التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

الأربعة : الصحة ، والزوجة الملائمة ، والمال الذي يسد الحاجة ، والجاه الذي يحفظ الكرامة .. وأحسب ان صاحب هذا الرأي قد نظر الى السعادة من خلال نفسه وحاجته ، لا من خلال الواقع .. وإلا فأين الشعور بمشاكل العالم ، وآلام الناس؟. وأين الخوف من الوقوع في الأخطاء ، ومن سوء العاقبة والمصير؟. وأين حملات الكذب والتشهير؟. إلى ما لا نهاية من الهموم التي تتكدس وتتراكم على القلب.

والحق ان السعادة المطلقة في كل شيء وسائر الأحوال لم تتحقق لإنسان .. وأحسب انها لن تتحقق إلا في غير هذه الحياة .. أما السعادة نسبيا وآنيا فقد مرت بكل انسان ، ولو في عهد طفولته .. ومن المفيد أن نوضح السعادة النسبية بالبيان التالي :

ان للاستمتاع بالحياة مظاهر شتى ، منها التمتع بالربيع والأشجار ، والشلالات والأنهار ، ومنها تذوق الشعر والفن ، ومنها الاطمئنان والخلود الى الزوجة والصديق ، ومنها التلذذ بالحديث والمطالعة ، إلى غير ذلك من المتع واللذائذ الروحية.

ومن مظاهر المتع المادية النساء والمال والبنون ، أما الخيل والانعام والحرث فتدخل في المال ، لأنها من جملة أقسامه وأفراده ، تماما كالذهب والفضة ، ولكن هذه اللذائذ والرغائب بشتى مظاهرها لا تحقق السعادة المطلقة للإنسان ، لأن الدنيا لا تصفو لأحد من جميع الجهات .. فان كان في يسر من العيش شكا الأمراض والاسقام ، وان جمع بين الصحة والثراء شكا من بيته أو أرحامه ؛ قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : «وان جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى ، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا».

أما السعادة النسبية ، أي في حال دون حال ، فلا يخلو منها إنسان. وخير مثال يوضح هذه السعادة ما قرأته في بعض الكتب ، قال صاحب الكتاب : «خرجت عائلة الى النزهة ، فيها نساء وأطفال ، وعم وخال ، وأب وجد .. ولما بلغوا جميعا المتنزه تقلب طفل على العشب ، ونضد آخر عقودا من الأقحوان ، وصنعت الأم شطيرة وسندويش ، ونهش العم تفاحة ذات ماء ، وأدار الخال اسطوانة على الحاكي ، وتمدد الأب على الثرى ، يتطلع إلى قطيع من الغنم ،

٢١

واستغرق الجد في تدخين غليونه».

ان كل واحد من هؤلاء استشعر الغبطة من نفسه ، ولكن في هذا الحال ، لا في سائر الأحوال ، لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا توجد هذه السعادة إلا في الحياة الآخرة .. ولأجل هذا قال عز من قائل بعد ذكر النساء والبنين والأموال : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

ورأيت رواية عن الإمام جعفر الصادق (ع) تعتبر التوفيق الإلهي ركنا من الأركان الأساسية للسعادة ، وقد أدركت هذه الحقيقة بالحس والتجربة.

انبئكم بخير من ذلكم الآة ١٥ ـ ١٧ :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

الإعراب :

اؤنبئكم الهمزة للاستفهام ، والشيء المستفهم عنه ينتهي عند قوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وجنّات كلام مستأنف ، كأنه قيل : ما هو ذاك الخير؟. فقيل : هو جنات ، فجنات خبر مبتدأ محذوف ، والذين يقولون ربنا محل نصب على

٢٢

المدح ، أي أعني أو امدح الذين الخ ، ومثله الصابرين ، وبقية الصفات معطوفة على الصابرين.

المعنى :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ). ذكر سبحانه أولا حب الناس للنساء والمال والبنين ، ثم نعت هذه الأشياء وما اليها بمتاع الحياة الدنيا ، والدنيا بما فيها الى زوال ، ثم بيّن ان الله عنده حسن المآب ، أي ان الإنسان بعد رجوعه إلى ربه يجد عنده خيرا من النساء والمال والبنين ، ومن الدنيا كلها ، ثم فصّل في هذه الآية ، وهي : قل اؤنبئكم الخ ما أجمله في الآية السابقة ، وهو قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

(جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ). هذه الثلاثة هي خير من النساء والمال والبنين ، وهي حسن المآب : الأول منها جنات لا تزول كالحرث والخيل والانعام ، الثاني : أزواج مطهرة من الحيض والأحداث والأخباث ، ومن كل ما تنفر النفوس منه ، الثالث : رضوان الله ، وهو أكبر وأعظم من الدنيا والآخرة مجتمعتين ، كل ذلك جعله الله جزاء لمن خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى.

