم والحديث ، فمن القديم كتاب الشافي للشريف المرتضى ، وتلخيصه للشيخ الطوسي ، ونهج الحق للعلامة الحلي ، ومن الحديث المجلد الثالث من أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ودلائل الصدق للشيخ المظفر ، والمراجعات لشرف الدين.

وبالإجمال ان الشيعة والسنة يؤمنون معا بالعصمة كمبدأ (١) وأيضا يتفق الشيعة

__________________

(١) ان فكرة العصمة لا تختص بالشيعة ولا بالسنة ، فالمسيحيون قالوا بعصمة البابا ، والشيوعيون بعصمة ماركس ولينين ، والصينيون بعصمة ماوتسي تونغ ، والاخوان المسلمون بعصمة حسن البنا ، والقوميون السوريون بعصمة أنطون سعادة ، وهكذا كل حزب يقول بعصمة رئيسه ومؤسسه وواضع مبادئه. وقد تكلمنا عن العصمة مفصلا عند تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة ، فقرة الإمامة وفكرة العصمة ، ص ١٩٦ من المجلد الأول.

٣٦٠