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) الصابر هو الذي يكافح ويناضل متكلا على الله ، ويرضى بنتيجة كفاحه مهما تكن ، والصادق هو الذي يؤثر الصدق ، حيث يضره على الكذب ، حيث ينفعه ، والقانت هو العابد المطيع ، والمنفق هو الذي ينفق أمواله على نفسه وعياله ، وفي سبيل الله ، والسحر هو الوقت الذي قبل الفجر ، وهو خير الأوقات كلها للعبادة والدعاء ، كما جاء في الحديث ، لأنه أبعد عن شبهة الرياء ، ولأنه الوقت الذي يطيب فيه النوم ، ويشق القيام ، وأفضل الأعمال أشقها وأحمزها ، مع العلم بأن خدمة الإنسان أفضل من عامة الصلاة والصيام.

٢٣

ثمرة الإيمان :

وهذه الأوصاف الخمسة ، أي الصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار هي ثمرة لأصول الدين الثلاثة ، وأعني بها الإيمان بالله الواحد الأحد ، ونبوة محمد (ص) وباليوم الآخر. ان هذه الأصول ليست مجرد شعار ديني يرفعه الإسلام ، ويكتفي به ، بل لها ثمرات وحقائق يجمعها الخلق الكريم ، والعمل النافع في الحياة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ـ ٢٣ الأنفال. ان كل أصل من أصول الإسلام ، وكل فرع من فروعه يقوم على هذا المبدأ ، مبدأ ربط الدين بالعمل من أجل الحياة: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٢ الحجر. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ـ ١٤٢ آل عمران.

وتواتر في الحديث ان أفضل أنواع العبادات والطاعات هو العمل لحياة أفضل ، وان أكبر الكبائر والمعاصي هو الفساد والعدوان على العباد ، قال الرسول الأعظم (ص) : أقرب ما يكون العبد الى ربه إذا أدخل على قلب أخيه مسرة .. وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) : بئس الزاد الى المعاد العدوان على العباد ، وقال حفيده الإمام الباقر (ع) : ان لله عبادا ميامين يعيشون ويعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده مثل القطر ، وان لله عبادا ملاعين يعيشون ولا يعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده بمنزلة الجراد ، لا يقعون على شيء الا أتوا عليه.

الله والملائكة واولو العلم الآة ١٨ ـ ٢٠ :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ

٢٤

وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

اللغة :

شهد الشيء إذا حضره ، وشهد بالشيء إذا أخبر به ، ولكن كثر استعمال كلمة شهد في أداء الشهادة ، فانصرفت إلى هذا المعنى وحده ، الا مع القرينة ، والقسط العدل ، وحاجّوك من الحجاج ، ومعناه الجدال.

الإعراب :

قائما حال من اسم الله ، وبغيا مفعول من أجله لاختلف ، واتّبعن أصلها بالياء ، وحذفت للتخفيف ومن فاعل لفعل محذوف ، والتقدير وأسلم من اتبعني ، ولا يجوز أن تكون مفعولا معه ، لأن وجهي مفعول به لأسلمت ، فيلزم أن يكون التابع للرسول (ص) شريكا له في وجهه.

المعنى :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). شهادة الله لنفسه بالوحدانية عبارة عن أفعاله التي لا يقدر عليها إلا هو ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ

٢٥

الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ـ ٥٣ فصلت. أما شهادة الملائكة لله بالوحدانية فلأنهم مفطورون على الايمان. والمراد بأولي العلم هنا الأنبياء وجميع العلماء بالله الذين أقامهم مقام الأنبياء في الدعوة اليه سبحانه ، وشهادة العالم تقترن بالحجة التي من شأنها أن تقنع طالب الحقيقة ، والمراد بالقسط في قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) العدل في الدين والشريعة ، وفي سنن الطبيعة ونظامها ، قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ـ ١٦ الأنبياء».

وتسأل : ما هو الغرض من تكرار (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في آية واحدة؟.

الجواب : ان المعروف من طريقة القرآن أن يكرر ويؤكد أصول العقيدة والمبادئ الهامة بخاصة الوحدانية دفعا لكل شبهة ، وتكلمنا عن التكرار بفقرة مستقلة عند تفسير الآية ٤٨ من سورة البقرة ، وقيل : ان الغرض من قوله أولا : لا إله إلا هو ان يعلم انه هو وحده يستحق العبادة ، ومن قوله ثانية : لا إله إلا هو ان يعلم انه لا أحد يقوم بالعدل سواه.

ان الدين عند الله الإسلام :

وتسأل : ان ظاهر هذه الآية يدل على ان جميع أديان الأنبياء ، حتى دين ابراهيم وغيره من الأنبياء ليست بشيء عند الله الا دين محمد فقط ، مع العلم بأن كل ما جاء به الأنبياء حق وصدق باعتراف محمد (ص) والقرآن؟.

الجواب : ان هذه الآية تدل تماما على العكس مما تقول ، فإن ظاهرها ينطق بلسان مبين أن كل دين جاء به نبي من الأنبياء السابقين يتضمن في جوهره الدعوة الاسلامية التي دعا اليها محمد بن عبد الله (ص). واليك هذه الحقائق الثلاث :

١ ـ ان الإسلام يرتكز قبل كل شيء على أصول ثلاثة : الايمان بالله ووحدانيته ، والوحي وعصمته ، والبعث وجزائه .. وكلنا يعلم علم اليقين ، ويؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأن الله سبحانه ما أرسل نبيا من الأنبياء الا بهذه الأصول ، لاستحالة تبديلها أو تعديلها ، ولذا قال الرسول الأعظم (ص) : «إنّا معاشر

٢٦

الأنبياء ديننا واحد» .. وقال : «الأنبياء اخوة لعلات ، أبوهم واحد ، وأمهاتهم شتى.»

٢ ـ ان لفظ الإسلام يطلق على معان ، منها الخضوع والاستسلام ، ومنها الخلوص والسلامة من الشوائب والأدران ، وليس من شك ان كل دين جاء به نبي من أنبياء الله فهو خالص وسالم من الشوائب ، وعلى هذا يصح أن نطلق اسم الإسلام على دين الأنبياء جميعا.

٣ ـ ان مصدر القرآن واحد لا اختلاف بين آياته كثيرا ولا قليلا ، بل ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ـ كما قال الإمام علي (ع) ـ فإذا وردت فيه آية في مسألة من المسائل ، أو موضوع من الموضوعات فلا يجوز أن ننظر اليها مستقلة ، بل يجب أن نتتبع كل آية لها صلة بتلك المسألة ، وذاك الموضوع ، ونجمعها جميعا في كلام واحد ، معطوفا بعضها على بعض ، ثم نستخرج معنى واحدا من الآيات المتشابكة ، مجتمعة لا متفرقة (١).

وإذا نظرنا الى الآيات المشتملة على لفظ الإسلام في ضوء هذه الحقائق نجد أن الله سبحانه قد وصف جميع الأنبياء بالإسلام في العديد من الآيات ، وبذلك نعلم ان الحصر في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) هو حصر لجميع الأديان الحقة بالإسلام ، لا حصر للإسلام بدين دون دين من الأديان التي جاء بها الأنبياء من عند الله .. والسر في ذلك ما أشرنا اليه من أن جميع أديان الأنبياء تتضمن الدعوة الاسلامية في حقيقتها وجوهرها ، عنيت الإيمان بالله والوحي والبعث .. والتنوع والاختلاف انما هو في الفروع والأحكام ، لا في أصول العقيدة والإيمان.

وتعال معي الآن لنقرأ الآيات التي وصف بها الله أنبياءه بالإسلام من عهد

__________________

(١) وأوضح مثال على ذلك ما ذكرناه عند تفسير الآية ٧ من هذه السورة .. فقد وصف الله سبحانه كتابه بأن جميع آياته محكمة ، حيث قال في الآية ١ من سورة هود : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ). ووصفه بأن آياته كلها متشابهة في الآية ٢٣ الزمر : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) ووصف بعض آياته بالمحكمة وبعضها بالمتشابهة بقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ـ آل عمران ٧. انظر تفسير هذه الآية لترى وجه الجمع.

٢٧

نوح (ع) إلى عهد محمد (ص). قال تعالى في حق نوح : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ) ـ إلى قوله ـ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ـ يونس ٧٢.

وقال تعالى في ابراهيم ويعقوب : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ .. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ـ ١٣٣ البقرة».

وقال عن يوسف : (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ـ ١٠١ يوسف».

وقال عن موسى : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) ـ ٨٤ يونس.» وقال عن أمة عيسى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) ـ ١١١ المائدة».

والآية التي هي أصرح من الكل ، وتعم الأولين والآخرين من الأنبياء وتابعيهم ، وتابعي التابعين قوله تعالى في الآية ٨٥ من سورة آل عمران : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ). وإذا لم يقبل الله إلا من المسلمين ، وقد قبل من آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى وجميع النبيّين ، والتابعين لهم بإحسان فتكون النتيجة الحتمية ان النبيين من عهد آدم ، حتى محمد (ص) والمؤمنين بهم كلهم من المسلمين.

قال الإمام علي (ع) : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). قيل :

المراد بأهل الكتاب هنا اليهود. وقيل : بل النصارى. وقيل : هما معا ، وهو الصواب ، لأن اللفظ عام ، ولا دليل على التخصيص ، ويؤيد العموم ان الله سبحانه أشار إلى اختلاف النصارى بعضهم مع بعض في الآية ١٤ من سورة المائدة : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ

٢٨

فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ). وأشار إلى اختلاف اليهود في الآية ٦٤ من السورة المذكورة : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ـ الى قوله ـ (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

ومن الأمور التي اختلف فيها اليهود الحياة بعد الموت .. فبعض فرقهم تقول : لا بعث أبدا لا في هذه الحياة ، ولا في غيرها ، وان عقاب المسيء ، وثواب المحسن يحصلان في هذه الحياة. وتقول فرقة أخرى : ان الصالحين من الأموات ينشرون في هذه الأرض ثانية ، ليشتركوا في ملك المسيح الذي يأتي في آخر الزمن ، كما نقل عنهم ، الى غير ذلك من الاختلافات.

أما العقيدة المسيحية فقد تطورت ، واجتازت أكثر من مرحلة قبل أن تستقر على التثليث ، فقد كانت في البدء تدعو الى عبادة إله واحد ، ثم انقسم المسيحيون فرقتين : فرقة جنحت الى الشرك ، وفرقة بقيت على التوحيد ، ثم اختلفوا فيما بينهم : هل لعيسى طبيعتان : إلهية ، واخرى ناسوتية ، أو طبيعة إلهية فقط؟ إلى غير ما هو مسطور في كتب تاريخ الأديان ، وقد أدت الاختلافات الدينية المسيحية الى مجازر لا مثيل لفظاعتها في تاريخ الانسانية.

ولم يكن اختلاف كل من اليهود والنصارى فيما بينهم عن جهل بالحقيقة ، فقد جاء اليهود العلم بالبعث والنشر ، كما جاء النصارى العلم بأن عيسى عبد من عباد الله ، ولكنهم اختلفوا لارادة العلو في الأرض بالبغي والفساد.

تفترق أمتي ٧٣ فرقة :

اشتهر عن النبي (ص) انه قال : افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.

وقد كثر الكلام وطال حول هذا الحديث ، فمن قائل : انه ضعيف لا يعول عليه. وقائل : انه خبر واحد ، وهو ليس بحجة في الموضوعات. وقال ثالث : إن «كلها في النار» من دسائس الملاحدة للتشنيع على المسلمين. ورواه رابع

٢٩

بلفظ «كلها في الجنة الا الزنادقة». ونحن على شك من هذا الحديث ، لأن الأصل عدم الأخذ بما ينسب الى الرسول (ص) حتى يثبت العكس .. ولكن إذا خيّرنا بين : كلها في النار ، وبين : كلها في الجنة ، نختار الجنة على النار .. أولا انها أقرب الى رحمة الله. ثانيا ان الفرق الإسلامية على أساس الاختلاف في الأصول لا تبلغ ٧٣ ، والاختلاف في الفروع لا يستدعي الدخول في النار ، لأن الخطأ فيها مغتفر إذا حصل مع التحفظ ، وبعد الجد والاجتهاد .. وما أبعد ما بين هذا الحديث المنسوب إلى النبي (ص) وقول ابن عربي في كتاب الفتوحات : لا يعذّب أحد من أمة محمد (ص) ببركة أهل البيت .. (أنظر تفسير الآية ٣٩ من سورة البقرة ، فقرة أهل البيت).

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) .. كثيرا ما يبتلى العالم المحق بالمبطل اللجوج .. ولا دواء لهذا الا الإعراض عنه .. ومن خاصم المشاكس المشاغب شاركه في الإثم. قال الإمام علي (ع) : من بالغ في الخصومة أثم .. ومن أجل هذا ، أمر الله نبيه الكريم أن يترك المبطلين المعاندين وشأنهم ، حيث لا مزيد من البينات والبراهين ، «انما عليك وعلينا الحساب».

(قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) أي مشركي العرب ، ونسبهم الله الى الأمية لجهلهم بالقراءة والكتابة الا النادر (أَأَسْلَمْتُمْ) بعد ما جاءتكم البينات (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا). حيث لا شيء وراء الإسلام الا الكفر والضلال ، والا الزيغ والباطل (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ). وبالبلاغ تنتهي وظيفة الرسول عن الله ، إذ به تتم الحجة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يعامل كلا بما هو أهل له.

والذي نستفيده من هذه الآية ان الله سبحانه قد اختار محمدا (ص) لرسالته ، وانه قد رسم له منهجا لتبليغها ، وهو الدعوة بالحجة والبرهان ، مع ضبط النفس ، وتجنّب الخصومة مع اللجوج المعاند ، وبهذا الأسلوب الحكيم تتم الحجة على من خالف وعاند ، ولم يبق له من عذر يتشبث به ، ويلجأ اليه .. وأولى الناس باتباع الرسول والسير على منهجه هم أهل العلم بدينه وشريعته ، الداعون الى الأخذ بتعاليمه وسنته.

٣٠

الذين يقتلون النبين الآة ٢١ ـ ٢٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وتسأل : ان الشرائع بكاملها السماوية والوضعية تحرم القتل ، بل جميع الناس يرون القاتل مجرما ، بخاصة إذا كان المعتدى عليه من أهل الخير والصلاح ، وعلى هذا يكون الاخبار بأن القاتل مجرم يستحق العذاب والعقاب أشبه بتوضيح الواضحات ، مع العلم بأن كلام الله يجب أن يحمل على أحسن المحامل؟

الجواب : ان المقصود بالآية اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي (ص) ، ورفضوا الإسلام. وقد أشارت الآية إلى أنه لا غرابة في رفضهم وعنادهم للإسلام .. لأن أسلاف اليهود قتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى ، وأسلاف النصارى قتلوا من جاهر بالوحدانية وبشرية المسيح ، قتلوهم لا لشيء إلا لأنهم أمروا بالقسط والعدل وعملوا به ، فالآية تقريع وتوبيخ ، كما هي تهديد ووعيد.

سؤال ثان : ان القتل لم يقع من أهل الكتاب الذين كانوا في زمن محمد (ص) فكيف صحت نسبته اليهم؟.

الجواب : سبق أكثر من مرة ان الأمة في تكافلها تجري مجرى الشخص الواحد ، وان الخلف قد رضي بفعل السلف ، ومن رضي بفعل قوم شاركهم فيه ، وكثيرا ما يضاف صنع الأب الى الابن.

٣١

سؤال ثالث : ان قتل الأنبياء لا يكون الا بغير حق ، فما الفائدة من هذا القيد؟.

الجواب : للاشارة الى أن فظاعة قتل الأنبياء لم تكن لمكانتهم وعظمتهم ، بل لأنه لا مبرر له إطلاقا .. وبكلمة ان المسألة ليست مسألة أشخاص وفئات ، وانما هي مسألة حق وعدم حق.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). أما الحبط في الدنيا فلأنهم ملعونون على كل لسان ، لما تركوه من سوء الآثار ، وأما في الآخرة فلأنهم معاقبون.

الأمر بالمعروف مع خوف الضرر :

ذكر الفقهاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطا ، منها أن لا يخاف الآمر الضرر على نفسه وأهله وماله .. وبعض الفقهاء أنكر هذا الشرط ، وأوجب الأمر بالمعروف ، وان أدى الى القتل ، واستدل بهذه الآية ، ووجه الدلالة بزعمه ان الأنبياء قد أمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وقتلوا في هذه السبيل بشهادة القرآن الكريم.

والذي نراه ان للأنبياء في التبليغ عن الله شأنا غير شأن العلماء ، لأنهم يقدمون ويحجمون بوحي من الله سبحانه ، فإذا قتلوا في سبيل التبليغ فإنهم قد أقدموا بأمر منه تعالى ، أما العلماء فيعتمدون على ما يفهمونه من مدارك الأحكام ومصادرها ، والذي نفهمه نحن من هذه الأدلة والمصادر ان أي انسان يسوغ له السكوت عن المنكر إذا غلب على ظنه ان الإنكار لا يحقق أية فائدة دينية ، وفي الوقت نفسه يؤدي الى المضرة والمفسدة.

أما إذا غلب على ظنه ان وجود المنفعة الدينية من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، مع تضرره منه فتجب ، والحال هذه ، المقارنة بين دفع الضرر عن النفس ، وبين المنفعة المترتبة على الأمر والنهي ، فإن كانت المنفعة الدينية أهم ، كالقضاء على الكفر والظلم والفساد في الأرض جاز تحمّل الضرر في هذه السبيل ،

٣٢

وقد يجب .. وان كان دفع الضرر عن النفس أهم من انكار المنكر ، كالنهي عن أكل المتنجس ـ مثلا ـ جاز الاحجام دفعا للضرر ، وقد يجب ، فالمسألة ، اذن ، تختلف باختلاف الموارد ، وبهذا يتبين معنا ان قياس غير الأنبياء على الأنبياء في هذا المقام قياس مع وجود الفارق .. وقد نعود الى الموضوع بمناسبة ثانية.

أيضا اليهود ٢٣ : ٢٥ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

الإعراب :

جملة يدعون حال من الضمير في أوتوا ، وجملة هم معرضون حال مؤكدة من يتولى فريق ، لأن التولي معناه الاعراض ، ويجوز معدودة ومعدودات وكلاهما ورد في القرآن الكريم ، وتقول جبال شامخة وشامخات ، وكيف خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير كيف حالهم ، لأن كيف موضوعة للسؤال عن الأحوال ، لا عن الأعيان.

٣٣

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ). قال المفسرون : المقصود من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ، وإنما قال هنا أوتوا نصيبا من الكتاب ، ولم يقل أوتوا الكتاب ، أو أهل الكتاب ، كما في الكثير من الآيات ، لأن اليهود الذين حاجوا النبي (ص) ، ودعاهم الى التوراة لتحكم بينهم لم يحفظوا كل ما فيها ، وإنما حفظوا بعضا منها ، كما قال كثير من المفسرين ، أو حفظوا ألفاظ التوراة ، ولم يتدبروا معانيها ، كما قال الشيخ محمد عبده.

وكثيرون هم الذين يدعون الايمان بالكتب السماوية والقيم الانسانية ، ولا يعملون بها ، وإذا احتج عليهم بما يؤمنون توانوا أو تأولوا ، والأمثلة على ذلك لا تحصيها كثرة ، منها : ان الذين أثاروا الحروب وقتلوا الملايين يزعمون انهم من أنصار السلام.

ومنها : ان الدول التي اضطهدت الأحرار والملونين تدعي الايمان بالحق والعدالة.

ومنها : اليهود الذين دعاهم النبي (ص) إلى كتابهم وتوراتهم ، وقال لهم : هلموا اليها ، فإن فيها صفتي ، فاعرضوا وعاندوا .. فنزلت هذه الآية : (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

وقال جماعة من أهل التفسير : انها نزلت في يهودي زنى بيهودية ، واختلف اليهود في أمرهما الى فريقين : فريق أراد الرجم ، وفريق أراد التخفيف ، ولما اشتد بينهم النزاع تحاكموا الى النبي (ص) ، فحكم بالرجم ، فرفض الفريق الذي لا يتفق الرجم مع أهوائهم ، فدعاهم النبي (ص) الى حكم التوراة التي نصت على الرجم فتولوا ، وهم معرضون.

ومهما يكن سبب النزول ، فان الآية جارية وشاملة لكل من أعلن شعارا ، ثم تجاهله ، وأعرض عنه عند العمل ، لأن العبرة بالأعمال ، لا بالسمات والشعائر ، قال الإمام علي (ع) : لن يفوز بالخير الا عامله ، ولا يجزى جزاء الشر الا فاعله.

٣٤

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). لقد سجل الله على اليهود في كتابه العزيز ألوانا من القبائح والرذائل .. منها : قتلهم الأنبياء الذي ذكره في العديد من الآيات. ومنها عبادتهم العجل. ومنها : قولهم : لن يدخل الجنة الا من كان هودا. ومنها : انهم أبناء الله وأحباؤه. ومنها : زعمهم بأن النار لن تمسهم الا قليلا.

ونقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده انه قال : «ليس في كتب اليهود التي بين أيديهم وعد بالآخرة ولا وعيد» .. ونقل عن اليهود عدم ايمانهم بالآخرة كثيرون من أهل التتبع والتثبت ، وهذا النقل يتنافى مع قول القرآن عنهم : لن تمسنا النار الا أياما معدودات ، وقولهم : لن يدخل الجنة الا من كان هودا .. وغير بعيد أن أسلاف اليهود كانوا مؤمنين بالآخرة ، ثم حرّف الخلف وحذف من كتبهم الدينية كل ما له صلة بالآخرة .. وفي تفسير المنار نقلا عن الشيخ عبده أيضا ان الباحثين الأوروبيين أثبتوا ان التوراة كتبت بعد موسى (ع) بمئات السنين.

وأغرب من كل ذلك ادعاء اليهود بأن الله متحيز لهم ، وانه لهم وحدهم ، وانه خلق من عداهم من الناس لخدمتهم ومصلحتهم ، تماما كالحيوانات .. ومن أجل هذا يسمّون أنفسهم بشعب الله المختار ..

وبصرف النظر عن استحالة هذا الزعم وبطلانه بحكم العقل فإنه رجم بالغيب ، وتحكّم على الله ، حيث لا يعرف أمر من أمور الغيب الا بوحي من الله تعالى ، وقد نطق الوحي بلعنهم وخزيهم وعذابهم ، وسيتجلى لهم هذا الخزي والعذاب في يوم لا حيلة لهم في دفعه .. والى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). فلا ينقص من ثواب المطيع شيئا ، وقد يزداد ، ولكن لا يزاد أبدا على عقاب العاصي ، وقد ينقص العقاب ، بل قد يعفو الله ويصفح.

واني على علم اليقين بأن من رجا الله في دنياه هذه ، ولم يرج سواه ، متكلا عليه وحده في النوائب مهما تكن النتائج ، مؤمنا ان من عداه ليس بشيء الا أن يكون وسيلة وأداة ، انا على يقين ان هذا سيجد عند الله ما يرضيه لا محالة برغم ما له من سيئات وهفوات.

٣٥

تؤتي الملك من تشاء الآية ٢٦ ـ ٢٧ :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

الإعراب :

اللهم ، أي يا الله ، ومالك الملك منصوب على أنه منادى ثان ، أي يا مالك الملك ، ومن في من تشاء مفعول ثان لتؤتي ، وبيدك الخبر مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الضمير في تؤتي.

المعنى :

ان ظاهر الآية ينطبق تماما على حال المسلمين في بدء الدعوة الاسلامية ، حيث لم يكن لهم آنذاك شيء من الملك وعزة السلطان ، فلقد بدأ الإسلام غريبا ، كما قال رسول الله (ص) ، وكان الملك والسلطان موزعا بين الفرس والروم .. وبعد أن جاء نصر الله انعكست الآية ، وأصبح الذليل عزيزا ، والعزيز ذليلا ، وصار الفرس والروم محكومين للمسلمين بعد أن كانوا حاكمين ، والمسلمون حكاما بعد أن كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس ، وتحققت ارادة الله تعالى التي بيّنها بقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ـ القصص ٥.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ). المراد بملك الله للملك قدرته على كل شيء ، فكأنه قال : الله مالك القدرة ، وانما أطلق لفظ الملك على القدرة ، لأن أبرز

٣٦

آثار الشيء المملوك هي قدرة المالك على التصرف فيه ، ولا أحد يقدر على شيء ، أو يملك شيئا إلا أن يملكه الله إياه ، ويمنحه القدرة عليه .. شأن الممكن مع الواجب : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ). وقد أعطاه المسلمين الأول ، حين استجابوا لدعوة الإسلام ، وبه كانوا يعملون. (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ). نزعه من الفرس والروم لكفرهم بالله والحق. (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ). وهم المسلمون. (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ). الفرس والروم ومشركو العرب. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ). المراد بيد الله قدرته ، والخير يشمل كل ما فيه منفعة محللة معنوية كانت أو مادية ، وقد ساق الله للمسلمين خيرا كثيرا ببركة الإسلام. (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن دلائل قدرته سبحانه انه نزع الملك من الأقوياء ، وأعطاه للضعفاء.

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ). حيث تتحرك الأفلاك بقدرته وعنايته ، ويدور بعضها حول بعض ، فتتعدد الفصول ، ويأخذ الليل من النهار في فصل ، حتى يصير ١٥ ساعة ، والنهار ٩ ساعات ، ويأخذ النهار من الليل في فصل ، حتى يصير ١٥ ساعة ، والليل ٩. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ). من ذلك إخراج المؤمن من الكافر ، والعزيز من الذليل. (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ). ومنه إخراج الكافر من المؤمن ، والذليل من العزيز. (تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). تماما كما رزق المسلمين الأول الملك وعلو الشأن ببركة الإسلام.

وإذا سألت : هل ملك الحاكم الجائر وسلطانه من الله ، وبإرادته ومشيئته؟. فإنك تجد الجواب عن سؤالك هذا في تفسير الآية ٢٤٦ من سورة البقرة.

وبعد ، فإن ظاهر الآية يعزز ما قاله جماعة من المفسرين في سبب نزولها ، وخلاصته ان رسول الله (ص) لما خط الخندق عام الأحزاب بإشارة سلمان الفارسي قطع لكل عشرة من أصحابه أربعين ذراعا ، وكان سلمان رجلا قويا ، فأراد الأنصار أن يكون معهم في الحفر ، وقالوا : سلمان منا. وأراده المهاجرون ، وقالوا : بل سلمان منا. فقال النبي كلمته المتواترة : سلمان منا أهل البيت ، وبينما سلمان يحفر إذ اعترضته صخرة لا تعمل المعاول فيها شيئا ، فرفع الأمر إلى رسول الله (ص) ، فأخذ المعول من يد سلمان ، وفتت الصخرة بثلاث ضربات

٣٧

برقت منها ثلاث مرات ، رأى النبي من خلالها قصور الفرس والروم واليمن ، وقال لأصحابه: ان أمته ستستولي على ملك كسرى وقيصر ، ولما سخر المنافقون من هذه النبوءة أنزل الله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ).

وسواء أكان هذا هو سبب الآية ، أو لم يكن فإن ظاهر اللفظ لا يأباه ، ووقائع التاريخ تؤيده.

موالاة المؤمن الكافر الآة ٢٨ ـ ٣٠ :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

اللغة :

أولياء واحده ولي ، والمراد به هنا النصير ، وتقاة من الوقاية ، والأمد المدة التي لها حد معلوم ، ومحضرا ، أي حاضرا.

٣٨

الإعراب :

في شيء متعلق بمحذوف خبر ليس ، ومن الله متعلق بمحذوف حال من شيء ، وجاز أن يكون صاحب الحال نكرة لتأخره ، كما قال النحاة. وقال صاحب مجمع البيان : ان المصدر من أن تتقوا مجرور بباء محذوفة .. والذي نراه انه مفعول من أجله ، أي الا أن تفعلوا ذلك لاتقاء شرهم ، ويعلم ما في السموات برفع يعلم لا بجزمها لأن الواو للاستئناف ، ويوم تجد يوم منصوب بمحذوف ، أي احذروا يوم تجد الخ ، وقيل : منصوب بتود ، ومحضرا حال من الضمير في تجد ، وما عملت الواو للاستئناف ، وما موصولة مبتدأ ، وجملة تود خبر.

المعنى :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ). لم يكتف سبحانه بالنهي عن موالاة الكافر ، لنقول : انها محرمة ، وكفى ، كالكذب والغيبة ، بل اعتبرها كفرا بدليل قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فإن الظاهر منه ان الله بريء ممن يتولى الكافرين ، ومن تبرأ الله منه فهو كافر .. ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ـ المائدة ٥١» .. وقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) ـ المجادلة ٢٢». فهذه الآيات تدل بظاهرها على ان من يتولى الكافر فهو كافر .. أجل ، ان لموالاة الكافر أقساما شتى ، منها ما يستوجب الكفر ، ومنها لا يستوجبه ، والتفصيل في الفقرة التالية.

أقسام موالاة الكافر :

كل من قال : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله كان له ما للمسلمين ،

٣٩

وعليه ما عليهم إلا في حالات ، منها أن يتولى الكافرين على التفصيل التالي :

١ ـ أن يكون راضيا عن كفرهم ، وهذا يستحيل أن يكون مسلما ، لأن الرضى بالكفر كفر.

٢ ـ أن يتقرب إلى الكافرين على حساب الدين .. فيؤوّل آيات الله تعالى وأحاديث رسوله (ص) بما يتفق مع أهواء الكفار أعداء الله والرسول ، على ان يتنافى تأويله مع أصول الإسلام والعقيدة .. يفعل ذلك عن علم وعمد. وهذا كافر أيضا.

وتسأل : ان الذي يفعل ذلك جاحدا للإسلام يكون كافرا بلا ريب ، أما إذا فعله عن تهاون فينبغي أن يكون فاسقا ، لا كافرا ، تماما كمن ترك الصلاة ، وهو مؤمن بوجوبها ، وشرب الخمر ، وهو جازم بتحريمها؟.

الجواب : ان التفصيل بين المتهاون والجاحد انما يتأتى في الفروع ، كالصلاة وشرب الخمر ، أما فيما يعود الى أصول الدين والعقيدة ، كالوحدانية ، ونبوة محمد ، وما اليهما فإن النطق بإنكار شيء منها يستوجب الكفر ، سواء أكان الناطق متهاونا أو جاحدا ، جادا أو هازلا.

٣ ـ أن يكون عينا وجاسوسا للكافرين على المسلمين .. وهذا ينظر في أمره .. فإن فعل ذلك طمعا في المال أو الجاه فهو مجرم فاسق ، وان فعله حبا بالكافرين ، بما هم كافرون ، وبغضا للمسلمين بما هم مسلمون فهو كافر من غير شك.

٤ ـ أن يلقي بالمودة الى أهل الكفر ، وهو على يقين انهم حرب على المسلمين ، يعملون على إذلالهم واستعبادهم ونهب مقدراتهم .. وهذا مجرم آثم ، وشريك للظالم في ظلمه ، حتى ولو كان الظالم مسلما.

٥ ـ أن يستعين بالكفار المسالمين على الكفار المحاربين .. وهذه الاستعانة جائزة بالإجماع ، فقد نقل أهل التاريخ والتفسير ان النبي (ص) حالف خزاعة ، مع انهم كانوا مشركين ، واستعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه على حرب هوازن ، كما استعان بيهود بني قنيقاع ، وخصهم بشيء من المال ، بل جاء في تذكرة العلامة الحلي ان جماعة من الفقهاء أجازوا الاستعانة بالكفار على حرب أهل البغي من المسلمين ، لأن الاستعانة بهم كانت لاحقاق الحق ، لا لابطال الباطل.

٤٠